عبد الله إبراهيم - قسم اللغة العربية - جامعة قطر

السرد والتمثيل السردي في الرواية العربية المعاصرة

- بحث في تقنيات السرد ووظائفه-

 

 

1- مدخل

يعتبر السرد وسيلة جبارة في نسج وإعادة تكييف الأحداث الواقعية والمتخيلة وتوزيعها في ثنايا النص الروائي، وتمثيل المرجعيات الثقافية ، والتعبير عن الرؤى والمواقف الرمزية. ولم تعد الرواية رهينة التوثيق التقليدي، فقد تشققت من الأساس التجربة التقليدية التي واكبت نشأة الرواية وتطورها، وذلك يعود إلى تحول جذري في منظور الروائيين للعالم الفني الذي يشكلونه في نصوصهم، ونشوء حساسية تضع نفسها في تعارض مع القيم الفنية التي أفرزها المسار التقليدي للرواية. أصبحت الرواية إلى جانب وظائفها التخيلية والتمثيلية والإيحائية (أداة بحث) بها يمكن استكشاف العالم والتاريخ والإنسان. لم تعد نصا خاملا يحتاج إلى تنشيط دائم، لقد انطوت على قدرة خاصة حينما وضعت نفسها في خضم التوتر الثقافي العام، فأصبح العالم بأجمعه موضوعها، بل إنها في كثير من نماذجها قد أصبحت هي موضوعا لنفسها. ولعل أحد أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في أوساط المتخصصين بالدراسات السردية هو : الكيفية التي تتشكل بها المادة السردية، وطرائق تركيبها، وأساليب السرد، ثم الرؤى والمنظورات التي من خلاها تنبثق كل عناصر البناء الفني، وأخيرا الإحالات التمثيلية للنصوص على مرجعيات من خلال درجات متعددة من مستويات التأويل. وكل ذلك على غاية من الأهمية. فالإنسان عن طريق السرد (التاريخي والديني والسياسي والثقافي، وأخيرا الأدبي) يشكل صورة عن نفسه ومجتمعه وتاريخه وقيمه وموقعه، وعن الآخر وكل ما يتصل به. إن السرد هو الوسيلة التي يستعين بها الجميع دون استثناء في التعبير عن أنفسهم وعن غيرهم، وكما يورد إدوارد سعيد فالأمم ذاتها تتشكل من ''سرديات ومرويات'' (1) .

نرغب في هذا البحث أن نقف على جانب من ذلك، وبخاصة ما له صلة بالممارسة التي يلجأ إليها الروائي وهو يصوغ رؤيته لعالمه وتاريخه وتطلعاته ورغباته صوغا رمزيا بوساطة السرد، لنبين كيف أن السرد له القدرة على التورط الجريء في أشد القضايا إثارة وحساسية، وكل ذلك يتم على خلفية من البراءة الخادعة التي توهمنا أن الموضوع هو مجرد (رواية).

إن التحليل الذي سنقوم به لمجموعة من النصوص الروائية الجديدة سيكشف لنا أن الرواية هي أكبر بكثير من أن تسجن نفسها في مستوى تقني ذي أبعاد محددة. إنها أكثر الأنواع قدرة على التشظي في أشكالها وأساليبها وموضوعاتها ودلالاتها، وفي كونها قادرة على تفجير سيل مما سكتت عنه الفنون الأخرى. لقد تمكنت الرواية من تخطي حبسة التقليد التي لازمت طفولتها وتجاوزت ذلك إلى نوع لا يطرح نفسه كجملة من النصوص الشفافة التي تعرض لمجموعة من الأحداث التي تشكل حكاية، إنما شغلت بذاتها والعالم الذي تقوم بتمثيله. أصبحت الرواية أكثر ميلا للانشغال بنفسها وبدرجة لا تقل عن انشغالها بتمثيل العالم. ويكون السرد الروائي شفافا إذا اختفى السرد وتوارى إلى أقصى حد لصالح الحكاية فتعرض الأحداث نفسها دون أن يشعر المتلقي بوجود الوسيط السردي، أما حين يشير الراوي كثيرا إلى نفسه بوصفه منتجا للأحداث ومبتكرا للحكاية، فإن ثمة مسافة تفصل المتلقي عن العالم الفني الذي يصطنعه السرد فلا يقع اندماج بين المتلقي والأحداث، ويتمزق الإيهام بواقعية الحكاية، وينشط المتلقي في المشاركة بإنتاج ذلك العالم المتخيل. وفي هذا الأسلوب من السرد يتدخل الراوي متحدثا عن نفسه ودوره ولا يتردد في إبداء شتى الملاحظات حول مهمته السردية، وذلك هو السرد الكثيف. وكان سيمور جاتمان قد اصطلح على الضرب الأول ب(Covert) واصطلح على الثاني ب "Overt " وهذا الموضوع كان أيضا مثار عناية كل من كرستيان إنجلي وجان ايرمان (2).

ظهر السرد الكثيف نتيجة للتشقق الذي يشهده السرد التقليدي في الرواية العربية، والسعي إلى رفع مكانة الاهتمام بكيفيات تركيب المادة الحكائية إلى مستوى يناظر الاهتمام بماهية تلك المادة، إن لم يتقدم عليها، وهو ما يلاحظ في نماذج روائية جعلت من السرد الكثيف الذي يطوق الحكاية ويتغلب عليها وسيلة أساسية من وسائل تشكيل النصوص الروائية. لقد اعتاد السرد التقليدي على نوع من الاحتفاء بالحكاية، وتوقير خصوصيتها، ومداراة تسلسلها المنطقي الذي يأخذ في الاعتبار التدرج المتتابع وصولا إلى نهاية تنحل فيها الأزمة، ويعاد التوازن المفقود، ويلزمنا التأكيد هنا أن ذلك السرد قد تولد وتحددت وظائفه داخل منظومة خاصة من التراسل والتلقي، منظومة لها شروطها الثقافية التي فرضت ذائقة تتقبل ذلك السرد وتتبناه، بوصفه وسيلة تعبير تمثيلية عن جملة التصورات والرؤى السائدة، وكلما تغيرت الشروط الثقافية استجدت أنماط من السرد الذي لا يولي اهتماما بالحكاية، حسب، إنما يولي اهتماما بنفسه أيضا، وأحيانا يتغلب الاهتمام بالسرد على ما سواه من أشياء أخرى. يتمركز السرد حول ذاته، ويصبح داخل النص الروائي موضوعا لنفسه، فيقوم الرواة بتحليل مستويات السرد، وطرائق تركيب الحكاية، ومنظورات الرواة، والعلاقة بين المادة الواقعية والمادة التخيلية، وأثر النص في المتلقي، والصراع الناشب بين الرواة أنفسهم للاستئثار بالاهتمام، وانتزاع الاعتراف من المتلقين بأهمية أدوارهم ووظائفهم.

كانت الرواية العربية قد أفرزت هذه التقنيات السردية، كنوع من التمرد الضمني على النسق التقليدي الذي مثلته تجربة نجيب محفوظ -وغيره من الروائيين العرب -التي حافظت في أبرز نماذجها وبخاصة في المرحلة الواقعية، على ذلك النسق. فقد كانت رواية نجيب محفوظ تعنى بحكاية لا تنفصل عن السرد الذي يقوم بتشكيلها، ولا تترك مسافة فاصلة بين الأحداث والوسيلة السردية، ويتوارى الرواة، ويتعمق الوهم بواقعية الحكاية، فيجد المتلقي نفسه جزءا منها. فيما تنزع الرواية العربية (الجديدة) في أبرز نماذجها إلى الإفادة من تقنيات السرد الكثيف، تلك التقنيات التي أشرنا من قبل إلى أنها تنجز وظيفة مزدوجة، فهي من جهة تلقي الضوء على كيفية إنتاج السرد نفسه بما في ذلك وضعية الراوي وموقعه ودوره، وهي من جهة أخرى تعرض تمثيلا سرديا مغايرا لما كان السرد التقليدي يقدمه عن العالم. فعالمها مهشم، متكسر، مفكك، تسوده الفوضى، ويفتقر إلى القيم الوعظية الموروثة، بل إنه عالم معاد تمثيله طبقا لرؤية رفضية واحتجاجية. وهذا الأمر هو الذي يجعل ذلك العالم ممزقا وغير محكوم بنظام، والواقع فما يغيب عنه ليس النظام بإطلاق، إنما النظام التقليدي الذي أشاعته الرواية التقليدية، رواية ديكنز، وبلزاك، وتولستوي، قبل أن تعصف بذلك السرد عاصفة التحديث التي أعلنها جويس وبروست وفولكنر وفرجينيا وولف وغيرهم، وتمثل تجارب : سليم البستاني، وجورجي زيدان، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويحيى حقي، وغالب طعمه فرمان، وحنا مينه، وعبد الكريم غلاب -على سبيل المثال- النموذج الدال على ذلك، فيما يمكن اعتبار جبرا ابراهيم جبرا، والطيب صالح، والمسعدي، وفؤاد التكرلي، وعبد الرحمان منيف، وصنع الله ابراهيم، وإميل حبيبي، ومؤنس الرزاز، وعبد الخالق الركابي، وبهاء طاهر، وابراهيم الكوني، والطاهر وطار، وغادة السمان، وأحلام مستغانمي، ولطيفة الدليمي، ونوال السعداوي، وعشرات غيرهم النماذج المعبرة عن حركة التجديد السردي بدرجة أو بأخرى. إن النموذج الأول ظهر في حاضنة ثقافية مشبعة بالقيم المطلقة الصواب، التي تستند إلى نسق منسجم من العلاقات الاجتماعية مع العالم، فيما تشكل النموذج الثاني وسط عالم شبه متحلل، يفتقر إلى القيم الكلية، وقد ضربه الشك في صميمه، وأقام علاقة نسبية مع العالم، علاقة نقدية- رفضية توجهها في بعض الأحيان موجهات آيديولوجية لا توقر شيئا، ولا تقدس قيما، ولا تتعبد في محراب فكرة. إلى ذلك فالنموذج الأول هو نتاج تجربة ثقافية محدودة المشارب ولم تثر فيها أسئلة الشك الكبرى، فيما تشعبت وتنوعت المصادر الثقافية للنموذج الثاني، وعاشت على الحدود الملتبسة بين عصرين وثقافتين ورؤيتين؛ قصدت العالم الممزق على نفسه، المنشطر، المتشقق بين الإرادات والقوى والتطلعات المتعارضة. وليس من السهل إهمال أثر ذلك في صوغ ذائقة الروائي وموقفه ومنظوره وتقنيات السرد التي يستعين بها. فالرواية في نهاية المطاف ظاهرة ثقافية/ أدبية متصلة بالعالم عبر التمثيل السردي، ومنفصلة عنه بالتعبير الذاتي عن المؤلف كمنتج للنص وخالق للعوالم المتخيلة فيه. بعبارة أخرى تربض الرواية على التخوم الفاصلة بين الفرد والعالم، وتتحرك ذهابا وإيابا بينهما. ولم تعد تقبل مهمة تصوير العالم ومحاكاة خريطته البشرية والتاريخية كما هو، إنما صارت مهمتها إعادة إنتاجه وترتيبه وتمثيل القيم الثقافية فيه على وفق سلسلة من أنساق البناء السردي والأسلوبي التي تنكبت للأنساق الموروثة.

