– يحكى أن مدينة مفقودة
العمق والذاكرة والأسرار، تدعى شلمنرأى. لها في هوى الرجال شؤون وأخبارهاعجيبة تجري على ألسنة الرواة
ومراسلي الدروب والآزقة والساحات.
هي أرض بكر قيل إن من يفتض بكارتها ترقص أعلامه في عنان السماء، وإن
كان بعد علوه سيهوي إلى القاع.
قيل إنها أرملة مات عنها كل أزواجها، وقيل إنها قلعة محصنة، مغلقة
المداخل والمخارج، وقيل إن مبتدأ خبرها ومنتهاه الهتك. فمن يهواها تهواه، ولو أن عشقها محال. هي موت كله، ومسخ أحيانا، والذي يفترع سرها، دمه مسفوح ويبقى
ملعون المآل.
حدثوا عن لياليها التي تشبه نهاراتها بكلام يسيل اللعاب؛ فمن مقسم
بالأيمان المغلظة انه رآها ، غير ما مرة، تتعرى في الظلام، يتأكلها حد
امتصاص الجسد. إلى شاهد عيان
يتمنع عليه الكلام من عجب ما أبصر وأدرك؛ وهل هي إلا تجليات يطير لها
اللب وتشرد بها أو عنها الخواطر؟
إن الذي فيه إجماع الضالعين في شؤون شلمنرأى يخص حالها حين يضيق بها
وجع الترمل. فهي ترغب - يؤكد العارفون - في الدعابة والمجون، ويكون لها
في الرجال نزوات، فترسل من يبلغ عنها ملعوني الدروب، المأخوذين بهوس
الشبق ولوعة الفجور، أن أعدوا المهارات لنهارات ظرفها ليلي قزحي
الأجواء والألوان..
...
فيكون الاقتتال، ويكون الظلام، ولايطلع الفجر إلا وقد
دخل عليها أشد الرجال بأسا، يركع بين قدميها على مرأى من الأشهاد، يعيد
الكرة كرتين، وإنه لعلى تلك الحال من الخشوع والتضرع حتى يكون له من
فتنة جسدها وسحر روحها ما ستجري بذكره الركبان
.
ولأمر ما ظلت شلمنرأى أرملة على امتداد الفصول والأعوام، رغم كثرة
خاطبيها وعرسانها وأفراحها...
(إنه لايكاد شأن القوي المختار يعلو، حتى تأتي عليه أزمنة
شتوية مغدورة تتخطفه فإذا هو فقد كله، وإذا هو النسيان نفسه، وإن
الرياح لتذروه، وإنه ليهوي في المهب إلى القاع، وإن ... وإن ... وإنه).
واليوم ينادي المنادي:
" يافتيان شلمنرأى، وجوعى وحيارى ومغبوني الدروب
النائية!
ياأهالي هذه المدينة المباركة، وموبوئي أزقتها المعتمة!
ها عرس آخر قد أقبل، وليكن موعدنا في المكان المعلوم!
ألا أعدوا أسورة النار وأعلام الرهان وزغردات النسوان!
أعدوا صفير الحشود، وتصفيق الأطفال، وترانيم الغبطة الدورية!..
انثروا الأزهار والزنابق، فموعد الأرج، الهرج، المرج، ج..ج..ج..أقبل،
قد أقبل؟؟.
ويتدحرج قرص الشمس من حضن الأفق فيسقط في هوة القرار. يكون الاقتتال. يصرع
الفرسان بعضهم بعضا. يهلك أقواهم
أضعفهم. أضعفهم أقواهم. أضعفهم أضعفهم. أقواهم
أضعفهم. أقواهم أقواهم. أضعقواهم. أقوضعفهم. ولما ينشطر الليل يكون الركوع. يلتحم الأقوى المختار بالمدينة. يركع في حضرة شلمنرأى فيعلو الأنين، ومن نشوة الظفر، من رذاذ
الدم الفوار تلتوي الأعضاء، ينتشر هياج، هرج، أرج، مرج، ج..ج..ج،
وتكون، ينتشر هياج الساكنة، وتكون ذروة الاحتفال.
