« قهوة
سوداء من فضلك
»
كعادته كل
مساء يقصد مقهى " الحديقة " يتخذ مقعده في ركن قصي، ويراقب المارة من خلف
الزجاج، نظرة إلى الجريدة ونظرة إلى الشارع ... ثم عودة إلى الفنجان الأسود،
ومن حين لحين يرفع عينيه المتواريتين خلف سواد نظارتيه نحو النادلة الأنيقة
التي أثارتها نظراته، مما جعلها تعامله بشكل خاص، ابتسامة عريضة عند
الاستقبال وامتقاع عند التوديع، ولم تكن تخفي إثارتها له ... بمشيتها،
بنظراتها، بتربصها حوله .. وترددها في مسح مائدته ... لكنه كان يتظاهر
بعدم الانتباه .. مما زادها تعلقا ورغبة في دخول حياته، ولكن من أين تبدأ
الكلام ؟ من أين ستستدرج هذا الغارق في غموضه وصمته حتى النخاع ؟ اتخذت
كرسيا بجانبه. انشغلت بعد المدخول اليومي، وظل هو منشغلا بجريدته دون أن
يخفي اهتمامه بالنادلة اللحيمة التي شغلت باله منذ أيام، صدفة التقت
نظراتهما، فابتسما وبادرت:
* الجو حار
...
تفاجأ ..
تلعثم .. تباطأ ثم أزال نظارتيه السميكتين وأجاب :
- أليس هذا
فصل الصيف ؟ نحن على عتبات يونيو ...
* طبعا ..
طبعا .. أقصد داخل المقهى
...
وأتى صوت
الزبائن متعددا من جهات مختلفة: كارسون ... كارسون
...
قامت بسرعة
.. وعاد إلى جريدته بعد أن مسح غلالة عرق بارد عن جبينه ليغرق في تحاليل
الأحداث ومستجدات الأنباء ... وكلما سمع وقع أحذية تسلل نظره إلى الساقين
الفاتنتين.
شيئا فشيئا
صحا عشقهما .. وجمعهما الطريق الرملي المهمل إلى شارع " بئر انزران " ...
هناك تبادلا الخفي من أحاديثهما :
( كان عاملا
بزوارق صيد الأسماك يرحل كل ثلاثة أشهر إلى جوف البحر ... ثم يستريح شهرا
أو أقل من ذلك .. وما جاد به البحر خلال تسعين يوما يبلعه البر خلال أيام
معدودات: إقامة بالفنادق، مقاهي سكر دائم، أنثى بالليل ... أنثى بالنهار
... حياة رتيبة لا معنى لها ... أهذا ما كنت أحلم به يا منى ؟ أمن أجل
هذه الأسطوانة أتيت من قلاع بولعوان ؟ ) هكذا كان ... وكانت منى المها
الأطلسية ( قادها فشلها الدراسي إلى العمل بشركة تعليب الأسماك "
سارديسود " لكنها لم تكن مهمة دائمة .. فترددت على العمل بالمقاهي .. من
غسالة أواني إلى نادلة ( أقسم لك يا معطي أنني أطهر من كثيرات ممن تود أو
تحلم بالزواج منهن ... لكنه الفقر ... اللعنة على الفقر
).
اقتنعا
بفكرة الزواج، فجمعتهما شقة متواضعة ب « عين الرحمة » ورضيا بعيشتهما جد
المتوسطة .. وظلت رحلة البحر تأخذ المعطي لمدة طويلة تقلق الزوجة، وظلت
منى في عملها اليومي كنادلة .. ثم تعود للبيت مساء لترتب ما ينتظرها من
شغل المنزل المتراكم منذ الليلة المنصرمة .. وخافت أن ترزق مولودا قد
يشغلها عن عملها الذي يغطي أغلب نفقات البيت، خاصة في غياب زوج لا يعود
إلا دوريا .. لذا داومت على تناول الأقراص دون إذن من زوجها.
يحتل المعطي
مكانة بين أصدقائه في الزوارق وحتى في الميناء .. لأن فراسته وحدسه لا
يخطئان موطن جحافل الأسماك ذات النوع المطلوب .. وفور عودته يملأ المنزل
برائحة السمك والبحر .. وحينما يجمعهما الفراش يبوحان لبعضهما برغباتهما
المشبوبة التي غالبا ما تنتهي ببكاء وإجهاش ( أخاف يا معطي من أسرار
البحر وما يكتنزه من غدر ... أخاف يوما أن يلحقكم شره ... يداعبها المعطي
كعادته مخففا من حزنها ( البحر صديقي .. ولا أهابه .. صحيح أنه يمازحنا
أحيانا، لكننا نتصالح .. ) ويمر الشهر مثل البرق بأيامه الحلوة الزاهية
.. تتخللها زيارات " لأباينو " ... وادي درعة، واد شبيكة، الشاطئ
الطانطاني .. ثم تعود الرتابة والانتظار .. وشيء من الشوق.
هذه المرة
طال الانتظار .. منى لم تعد تحتمل .. أربعة شهور .. خمسة .. سبعة .. لم
يسبق للمعطي أن وصل هذه المدة، فقررت أن ترحل إلى الميناء لتسأل عن زوجها
.. استقلت سيارة أجرة بسائق متهور .. وفي منتصف الطريق زاغت السيارة عن
حيزها فاصطدمت بسيارة أجرة معاكسة .. وغداة التحقيق وجد رجال الشرطة أن
من بين الضحايا " المعطي بلعبيد " ومنى سديرة
".
طانطان /
مارس 1998 م |