إن الرصد النقدي -التحليلي لواقع الرواية العربية المعاصرة لا يمكن له أن يغفل الموجهات الثقافية التي أدت إلى بروز ضروب السرد الكثيف، وعلاقته بالتمثيل السردي الجديد، بل إنه ملزم أن يأخذ باعتباره كل ذلك. إن تحليل نصوص السرد صار بحاجة ماسة إلى رؤية نقدية تستنطق في الوقت نفسه السياقات الثقافية. فالتراسل بين النصوص والمرجعيات يتم على وفق ضروب كثيرة ومعقدة من التواصل والتفاعل، فليست المرجعيات وحدها التي تصوغ الخصائص النوعية، بل تقاليد النصوص تؤثر في المرجعيات، ويظل التفاعل مطردا وسط منظومة اتصالية شاملة تسهل أمر التراسل بينهما، بما يحافظ على الأبنية المتناظرة لكل من المرجعيات والنصوص. وغالبا ما تدفع المرجعيات والنصوص على حد سواء بتقاليد خاصة، هي في حقيقتها أنساق وأبنية تترتب في أطرها العلاقات والأفكار السائدة، وخصائص النصوص وأساليبها وموضوعاتها، وهي أنساق وأبنية سرعان ما تتصلب وترتفع إلى مستوى تجريدي يهيمن على الظواهر الاجتماعية والأدبية فيحصل انفصال بين هذه النماذج التجريدية من الأنساق ودينامية الأفعال الاجتماعية والأدبية فتضيق هذه بتلك، فتقع الأزمة السردية الحقيقية في صلب النوع، قبل أن يعاد تشكيل العلاقات وفق نسق جديد (3). وهذا هو الذي يفسر لنا انهيار النموذج التقليدي وظهور النموذج الجديد. ومن بين ما يجب على النقد الروائي أن يأخذه بجدية كاملة : عدم الاطمئنان الكلي لكفاءة نموذج تحليلي سردي ثابت. فالنماذج محكومة بتحول دائم، بفعل دينامية العلاقة بين النصوص والمرجعيات، وكل نموذج قار هو نموذج متأزم في طريقه للإنهيار، لأنه لم يعد قادرا على استيعاب مظاهرالتجدد الضمنية الداخلية في النسق السردي، وهو من بعد عاجز عن تفسير تحولات النوع وخصائصه. والمدونة السردية التي انتخبناها لتحليل هذه الظاهرة الجديدة في الرواية العربية، وكشف وظائفها تتكون من ثلاث روايات، لكن هذا البحث يندرج في سياق تحليل موسع لهذه الظاهرة سبق لنا أن تتبعنا أبعادا أخرى لها في عدد من البحوث (*) واكتفينا هنا بالوقوف على مظاهر جديدة.

2- التداخل النصي وتشكيل المادة الحكائية

يمكن اعتبار رواية ''النخاس (4) لـ'' صلاح الدين بوجاه إحدى النماذج المتميزة التي يتشكل بناؤها العام من التناوب المستمر بين سرد يأخذ طابع (التأليف) ويؤدي وظيفته، وسرد يأخذ طابع (الرواية) ويؤدي وظيفتها التخيلية الإيهامية. وفي كثير من الأحيان تتداخل مستويات التأليف بمستويات الرواية، فتتشكل (كتلة سردية) شديدة التماسك في عناصرها وبنائها، وهذه المزاوجة التي يقوم بها الكاتب، مرة بوصفه مؤلفا للنص، ومرة بوصفه راوية للأحداث، تجري دمجا بين دورين منفصلين لهما وظائفهما : دور المؤلف كمنشئ للنص، ودوره السردي كراوية لأحداثه، و غالبا ما تغيب الحدود بين هاتين الوظيفتين داخل ''النخاس''، وهو أمر يضفي -في رأينا- ميزة خاصة، فهي نص سردي يتحول إلى نسيج من التداخلات اللانهائية لشذرات ونبذ من نصوص كثيرة لها خصائص قائمة بذاتها، لكن إطار السرد في الرواية يفلح في إعادة إنتاجها كمكونات سردية. ففي الإهداء الذي يتصدر الكتاب يوجه المؤلف ثناء إلى الشخصية الرئيسية في الرواية ''تاج الدين فرحات''، مؤكدا رغبته في إهداء الرواية إليه، واصفا إياه بأنه ''ذلك الرجل الذي انبثق بين أناملي يسعى، فكاد يرعبني حضوره'' وهذا تصريح يضع المتلقي أمام تأكيد مؤداه الإعلان عن المنافسة بين المؤلف وشخصية روايته. وسنلاحظ فيما بعد كيف يتداخلان ببعضهما! وكيف يكون ''تاج الدين فرحات'' قناعا لـ ''صلاح الدين بوجاه!

في نهاية الرواية تظهر خاتمة بعنوان ''أطراف الكتاب'' يقوم فيها المؤلف بدور الراوية، فيقول مشيرا بوضوح إلى قضية الاندماج بين الدورين اللذين أشرنا إليهما'' تم الفصل الأخير من رواية "النخاس'' لتاج الدين فرحات الكاتب المتلصص، الذي تخلى عن جائزة داورت زمنا، وغنجت وتثنت دون وقوع''. ومن الواضح أن رواية ''النخاس'' هنا تنسب إلى ''تاج الدين فرحات'' وليس إلى ''صلاح الدين بوجاه''. ومن أجل تعميق الوهم القائم على المفارقة ترد قائمة روايات ''صلاح الدين بوجاه'' التي نشرها قبل ''النخاس'' ومخطوطاته منسوبة إلى ''تاج الدين فرحات'' و هذا يحدث تبادلا وتداخلا في الأدوار بين المؤلف الحقيقي للنص والشخصية الأساسية فيه. إن هذا المظهر الفني يجعل العالم التخيلي المنبثق من تضاعيف السرد يتأرجح بالنسبة للمتلقي بين مستويين: واقعي ووهمي، وهي لعبة سردية تحرر الرواية من القيد التخيلي الصرف وتكسر الوهم به، حينما تدفع الواقع إلى أفق التخيل مرة، وتقوم في مرة ثانية بإضفاء بعد واقعي على المكونات التخيلية. والمناقلة للمادة السردية بين المؤلف والشخصية تحرر بناء النص وأبعاده الدلالية من القيود الموروثة للنوع الروائي، فبها تستبدل نمطا حرا من العلاقات السردية تمكن الشخصية من الحديث عن مؤلفها، والمؤلف من الحديث المباشر عن شخصية روايته دون التباس أو خوف من الانزلاق إلى ما هو بعيد عن عالم الرواية نفسها.

تكشف هذه الرواية بلا مواربة كيف يتقنع ''صلاح الدين بوجاه'' بشخصية ''تاج الدين فرحات'' وكيف يتمرأى ''تاج الدين '' في مرايا ''صلاح الدين''. فكل منهما يتوارى خلف الاخر، ويتقنع به، ويجد صورته في مرآته، وليس التداخل بين المؤلف والراوية في الأدوار والوظائف هو المظهر الوحيد المميز في رواية ''النخاس''، إنما التداخل بين النصوص بأنواعها ومصادرها ولغاتها المتعددة، فبعض تلك النصوص توجه انتباه المتلقي إلى خصائص فنية، كما هو الأمر في النص الذي يتصدر الرواية، وهو منتزع من ''الفهرست'' لـ ''ابن النديم''. وتتأكد أهميته وتأثيره في الرواية حينما يحاول ''تاج الدين'' تصنيف مخطوطات ترد الإشارة إليها داخل الرواية، فيصطلح عليها ''فهارس'' مثل : ''الفهرس الأول'' و ''الفهرس الكشاف'' و ما يشاع حول نسبة الثاني إليه، وسرقة الأول من ''لورا''. وبعض تلك النصوص يؤدي وظيفة تعميق قدرة التخيل وإشباع الوهم عند المتلقي، كما هو الأمر بالنسبة لنص مقتبس من كتاب ''الإرشادات والتنبيهات '' لـ ''ابن سينا'' ، وهو نص يتردد في مفتتح الكتاب وفي خاتمته، على أن هذه النصوص المعرفية التي تخترق الرواية وتمارس ضغطا على المتلقي بهدف كسر الوهم الذي يخلقه السرد تهون بإزاء نصوص كثيرة أخرى تتخلل الرواية، وتعمق أحاسيس'' تاج الدين فرحات'' الذي يدرج في سياق لغته لغات أخرى : الأشعار بالمحكية التونسية والقصائد الفرنسية لرامبو وبودلير وزولا، ومقاطع من الأشعار الإيطالية، ومقاطع سردية لجمال الغيطاني، فضلا عن قصائد عربية مقتبسة من التراث الأدبي، وكل هذا يأتي جنبا إلى جنب مع نصوص لغوية لابن منظور وابن سينا وغيرهما، وهو كثير جدا (5). وفي غالب الأحيان لا تعكر هذه النصوص سياق السرد، ولا تقطع تسلسل الأحداث، إنما تدمج في الإطار العام للنص بهدف إغناء الحالة لنفسية للشخصيات؛ فـ ''تاج الدين فرحات'' الذي يؤدي دور كاتب روائي يوظف تلك النصوص في مواقع تضفي بعدا نفسيا عميقا على الشخصيات، كما أنه يستعين بها للكشف عن تطلعاته وأحلامه ورغباته، وهي تضيء في بعض الأحيان جانبا من توتراته النفسية. ومن ذلك محاولته التماهي مع شخصية الشاعر الفرنسي'' رامبو'' ومحاولة محاكاته، على اعتبار أنه مثل سلفه رحالة وكاتب''. ومعروف أن ''رامبو'' توغل بعيدا في مجاهل أفريقيا وعاد بساق واحدة محمولا على أكتاف العبيد. فأشعار ''رامبو'' تضيء وجه المماثلة بين الاثنين، وهذا الضرب من توظيف النصوص يمكن الاصطلاح عليه بـ ''التناص الصريح''، وإلى جواره نوع يمكن الاصطلاح عليه بـ "التناص الخفي" ويمثله بغزارة كبيرة اتصال أسلوب السرد ولغة النص بنسق التأليف السردي العربي في أبرز أنواعه كالمقامات والخرافات والسير والأخبار وأدب الرحلات وكتب الفهارس وغير ذلك.

يصف ''تاج الدين فرحات'' نفسه بأنه ''نخاس''. والإعلان عن هذه الصفة يستأثر بالاهتمام طوال صفحات الرواية. وعلى هامش ما يقتبس عن ''لسان العرب'' يضع ''تاج الدين'' تعريفا لـ ''النخاسة'' في هذا العصر، وهي : ''الرغبة في ولوج حياة الآخرين والتلصص عليهم وكشف بواطنهم''. أما النخاس''، فهو : الإنسان المتلون الذي يزدوج فيه الظاهر والباطن، والجهر والسر، والخفاء والعلن. وبعبارته هو : ''الرحالة صاحب السفرالذي لا يستقر على حال، يركب البحر ، ويداور العناصر، ويراوغ الظلمة، ويغوي عرائس البحر، ويهادن القراصنة... حتى ينشب مخالب خياله في الناس والأشياء جميعا'' (6) . ومن الواضح أن هذا التعريف مشتق من الدور الذي يقوم به ''تاج الدين'' كونه محكوما برغبة الاكتشاف والبحث والقلق وعدم الاستقرار والفضول. فالمحفز السردي في النص هو تداخل الرغبة الذاتية بولع الاكتشاف. فـ ''تاج الدين'' يقع منذ البداية ضحية إغواء الجائزة الإيطالية، ويتضاعف حلمه بالحصول عليها، فيغادر بلاده مبحرا على ظهر السفينة ''الكابو-بلا'' ناحية إيطاليا راغبا في نيل الجائزة، لكن فضوله المدمر في اكتشاف الآخرين وهتك أسرارهم، والتعرف سرا إلى أخص خصوصياتهم، يفضي به إلى نهاية مختلفة تماما لكل ما كان يرغب فيه. فلا ينال مبتغاه، وهو الجائزة/الحلم، وتتعرض السفينة لعطب يؤدي بها إلى فقدان اتجاه الرحلة، فتظل ''تدور حول نفسها، تكاد لا تبرح مكانها... كأنما علقت بين سماء وأرض تدور حول نفسها مثل لبؤة جريحة أهلكت السباع جراءها وهدم السيل بيتها ولسع البرد وجهها'' (7).

