ينتابني الغثيان
وتتعثر خطاي كلما أقبل هذا الديسمبري الضرير, كلما أطل من شرفته النائية
تشرق تربصات دوائر لا تنتهي من زوابع المحن، منذ أن هجرت القرية إلى الجامعة
.. وهذا البرتوكول الدوري يباغتني كنسيم الصباح العليل، كل حول أتأبط
أمتعتي البالية الرثة وأعالج حقيبتي بحثا عن مأوى جديد بين دروب لا
تنتهي. الشمس تعصر أشعتها الغضوبة فوق قلة رأسي التي تآكلت وأصبحت توجعني
.. هندامي أضحى يثير الشفقة .. أما الحذاء البالي فقد أعلن رفضه إيواء
رجلي الضخمة. حفظتني وجوه المارة والقاعدين على حافة الطرق القذرة ..
أسأل ولا أجد ...
- من فضلك
هل تعرف محلا للكراء ؟؟؟ أقصد للسكن
..
تشربني
العينان شمال / جنوب / سماء / أرض / ثم يبدأ الفم وشوشته المعهودة:
- ماذا تعمل
؟؟
فأجيب دون
أن أفكر : أستاذ متنقل.
تتهدل
العينان ويتسع حجمهما حد تفاحتين ..
- متزوج ؟
تزداد حيرتي
من فضوله .. لكنني لم أر مانعا في تتبع اللعبة السردية.
- ليس بعد
...
كادت
العينان أن تخرجا عن حيزهما لولا أنني تنحنحت، ترنح الفم قبل أن يطردني
بوقاحة:
- شوف
السمسار.
حدثني
الشيطان القابع داخلي أن أصفعه تأديبا لولا أن أناي الأعلى قمعته، جرتني
خطاي المتعبة نحو بائع للزيتون .. من داخل الدكان أتى هواء خانق زكم أنفي
وحلقي فبدأت أسعل. انتبه صاحبي:
- شحال خاصك
؟؟
قلت بصوت
متقطع :
- لا أريد
زيتونا أريد محلا للكراء.
أطرق يحدث
نفسه ويجوب ناظريه بيني وبين أشيائه المتناثرة. ثم اشرأب برأسه يريد
الشارع، ثم أشار بأصبعه:
– شوف
السمسار
..
قلت بصوت
مسموع :
- اللعنة لو
كنت أريد السمسار لقصدته
..
أتعبت كل
الدروب وأضناني السؤال فاعتقدت أن دماغي ذوبته أشعة الشمس ولن يعود قادرا
على مقارعة جذاذات الدرس، وأسئلة التلاميذ التي لا تنتهي ... قصدت مرغما
السمسار الوحيد بالقرية .. وجدته متربعا كرسيه في نرجسية يعصر ما تبقى في
إبريق الشاي من قطرات، حييته فلم يرد، كان منشغلا بترتيب أفكاره. جلست.
الزبناء غارقون في ثرثرتهم النميمية، ولما لم ينتبه مضيفي، تنحنحت وقلت:
- الشريف
موجود ش محل للكراء .. ؟؟
ودون أن
يخفض جناح الذل من الرحمة, انثال علي بأسئلة صاحبي القديم فلم أتركه يكمل
وأجبت دفعة واحدة:
- أستاذ
متنقل عفوا منتقل، دكالي، غير متزوج
..
تجاهل كلامي
واستدار بوجهه نحو زملائه الغارقين في تفاصيل ثرثرتهم ليشاركهم بعض
الوقت.. تشنجت أعصابي وكدت أصيح في وجهه شتما, ولما أيقن نفاذ صبري
فاجأني دون أن يسحب سمعه عن حديث الزملاء:
- كاين دار
زينة .. وأخرى أحسن .. وبيت مزيان ووو
...
ازددت توترا
وكتمتها في نفسي.
- كل هذا
وأنا تائه في الأزقة والدروب ؟!!
حك حاجبيه
الكثيفين ثم جال بنظره أركان قفصه الضيق ثم لفظ جشعه:
- حط مائة
درهم دابا
..
ولم يكن
مجديا التودد ولا الرفض ... أمامي حل وحيد في الخلاص فقبلت ولتكن العاقبة
ما تشاء، تبعته متلكئ الخطى كأسير ذليل وهو ينط أمامي كسلحفاة ضريرة ..
ولم يكن هناك متسع للاختيار حتى ولو كان المحل قبرا في الصين أو زنزانة
تحت دفوف الأرض ... ليلتها حلمت أنني أقتل ذلك السمسار فقمت مفزوعا، حيث
أكتشف أولى غنائمي .. جرذ ضخم بحجم القط تقضم أسفاري ولوازمي. طاردتها
فخرجت في بطء ولما فتحت النافذة التفتت إلي كأنها تتوعدني بانتقام قريب
.. غدا سينطلق الموسم الدراسي الجديد وسأندس بين وجوه جديدة بحذائي
القديم وكسوتي من عهد الجامعة. غدا سأعصر دماغي لأستحلب بعض ما تركه عناد
الكراء وصداع الجرذان والصراصير من معلومات لأغني أسئلة هؤلاء المحتشدين
أمامي التي لا تنقضي ... وأنتظر أن تجد لي أمي امرأة تمسح عني غبار
الطبشور ودموع الأسى دون أن تسألني عن مرتبي الشهري ... امرأة تستطيع أن
تتبعني من خلف وأنا أطارد السمسار بحثا عن مأوى تشاركني فيه الصراصير
والنمل والجرذان .. وأنا أحضر درس التعبير تبادر إلى ذهني أن نناقش موضوع
" البحث عن الكراء " وقبل أن أنهي جذاذة الدرس تذكرت أنني أخلفت موعدا مع
صديق يريد أن يدلني إلى محل أفضل ... تداركت الموعد فوجدته هو الآخر أصيب
بعدوى البحث عن محل للكراء... عادة لن تنتهي أبدا.
|