وفي الليل، ينتفض الترمل. مالم
يتسامع به الرجال يكون للقوي المختار. مالم تسمع به النسوان من قبل، يفعله القوي المختار. ويدوم الحال على ما هو عليه من الأنس والأشواق والمسرات حتى،
لاهو ظرف يؤذن بالتماع النهار، ولا هي عتمة تميت الموت. الموت! من قال الموت؟ من؟.. من؟.. من؟. هل حان وعيد الشتاءات المغدورة؟ إذن؛ ستتمطى الغيوم. لن تطلع شمس على الناس. لن
يسقط على رؤوسهم مطر. هل المسخ
سيسلط على البلاد؟.. قد حصل ويحصل
وسيحصل؛ فمن لم يسمع لم يع ماحدث، ومن يعي لم يسمع مايحدث، ومن يحدث
لايسمع مايعي؟ إذن هو الحال غير الحال، ولن تعرف شلمنرأى غير التبدل،
وإنه لغضب مريع يحل أوحل وسيحل بالعباد؛ فلايسمع لهم حس ولا حركة،
فتزأر العواصف وتعوي المدن النائية. يتمخض عنها، شلمنرأى، يتمخض عن شلمنرأى شيء كالبكاء، أو هو
البكاء نفسه؛ بل إنه البكاء، بكبكاء، كبوكبو.. ماذا؟ قلنا إنه البكاء نفسه؛ إذن هي حال ماألمت بأرض برية أو
بحرية إلا ونضبت ينابيعها، وساء مآل زرعها وضرعها، فيقل قوت أهلها، بل
إن القحط لا النفط - يحتل (...) ماذا؟ من قال النفط؟ أي
نفط؟ النفط أو القحط؟ ماذا؟ قحطان؟ أنا الراوي أقول: القحط وليس النفط، ومن قال غير هذا الكلام فهو غير آمن، ويحق
فيه أو عليه الغضب، غضب الأرض قبل السماء، ماء! أي ماء؟ أين الماء؟ من قال الماء؟ الماء أو القحط أو النفط؟ مرة
أخرى، أنا الرَّاوي أقول (...)
إذن يحتل أجواءها دخان، وبها النار، الجوع، نار الجوع تقيم!
استطراد
...
في ذلك الحميم لا يهدأ للسكان روع ولا بال إلا وقد خرجوا
من بيوتهم إلى الطرقات والساحات يجرون في ركاب بعضهم بعض، مولولين. إن حركاتهم لتضطرب وإن سكناتهم لتضج، وإنهم ليصرخون، وإن الأنين
ليتأكل الأرض تحت أقدامهم، وإن ألوان الفصول لتختلط، وإن الركل والرفس
ليشتدان بين السابق والمسبوق، بين اللاحق والملاحق من فرط الزحام، وإن
العظام لتتهشم، ومن لايتمكن منه الأذى يموت تحت الأقدام، يختلط صراخه
بصراخه، يبح صوته في صوته، يختلط الاختلاط بأصوات الشيوخ، يبح صوت
الأطفال، تبكي النساء، تبكي الأشجار، يبكي الماء، أين الماء؟ وتبكي
النار؛ يانار كوني بردا وسلاما على شلمنرأى، وآل شلمنرأى، وليالي
شلمنرأى، وبكاء شلمنرأى، وليل البكاء، وبكاء الكل وضحك الكل، وهذيان
الكل، وكلكل الكل والليل؛ أي ليل؟ من قال الليل ؟ أين الراوي؟ من يضحك
ومن يهذي؟ أهي الدهشة أو السكوت عن الكلام، أم الصراخ والدهشة من
الصراخ!؟ ومن فرط الدهشة ومن عياء
العياء ولوعة النشيج المبرح من حرقة الذي لايعرف أمن أحشاء الناس يخرج،
أم من أحشاء الطير الملتوي وجعا، المشدوه بفناء الرجال ولعا؟.. أهو العرق، أو الوجد، أو الحال، أم سوء المآل؟ أهو ما حدث أو ما
يحدث، أم الذي سيحدث؟.. في "شل"،
وفي من رأى؛ من شل؟.. ومن رأى ؟.. أين الرؤية؟.. أين الرؤيا؟).
*
* *
إبان هذا الاستطراد، كان المنادي قد أعلن في الناس، وفي وجه الخناس
الوسواس، أن السائس بأمر شلمنرأى قد اختفى في علل معتمة، فحل محله
الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس. وإنه - يقول المنادي - إن كان غدرا، فقد قتل غيلة وبه
حق الثأر، ثأر ساكنة شلمنرأى لمدينتهم المباركة ! أو كان الهرب، فقد فر خفية بعون
بعض من تهواهم أو لا تهواهم المدينة إلى خارج، داخل، خارج داخل الخارج،
فهو الطعن كل الطعن من الخلف وحكمه الشنق!
استطراد أخيـر
قد أتى على شلمنرأى حين من الوجع نكست فيه الأعلام وهدأ روع النار
والعار، فاستوى كل شيء. أي شيء؟.. كل شيء إلا الفقد والعار، ويومها دب في الناس وسواس خناس
كالصهد، وارتوى العرق من الغرق، قلنا وقال الراوي: دب صهد مريع بين العباد ودكاكين البلاد، بين البارات والأسواق
والمؤسسات العمومية وأبناء الموت والنار والعار، وماعرف ولم يعرف ولن
يعرف من فقد كالعطش والعطش والعطش في المدينة، في أوطان المدينة، في
أزقة الأوطان، في أزقة المدينة، في الترمل، في بكاء السنين، في مخيمات
الحميم، في الخروج، وفي الدخول، في خروج العيون من المحاجر، في خروج
الأسماع من القلوب، في رؤيا الهول في شلمنرأى، في الموت نفسه، في موت
الموت، وفي الدخان. في الرماد، في
كل شيء، وفي الدخان في كل شيء. في.. ياسبحان الله من هذا الدخان وهذا الشيء.. وهذه الفي وأي شيء! –
(1987)
|