يستيقظ سعدان،
كعادته، باكرا فيشعل سيجارة من نوع كازا سبور التي كان يفضل أن يستفتح بها
مشوار يومه، حيث يكون كربونها الخانق أول هواء يستنشقه بعد استيقاظة
ملتهبة .. يلقي نظرة شاحبة على أثاث البيت المبعثر منذ سنين ثم يسحب نظره
بسرعة تخفي وراءها شعورا بالضجر والخيبة، انكماشات جبينه تعلن سؤالا
صريحا: إلى متى سيظل هذا البيت دون نظام ؟؟؟ يشعل نار قنينة الغاز (
البيطا كاز ) .. يضع عليها مقراشا كبيرا كان قد اشتراه من الجنوب لما كان
يشتغل هناك .. ينتشل قطعة خبز مرمية على هامش الأثاث .. كانت قد ترسبت
حول حواشيها بقع خز خضراء .. ها الماء، الآن، يغلي فائرا كأنما يناديه ..
يحمل علبة مسحوق صغيرة من نوع أومو ويأخذ مقراش الماء المغلى .. ثم يقصد
ركن ساحة منزله الضيقة ليغسل شعره المشتعل بياضا رغم صغر سنه .. يصب
قليلا من المسحوق على شعره المعفر بالغبار ثم يصب الماء دفعة واحدة ..
هكذا كان يفعل كل صباح، ولما سئل مرة عن ذلك أجاب في وثوق:
( أنا من
فرقة عيساوة التي تشرب الماء الحار ولا تهاب النار، شايل الله آ الهادي
بن عيسى ... أريد أن أقضي على الشيب المشتعل في رأسي .. أريد أن أحيله
رقعة لا نبات فيها .. ربوة جرداء تلمع كلما صافحتها الشمس .. حالتي تتحسن
.. الماء ومسحوق أمو وصفة فعالة .. أداوم عليها .. كل يوم أزيل باقة بعد
أسابيع سينفذ الحقل .. ها هي المرآة قد نصبتها قرب الباب لأتابع عملية
الاجتثاث كل لحظة .. هذه الوصفة أراحتني من الانشغال بهموم الآخرين .. بل
أنستني نفسي كذلك .. لم أعد أشعر بهلوسات الانتماء لا للحزب ولا للدرب،
أصبحت أعيش هناء لا إراديا، دماغي لم يعد مني .. أدمنني النوم .. أضمن
أنه يوما ما لن أستيقظ البتة ... ) هكذا كان يفكر .. يتناول وجبته
الصباحية مسرعا .. فنجان شاي قاسح وقطعة خبز مخززة ثم يرتدي حذاءه الطويل
ومعطفه الطرواكار من زمن لويس الرابع عشر .. ويضع نظاراته السميكة
السوداء .. يحمل مذياعه القديم الذي اقتناه من لاس بالماس .. هذا المذياع
له قدرة مضاعفة على التقاط القنوات والأمواج الإذاعية .. أحيانا تختلط
عليه الأمور فيلتقط عدة إذاعات في موقع واحد .. كان يروقه ذلك .. لم يعد
يستهويه أن يسمع شيئا .. كل الخطابات افتقدت بريقها .. كل الأغنيات عجوزة
.. كل الشعارات براقة ومائعة .. لم يعد يستسغ حياته .. بطاقة هويته مشوهة:
الاسم
الكامــل: سعدان تالف
المهمـــــــــــة: معلم افتقد ذاكرته
الســـــــــــــن: نسي الزمان والمكان
العنـــــــــوان: منفي بين مقبرة وجبل
الطمـــــــوح : مشروع مجنون
الحالة
العائلية: دون تعليق..
يقطع بخطى
وئيدة المسلك الترابي الذي يفصل بين منزله والمدرسة.. يقطع هذا المسلك
الترابي ليل نهار، بنفس الحذاء .. يتحدى الأشواك والحفر .. يقطع النهر
المتعفن بالوحل بعد أن يشد سرواله إلى ركبتيه خيفة أن يتلوث .. قد يحدث
أن ينزلق .. فيصبح لون البذلة مخالفا .. قطرانيا لو أردت .. بعد استعادة
أنفاسه ينظر إلى أعلى المسلك، فتبدو له المدرسة كعادتها محاطة بشجر
السدر، معزولة كبيت عرافة .. هنا بالضبط تنمو معاناته .. يشعر بالتصدع
والانهيار .. شيء يشبه البركان يغلي في الرأس:
- كيف
سأتسلق هذا السفح الرهيب مرة أخرى ؟؟ ربما هنا سيتوقف حمار الشيخ ... لكن
لا بأس، معي موجات التشويش ... إنها تزرع فيّ النشاط والحيوية .. تكون لي
فنارا في ليل هذا العناء المقنط
!
