كان الجو
باردا كعادته في صباحات أغسطس حين تعلن الشمس غضبها على بنتها المدللة "
الأرض "، وحين تطلق عنان لهيبها في الأفق، فتسكن الحركة بالقرية الصغيرة،
وتتدثر الخلائق في مخابئها هربا من هول الحر، حينئذ لم يبق إلا سرب
العربات الصغيرة المكتظة على جانب الرصيف عارضة أنواع الفواكه الصيفية
التي يفيض عبق رائحتها في أنحاء الشوارع كلها، وينفجر اكتظاظها في
الأسواق كل غشت، حيث تسود القولة الشهيرة ( الجنانات طَفْحَتْ )، ومع
كثرة المنتوج تقل القدرة الشرائية للسكان ويضعف مدخول هؤلاء الباعة
المتجولين
..
انظر إليهم
الآن .. ها نوم القيلولة بدأ يتسرب إلى الجفون .. وهاهي أشباح الشجيرات
التي يستظلون بها قد استسلمت أمام أشعة الشمس الحارقة التي طردت الظل
بعيدا .. أما الفواكه فقد تراكمت عليها أسراب الذباب والحشرات .. هي لا
غيرها من يستفيد عنوة، لا أحد ينهرها .. فهي تختار مفضلة فاكهة العنب
الحلوة المذاق .. فأنت تستطيع من بعيد أن تميز ملامح ( لكريش ) على مقربة
من باب المركز التجاري للخضر، يلوح بيديه في السماء يهش على سلعه جحافل
الذباب والنحل، فيبدو كمجنون يصارع العدم .. وغير بعيد منه تجد " لمشوط "
الذي فضل الانزواء في ركن مقهى مقابل للشارع والعربات المملوءة بالسلع ثم
انغمس في نوم عميق وترك العنب والدلاع والسويهلة عرضة للفحات الشمس ونهب
الذباب، وتتوالى موجات الحر تنهش الخلائق بألسنتها الحارقة .. وبعد
الظهيرة تبدأ درجة الحرارة في الانخفاض والفتور شيئا فشيئا .. وتستأنف
الحركة انتعاشها عِرقا، عِرقا .. فيصل تيار بارد إلى جبين " لمشوط "
فتعود إليه اليقظة قطرة قطرة .. يقوم متتائبا كسلان إلى عربته المهجورة
علّه يظفر بما قد يطفئ غضب معدته وجيبه معا، أو يضمن له ثمن شمعة يستضيء
بها في سمره مع اللوحة والقماش .. يعيد تنظيم وترتيب سلعه لتسترجع رونقها
وإثارتها اللتين افتقدتهما بسبب الحر وبزق الذباب والحشرات .. تبسّم فجأة
وهو يعثر على سراق الزيت، فاستحضر مشاهد من رواية قرأها منذ كان طالبا
بالجامعة ثم تساءل بصوت مسموع:
- ما الذي
تريده هذه الحشرة من الدلاع ؟ هل يوجد فيه زيت ؟ لا أعتقد ذلك إطلاقا ..
لكن مهلا، ولم لا أطرح سؤالا آخر ؟ ما الذي تفعله أنت يا المشوط على هذا
الرصيف ؟؟ ألا تكون شبيها بسراق الزيت ..؟؟
يلتقط
الحشرة بكلتا يديه قائلا:
- تعال يا
صديقي .. تائهان نحن .. أنت تبحث في العنب عن زيت افتقدته في القنينة ..
وأنا أبحث في الرصيف عن شيء افتقدته في الثانوية .. في الجامعة .. في
المجتمع .. سنحتفل الليلة ونتسامر، لا لشيء إلا لأننا التقينا ... غدا
سأدرجك في لائحة الباحثين عن المفقود، فجمعيتنا ترحب بك .. إنها كسفينة
نوح .. من الفيل حتى الحمار
...
استشعر "
لمشوط " أن حركة غير مألوفة قد زعزعت كيانه، فارتعش وسقط الصرصور من
يديه.. فرفع رأسه ببطء ليقع نظره على مشهد رهيب العربات تنقلب الواحدة
تلو الأخرى والفاكهة تتدحرج على الرصيف لتعبر الشارع الإسفلتي في حركة
سريعة .. ثم رمق في صعوبة أشباحا ذات قبعات تتحرك في سرعة البرق .. وفجأة
وجد نفسه مرتبكا محتارا وسط العاصفة التي اشتعلت دون سابق إنذار:
( أ أهرب ؟
ولكني لم أعهد في نفسي خصلة الهرب .. لا يمكن أن أعبث بقيمة ضحيت سنين
لأربي نفسي عليها .. وجد نفسه وحيدا وسط دائرة من رجال غامضي الملامح
مسلحين بهروات وقبعات حامية وعيون يتطاير منها شرر الغيظ، خاطبه رئيسهم
متجبرا:
- وأنت يا
فرعون يا ابن ال ....... ألن تتحرك ؟؟ أتستهزئ بي ؟؟ أصبحتم تشرعون
وتنفذون لوحدكم .. تؤسسون سوقا من غير استشارة السلطة
...
