أعرف أن
الطريق أمامك طويل وشاق، وأن رجليك قد ملتا من المسير، حتى أن الحذاء
الذي تنتعله منذ مدة لم يبرح قدميك وأن سروال الدجينز قد تبلل بالعرق،
وأصبحت تحرجك الرائحة النتنة المنبعثة من إبطيك، ومع ذلك، لا تلين،
فالطريق الذي رسمته لنفسك لم يكن أبدا مفروشا بالورود والزرابي، تذكر:
أنت من أراده، كذلك وعدت نفسك بأن يكون طودا لم يشق قتاده أحد، أنت لم
تعهد في نفسك ارتياد السبل السهلة الممشى، كأنك لم تخلق سوى لاقتحام
المسالك الوعرة، أنت فارس حرون تعشق المسافات الملتوية دون أن تتعثر، هل
تذكر أيام الطفولة ؟ حينما كان الصغار يفضلون اللعب بالماء كنت تختار
اللعب بالنار، وقد كلفك ذلك أحد أصابعك الصغرى بعدما قررت أمام زملائك
القفز من فوق السور متحديا، وكتمت الألم مكابرا، لكن الزمن كشف الورم
الذي عفن أصبعك
..
لا عليك، دع
الأمور لأوانها، ولا تهتم لأمر المضربين عن الطعام ولا للحفاة، البائعين
للسجائر بالتقسيط، أو الماسحين للأحذية ولا تستمع للنداءات الخافتة
الآتية من أفواه المعتوهين والمتسولين الذين يعج بهم الشارع العريض الفخم
في المدينة الغول التي أتيت إليها من بعيد لتنال مرادك، ولتتفادى نظرات
بعض المتطفلين الفضوليين، انعطفْ جهة اليمين، حيث البقعة الحمراء تعكس ظل
الشجيرات اليتيمة المخربة التي لم تسترجع عافيتها بعْدُ رغم سقوط المطر،
لا يعنيك إن كانوا يشمتون أو يشفقون، يجب ألا يلهيك عن أمرك العظيم الذي
من أجله سافرت وسهرت الليالي، عارض ما .. فما دون ما ترمي إليه خواء !
ارفع رأسك قليلا وأعد تصفيف شعرك الذي بعثرته الريح وسدد النظر إلى
المبنى الفخم المتربع قبالتك، هناك ينام من أودعتهم سر أحلامك ساعات تلو
الساعات، لا تفكر بالدخول، فلن يستيقظوا على صراخ صوتك الذي أطفأت نغمته
(دواير الزمان )، لا تكترث .. تصور كأنك لم تره .. اللعنة ! كم أنت عنيد
! قلت لك لن يعبأوا بك حتى ولو طلبت منهم صدقة، فهم غارقون في سباتهم
المديد، وإذا نظرت إليهم تحسبهم يقظين .. لا تضع نفسك في مواقف لا تحسد
عليها وإلا لما نبهت ناظريك مرة أخرى لأشياء كهاته، ستلتقي بأشخاص غامضين
يستفزونك، يطلبون منك أشياء لا تتقنها، نساء أخريات يقفن على الرصيف
يتصيدن خلان لحظات ليلية في الفنادق المجاورة، لا تنظر إليهن وإلاّ جلبت
لنفسك المتاعب، وعلى يدك اليمنى هناك بار صاخب، دع هاته الأشياء لأهلها
رغم أن جسدك المعروق يتعطش إليها، فأنت منذور لما هو أهم من ذلك
..
تحت ظل شجرة
العنب يبدو لك مصعد كهل، أقصده دون تردد سيؤدي بك إلى الجسر الضخم الذي
يعلو وادي اليعسوب، لا تشغل نفسك بالخوف، كن شجاعا أكثر من اللازم حتى
تتمكن من ولوج الحصن القديم الذي ستتكفل بفتحه، لعلك الآن تسمع أصواتا
وجلبة، لا داعي للقلق، فالطيور تتخذ الأمكنة المنسية أوكارا وملاذات
والأعشاب الكثيفة ستسد الممرات أمامك، وربما قد تصادف بعض الزواحف
والحشرات السامة .. لا تحاربها، اكتف بإشعال المصباح اليدوي، فسوف تفر،
لأنها تخاف الضوء، هذا المكان لم ير الضوء منذ ... ( لا أعلم ) لذاك يبدو
الشعاع الذي ينسل من يدك اليمنى غريبا إلى حد لا يطاق
..
أنت تعرف أن
ما تقصده الآن ليس أصعب من الوقوف في مشهد احتجاجي بحثا عن العمل .. أو
الانضمام إلى مسيرة تضامنية .. أو حتى بيع السجائر بالتقسيط .. أوه ..
اللعنة، سأذكرك بتلك المصائب، ألف مرة نهيتني عن ذلك
..
هل تعرف كم
الساعة الآن ؟ بالطبع لا، فأنت مفتون بما هو أهم من الزمن ! ثم إنك لا
تتوفر على ساعة يدوية، بل حتى أن عينيك الجاحظتين، المتعبتين لم تعودا
قادرتين على تبين معالم الليل، لو كنت مستريحا لتكشفت لديك خيوط الفجر،
ولاستبانت لك مجموعة ( المشبوح ) وهي تتسلل خجولة بين ضفائر الحلكة ..
ولكن لا يهم، أنت في خطواتك الأخيرة نحو المقصد، يكفيك قليل من الجرأة ..
الباب مفتوح أمامك.. تقدم بعد أن تتجرد من كل مسوخ الواقع الذي خلفته
وراءك .. عندما ستطأ رجلك العتبة، سيسمع لوقع خطاك صدى ثقيلا على الصدر،
تمهل قليلا حتى تشتد بك الرجفة، حينها توغل إلى اليسار، هناك ستجد
قنديلا، أوقده بعود الثقاب الذي في جيبك الصغير .. ولن تزعجك الخطاطيف
التي ستندلع من أعشاشها المخبأة بجوف الأسوار العتيقة، لا تعبأ لنقرات
البعض منها، حتى ولو سال الدم من بين أصابعك، ومن خلل شعر رأسك الذي لم
تترك فيه نائبات الدهر إلا نتفا قليلة .. اصعد الدرج المثبت أمامك بعناية
واحذر أن تتعثر .. ستجد قبالتك ممرين هامشيين .. إياك أن يشغلك الفضول
بمعرفة ما فيهما عن طريقك الرئيسي .. فلم تعد تفصلك سوى رمشات عين عن
مبتغاك .. الآن قف مكانك ! انتبه إلى هندامك وصفف شعرك المنفوش، امسح عن
وجهك الغبار، ثم عد عشر خطوات .. وقتها استقم في خشوع كأنما الطير على
رأسك، تحسس جيبك علك تجد الوردة التي أودعتها فيه ليلة أمس .. ابتسم دون
مجاملة ولا تفريط، وانشرح حد ما تستطيع فأنت على موعد مع الشمس
.. |