يجلس في
منتصف السفح هنيهة يسترجع بعض أنفاس أخطأتها أعاصير الموت مئات المرات ..
بجانب نخلة سيدي مبارك مول العلام يقرفص مثل نهار آيل للغروب .. تستهويه
رائحة القبور المتوازية المرصعة بألوان الورود التي تفوح منها رائحة
الرياحين والخزامى .. يصبح المنظر قاتلا حينما يلتقي اليأس والملل
والإحباط وموجات التشويش والمقبرة .. تصير هذه الأشياء جسدا واحدا في
المخيلة .. يستحيل المحيا أصفر مثل الزعفران .. يتناسى الأمر متسليا
بتسريح شعره الأبيض المنسدل على منكبيه .. ثم يخرج السبسي من جيبه العريض
ويسحب من جيبه الآخر كيسا صغيرا ( المطوي ) .. وبحركة سريعة ينتشل من بين
خصلات شعره عود ثقاب ... يملأ فوهة السبسي من المطوي كيفا .. يشعل العود
.. ثم يمتص بعمق حتى أن الدخان يبدو لك منسحبا من كل مخارجه .. يطرح
البقايا بعيدا بطرطقة من يديه الخبيرتين على فم السبسي ..تستعيد الأشياء
الآن نبضها في ذاكرته .. تبلل وجهه قطرات عرق بارد .. ينبطح أرضا ليسمع
شبه هاتف يهمس في أذنيه يوميا بهذا المكان نفسه:
- أيام كنتَ
في ربوة ( فم الحصن ) كنتَ تعبر الطريق الرملي الموحش لا تؤنسك سوى غيمات
( العجاج ) ونخيلات أولاد الدليم، والآن خذ تجربة أخرى .. تعلمْ كيف تصعد
التل ( وتعرق وتنشف ) وإذا ضاقت بك السبل فارم نفسك في بئر ( الهودج )
الصامد في أعلى السطح .. ثم هاهي ذي المقبرة بجانبك .. لن ترهق أحدا .. (
النهار الزين كيبان من صباحو ) كما قال الأجداد
..
يتحدى
الهواجس والهواتف .. يصرخ كمجنون:
- لا .. لا
.. لن أفعل شيئا من ذلك .. المنتحر في النار .. هاهو الداء والدواء ..
علي بالكيف وإذاعة التشويش .. شقف واحد كاف لتتحول المقبرة روضا رائعا
وتستحيل القبور عوسجا ورياحين .. ويضحي البئر حصنا من حصون تيمورلنك ..
أما التلاميذ فلن يكونوا أحسن من آبائهم .. دعهم يستريحون من لعبة حمل
الأثقال، وطالبْهم بملاحظة الصور المثبتة على صفحات القراءة .. وكفى ..
هذا كثير .. دع الأشياء الكبرى لحينها ولا تتسرعْ ... وفي شبه همسات:
وعند المساء
وككل مساء سأشاهد المرآة طبعا .. ثم يحملق يمنة ويسرة محركا رأسه في شبه
استدارات سريعة مرددا مقولته المعتادة وهو يراقب صورته في المرآة:
- أم .. أم
.. أم رائع .. الأمر على ما يرام لم تبق إلا شعيرات قليلة شمال الأذنين،
أما الواجهة الأفقية فقد أعلنت وفاتها نهائيا .. ولم يعد يظهر للعين منها
سوى جلد يميل إلى الصفرة .. أما الوجه فلا يهم سوف أطلق العنان للحية (
اللّحية والكيف والصلع سمات البوهالي الذي سأكونه وأعشقه .. ) .. ما يزال
بيني وبين المعاش زمن ليس بالقصير ورقية مازالت تنتظرني على أحر من الجمر
بمسقط الرأس .. رفضت عروسات كثيرات .. وأنت أيها الدماغ الأحمق أما زلت
تفكر فيها ؟؟ مسكينة هي رقية .. تتمسك أكثر مني بالأوهام .. تشتري الحوت
في البحر لو تدري أنني لم أعد أصلح إلا لهاته المقبرة .. للديدان أطفئ
جوعها .. ولهذه الأرض العطشى، يروي إيدامي ( إن تبقى ) تربتها القاحلة
..
رفع عينين
فاترتين إلى السماء يستجديها ويتأمل زرقتها .. ويده تمتد تلقائيا إلى
السبسي وإلى عود الثقاب .. وفم متيبس يمتص الدخان بشراهة ولم يعد يبدو من
وجهه الشاحب سوى ملامح غامضة تطوي سؤالا يستر خفاياه هذا الولي الصالح
المتربع عرش صمته الذي لا يشوشه سوى ما يسمع من شغب التلاميذ الطفولي
الذي يجاوره كل نهار
.. |