هوف ! كم هو
ملتهب هذا الغلاء .. حتى كأس ماء لم يعد من السهل الحصول عليه في هذا
الزمن المشتعل .. ( الكراب ) صاحب جرة جلد الماعز ما عادت تقنعه قطعة
العشرين فرنكا .. أصبح يطلب قطعة الخمسين قبل أن تطفئ سعَر الظمأ .. ولم
يعد يصيح ..( برد ألعطشان ) بل كان يهمس كأنه يحدث نفسه متشفيا في جماعة
العطارين والجزارين وهم يتطلعون إليه بشغف : ( تصاحب مع الكراب في الشتوة
باش يدير بحسابك في الصيف
) !
قالتْ ذلك
مخاطبة اليأس الذي يغلف قلبها الحزين .. متخطية باحة الخضارين معتمدة على
عكازتها الهرمة .. وكانت الكثير من العيون ترقبها في أسى وكأنها تدمدم :
( إيه يا الزمان يا الغدار .. كم كسرت من جناح .. أينك يا منانة ؟
وعضلاتك الفولاذية ؟ من كان يستطيع منافستك في قطع الأشجار وحرث الأرض ..
قهرتِ حتى الرجال .. والآن ماذا جنيت غير العناء ؟ ولم يترك لك المعطي ولد
الغياث سوى هذا الطفل الذي ما زال لم يفتح عينيه للنور بعد
.. )
تذرع
الشوارع والأزقة ورحابي السوق بحثا عن يد كريمة تمنحها قرشا تملأ به
معدتها وتسخن ببعض ما تشتريه بطن هذا الرضيع الصارخ بين ذراعيها
الناحلتين .. يملأ اللّغط السوق الأسبوعي الموزع بين رغبات الناس
وحاجاتهم التي لا تنقضي .. لكنها كانت تضحك حينا وتشمئز أخرى .. وأحيانا
كثيرة تنشغل بتهدئة طفلها الذي يتعلق بما تبقى من فتائل شعرها .. ربما
لعدم احتماله للحر وربما لنار الجوع التي تستعر في أمعائه.
تعود في
المساء – كل مساء – ليحتويها الكوخ القصديري – تركة المعطي – تعود لتجد
فراشها مازال في مكانه لم تفارقه بعد رائحة عرقها وضراط صغيرها الذي
يربطها بهذه الحياة
..
حتى اللحظة
لم يكن يعكر صفوها شيء رغم ما تعانيه من تعب وألم .. فقد كانت راضية بما
تملك من هدوء وأحزان. غير أن بعض الرواة لم يستسغ هذا المسار، واستغل
تنازل الكاتب الضمني ليغير حياة هذه العجوز .. ( الواقع أنها ليست كذلك،
لكن " فقايص " الزمان ومشيئة الرواة تواطأتا لتجعلاها تبدو كذلك ). (
منانة !!! حلمها بين يديها ! تتعب الليالي من أن أجل أن ترى البسمة على
محيا ابنها الصغير .. لكن ما بال هؤلاء الرواة الملاعين ؟؟ ).
« ... عبثا
توقدين شموعك الملتهبة، وتنصبين قدرك المخرب على دفقات الدخان الخانقة ..
لم تسعفك دريهمات الديطاي في اقتناء خبز شاحب واكتفيت بحليب معلب لإسكات
هذا الجنين المترنح في ظهرك .. المتقلب في حضنك .. من أجله تعبرين شوارع
المدينة حاملة علبة سجائر وعلبة سيراج .. تجوبين الأزقة، من مقهى إلى
مطعم .. إلى الشاطئ .. تلتمسين دريهمات .. تسحبينها من غبار الأحذية وأنت
تبتسمين لزبنائك ابتسامة مريرة فيها شعور بالغبطة أحيانا، وبالامتعاض
أحيانا أخرى .. وشبح الكآبة يغلف وجه الصبي المتسلق لحضنك، ترى ماذا
يغمغم ؟؟ ماذا يريد ؟؟ هل يريد تلميع حذائه ؟؟ ومن أين له الحذاء ؟؟.