تبدو النهاية المأساوية للشخصيات وكأنها متصلة بالوباء الذي حمله معه ''تاج الدين'' إلى السفينة: وباء التلصص، وكشف الأسرار، وهتك الحجب، والتوغل بعيدا في عالم الرغبات الممنوعة والمقموعة . وبدل أن تأخذ الأحداث والمصائر الاتجاه الذي ينبغي أن تكون عليه يحدث وجود ''تاج الدين'' في المركب الإيطالي خللا في توازن الأشياء، فيؤول كل شيء إلى غير ما كان ينتظر أن يكون : القبطان ''غابريلو كافنيالي'' السيد المطاع والمغامر الأفاق يلقي بنفسه في اليم وتهرب الشخصيات الأخرى أو تتوارى مختفية في أماكن مجهولة. السفينة التي وصفت دائما بأنها ''المدينة العائمة العجيبة'' تتعرض لعطب مدمر، وتفقد اتجاهها، ويتعذر عليها مواصلة الإبحار في مياه المتوسط، بل يتأكد ضياعها ويستباح كل شيء فيها. وحده ''تاج الدين'' الذي كان يراود جائزة، ويمني نفسه بالحصول عليها، يفلت من هذا المصير المهلك، فتنسج حوله أسطورة اختفاء متميزة. إذ يشاع أنه ''رفع من الكابوبلا في غروب اليوم الثالث، وأن جماعة من أصحاب السبل قد شاهدوه أسفل جبل المقطم، يحمل محفظة مخطوطاته على ظهره يكاد ينوء بحملها'' (8). لكن شائعة أخرى تؤكد أنه لم يرفع إنما شبه للآخرين ذلك. وهكذا فكأن الرغبة المقترنة بحب الاكتشاف لا تؤدي فقط إلى الحؤول دون أن يحقق ''تاج الدين'' مبتغاه، إنما تقود إلى تغيير مصائر كل الشخصيات التي التقاها على ظهر المركب. فاختلال التوازن الذي طرأ على نظام الأحداث، بسبب ظهور ''تاج الدين'' يظل مستمرا، ولا يعاد التوازن أبدا. فالنهايات المأساوية للشخصيات والسفينة تعبير عن بقاء ذلك الاختلال قائما بسبب الحافز السردي الذي أشرنا إليه، والذي نؤكده مرة أخرى : الرغبة المرضية في التلصص على الآخرين واكتشافهم والتوغل في معرفة خفاياهم. على أن البعد الدلالي لهذا المحفز لا يكتسب قيمته الدلالية إلا من خلال التفاعل مع عنصرين فنيين آخرين، هما : الشخصيات والمكان. والحق أن الشخصيات التي تظهر في الرحلة البحرية، لا ينقصها التوتر والاضطراب سواء أكان القبطان ''غابريلو كافينالي'' الذي جاء من خلفية هي مزيج من المقامرة والشعوذة وممارسة السحر، أم ابنته ''لورا'' المتهتكة، أم جرجس القبطي وعمله في تهريب الآثار، أم عبدون الجزائري تاجر العطور، أم الأمير أبو عبد الله القرطبي، أم القوادة شريفة الزواغي، أم لولا الراقصة، وغيرها. وهي جميعا شخصيات لها انتماءات ثقافية وعرقية مختلفة، لكن تجمعها الرغبة المتأججة في إحياء حفلات الليل الماجنة. وهنا يدخل المكان الذي يحتضن الشخصيات وأفعالها، والمكان هو السفينة ''الكابو-بلا''، إنه مكان مضطرب يعج بالدسائس والمغامرات الغامضة والعلاقات الخطيرة، ويعج بالاضطراب لأن أمواج البحر تتقاذفه في رحلة قلقة تقع في نهاية الخريف ومقدم الشتاء حيث اصطخاب الموج وسط الظلمة، والريح التي تعصف بكل شيء. ومن الواضح أن السرد يحقق تناغما فريدا بين الاضطراب والقلق اللذين يلازمان الشخصيات والسفينة في بحر هائج، فالمكان هو الملاذ هنا. إنه يشحن الشخصيات بقلق مضاعف إلى درجة تصبح فيها رهينة البحر بكل عنفوانه، وبخاصة بعد أن تحيط جموع القرش والدلفين والحيتان بالسفينة في رقصة مجنونة فـ ''ترتطم بالمركب في كر وفر، تقبل لتدبر من جديد قبل أن تدور حول ذاتها وترسل صراخها الحاد في الفضاء المتخثر، أما طيور النوء فأسراب شرسة تلم بالحفل ثم تفلت في مثل مروق اللولب، فتكاد تعصف برؤوس المتراصين لصق السياج المعدني البارد'' (9). ولعل تفاعل عناصر السرد هذه جميعها من أحداث وشخصيات وخلفيات مكانية وزمانية قد عبر عنها بلغة مكثفة، قصيرة الجمل، تتميز بالأحكام أكثر من الأوصاف، ويشبع فيها أسلوب العطف الذي يراكم جزئيات من الوقائع بعضها فوق بعض ليتشكل منها متن الرواية، فكأن التعبير اللغوي نفسه كان صدى لذلك العالم المضطرب. وهذه الإشارة تلزمنا القول : إن اللغة المكثفة القطعية التي تتجنب صيغ الإطناب والاسترسال، وبها تستبدل الإبحار، وأحيانا المباشرة، باعتمادها على معرفة الأشياء وتقريرها، أكثر من الإيحاء، جعلت الرواية حقلا لممارسة شتى أنواع التجريب، سواء أكان تجريبا أسلوبيا كما يمثله الانتقاء اللغوي للألفاظ الكتابية المتحدرة من ذخيرة أساليب النثر العربي القديم أم تجريبا شكليا كما يتجلى من خلال توظيف طرائق تأليف الفهارس وكتب الرحلات والسرود التاريخية والجغرافية التي برزت في الكتابة النثرية العربية خلال العصر الوسيط. ودمج كل ذلك بأساليب الرواية الحديثة وأبنيتها ، أتاح الخروج على نسق السرد التقليدي الشائع في الرواية وعدم الانصياع للبناء المتتابع الذي يعتبر أحد أكثر الأبنية انتشارا في الكتابة الروائية العربية، وقد حل بذلك سياق سردي مغاير اتصف بكثرة تقنيات الاسترجاع والاستحضار وحالات القطع، والعودة إلى الوراء، وإدراج حكايات ثانوية في سياق الحدث الرئيسي، وأحيانا فقرات كاملة لا تسهم في تنمية الحدث،الرئيس إنما تغني الحالة النفسية للشخصيات. ومن الصعب فنيا تجاهل أهمية كل هذا و إنكاره.

لا يخضع بناء الرواية لنسق متسلسل باستثناء الإطار العام للحدث، وهو الذي يصور الأيام الثلاثة التي تستغرقها الرحلة في البحر، قبل انفراط عقد الوقائع المكونة للحدث، وضلال المركب، واختفاء الشخصيات. فتداخل الوقائع فيما بينهما، وفر إمكانية لإضاءة خلفيات الشخصيات وتواريخها الذاتية، وكشف عن منظوراتها السردية، وحدد زوايا نظرها ومواقعها وعلاقاتها بالنسبة للعناصر الأخرى في النص. ولعبت مستويات السرد المتعددة دورا بالغ الأهمية في تنظيم البناء العام للرواية. وعلى العموم، هنالك ثلاثة مستويات متراكبة، تنبثق من ثلاث رؤى تحتكر السيطرة على العالم الفني في هذا النص، وتتدخل في تشكيله : المستوى الأول يتصل براو خارجي عليم، وضليع في معرفته الشاملة بكل شيء، تنظم رؤيته الموضوعية غير المباشرة كل العناصر السردية، بما فيها الشخصيات والأفعال والخلفيات الزمنية والمكانية. ومن عمق هذا المستوى الأول تظهر رؤية الكاتب ''تاج الدين'' التي تمثل المستوى الثاني، وهي رؤية ذاتية مباشرة تمثل درجة مشاركة هذه الشخصية بالأحداث، وتعبر عن رؤيتها لعالمها ولعوالم الشخصيات الأخرى، وتحدد الموقف الفكري، لـ ''تاج الدين'' وترسم تاريخه الشخصي، وتصوغ أحكامه وأفعاله بوصفه نخاسا بالمعنى الذي يظهر في النص. ومن وسط هذين المستوين السردين تنفتح رؤى سردية أخرى تتصل بشخصيات ثانوية وتضيء عالم هذه الشخصيات أو عوالم الشخصيات الأخرى، كما يظهر ذلك فيما ترويه ''لولا'' البربرية عن نفسها وأسرتها وعن نشأة ''غابريلو'' وتربيته الذاتية، وفيما يرويه ''جرجس'' القبطي عن الأمير أبي عبد الله، وفيما يرويه كل من ''عبدون الجزائري و ''جرجس'' عن ''لورا'' وهي تغوي الآخرين وتدعوهم إلى رحلة زوارق شراعية ليلية، في البحر. والمستوى الأخير بكل تنوعاته يخدم الإشارات والأفعال الصغيرة التي تغذي الحدث بدلالته العامة. على أن هذه المستويات الثلاثة المقترنة بالرؤى التي ذكرناها، والتي تتدخل في كل التفاصيل، سواء أكانت حصلت في الماضي أم في وقت الرحلة البحرية، هي التي عمقت البعد الدلالي للنص، ودفعت بذلك البعد من مستواه الظاهري المباشر إلى دلالته الرمزية غير المباشرة.

يتشكل البعد الدلالي للرواية من جملة من العناصر، في مقدمتها : تفاعل الشخصيات والأحداث في فضاء محدد، ثم الحدث وهو الرحلة غير المكتملة لكاتب يطمح في نيل جائزة أدبية، والنظام الدلالي يقبع تحت هذا السطح، ويحتاج إلى تعويم يتصل بقضية مهمة، قضية "الأنا'' و الآخر". وهي إحدى الإشكاليات الأكثر تعقيدا وإثارة في عصرنا. وما أن نزيح جانبا المظهر المباشر والخداع الذي يغلف ظاهر الحدث إلا وتتكشف القضية كاملة، وهي لب النظام الدلالي للنص. وقد جاء تمثيلها سرديا بالتصريح مرة وبالتلميح مرات. فالرحلة القلقة للمركب في بحر هائج متنازع حول انتمائه الثقافي، وعلى ظهره خليط من الشخصيات المتحدرة من أصول ثقافية وعرقية ودينية مختلفة، وتمارس مهنا متعددة وتشتبك في صراعات متعددة المستويات، لا يمكن بالنسبة لنا اعتبارها إلا رحلة رمزية ضمن بنية ثقافية مشبعة بكثير من المعاني المتصلة بقضية الأنا/الآخر. وقبل أن نمضي في بحث هذا الموضوع يحسن بنا أن نورد هذه الفقرة الدالة التي تصور موقف ''تاج الدين فرحات'' مما يراه، وهي إلى ذلك تكشف جانبا من رؤيته لعصره وبلده ، وتفجر القضية التي أشرنا إليها : '' كان قد جاب البلاد طولا وعرضا، فعرف الطرق الكبرى والدروب المتربة الخفية، رأى الناس والأشجار والعشب والمطر والوهم، وفهم أن هذه البقعة من الأرض تغير ثوبها وتولد نيرانها في مهد رمادها القديم. نهاية هذه الألف الثانية عجيبة، فالمصانع قليل دخانها، وباهت لونها، والأزمات جمة هائلة، لكن الأمر قد بلغ الأوج، أو يكاد، فالعيون أكثر ثباتا وقد وترها التحدي! أفريقيا هنالك في الجنوب، وأوروبا قريبة مولدة طاغية، والتاريخ والحضارة، بخيرهما وشرهما حاضران، مادة أولى طيعة أو صلبة، حسب الفصول والأوقات، مادة أولى للحضارة والأمل والإخفاق والموت والحياة داخل حقل صغير، حقل من الوهم والخير والشر اسمه تونس" (10). ولمثل هذه الإشارات مرادفات كثيرة ترد على لسان ''تاج الدين'' أو تفهم في سياق السرد على أنها تمثل وجهة نظره. فانتماؤه الثقافي مزيج اشتركت فيه أطراف عدة، ووعيه الذاتي، وهويته متعددة الأبعاد وقد تشكلت من مصادر ومرجعيات كثيرة، وخصوصيته الثقافية المتكونة من كل تلك العناصر لا توظف من أجل تخطي التعارضات بينه والقبطان ''غابريلو كافينالي'' لأن ''تاج الدين'' يريد أن يكون المحور المركزي لكل شيء. وهذه الإشارة تؤكد أن الشبكة الدلالية للنص يتنازعها قطبان رمزيان : الأول ''تاج الدين'' التونسي العربي الأفريقي، والثاني ''غ.كافينالي'' الإيطالي الأوربي الغربي. وهذان القطبان الدلاليان يجذبان الشخصيات الأخرى حولهما تبعا لهوية كل منهما الثقافية. وعملية الاستقطاب هذه لها أهمية بالغة لأنها تحدد نوع الانتماء الثقافي ودرجته، ولها نتيجة أبلغ من ذلك، تكشف مأزق الشخصيات ذات الانتماء المزدوج التي تظهر مشوهة الهوية، إلى درجة لم تستقر بعد أسماؤها الشخصية على شكل محدد. لقد ضربها التهجين في الصميم، ولم تفلح في تشكيل وضعية خاصة بها، وعاشت وهم النقص الدائم ولم تدرك بعد أن الوهم الحقيقي هو وهم الهوية الكاملة.

