سبعة كانوا،
تعدهم أبصارنا وهم يمتطون جيادهم الواحد تلو الآخر، ويعبرون جسر النهر
قاصدين سوق الأحد. متقاربو القامة, يوارون لمعان صلعاتهم خلف عمائم خضر،
لحيهم مشذبة بأحكام في شكل هندسي واحد بديع، تحسبهم من الشبه رجلا واحدا،
أهل القبيلة يتحيرون من أمرهم، كانوا يطلقون عليهم اسم " عبيدات الرما "
نلمس في نفوس أغلب الرجال خوفا وهلعا من صورهم التي يخيم عليها الوقار،
وعلى كثرة ما يترددون على القبيلة والطريق الرملي الذي كنا نشاغبه
بلعبنا، نتحلق وسط الطريق .. نبلل الطين والرمل بالماء النهري ونصنع
أواني وعربات، وإذا رأينا قافلتهم آتية من أعلى قمة التلة الصغيرة، نشرد
إلى هامش الجسر منتظرين انزياحهم، محملقين في ستراتهم البيضاء، بياض
لحيهم كقطن نديف، جيادهم المسروجة منهمكة في سير مضبوط الإيقاع كأنها في
رقص منتظم، وإذا لمسوا أي تهاون أو تثاقل منها، يكفي قائدهم أن يئن في
شبه زئير غاضب "هيه" فتعود الحركة إلى الانتظام، وعندما تقترب القافلة
منا، تتشرب أنوفنا الصغيرة الغبار المتطاير من شدة وقع سنابك الخيل
مصحوبا بعبق رائحة المسك الفائرة من أجسادهم المقبولة، تجللهم نسمات
الوقار المكتوبة على صفائح هندامهم الأنيق، دون أن يتكلموا، وفي نظرة رجل
واحد تمسحنا نظراتهم الحادة الشديدة الحزم مصحوبة ببسمة نخالها مصطنعة،
يدسون أياديهم اليمنى في محافظهم الضامرة البديعة الصنع، المنقوشة بألوان
مثيرة، يخرجون منها حلويات متنوعة، يرمونها لنا دون أن تهدأ ناعورة
جيادهم السريعة الحركة, نتلقفها في ذهول، نتبادل نظرات دالة، نلتفت فيغيب
عنا خيالهم، ويبقى الغبار مستنفرا أويقات مديدة، يخبئ كل منا حظه، بعد أن
نتفحصها في إعجاب، وعندما يسدل المساء سترته الرهيفة على أرجاء القبيلة،
نسوق قطعاننا الصغيرة ونحن نلتفت علنا نرقب القافلة التي لم نشهد عودتها
قط، نحبس الأغنام في الإسطبلات .. ونأتي سراعا إلى آبائنا نزفهم البشرى،
فترتسم علامات الانشراح على ملامح وجوههم التي غمرتها التجاعيد، تمتلئ
عينا أبي بدمعتين منكتمتين فيبتسم ويربت على كتفي قائلا ( تكون من
العلماء أو الصالحين يا بني .. فقد باركك عبيدات الرما )، مع مرور الأيام
أصبحت ألسنتنا تتلمظ حلاوة عطاياهم قبل أن ننالها، وظلت هيبة الرجال تكبر
معنا خاصة حينما يأتي موسم الصيف، تتأهب القبيلة لاحتضان أكبر حدث في
السنة، تفرش الأراضي المنبسطة وتزين بالخيام، تتحلق النسوة حول المواقد
تهيئن الكسكس والملاوي، ويشمر الرجال عن سواعدهم لذبح كبار الأغنام
وأضخمها، ثم ترص المأكولات بأنواعها على الأفرشة الوثيرة، تقف أغلب نسوة
القبيلة في صف طويل، تشق زغاريدهن صمت البطاحي على مد البصر، متعاقبة
تعبر الحناجر المشرئبة إلى طريق التلة, الرجال زائغة أبصارهم تستصغر
النذور، منشغلين بالترتيبات التي لن تنتهي، فجأة اشتد الهرج وتداخلت
الزغاريد، تطلعت بقامتي القصيرة أتقصى الزوار .. سبع عمامات خضر تتحرك
راسمة دوائر تضيق وتتسع يتهافت عليها الجمع بالتبرك .. هدأ الوضع بإشارة
من الرجال الطاعنين في الكبر .. اصطفوا أمام ساكنة القبيلة يستقرئون
وجوههم، ثم قوسوا أكفهم البيضاء ومعهم رجال القبيلة .. تلا واحد منهم
أدعية كثيرة حتى إذا ما تناثرت حبيبات عرقهم, أمروا الناس بأكل الأطعمة
المهيأة بالسمن الحار والعسل المرغى، ثم امتطوا جيادهم وانصرفوا مخلفين
حزما من الغبار لا تنكشف إلا عندما يطؤون التلة في سير حثيث، وظلت لقبلهم
على جبيني طرطقات تفرقع في كياني، حين فأجابني أبي وهم يغادرون الخيام،
فحملني بكلتا يديه، ثم رماني بين أحضانهم العريضة، يتقاذفونني ككرة
صغيرة، تشدني إليهم رائحتهم العطرة، دأبت القبيلة على هذا التشريف
الموسمي اعترافا ببركتهم ودعائهم اللذين غمرا القبيلة فاغرقاها في أردية
الخيرات
..