انتظري !
هناك صوت ما يناديك .. رجل في مثل سنك .. يريد سيكارا .. يريد تلميع
حذائه .. يبدو ميسورا .. يفضحه احمرار خدّيه .. قد تكونين محظوظة .. وقد
تخطئين التقدير ! لا يهم .. ليس هناك حل .. هيّا ! تكومي حول حذاءيه بعد
أن تشعلي سيجارته الأنيقة من نوع لوكا .. وأحسني التلميع .. علّك تربحين
درهما أو درهمين، لتشترين حليبا وربما خبزا حافيا: ( اللعنة !! أية حياة
هاته !؟ قذارة أنت يا دنيا .. ) يدفع الزبون، في غرور، رجله فوق الخشبة،
ويرفع إليك نظرة تكاد تحتويك كسماء المدينة الشاحب .. وبصوت متشنج يخاطب
وجهك دون استحياء: ( هذ السيراج فري ولا مزوّر آ الشريفية ؟؟ ) تقع
الكلمات على قلبك مثل الصخر فتذيبه كقطعة ثلج وتصير كبدك عجينا .. ترى هل
تتجرأ من تحمل وليدا في يمناها على الخداع ؟؟ وتكبر فيك الأسئلة ، تصير
جروحا بحجم الأخاديد .. تنزف غدرانا من السخط والصديد .. تغيبين في هواجس
ومونولوكات رهيبة .. فتجاوزت حد التلميع .. ولم يوقظك من غفوتك سوى صوت
هذا الرجل الذي يشبه فحيح أفعى الصيف المتأخر .. وكأن المدينة كلها راحت
تردد صوته!! : - ( تديو فلوس عباد الله ع هكاك
.. )
ورمى لك
بقطعة نقدية لا تتعدى الدرهم الواحد، فتدحرجت على الإسفلت تتقرقع مع
الرصيف .. تتبعينها بنهم .. تنتشلينها من رمال الرصيف البحري، في حين
كانت ريح البحر المسائية تغسل وجهك المعروق .. تسحبين جسدك النحيل
وتغادرين الشاطئ الذي على ما يبدو قد خلا تماما من المصطافين .. ولم يعد
هناك سوى بعض الأشباح الليلية من عشاق خناجر البحر القاطعة للأوصال ..
تسامرها بجرعات " الجينكا " .. أحيانا تغرقين في أحلام رمادية كسماء هذا
الليل البهيم .. فيقودك فارس أحلامك الملقى على ظهرك في استسلام لنوم
عميق – إلى مدينة لا تعرفين اسمها : ( ولدي عويد الخيزران، يكبر ويقرا
القران، ينجح وينسيني تعوس الزمان ) هذا الحلم بنزينك للمسير .. لوطء
الشوك والحجر الناتئ .. لقطع المسالك المجهولة .. تهرعين للباتسري
المجاور لتقتني حليبا معلبا وشوكولاته ولعارض ما لا تشترين خبزا .. بين
الحليب المعلب والعراء والطفل تنشرين شراع أحلامك العبوسة كجناحي عصفور
جريح، يهرع تارة للأفق ويسقط أخرى .. ورجلاك الحافيتان تحتفلان مرة بصدأ
العجلات، وأخرى بحبات الرمل الواخزة كالإبر. وأنت لا تبالين سوى بصياح
الجالسين على الهامش الضائعين في دخان السجائر :
- آ ملات
الديطاي .. واحد ماركيز ..
- أسيري
سيري آ شريفية.
- عندك
السيراج كري آ لمرة
..