يظهر ''تاج الدين'' بوصفه قطبا دلاليا يمثل ''الأنا'' بالمعنى الثقافي ويظهر ''ع.كافينالي'' باعتباره يمثل "الآخر''. وبينهما تتردد انتماءات الآخرين، ومن اصطراعها المعلن أو الضمني يتولد المعنى الرمزي العام للنص، ولكن ما الكيفية التي يظهر بها كل منهما؟ وما دلالة ذلك، وما أهميته؟

تنبثق شخصية ''تاج الدين'' وهي مكتملة فكل تجاربها تبلورت قبل بدء الحدث، حدث الرحلة، ويمكن وصف هذه الشخصية بأنها منقاة، ومنتخبة ومصوغة على درجة عالية من الخصوصية والتميز، إذ يشار إلى أنها مثقفة ولها تطلعات، و''تاج الدين'' روائي وباحث عن الحقيقة، ومحكوم برغبة جوانية لهتك الأسرار وفضح ما تنطوي عليه من خبايا، بتلقي تربية ذاتية في مكان محدد (=القيروان، وهي في الوقت نفسه مسقط رأس المؤلف) واكتسب تجاربه الذهنية المتنوعة في هذا المكان، وباستثناء الفضول والتلصص فإن المتلقي يتقبل ''تاج الدين'' بوصفه شخصية إيجابية، ولعل المقطع الآتي يوضح كيف نسج هذا الجانب من الشخصية، " كان إحساسه بالكتب إحساسا عنيفا، حيث يخترق أريجها الحاد أنفه فيملأ ذهنه حيرة وشوقا ورغبة في النفاذ، لذلك لبث حب المعرفة بالنسبة إليه مروقا شبقا من المتاح إلى الممكن. ثم أضحت الكتابة بعد ذلك بديلا مباشرا لنهم التقبل" (11). أما شخصية ''غابريلو'' فتركب لها منذ البدء صورة مشوهة، ففضلا عن خلفياته التشردية كونه نشأ في ظروف الحرب العالمية إثر مقتل أبيه في انفجار، فإن حياته الباريسية تقدم على أنها سلسلة من الأعمال الشائنة. فقد التحق بمعهد ''خاص يؤمه البحارة والأفاكون للحصول على وثائق مشبوهة'' وتلقى بعد ذلك'' فنون العرافة والسحر الأسود، والدموي الأحمر، والأبيض الترابي، ومتعدد الألوان الشيطاني! وقد أمضى شطرا من حياته في كوخ قديم في أقاصي جبال البيرني الإسبانية ، فامتزجت لديه المعتقدات الشرقية بالتراث الشاماني الغلوازي. أضحى من أعلام العرافين والمشعوذين المراودين في أحياء باريس القديمة'' وتنسب إليه وصفة ''عجائن الفتنة'' وهو خليط من المخدر الممزوج بالدم البشري، فكان بعد تجربة طويلة من التمرس بالاحتيال والشعوذة'' يجيد الانقضاض على فريسته نظير أحد طيور'' الساف المروضة''. وبعد سنين من هذه الأعمال البشعة وأمثالها يلتحق بمدرسة بحرية تمنح'' وثائق مشبوهة''، وبطرق غامضة ومشبوهة يقود مركبا مالطيا، وذلك قبل أن يتفاجأ به بحارة ''الكابوبلا'' هاتفا وسطهم'' أنا القائد... صاحب الأمر والنهي منذ هذه اللحظة''. ولا يلبث أن يكون مركبه ملاذا للمجرمين والمهربين والمكان المفضل لمداهمة رجال الشرطة(12). وينتهي به الأمر منتحرا في خضم البحر المتوسط بعد أن تغلب عليه ''تاج الدين'' في لعبة شطرنج، اللعبة الرمزية العريقة للقوة.

هاتان الصورتان الخاصتان بالشخصيتين الرئيسيتين في رواية ''النخاس'' ، يصار كثيرا إلى التخفيف من درجة التعارض بينهما، لكن الصراع الداخلي المحتدم في كل منهما يقود إلى مواجهة دائمة تؤدي إلى منازلة رمزية تمثل ذروة ذلك الصراع. وقد كان كل منهما '' يتوجس خيفة من الآخر''. ورسم صورة تفضيلية لـ ''تاج الدين'' وصورة مشوهة لـ ''غابريلو'' يرجع إلى الآثار العميقة للثقافة السائدة التي تتخلل آليات التمثيل السردي، فتختزل ''الأنا'' و ''الآخر'' إلى أنماط ثابتة تقوم إما على إقصاء صفات معينة أو الاستحواذ على أخرى. هذا فضلا عن شحن الغلواء التي تتسرب لتحيط بـ ''غابريلو'' وتنتج له صورة لا شك أنها إكراهية. فالرؤية السردية تتدخل في إسقاط السمات المستكرهة عليه، وتضعه خصما ''شريرا'' للشخصية الإيجابية المضادة''. وفيما تتشكل شخصية ''تاج الدين'' بوساطة رؤية موضوعية يقوم بها راو عليم، أو رؤية ذاتية خاصة به باعتباره راوية وبطلا وبؤرة للحدث في العالم المتخيل الذي يكونه السرد فإن شخصية ''غابريلو'' تتشكل على العكس من جملة من الرؤى التي تصدر عن شخصيات لا تربطها علاقة سوية به، مثل الراقصة لولا'' وهي شخصية ثانوية، على خلاف معه، وتقدم روايتها عنه وهي في أحضان ''تاج الدين'' الذي لاذ بها'' ينشد رائحة شعرها وأذنيها وطعم ريقها ومرارة إبطيها الفائحين عطرا ودفئا لطيفا رائقا'' (13). وطبقا لأهمية التراتب في الرؤية السردية التي تحددها درجة حضور الراوي فإن ''تاج الدين'' بني من رؤية كلية وشاملة، فيما بني ''غابريلو'' من رؤية سردية جزئية وثانوية، وفيما منح الأول هيمنة مطلقة في سياق السرد، اختزل الثاني إلى نمط جاهز لكي يؤدي فقط وظيفة التعارض الدلالي''. وفي الوقت الذي أضفيت فيه سمات عقلية وروحية وفكرية وثقافية على ''تاج الدين'' انفرد خصمه بالشعوذة والفسوق والشبهة وسوء السيرة، وفيما كثف حضور الأول، تقلص حضور الثاني. وفي كل هذا يستجيب التمثيل السردي لموجهات ثقافية خارجية تنظم آلية عمل السرد. والجدير ذكره في هذا المقام أن ''إدوارد سعيد'' كان قد أكد أن الروائيين منبثقون إلى حد من تاريخ مجتمعاتهم، وهم يشكلون ذلك التاريخ ويتشكلون به، ويتصلون بتجاربهم الاجتماعية بدرجات متفاوتة، وأن الثقافة وكل أشكال التعبير الجمالي تشتق من التجربة التاريخية لتلك المجتمعات (14). لم تتنكب الرواية العربية عن هذه المهمة، ففي كثير من نماذجها مثلث سرديا العلاقة بين الأنا والآخر.

تتصل بكل من ''تاج الدين'' و ''غابريلو'' شخصيات أخرى، ولكن النسق الدلالي للنص، يسقط بعض المعاني الخاصة على الوظائف والأدوار التي تؤديها تلك الشخصيات. وبين فئة الشخصيات التي تغذي القطب الدلالي الذي تمثله شخصية ''تاج الدين'' وتلك التي تغذي القطب الدلالي الذي يمثله ''غابريلو'' ثمة شخصيات ''وسيطة'' مهجنة، تعيش أزمة متوترة من الانتماء تجاه هذا القطب أو ذاك. وأقصد تحديدا، شخصية '' جرجس'' القبطي الذي يتذبذب حضوره ووضعه إلى درجة لا يستقر فيه حتى البناء الصرفي لاسمه الشخصي: جرجس، جرجير، غرغير، قرقير، وشخصية ''لولا'' البربرية التي لا دور لها إلا إطفاء الشهوات : ليلى، ليليا، ليليان، لؤلؤة، لولا، وربط هاتين الشخصيتين بخلفيات عرقية ودينية، فضلا عن العلاقات الغامضة والمثيرة، بشخصيات تنتمي إلى الآخر، كما في حالة ''لولا'' وعلاقتها بـ ''غابريلو'' و''جرجس'' وعلاقته بمهرب الآثار اليوناني العجوز، توحي بأن الثقافة السائدة ما زالت تمارس تأثيرا جارفا في سطوته فيما يخص تقويم الانتماءات الثقافية للأقليات وسط فضاء ثقافة العموم. فهذه الشخصيات متصلة بعلاقات سرية ومشبوهة بـ ''الاخر'' وهي من جهة ثانية ''دونية''، لم تستكمل أوصافها وأدوارها، وتعيش هواجس التردد والخوف، ولم تدرج بعد ضمن وضعية ثابتة، بما في ذلك حق التسمية الشخصية، إذ تعرف بخلفياتها وانتماءاتها الذاتية، وما زالت تعيش مأزق عدم الاستقرار وفي مقدمة ذلك هوية الاسم.

تؤدي هذه التعارضات الدلالية إلى نهاية يدفع الجميع ثمنها، ألا وهي ضياع السفينة الكابو-بلا في بحر هائج شرس . فالتعلق بوهم الانتماء الخالص، والصفاء المطلق والخصوصية الضيقة لا يقوده إلى الحوار والتفاعل، إنما إلى السجال ومن ثم التناقض. ومن المؤكد أن المؤلف قد صنع للشخصيات في روايته عالما يمور بالقلق والحركة والاختيارات الصعبة. ورمى بها فيه، ولهذا فالسفينة لن تصل إلى أي شاطئ، فادعاء التناقض والتعلق به سيؤدي لا محالة إلى تقويض كل شيء. ويظهر أن ''تاج الدين'' نفسه، مع وعيه الجزئي بهذه القضية، قد أسهم في تعميقها، فهو لم ينجح في تفريغ شحن الغلواء، وكان يقر بثنائية تقوم على التفاضل ''أفريقيا هنالك في الجنوب'' وأوربا قريبة مولدة وطاغية''. وإلى أفريقيا النائية ينسب التاريخ، وإلى أوروبا القريبة تنسب الحضارة. وكأن ''تونس'' تنتمي إلى عالم وتتطلع إلى آخر. وبمعنى من المعاني فالتاريخ انتماء إلى الماضي، والحضارة انتماء إلى الحاضر. وبينما تتأسس منطقة شاسعة لا يوجد فيها سوى الحيرة، الحيرة التي تقود إلى الهلاك. فإشكالية الانتماء الثقافي أعقد من أن تحل برمز، لكن السرد ينجح تماما في تمثيلها. وفي نهاية المطاف لا يصل أحد من ركاب السفينة إلى مقصده، فالتوتر في قضية الانتماء يقود إلى نتيجة واحدة هي دائما الفناء. وهذا الالتباس مع الآخر الذي تدفعه موجهات ثقافية كما اقتربنا إلىه في رواية ''النخاس'' له نظائر كثيرة في الرواية العربية منذ ''علم الدين '' لـ علي مبارك و ''حديث عيسى بن هشام'' لـ المويلحي وعصفور من الشرق" لـ توفيق الحكيم و"قنديل أم هاشم'' لـ يحيى حقي وصولا إلى ''الحي اللاتيني'' لـسهيل ادريس و ''موسم الهجرة إلى الشمال'' لـ الطيب صالح و ''بالأمس حلمت بك'' لـ بهاء طاهر، وغير ذلك كثير جدا. لكن الأمر الذي نريد أن نتوسع فيه هنا هو كيف يقوم التمثيل السردي ذو الكثافة العالية بإنتاج الذات في صراعها مع نفسها ومع الآخر ضمن تاريخ ثقافي واحد؟ وكيف تنشطر الذات بين تصورين ورؤيتين في إطار ثقافة واحدة؟ ذلك ما نحاول الاقتراب إليه في الفقرة الآتية.