دارت الدنيا
بالمشوط، ولم يعد هناك مجال للتركيز .. حتى الكلمات تكلست في حلقه:
* وهل رخصتم
لسراق الزيت والذباب بأن يفتحا سوقا في عناقيد العنب ؟؟ وهل استشرتمونا
عن مصير البعثات الوافدة على الرصيف ؟؟
استشرت دماء
الغضــــــب في دم المخزنــي فكان رد فعلــه زجريـــا في حق " لمشوط " :
- هذا
العنيد يخبئ الشيء الكثير .. يجب أن يعرض على من يفهمه .. اسحبه يا
البوهالي .. ثم أشار إلى مخزني شديد البنية كان يتابع الحوار بعينين
جاحظتين
..
مسح لمشوط
عرقه البارد بيده الهزيلة .. وأعاد تصفيف شعره الأشقر المائل إلى الصفرة
وأغمض عينيه بسرعة ثم أعاد فتحهما وكأنه يطرد بقايا نوم ثقيل عن أجفانه
.. ألقى نظرة حزينة على السلع المرماة في الشارع .. تنتشلها نساء الحارات
البعيدة، ثم استسلم لدفعات البوهالي العنيفة متلفعا كبرياءه المعهود
..
في مقر
المخابرات وقف أمامه رجل شديد الأناقة يحمل نظارتين غامقتين رهيبتين ..
نظر إليه مليا.. ثم أزال نظارتيه وجلس على كرسي أنيق ثم تساءل في شموخ:
- أ أنت
لمشوط المحفوظ ؟؟
أومأ في
إيجاب .. ثم رفع عينين جاحظتين إلى السقف غير آبه بالموقف. تابع الرجل
الأنيق أسئلته:
- أ أنت
رئيس الجمعية التي أصمت آذاننا بلغيطها ؟؟؟
تساءل
المحفوظ في حنق:
* أتيتم بي
إلى هنا لتمنعوني عن بيع العنب والدلاع أم لتمنعوني عن الكلام ؟؟.
أجاب المخبر
في تعجرف:
- هما معا
..
تأثر
المحفوظ فتابع في سخرية:
* تعني أنكم
مستعدون للحوار .. لا أستطيع أن أحسم .. لقد انضاف عضو آخر اليوم إلى
لائحة المسجلين .. وعلينا أن نستطلع رأيه اسمه سراق الزيت .. هل تعرفه ؟؟
تضجر المخبر
أكثر:
- يبدو أنك
بليد ..
* وماذا
تنتظرون من بائع الدلاع بالتقسيط ؟؟
-
كل بائعي
الدلاع فهموا أنفسهم .. أنت تعرف البوهالي .. مسالم ويحب الخير للناس ..
خمس دراهم تكفي .. أرأيت كم أنت عنيد ؟
*
شهر كامل وأنا
أبيع الدلاع لأشم رائحة قطعة الخمس دراهم .. أنتم لا تحسون بآلامنا ..
أستطيع أن أفرغ الشارع والرصيف معا كما أخليت الجامعة من قبل بشرط أن
تضمنوا لي خمس دراهم يوميا
...
دخل عون
يحمل ملفا صغيرا .. سلمه للمخبر في زهور يدل على أنه عثر على ما يثبت
إدانة المحفوظ .. كان الأخير متأكدا من مصيره .. كل القرائن تجزم بأن لا
خلاص من أيدي هؤلاء الجزارين .. وفي حين كان يتابع حركات المخبر وملامحه
الصارمة وهو يقلب أوراق الملف .. كانت عظامه تتقلص وأحس كأنما عاصفة ثلج
تجتاح شرايينه
..
بدا التجهم
واضحا على وجه المخبر .. وفهم المحفوظ لماذا أحيل بالضبط على مكتب
الأواكس .. ضغط المخبر على الزر ثم بصق على وجه المحفوظ .. دخل عون آخر
مفتول العضلات .. يختفي فمه خلف شارب كث .. وفي لغة آمرة:
- احتفظوا
بهذا الوقح تحت الرقابة إلى حين أطلبه .. هيا
!
دُفع
المحفوظ بقوة داخل غرفة مظلمة .. عيناه في الأفق ترسمان شكل العربة
والشارع وتلتمسان خيوط الضوء الهاربة إلى الرصيف
..
|