وفي الكوخ
الصغير تضعين عظامك المهروسة بكد اليومي المكرور .. وتنسين أن تغسلي
رجليك الحافيتين أمام إلحاح صراخ الطفل الضاج بعنف يطلب ما يسد به ألم
الأمعاء .. تضعينه بتؤدة على ركبتيك النحيلتين، وأنت تمسحين جبينه
المغلول بقطرات عرق بارد، وصفرته تعلن تحديا كأنه يرفض روتينية اللحظات
الرهيبة المشتعلة كشمس لا ترحم .. يفتح المسكين فاه متعطشا لقطرات الحليب
مثلما تتعطش الأرض صيفا لرذاذ المطر .. وأنت تبتسمين ملء فمك كنت تصبين
الحليب بهدوء متابعة حركات فمه الموافقة لإيقاع مصات تلك الحملة
البلاستيكية العنيدة .. لم تكوني تعلمين أنك تصبين الموت في جوف حلمك
الذي يربطك بالحياة .. ينتهي الحليب .. يفتر نشاط الطفل .. يسكت .. تتقلص
ملامحه .. ينقبض ينام إلى الأبد .. ينطفئ الحلم .. ترى ماذا يجدي البكاء
يا خالة ؟؟!
»
طبعا، لن
يعجبك – أيها القارئ الرهيف الإحساس – هذا الفناء الذي سلطه هذا الراوي
اللعين على هذه الحكاية، من حقك أن ترفع عينيك سخرية وامتعاضا ومن حقك أن
تصَفِّر وتصفق لراو آخر قد ينصف أبطاله ولربما يكون متفائلا أكثر :
( .. على
العكس تماما، لم يكن الحليب مسموما، ولم ينم الطفل إلى الأبد بل كانت
إغفاءة راحة بعد انتعاش بطن تضور طيلة النهار من ألم الجوع ترعرعت
الأحلام ونمت مثل شجرات الموز وعندما اشتد عود الطفل وقوي وكان اسمه (
صخر ) ضاقت السبل في وجه الأم ولم تعد قادرة على تلبية حاجياته، فأودعته
لدى واحدة من دور الحضانة بعد أن قبلته بين عينيه ورشته بباقة دعاء. كانت
ما تزال متمسكة بإحدى يديه حينما تسلمت إحدى المسؤولات بالدار يده
الأخرى، ولم تتمالك نفسها إذ سبقتها دموع عينيها المحملقتين في محياه
الطفولي، وظلت يدها ممدودة حتى بعد أن غربت عن لحظيها ملامحهما وهما
يبتعدان داخل صالات وحجرات الدار ، وكانت يبدو على فمها الأدرد علامات
الحيرة وكأنما تتمتم (سير يا وليدي يا صخر خليت ليك الله .. أنت جمرة
تحرك كلبي .. مليت تعوس ليّام .. ما قدرتش نشوفك تتعذب ف جنبي وجبحي خاوي
ما عندي ما نقدم ولا ما نوخّر .. ها زماني حافي راسي عاري اخدم واردم ..
جبحك عامر فين ما دوّرتي يلقاك التيسير والعوين
.. )
تعود
أدراجها ملجمة بأساور الخيبة .. تجوب بخيالاتها صحارى اليأس والإحباط ..
تذرع برجلين حافيتين الدروب والأزقة .. ما عادت تبالي بالصخر الناتئ ولا
أغلال الجدارات المنصوبة أمام أعينها وبصيرتها.
ذهبت من حيث
أتت .. الشارع نفسه المؤدي إلى مقبرة سيدي بوزكيكيرة .. ولم تعد البتة
..
قفزت الأيام
بصخر وضحكت له الدنيا .. صار تاجا في زمانه .. افتخر به أهل العلم ورحبت
به أسماء لوحات النتائج .. ودقت في وجهه طبول الانتصارات والتحديات ..
وبعد أن تعرف على فتاة ظن أنها ستكون شمعة لأحلامه، طرحت عليه سؤالا
مزعجا :
- لماذا لم
تحدثني عمن أنت ؟؟
وظل ساهما
يرتجف في ارتباك .. وتمنى لو أنه يعثر على تلك العجوز التي قادته من يده
إلى دار الحضانة ، كانت بئيسة وشاحبة .. ذاك ما كان يذكره .. إخ إخ خ خ
ما قيمة الثروة ؟ والعلم ؟ والجاه ؟ أح ح ح عليك يا صخر
! ...