3- التمثيل السردي وتنازع الرواة :

تقدم رواية ''امرأة القارورة'' (15) لـ سليم مطر كامل خطة شديدة التعقيد والتنوع للسرد الكثيف، وقوام تلك الخطة هو التدافع الشديد بين الرواة من أجل الاستئثار بالسرد للإفصاح عن جملة من المواقف فيما يخص الماضي والحاضر على حد سواء. وفيما ينبغي أن تنبثق حكاية ''امرأة القارورة'' من خلال السرد بيسر وسلاسة، فإنها تشتبك مع الرواة في نوع من التنازع، فالرواة منهمكون في وصف وضعياتهم الشخصية ومنظوراتهم وعلاقاتهم بامرأة القارورة وحكايتها، الأمر الذي جعلهم يقدمون ذواتهم وانطباعاتهم ورؤاهم بصورة استثنائية، وبمقدار ما يمنح كل ذلك هذه الرواية خاصية فنية مهمة، فانه يؤجل ظهور الحكاية في نوع من التشويق الذي يسهم السرد في تنظيمه والتلاعب به، قبل أن يعلن عن تفاصيلها تدريجيا من خلال علاقة الرواة بها في سياق ثقافي مختلف. وهو أسلوب في البناء السردي يتيح مجالا واسعا لأن تتجلى الحكاية من خضم سلسلة الرؤى التي تتمركز حول نقطة ما، فتكون نتيجتها تشكيل الحكاية التي هي رواية مجموعة من الشخصيات تتضافر عناصرها الفنية معا من أجل بلورة حكاية يمكن إدراجها ضمن نسيج متعدد المرجعيات بمكوناته التاريخية والأسطورية والسحرية، وهذا سهل التراسل الشفاف بين المستويات الرمزية والواقعية للنص إلى درجة تحررت فيها الشخصيات من قيود الحركة التقليدية، بما جعل التاريخ نفسه مادة سردية تم الوصول إلى تشكيلها حسب مقتضيات الأحداث. وهي إلى ذلك حكاية تخترق سكون الزمن، فتعاصر سيل الأحداث المتدفق الذي ينبع منذ ما يقارب خمسة آلاف سنة هو عمر امرأة القارورة. فالزمان بوصفه إطارا للحدث، يتقدم ويتراجع ويتلوى ويتكسر في تساوق مع الاتجاهات المتشعبة التي تأخذها الوقائع والأفعال المشكلة لمادة الحدث السردية.

إن تداخل مستويات السرد يؤدي إلى حركتين متعارضتين: حركة أولى تريد اختزال السرد الذي يحتكره الرواة لصالح الإعلان عن وضعياتهم الفكرية والنفسية، والافصاح عن حكاية امرأة القارورة دون إبطاء، وحركة ثانية مضادة تتواطأ مع الرغبات الدفينة للرواة، وهي ترجئ إظهار الحكاية، فيستغل الرواة الفرصة للإعلان عن أنفسهم وحكاياتهم. وسنجد أن هذه اللعبة السردية، إنما هي لعبة بلاغية متكاملة غايتها الإبلاغ عن الحكاية بطرق غير مألوفة، والواقع أن حكاية امرأة القارورة باعتبارها اللب المكون للرواية تتنازعها ثلاثة مستويات سردية، تتصل بثلاثة رواة: يؤدي الأول وظيفة التقديم والاستهلال دون أن تربطه سرديا رابطة مباشرة بالحكاية، ويؤدي الثاني وظيفة تنظيم الحكاية والمشاركة فيها من خلال علاقته المباشرة بامرأة القارورة ''هاجر'' وبـ ''آدم''. وهذا الراوي يهيمن برؤاه ومواقفه وسلطاته المطلقة على النص، ويؤدي الثالث، وهو ضمير غائب، دور الوسيط الذي من خلال سرده ينبثق صوت ''هاجر'' وهو صوت لا يكتسب استقلاله الشخصي، إنما يقترن دائما بذلك الراوي الوسيط الذي يتقنع بضمير الغائب في نمط من السرد الموضوعي غير المباشر على نقيض السرد الذاتي المباشر الذي يتصل بالراويين الأول والثاني.

تبدو، أول وهلة، علاقة الراوي الأول بحكاية امرأة القارورة علاقة واهية، وهي كذلك من ناحية سردية، إذا أخذت بالاعتبار درجة الصلة بين ذلك الراوي والحكاية، فالعلاقة السردية المباشرة ضعيفة، ولا يحصل تماس بينها إلا بشكل عابر، يراد منه الإيحاء بطبيعة تلك الحكاية، بيد أن تلك العلاقة تبدو على غاية من الأهمية إذا نظر إليها من زاوية أخرى، وهي تنزيل الحكاية في موقعها السردي، وضبط حدودها، والتوطئة لها، ووصف الخلفية التي تعطيها قيمة في سياق السرد. وما إن ينتهي الراوي الأول من وظائفه هذه حتى يتوارى، ولكن ذلك يحدث بعد أن يروي هو حكايته الخاصة به، حكاية التمزق بين الإكراه للالتحاق بحرب لا يؤمن بها إنما يدفع إليها مكرها، ومحاولاته السبع للفرار منها، في إصرار عجيب لا يعرف الضعف والتهاون، وبين الشوق الدفين الذي يتملكه منذ صباه لـ''أوروبا''. ورفض الحالة الأولى (الحرب) والاستغراق في الثانية (أوربا) أمران مرتبطان في ذهنه، ارتباط نتيجة بسبب، يقول: ''طيلة سبعة أعوام لم أكن أدرك من الوجود غير أهوال الحرب، وذلك الشوق الدفين للهروب نحو حلم تملكني منذ صباي ''أوربا''. ما مضى يوم إلا وكنت أرسم من عذابات الحرب لوحة لأوربا، كإله تعس يصنع من أطيان كوارثه مخلوقا ساميا قادرا على منح اللذة لخالقه. من شبقي المكبوت نحت جسد أوربا، ومن تجارب حبي الفاشلة صنعت قلبها، ومن حاجتي إلى الراحة والأمان رسمت ملامحها الخضراء، ومن توقي إلى العدالة، والانعتاق خيطت لها ثوبا أبيض فضفاضا يرفرف كأجنحة فراشة ويضمني بين ثناياه كما تضمني أم في عباءتها السوداء. أوربا صارت مخلصي المنتظر وأرضي الموعودة. حتى عذاباتها كنت أراها أكثر استساغة من أمثالها في بلادي'' (16). ما يلاحظ هنا أن التمثيل السردي ينتج عالمين متناقضين : عالم الشرق حيث ينتمي الراوي، وعالم الغرب حيث يتمنى، والرؤية لهذا الراوي لا تعرف الحياد. إنها تركب صورة مكروهة وممقوتة للمكان الذي انبثق منه (الشرق)، وتركب صورة احتفائية ورغبوية واستيهامية للمكان الذي ينشده (الغرب)، إنها ثنائية الخفض والإعلاء، التبخيس والتبجيل، الكامنة في وعينا المعاصر وفي ثقافتنا. وسوف تطرد هذه الرؤية نفسها عند الراوي الثاني، كما سنرى. على أن الموضوع الذي هو مدار عنايتنا هنا هو علاقة الرواي بالحكاية، فقبل أن تتشكل أطرافها يعلن الراوي عن عدم وجود علاقة له بها. إن المصادفة هي التي جعلته يعرفها، ولذا فإن مسؤوليته عنها تتصل بالمساعدة في نشرها فقط. والدفع باتجاه فصم العلاقة بين الراوي الذي يتقنع بقناع المؤلف والحكاية، إنما هو لعبة سردية شائعة في الرواية العالمية والعربية، تمثلها غالبا الصيغة المتداولة الآتية : إن المؤلف عثر على حكاية مجهولة، وإن دوره سينتهي بنشرها وهو لا يتحمل أية مسؤولية عما ورد فيها. وهذه الصيغة بذاتها هي أكثر المداخل شيوعا إلى السرد الكثيف (أشهر وأقرب الأمثلة رواية ''اسم الوردة'' لـ أمبيرتو إيكو)، إذ إنها تبرمج الإطار العام لبناء النص السردي على نحو يحتم ظهور ذلك السرد، بتشعباته وتفاصيله الكثيرة. وقد أخذت بها هذه الرواية تماما، وبالغت في ذلك، فخصص فصل كامل، هو (فصل ابتدائي) ليس فقط للبرهنة على عدم وجود صلة بين الراوي الأول والحكاية، إنما لعرض الحكاية الشخصية لذلك الراوي، فالمبالغة في نفي هذا النوع من العلاقة إنما هي مبالغة في تأكيدها، يقول الراوي : ''قبل الولوج في عالم هذه الحكاية الغرائبية مع (امرأة القارورة) العجيبة يهمني أن أعلمكم منذ الآن أني لست مسؤولا عنها، ولم أشارك في أي من أحداثها، وخيالي بريء منها. في الحقيقة أني أجبرت على نشرها من باب الواجب لا أكثر، منذ أن عثرت على هذه الحكاية بطريق المصادفة قبل أسابيع، وأنا متردد في إحراقها أو رميها في البحيرة، (=بحيرة جنيف)، وقد فشلت جميع جهودي لاكتشاف شخصية كاتبها الحقيقي، إني أنشرها ولم أحاول أن أغير في سطورها أية كلمة، تركت المخطوطة كما سلمتني إياها سيدة الحانة'' (17). وسوف يستثمر الراوي هذه الفرصة للبحث في الظروف التي جعلت الحكاية تصل إليه. وذلك مجرد مسوغ يستغل كغطاء لعرض حكايته الشخصية التي تستأثر بالأهميةالاستثنائية. فالراوي، مستعينا بالسرد الكثيف كوسيط تمثيلي، يتبطن شخصية المؤلف للإعلان عن مواقف آيديولوجية وثقافية، والتصريح بآراء مزدوجة الانتماء تتصل بالعالم الرمزي للنص من جانب وبالمحضن التاريخي له من جانب آخر، وكما رأينا في تركيب صورة تعارضية للشرق والغرب من قبل في رواية ''النخاس''، فإن الصورة ذاتها ترتسم في ''امرأة القارورة'' لكنها مقلوبة الدلالة. فالراوي يمضي في وصف حالة الإستياء والتبرم التي دفع إليها، وهي حالة المشاركة في حرب لا تعنيه، وهذه الحالة بذاتها ستكون محفزا حيويا بالنسبة له للبحث عن نوع الحرية التي يحلم بها، ولهذا تتعاقب محاولات فراره من الحرب سعيا لإشباع تلك الحاجة التي بمقدار ما هي رغبة، فإنها موقف من العالم الذي يعيش فيه، وهجاء له، فالشرق طارد والغرب جاذب. وفي إصرار يناظر إصرار بطل رواية، ''الفراشة'' يفلح الراوي في الوصول إلى ''جنيف'' ليجد أن حكاية امرأة القارورة في انتظاره، حكاية الشرق السرية المعمدة بالألم، وبتسهيل نشرها يختفي. لكن القضية الأكثر أهمية في سياق السرد هي أنه توارى بسبب نجاحه في رهان لا يمكن أن يفشل فيه أمثاله، لقد انتزع مكانا رفيعا لحكايته الشخصية، ولا يمكن لأحد أن يمر عليه، دون أن تلفت أنظاره تلك الحكاية لأنها البوابة التي من خلالها يدلف إلى الحكاية الأم.