وذات مساء
شتوي مطير فوجئ أهل القبيلة بأصوات نسائية تشق الطريق الذي كان يسلكه
الرجال , فركضوا ركضتهم البهيمية صوب مخبأ الأصوات حيث نام عبيدات الرما
, رقدتهم الأبدية, سبع جثث مصطفة, معصوبة رؤوسهم مقطبة ما بين حواجبهم
مقاومة الألم, مسدلة لحيهم النديفة, وما فارقهم وقارهم المعهود.. ترنحت
النسوة يرثين مسيرة عظماء القبيلة,و بهت الرجال مستنفرة قلوبهم تكاد تزهق
من جحورها وجحظت عيونهم من البكاء وهي ترقب مدامع الجياد المترنحة
الهائجة تدمرا وحزنا, تنداح الرغوة فوارة من أفواههم المزمومة .. دمعت
عيناي و أنا أرقب النعش الرهيب , سبعة هياكل بيضاء منبطحة على الرؤوس
الآدمية, تهتز وتهبط , ومعها موجات الأصوات الآدمية الهادرة ، عبرت
الحشود التلة الصغيرة مسرعة ثم صعدتْ جسر الوادي , فتجهم وجه السماء
فجأة..أبرقت و أرعدت وغاب ضوء الشمس الصباحية ثم جاء زمهرير البرد غريبا
محملا بحبات برد ضخمة تنقر الرؤوس البشرية التي أخذت تنحني تجنبا
للاصطدام بها , الحقول جرداء تتنهد سخونة صيف منصرم, أعمدة البخار تتصاعد
من أحشائها العطشى على إيقاع قطرات البرد العنيفة , تصطدم بالصخور و تنط
ثم تصمد كثيرا قبل أن تذوب بين فجاج الأرض , الأجساد الرخامية تتهادى فوق
الرؤوس في إيقاع متواز, ها هي مقبرة سيدي عياد السبع أقبلت بوحشيتها
الهلوعة : قبور ترابية , انتصاب الأحجار , نباتات شوكية هرمة , سبع حفر
رباعية الشكل متوازية كجروح ثخينة تنز بالدماء ،انفجر الصمت المخيف
بأصوات حناجر القراء وهم يرتلون ويدعون ويودعون آخر جيل من عبيدات الرما،
انسدت فوهات اللحود وعيون الرجال كابية تعلن اندهاشها لوقع الوفاة
الجماعية المفاجئة لأعلام القبيلة، خيم السكون على جدارات المقبرة الصدئة
إلا من طقطقات المعاول وهي تخربش آخر حفنات التراب الأبيض... وعلى غير
هوادة كشف الصمت, من جهة الطريق, عن ركض كدقات الطبول ترتج له بقع
المقبرة، تنبهت عيون الحشد الجنائزي... شدها وقع الصدى المهول الآتي ،
مندهشة عيونهم استقبلت أشباح الجياد الراكضة بحنق ، هائجة تلوك المسافة
غضبا, تجر الحبال خلفها.. تشتت الجمع مسرعين خيفة أن يلحقه أذاها ، توقفت
الجياد عندما اقتربت من المقبرة المردمة، تنحنحت كأنها تبحث عن شيء ما ,
تشمم كل منها القبور السبعة ثم أقعى كل واحد أمام شاهدة قبر صاحبه و وضع
رأسه منتحبا . وفقاعات الرغوة تُبَيِّض الأرضية البليلة. جلل الصمت
المطبق المكان أمام بهوت الجموع ... فجأة تنبه الحشد العارم إلى وجوم
الجياد , تقدم الفقيه, لكز الجواد الأول فتهادى على الأرض. شاخص العينين
اندهش ( سبحان الله ماتت الجياد ) ازداد تأثر الحشد ... سالت دماء قلوبهم
و عيونهم ... استقر رأيهم أخيرا على دفن جثث الجياد جنب أصحابها إقرارا
بوفائها ... عادت الجموع و المأساة تخيم على القبيلة التي لن تفارقها تلك
الصورة العاطفية النادرة ... لوحة تجعل الواحد منا إذا مر بالمقبرة يقبل
الأرض و يغسل وجهه بالتراب قائلا : (شايل الله أعبيدات الرما
) .
|