)
استدرك راو
آخر الأمر وحز في نفسه أن تغتصب الحكاية هكذا، وبدا له من عين الصواب أن
يلتقي صخر بأمه العجوز .. ( أما أنت أيها القارئ فلا تقلق ولا تنزعج
وأمهلنا عذرا في أن ننصت للحكاية أكثر من اللازم ) .. ظلت منانة مكابرة
تستبق الزمن .. وتزور من حين إلى حين فلذة كبدها وحلمها الرائع الذي
أهدته لها السماء لتستعذب به لماظة الحياة .. ولم تنس أن تحمل له معها
حلوى الماضلين وريبي جميلة الذي كان له عنده الطعم الخاص الذي يضاهي مذاق
حليب الأم .. كان صخر يكبر وتكبر معه أحلامه .. صخر ولد منانة هكذا
لقّبوه .. مطامحه تكسر الصخر وتذوب الثلج .. لم يسعفه ذكاؤه في حصد
علامات جيدة في الدراسة .. فانقطع عنها .. لا يهم ماذا فعل بعد ذلك غاب
عن دار الحضانة .. فافتقدته أمه مدة طويلة .. ولما ظهر اسمه وصوته أول
مرة كان على لائحة الترشيح للانتخابات البرلمانية .. حملت منانة الورقة،
على الورقة صورة ابنها .. هو بعينه وأذنه .. تنظر إلى وجوه المارة وتنظر
إلى الصورة .. ابنها رجل أعمال ناجح .. هو الذي نجح في الدائرة 14 .. تقف
الآن أمام قبة البرلمان تحملق في وجوه الداخلين .. ها هو ابنها صخر يتقدم
.. تبتسم .. تهرول نحوه. دموع الفرح تسبقها .. تعانقه بكلتا يديها ..
يرتبك، ينفضها من عنقه يعيد ترتيب مقجاجته وهندامه .. ينظر إليها بشزر :
- الله يجيب
ألالة .. واش انتوما وليتو باغين .. تخطفو !
* « إم م م
، الله يحضر الشهادة ... » قال راو آخر .. ثم أضاف :
( لا . لا
لم يكن صخر كذلك، صخر دم حر ومرمر نفيس .. تخلى عن الدراسة فور إحساسه
بقدرته على العمل .. غادر الدار وعمل شيالا بسوق الأحد .. ضحى بأحلامه
ومطامحه من أجل أن يحسن إلى هذه العجوز التي بصقت عليها الدنيا .. كل
مساء يعود وبيده حقيبة من البلاستيك ملآنة بالخضر والفاكهة وخبز الشعير
.. وكانت الأم منانة تطالعه بنفس الابتسامة العريضة التي تكشف عن فم أدرد
نالت منه يد الأيام والليالي .. وحنجرة تجأر له بالدعاء الصادق الذي
تفضحه بحة الصوت:
( - الله
يفرشك بالرضى ويغطيك به يا وليدي ! بغيت سفينتك ديما تروح ناجية
.. )
تهافتت
الأوبئة على الجسد الذي أضناه السفر اليومي بين الجدران .. واقترح أهل
الدرب أن ينقل صخر منانة إلى دور العجزة القريبة من مقر سكناه
..
فكر ثم دبر
ثم رفض
..
تألم كثيرا
لتدهور صحتها
..
وفي مساء
شتوي إذ كان يحملها بين يديه كطفل ويلقمها بعض الأكل وإذ كان يشعر بسعادة
لا تقاوم .. أحس بجسدها ينتفض .. تلك ساعة الفراق
..
ربما أن
حكاية منانة وصخر لن تنتهي أبدا
... |