بعد أن يتوارى الراوي الأول الذي يعتبر المدشن الرئيس للحكاية والممهد لها يظهر آخر يلتصق بظاهرها قبل أن يتماهى معها، ويصبح جزءا منها. وإلى هذا الراوي تعزى كل السمات الفنية للعالم التخيلي -السردي الذي يحتضن حكاية امرأة القارورة، ومع أنه يماثل الراوي الأول في اختيار الغرب مكانا للحياة استنادا إلى جملة أسباب دفعته إلى ذلك، وأنه يعيش بوصفه فردا باحثا عن اللذة في مختلف أشكالها إلا أن درجة حضوره في السرد تفوق درجة حضور الأول، ورؤيته أكثر وضوحا، وحياته أكثر تنوعا، وهو بلغة إيروتيكية- فنطازية مشبعة بالإيحاءات الرمزية يقوم بتشكيل العالم التخيلي للنص، ويموضع امرأة القارورة فيه سواء في جذورها وامتداداتها التاريخية الرافدينية أو في حاضرها الآن. فتتدرج علاقته بالحكاية من كونه في البداية مجرد راو إلى أن يستأثر بمكانته بوصفه شخصية لها موقعها ودورها في الحكاية، مع ملاحظة التكتم على الاسم. وينتهي الأمر به ليكون مشاركا للشخصيتين الأساسيتين ''هاجر'' و ''آدم'' في حياتهما ومصيرهما. وكما كنا قد رأينا ذلك في حالة الراوي الأول، فإن هذا الراوي، وبإصرار أكثر حدة وبطريقة أفضل، ينجح في إيجاد درجة عالية من التناغم بين حكايته وحكاية ''آدم'' و ''حكاية ''هاجر''. وعلى هذا فإن حضوره في النص يظل قائما لملازمته الشخصيتين المذكورتين، وخلال ذلك يمارس ضروبا من الأفعال، ويتفوه بسلسلة لانهائية من الأقوال التي تكشف منظوره الشبقي الذي يجعله منغمسا في عالم اللذة إلى أقصى درجة ممكنة. إنه باحث دائم عن المتعة، يتصيدها ويقتفي آثارها حيثما تكون، ولا يتردد في التصريح بأنها جوهر وجوده ومدخله إلى الحياة والعالم، وقد اختار الغرب ليتمكن من الاقتراب إليها. إنه يتجدد بمقدار استغراقه الجذري في المتعة الجسدية، يقول ''ليس في حياتي غير الرسم والحب، وفي كلتا الحالتين المرأة هي الغاية والموضوع. كنت صيادا والليل هو نهري، كنت لا أتعب ولا أمل، وفي صبر الصيادين تكمن قوتي. أرمي صنارتي في نهر الليل مرات ومرات دون كلل حتى الفجر، مرة تخرج لي علبة صدئة، ومرة ضفدعة، ومرة غصن شجرة، ومرة سمكة فاطسة، حتى تصيد تلك البنية الهائجة التي تظل تلبط بين يدي لأشويها وتشويني على نيران شهواتنا حتى الصباح''. ويكتسب هذا المنظور أهمية خاصة لأنه سيعيد إنتاج كل الأشياء طبقا لمقتضياته، وفي مقدمة ذلك ''هاجر'' امرأة القارورة، فمهما تعددت أوجه تأويلها، وتنوعت أبعادها الرمزية، فهي إلهة للذة الجسدية، والراوي لا يراها إلا باعتبارها وريثة تجربة في اللذة يزيد عمرها على خمسة آلاف عام، لذة بلاد الرافدين الجارفة والعريقة. وحتى ''آدم'' المتقشف جسديا، ينتهي بتوجيه مزدوج من اليقظة التي توقدها امرأة القارورة في كيانه، ومنظور الراوي الذي يلح على البعد الايروتيكي للحياة، إلى شخصية مخالفة لمعايير التزهد الجنسي الذي كان عليه من قبل. وهكذا فإن منظور الراوي الذي ينظم مسارات السرد، ويسقط عليها شلالات من الإيحاءات الجنسية، ويفلح في إضفاء شبكة دلالية معقدة ترشح باللذة في تضاعيف النص، بانتهاء الاعتصام الجنسي لـ 'آدم'' فإن ينابيع اللذة تتفجر في كل مكان. على أن كل هذا لا يلغي بعد شخصية الراوي من ناحية الخلفيات والتكون، لكنه يقصيه إلى الواراء، ويدفع إلى الأمام بشبقيته، فالنهم بالجسد وتفاصيله يستأثر بالعناية الأساسية. وبما أن حكاية امرأة القارورة تتجلى عبر منظوره، وتتدفق من خلال رؤيته، فإن ذلك الراوي يشغل أولا بنفسه قبل أن تمر من خلاله تلك الحكاية، وفي كل مرة يعيد ترتيب وضعيته بما يجعل حضوره باهرا ومشعا وأخاذا، فيعلن عن نفسه في مطالع الفصول الأربعة التي يتكون منها النص، مستخدما صيغة المخاطبة مع مروي له يدغم بالمتلقي/القارئ.

إن الأمر الذي يستثير الملاحظة، هو : فضول الراوي في الإعلان المتواصل عن نفسه. فهو يؤكد، أنه البوابة الوحيدة التي من خلالها يمكن المرور إلى حكاية امرأة القارورة، ومن هذه الناحية فإن سرده يتضمن كثافة هائلة تجعله حاضرا بطريقة لافتة للنظر في كل ثنايا النص. ومن الجدير بالذكر هنا أن سعيه في ألا يكون مجرد وسيط تعبر عنه الحكاية، جعله في الصفحتين الأخيرتين يندمج تماما في عالم الحكاية، فاستبدل بصيغة الإفراد التي كان يستعملها طوال الرواية، صيغة الجمع، وبوساطة ضمير الجمع للمتكلمين ختم الرواية في مشهد معبر عن نجاحه في أن يكون عنصرا من الصعب الاستغناء عنه إلى جانب ''هاجر'' و ''آدم'' في حكاية امرأة القارورة. والجنين الذي تحمله في الأصل ''مارلين''، لا ينفلت من رحمها، إنما -كما يقول الراوي-'' ينبجس من دوامتنا ويطفو مع قارورته فوق الماء ويزحف على الشاطئ باتجاه حقول وبساتين وينابيع نيران أزلية". وبإزالة الحجب السردية الكثيفة التي تلف حكاية امرأة القارورة، قصدت بذلك مستويات السرد التي تمثلها منظورات الراوي الأول والثاني، تتجلى الحكاية الباهرة المشعة : حكاية التحولات المستمرة، والعلاقات الغريبة، وتحديدا حكاية ''هاجر'' رمز الترحال والهجرة الأبدية، والأسطورة الأنثوية العائمة فوق التواريخ والأوطان، والحلم الذي يسعى كل الذكور إلى نيله. ومع أن السرد يبدأ يفصح عن الحكاية ، وتخف كثافته، وتشتد شفافيته، إلا أن صوت ''هاجر'' ما زال يمر خلل وسيط سردي ثالث، إنه يتدخل ويعيد صياغة ما ينبغي أن يكون صوت ''هاجر'' المباشر، ويغير الصيغ، ويلخص حينا، ويسترسل حينا آخر، ويحفر وينقب ويعلل ويصف ويؤول لكنه لا يحجب ولا يستبعد أحدا، وهو في الوقت الذي لا يختفي فيه تماما، يتوارى ويتقشف في الإعلان عن نفسه بطريقة لافتة للنظر. إنه ضمير ماكر لعوب، يجيد لعبته الذكورية، فيعيد إنتاج حكاية امرأة القارورة طبقا لتصوراته الثقافية والجنسية كذكر، خاضعا لفكرة التنميط الثقافي لذكورته ومسقطا التنميط ذاته عليها كأنثى، دون أن يأخذ الفضول في الإعلان عن نواياه الحقيقية. وستقترن الحكاية بهذا المستوى من السرد إلى النهاية، لأنها عبارة عن التشكيل الخطابي الذي يكونه صوتان متداخلان : ''صوت هاجر'' وصوت ذلك الضمير الغائب الذي من خلاله يمر إلينا صوتها. فكل أنثى بحاجة إلى وسيط ضمن ثقافة مشبعة بقيم الذكورة!!!.

تندرج حكاية امرأة القارورة في نظام دائم التحول، وبذرة التحول التي توجه كل شيء، وتكون سببا له، هي ''هاجر'' المتحولة من كائن فان، إلى كائن خالد، ثم إلى كائن فان مرة أخرى. وهذا التحول المركزي ستمتد آثاره إلى فضاء الأحداث والشخصيات وإلى السرد نفسه ، وعلى هذا فإن نظام العلاقات المتحول هو أشد ما يثير الاهتمام في النص، إذ ليس ثمة وضعيات ثابتة، بل هنالك صيرورة دائمة، وهو الذي يغلب البحث في العلاقات على البحث في الوضعيات. والحقيقة فإنه بسبب نظام التحولات الذي يهيمن في رواية ''امرأة القارورة'' ينتهي كل شيء إلى غير ما بدأ به، حتى الوضعيات الابتدائية التي يمهد لها السرد، سرعان ما تلتحق بنظام التحولات الشامل في النص. فالرواة و''آدم'' ومن ثم الأفعال والفضاءات تستجيب لمبدإ التحول في شخصية ''هاجر'' التي كانت سلسلة متواصلة الحلقات من التحول المستمر؛ من كونها امرأة عاشت في ''أور'' بعد الطوفان، إلى حبها الجارف للشاب '' تموزي'' ثم زواجها منه، والإغراء بالخلود لتكون حبيبة وعشيقة دائمة، وانتهاء بفك طلسم الخلود عنها بعد خمسة آلاف سنة. وخلال ذلك تتجلى من خلال أصنام "أنانا-عشتار''، فتثير الغيرة في نفس ''كيجال'' إلهة العالم السفلي، وبمقتل ''تموزي''يغتصبها ملك غريب، يتضح أنه ابنها، واعتبارا من هذه المرحلة تصبح ''هاجر'' أما وعشيقة مستباحة لمائة وخمسين من الأبناء والأحفاد الذين يتوالون عليها في نهم شبقي هو مزيج من العشق والاغتصاب. وحين تنتهي إلى الحفيد الأخير، ''آدم'' تتدخل جملة ظروف تفضي إلى أزالة الخلود عنها، والعيش بوصفها امرأة معرضة للفناء شأنها في ذلك شأن جميع البشر. وفيما يقوم بتخليدها شيخ بسيماء نبي، يقوم شبيه له -ربما نفسه- بتخليصها من الخلود. وبين هاتين اللحظتين يفترع عذريتها المتجددة رجال تناسلوا منها : طغاة ورسل، وأدعياء وسحرة، وملوك، وأنبياء، ومطاردون، وضحايا، في مقدمتهم ''تموزي'' وبينهم إبراهيم وموسى وفرعون وخاتمهم ''آدم''. وكل هذا يحدث تحولا في جملة العناصر الفنية المكونة للنص، فالشخصيات تغير انتماءها فتهجر بلادها وتلجأ إلى بلاد أخرى، وذلك يؤدي إلى تغيير كامل في الفضاءات السردية، وتغيير كامل في نسق الأفكار التي ترددها الشخصيات بحسب الفضاءات التي تظهر فيها. إن السرد ذاته يتحول من كونه سردا مغرقا في كثافته إلى سرد أقل كثافة، ثم أخيرا إلى سرد هو مزيج من الكثافة والشفافية. وفي التفاتة معبرة عن نظام التحول الدائم يقفل النص سرديا بمشهد هو ذروة التحولات، وبه ينفتح أفق آخر للتحولات الدلالية. ففيما يرجح أن هاجر قد اقتيدت أسيرة إلى البلاد التي ولدت فيها، يحدث فناؤها تحولا في مصائر الشخصيات الأخرى: الراوي وآدم، ومارلين. فالسائل الذي عبأه الشيخ من سيناء في القارورة وحل محل ''هاجر'' مزج بالنبيذ الأحمر، وبالارتواء منه فاض الخلود على تلك الشخصات، وفيما كانو فانين، و''هاجر'' خالدة ، أصبحوا خالدين وهي فانية، وفيما أفلحوا في تحقيق حلم الحرية الدائم كبلت هي بقيود البلاد التي ظهرت فيها، فتقاطعت المصائر في نوع من التحول الدائم.

ينتهي النص حينما يكف السرد عن تجهيز المتلقي بمصائر أخرى للشخصيات وتنتهي الرواية ككتاب، لكن التفكير في أمر صوغ الأحداث وتحولاتها الدائمة لا ينتهي، فكل نص يفجر مشكلة لدى المتلقي، وقد يكون النص الروائي نفسه إطارا مناسبا للحديث عن تقنيات السرد وطرائق تركيب المادة التخيلية، كما سيتكشف لنا ذلك في الفقرة الآتية.

4- التلقي السردي وتشكيل العالم التخيلي للنص :

لا يكتفي محمد برادة'' بتقديم المادة التخيلية - الحكائية لروايته ''لعبة النسيان'' (18) إنما يهتم اهتماما كبيرا بكيفية عرض تلك المادة، بحيث يجعلها قضية مثيرة تستأثر بتحليل مفصل ومتعدد المستويات. وإذا أردنا الدقة في الوصف فإن تلك الحكاية تذوب وسط النزاعات المتزايدة بين الرواة، فكل يزاحم الآخر في انتزاع موقع، يسمح له بإبداء رأي أو وجهة نظر فيها أو حولها. بعضهم يعلن عن رغباته وتطلعاته تلك بكثير من الصراحة والتأكيد، وبعضهم يمارس دوره في نوع من السرية دون الانهماك في الإعلان عن النفس، وهم يتبادلون الأدوار، مرة يكونون جزءا من الحكاية بوصفهم شخصيات تنهض بمهمة المشاركة في وضع الأحداث، ومرة يكونون رواة يشغلون بتقديم شخصيات أخرى، ومرة ثالثة يكونون مجرد مادة للتحليل السردي الذي يشترك فيه ''راوي الرواة'' مع ''المؤلف''. وهذه الأدوار بما تحدثه من تغيير متواصل في المواقع والوظائف، تجعل المادة الحكائية متمزقة لا يعاد تشكيلها إلا في ذهن المتلقي.

تتمرأى الحكاية في ''لعبة النسيان'' على خلفية شديدة التعقيد من التداخلات السردية التي تعنى بالرواة ومواقعهم في الحكاية، ومع أننا سوف نستخدم مصطلح ''حكاية'' للإشارة إلى المادة المترشحة عن شبكة التداخلات السردية المذكورة، إلا أننا نتحرز كثيرا، فواقع الحال، أن "الحكاية'' في هذه الرواية لا تكاد تتركب أجزاؤها، إلا وتتناثر ثم تتحلل في خضم الروايات المختلفة والمتداخلة للشخصيات والرواة على حد سواء، إلى درجة تصبح ''الحكاية'' مجرد ومضات من وقائع تتصل بحياة أسرة من الأسر المغربية تغطي مساحة زمنية تقارب نصف قرن من الزمان، وتلك الحياة الأسرية تتشظى إلى مشاهد لا رابط بينها، لكنها تؤدي وظيفة كشف لحظات معينة من تاريخ الشخصيات، بحيث تكون غايتها -إن كان لها غاية في سياق النص- تصوير النمو المتدرج، لكن المتفكك في الوقت نفسه لمصائر مجموعة من الشخصيات المكونة لأسرة ''لالة الغالية'' : أخوها سيد الطيب '' ثم أولادها ''الطايع والهادي'' و ''نجية'' وجيل الأحفاد مثل فتاح و عزيز و إدريس ونادية. على أن الشخصيات التي تتصدر الاهتمام هي : ''الهادي'' و ''الطايع'' وعلاقتهما بالأم '' لالة الغالية'' والخال " سيد الطيب''. ولا تتضافر الشخصيات فيما بينها، داخل النص من أجل بلورة "حكاية" بالمعنى الشائع، إنما تلقى الأضواء على وقائع منتخبة من حياتها وتكوينها. فتلك الحياة إنما هي مادة يتلاعب بها الرواة بحسب علاقتهم بها، ويقدمونها على وفق منظوراتهم لأهمية الأجزاء المكونة لها.

لا يعنى النص بالشخصيات وأفعالها - وهو يفترض أن يكون لب الحكاية كما هو معروف - إنما يحتفي بالكيفية التي يتم بها عرض الشخصيات وأفعالها. ومن أجل ذلك يتضمن النص شخصية جديدة في الرواية العربية، هي شخصية ''راوي الرواة'' ولها وظيفة سردية تختلف عن وظائف الشخصيات الأخرى. إن وظيفتها هي القيام بتركيب المادة السردية داخل النص وتوزيعها على الرواة، والتدخل فيها، ثم ترتيبها حسب المنظور الذي يحدد أهمية كل جزء من أجزائها. ولهذا فإن ''أفعال'' هذه الشخصية لا تندرج في الحكاية إنما تندرج في ''متن'' النص، لان أفعالها ''فنية'' تضاف إلى مرحلة ما بعد إنجاز أفعال الشخصيات، فهي التي تقوم بترتيب تلك الأفعال، ومن هنا أشرنا إلى جدتها لأنها المسؤولة عن البناء السردي للنص. والحقيقة فإن ملاحظاتها تشكل بحد ذاتها أهم دراسة عن البناء السردي لرواية "لعبة النسيان". ولهذا فإن اهتمامنا سيتركز على شخصية " راوي الرواة " باعتبارها الوسيط بين "المؤلف" من جهة وشخصيات الرواية من جهة أخرى.

يؤكد "راوي الرواة " أن المؤلف أودع لديه مادة سردية هي مزيج مما عرف وتخيل - يذكر ذلك بما وقفنا عليه قبل قليل بخصوص مخطوط "امرأة القارورة" - وقال له : > أريد أن تنظم سرد هذه المادة الخام في تشخيص يستوعب الكلمات واللغات التي نسجت حكيها داخل مخيلتي، غير أنني وجدت أن جميع ما كتبته لا يرتقي إلى قوة الرجع المشع الغامر للحواس والنفس،ألتجئ إليك لأنني وأنا أعيد سرد ما عشته وشاهدته وتخيلته وحلمت به تبدو لي الأشياء والذكريات مختلفة مشوشة الصورة، باهتة بالمقارنة مع ما أعتقد أنني عشته وعانيته < (19). وبإيداع هذه المادة الخام لدى " راوي الرواة " يكون المؤلف قد وضعه في مأزق كما يقول - لاحظنا أن الراوي في " امرأة القارورة " يسارع إلى نشر المخطوط الذي عثرعليه، لكنه يحجم هنا ويتردد - فالمؤلف يؤكد أن المادة التي تركها لدى " راوي الرواة" > تفتقر إلى قوة الرجع المشع الغامر للحواس والنفس<، وهي > باهتة مع ما أعتقد أنني عشته وعانيته< وبذلك فهو ينتظر من " راوي الرواة " أن يبث فيها الإحساس والتأثير، أوما يسميه " جيل دولوز" بالمؤثرات الانفعالية (20) التي يرى أنها جوهر الفن.

واضح أن وظيفة " راوي الرواة " ستكون وظيفة سردية ذات طبيعة فنية، تتصل من جانب بمفهوم الأدب السردي، ومن جانب آخر ببناء المادة التي آلت إليه. وهو منذ البداية يتنبه إلى ضرورة معالجة المادة التي تركها المؤلف، مهما كانت خلفياتها ومرجعياتها، معالجة فنية، تأخذ بالاعتبار مناحي التأثير والإحساس الذي ينبغي أن تتصف بها كل مادة أدبية. كان المؤلف قد ألقى بالمادة إليه، أما هو فيقول : > إني حسمت الموضوع - دائما يجب أن يكون هناك من يحسم- بأن المسافة القائمة دوما بين المعيش والمتخيل، والمكتوب والمحكي، تؤكد أن الأحداث والحياة بصفة عامة، تجري على أكثر من مستوى، متداخلة متشابكة... مفهوم ؟ وإذن، سيكون جهدا ضائعا أن نعمد إلى إيهام القارئ بواقعية ما نحكيه. سأعطي الأولوية لرصد أصداء ما نحكيه في نفوسنا، نحن الرواة، من خلال ما تبقى من مخيلة الكاتب وذاكرته < (21). وما إن يلمس بأن المؤلف سوف يحتج على التدخل الكبير الذي سيقوم به، حتى يقول > تحمل وقاحتي، أيها الكاتب، إذا كنت أستعمل طحينك لأعجن خبزة أدلل بها على نباهتي؛ فأنا أريد أن أقنع القارئ بشطارتي وحسن اختياري في توجيه دفة السرد < (22)، ويخلص إلى النتيجة المهمة الآتية مخاطبا المؤلف : > من حقي أن أتدخل، وألا أكتفي بتنسيق الخيوط والأسلاك من وراء الستار؛ قد يزعجك ذلك لكنني أرجوك أن تعتبره تكملة للعبة تضعك أمام عناصر لم تتخيلها أو آثرت السكوت عنها < (23). إنه يبحث عن دور مساو لدور المؤلف نفسه، بل ويقترح عليه أشياء جديدة؛ منها مثلا تسمية بعض فصول الرواية. ومادمنا قد وقفنا على العلاقة بين " راوي الرواة " والمؤلف" فلابد أن نمضي إلى النهاية هادفين إلى فحص الطبيعة المتوترة بينهما بسبب اختلاف التصورات حول عناصرالسرد، وطرائق معالجتها. فما إن يحتدم الخلاف بينهما حتى يعلن " راوي الرواة " بأن العلاقة بينه وبين المؤلف قد ساءت إلى حد القطيعة وينبغي " التخلي عن التعاون والتنسيق ولولا وسطاء الخير، لكان الذي يتحدث إليكم مباشرة الآن، هو المؤلف، مواجها معضلات السرد والترتيب وتوزيع الكلام، والحقيقة أنني لم أقبل استئناف مهمتي إلا بعد موافقته على أن أحكي للقارئ بعضا من خلافاتنا<(24). وتدور تلك الخلافات حول طبيعة التصور الذي ينبغي أن يقدم في الرواية لمفهوم الزمن، ففيما يريد " راوي الرواة " أن يقدم تصورا فنيا للزمن يوافق النسيج السردي -التخيلي للنص، يريد المؤلف تقديم مفهوم تاريخي لذلك الزمن، وحول هذا الموضع يدور مضمون الخلاف ويتجاوزه إلى البحث في كثير من الظواهر الاجتماعية خارج النص حيث التعليق على أحداث ووقائع تاريخية.

يسوغ " راوي الرواة " تدخلاته الكثيرة استنادا إلى أهمية دوره، ذلك أنه يعرف الرواة الآخرين، ويعرف ما يتفوهون به، ويستطيع مناقشتهم فيه، وهو يقوم بتفسير الأفعال وبيان طبيعتها وأسبابها، ويقارن الأوضاع والحالات، ويكمل الأجزاء الناقصة ويملأ الفراغات التي تركها المؤلف، ويزيل الغموض والالتباس، ويدمج أقوال المؤلف بأقوال الشخصيات بأقوال الرواة. ونظرا إلى أنه المسؤول عن اللعبة السردية فإنه يعتبر نفسه عنصر توازن يتكئ عليه المؤلف، ويعتمد عليه في صوغ المادة صوغا مناسبا. ولا يتردد في تأكيد أنه يستخدم من قبل المؤلف ليمارس دور الرقيب، وهو دور يلقيه عليه المؤلف تهربا من المواجهة، فالمؤلف يريد تمويه الحقائق من خلاله، وهو يتوجس من كل ذلك، لكنه يفتخر بأن معرفته أكبر من معرفة الرواة الآخرين، لأنه مطلع على الخلفيات والتفاصيل، وله حق التدخل، وزحزحة كل ما حكاه الآخرون، ويرى أن له رتبة كبيرة وصفة سامية، فهو المتحكم بعناصرالبنية السردية، وله حق تغيير الوضعيات، وتضخيم الأدوار، وإذا اقتضى الأمر، ووجد نفسه مهملا، فإنه قادر على إفشاء أسرار المؤلف وتشويه الصور التي أرادها لشخصياته. إنه يهدد باستمرار بفضح ما سكت عنه المؤلف والرواة، ويريد أن يُعترف له بدور رئيس لا ينافسه فيه أحد، لأنه صاحب اللمسة الأخيرة على النص الذي وضعه المؤلف بين يديه، وله أن يحتج ويرفض ويمتنع ويختلف مع المؤلف، وله أن يقدم تأملاته وتحليلاته لكل الروايات التي تقدم بها الرواة الآخرون. إنه بالنتيجة عليم بكل شيء، فضولي، له قدرة على تعقب الأخطاء، وتتبع النواقص، ودوره يرتب عليه مسؤولية الإحاطة بكل شيء، والإلمام بالتفاصيل جميعها، فهو " سيد الرواة"، تعبر أصواتهم ورؤاهم وتصوراتهم وأفكارهم وانطباعاتهم إلى المتلقي من خلاله، لأنه الوسيط بين المستويين الواقعي والتخيلي للنص.

تمارس شخصية "الهادي" أدوارا عدة، بعضها يكشفه النص، وبعضها يفضحه " راوي الرواة "، ويلزمنا التريث عند هذه الشخصية كونها الشخصية الرئيسة في الرواية. ومع أن شخصيات أخرى تحتل موقعا مهما في العالم التخيلي للرواية كـ"الطايع" و"سيد الطيب" و"لاله الغالية"و"نجية"، لكن شخصية الهادي تعد ذات موقع استثنائي لأن منظورها بما فيه من تصورات وتحليلات وانطباعات وتأويلات يهيمن على العالم التخيلي للنص، وتكاد تنحسر المنظورات الأخرى بإزائه. ويمكن حصر أدوار هذه الشخصية بما يأتي : فمن ناحية أولى يعتبر" الهادي" قناع " المؤلف" في النص، فثمة تواطؤ بينهما بحيث يحتجب الثاني خلف الأول وينطقه، وهذا التواطؤ يفضحه " راوي الرواة " حينما يستشعر > أن بين الهادي والكاتب أشياء كثيرة <. ومن ذلك التكوين الذهني لـ" للهادي"، أو الإيديولوجيا التي يتبناها وإسقاط نمط من التحليل على الظواهرالتي يعاصرها. إن " راوي الرواة " يترصد هذا التماهي بين هاتين الشخصيتين، غير أن الأمر الذي لابد أن يأخذ حقه من الاهتمام هو أن " الهادي" يظهر بمظهر مقارب لمظهرالمؤلف، إنه يستدعي الأحداث، كما حصل في قضية موت الأم، ويصف طفولته حيث التكون الأول > أكتب ويتلعثم القلم بين أصابعي، وزادي من الكلمات لا يفي، كنت بدأت بقراءة قصص كامل الكيلاني، ولعبة اختزان اللغة الجميلة" المعبرة" تستهويني؛ والتركيب بين الكلمات والعلامات أخذ طريقه...فأنا أحمل ما التقطته الذاكرة أثناء القراءة الجماعية لصفحات من "ألف ليلة وليلة" < (25). ويواصل في تضاعيف النص الكشف عن تكونه الثقافي، فهو بحسب تعبير الطايع > صنبور الأسئلة والهواجس والتخمينات < وهو > مفتون بالجسد واللذة < وقد > وضع الدين بين قوسين<، وهو الذي يقدم نقدا قاسيا للأوضاع الاجتماعية وما آلت إليه الأمور في نهاية الرواية، وهوالذي يعمق المصائر المتقاطعة للشخصيات، وبخاصة شخصيته هو، وشخصية "الطايع". هو إذ ينتهي إلى الشك المطلق، وينادي بإيديولوجيا يسارية - علمانية من خلال صحيفته التي تبشر بذلك، و"الطايع" الذي إثر سلسلة انكسارات ينتهي إلى الاستغراق في > حلم بناء مجتمع إسلامي تبعث فيه حضارتنا التليدة الأصيلة<(26). ومن ناحية ثانية، فإن " الهادي " يعتبر أهم الرواة بعد " راوي الرواة " وكثير من أجزاء النص تروى على لسانه في نوع من السرد المباشر الذي يتضمن استقصاءات كثيرة حول أوضاعه وأوضاع الشخصيات الأخرى. ويلاحظ على سرده أنه مملوء بالتحلل والاستنطاق والوصف، وكل هذا جعله يسهم في تركيب صورة خاصة للشخصيات الأخرى، ويشترك بفاعلية في بناء العالم التخيلي للنص. ومن هذا الجانب فإن كونه قناعا لـ " المؤلف" جعله يتمتع بحرية كبيرة في إضفاء رؤية تاريخية-نقدية على كل ما يراه، وينهض سرده على نوع من التعارض مع سرد آخر، ففيما تُعزى " الإضاءات" إلى غيره من الرواة مثل : نساءالدار، والخالة كنزة، وراوي الرواة، الذين يقدمون إضاءاتهم، فإن كل ما يرويه - باستثناءات قليلة- يأتي تحت عنوان " تعتيم ". فالتعارض الدلالي بين " الإضاءة" و" التعتيم" لا يفهم إلا على اعتبار الغايات والمقاصد الكامنة وراء تلك الروايات. ويلاحظ أن تركيز الروايات الأخرى ينصب على الأبعاد الخارجية للشخصيات، فيما اهتمام "الهادي" يتجه إلى الأبعاد الداخلية لها. وأخيرا - وهي الناحية الثالثة- فإن الهادي يعتبر أحد المراكز المهمة في الرواية لأنه شخصية تتفاعل - تأثيرا وتأثرا- مع الشخصيات الأخرى، فدورها يجتذب إليه الشخصيات، فتندرج في علاقات متنوعة وكثيرة مع الآخرين، وكل ذلك أضفى على هذه الشخصية أهمية بارزة. وما يلاحظ أن هذا التنوع في الوظائف قد أسهم في إقصاء الحكاية إلى الوراء، ذلك أن الانشغال بالعلاقات السردية، وكيفيات تركيب الصور للآخرين وللذات والانهماك بالتعبير عن أفكار خاصة، وانتخاب وقائع لها صلة مباشرة بشخصية "الهادي" بما يجعل تلك الوقائع تؤدي وظيفة تخدم فيها تلك الشخصية، فضلا عن منظومة الأحكام والتصورات التي تشمل عالم الرواية بأجمعه.

إن جميع ما ورد ذكره كان يؤدي إلى نتيجة ذات وجهين : الوجه الأول وضع شخصية " الهادي" بوصفه قناعا للمؤلف وراوية وشخصية رئيسة تحت مجهر مكبر يثير اهتمام الآخرين به، والوجه الثاني يتم فيه استبعاد الشخصيات الأخرى، والتقليل من أهميتها كفواعل في البنية السردية، وسلبها حق الإعلان عن نفسها بدرجة مساوية لدرجة الاهتمام بشخصية " الهادي"، وهذا التغييب النسبي سيؤدي لا محالة إلى إضعاف الحكاية والتقليل من أهمية مكوناتها، ذلك أن ثمة طبقتين كثيفتين من السرد تحيطان بها، وهما على التوالي : طبقة خاصة بـ " راوي الرواة" وطبقة خاصة ب" الهادي؛ فإذا تم اختراق هاتين الطبقتين، تظهر إلى العيان الملامح العامة لـ" الحكاية". إننا نعيد تأكيد أنها مجرد ملامح أذابتها الأغطية السردية الكثيفة المحيطة بها، وجعلتها تتناثر بوصفها شذرات ونبذا على ألسنة الشخصيات، لأن العناية اتجهت إلى المستويات السردية وليس إلى الأفعال والوقائع والأحداث المترشحة عنها. وإذا تأملنا ما ترسب عن كل ذلك وجدناه : استذكارات تقود الشخصيات إلى مراحل زمنية سابقة أو استحضارات تقوم بها الشخصيات الآن من أجل ذكرى ماضية. وخلال ذلك تتركب مجموعة غير متجانسة من الوقائع الصغيرة غير المتضافرة من أجل إدراجها في سياق أكبر لتصبح حكاية محورية تتمركز حولها الشخصيات، من ذلك ما يرويه " سي إبراهيم" بالمحكية المغربية- وهو مقطع بالغ الجودة والدلالة (27) عن نفسه وعمله، أو" إضاءات " النسوة أو حتى ما يقدمه " رواي الرواة" عن زواج عزيز من خلال نمط من السرد السينمائي ( = التصويري) الذي يقدم مشاهد متنقلة بحواراتها وشخصياتها وأفعالها في ضرب من التمثيل السردي الهادف إلى كشف تعدد الاهتمامات وتباينها في مجتمع الرواية، وهو مشهد يتوج الرحلة المعقدة للشخصيات التي قدمت متناثرة، مما يبين التمزق العميق في نسيج ذلك المجتمع الذي وإن كان يوجد في فضاء واحد، إلا أن انتماءاته الثقافية والطبقية تحول دون وحدته. فالتنوع هنا لا يمارس على أنه سبيل للاختلاف، إنما يفضي إلى التقاطع والتمزق والتعارض. وفي لفتة ختامية، يحاول " الهادي" وهو يصف اعتقال فتاح ابن أخيه الطايع- لأنه اتهم بممارسة سياسة محظورة توافق إلى حد ما منظور الهادي الفكري ولكنها لا تنطبق مع أفعاله- أن يفضح كل تلك التناقضات، مستعينا بلهجة نقدية ساخطة، وكأنه يريد تأكيد دوره، ف " فتاح" استمرار لحاضرالهادي، من ناحية فكرية، وقطيعة لحاضر الطايع من ناحية دينية، وبذلك ينغلق النص على هذه الإشارة الموحية.

5- الخاتمة

كشف لنا البحث أن الرواية العربية المعاصرة، وبخاصة تلك التجارب التي خرجت على النسق التقليدي، قد استفادت من تقنيات السرد الحديثة وفي مقدمتها : السرد الكثيف الذي لا يكتفي بإنتاج الحكاية، إنما ينشغل بكيفيات تشكيلها وعرضها. الأمر الذي يطرح في داخل النصوص مشكلة الرواة ومواقعهم ورؤاهم. ولهذه القضية أهمية استثنائية في مجال الدراسات السردية، لأن الرواية العربية انتقلت من التمثيل السردي التقليدي الشفاف حيث ينصب التركيز على الحكاية بوصفها لب النص إلى التمثيل السردي الكثيف الذي يدرج الحكاية بوصفهامجرد عنصر فني في سياق شبكة متداخلة ومتضافرة من العناصر، وبذلك يتيح مجالا كافيا لبيان الكيفية التي ينتج السرد بها العالم المتخيل، ويمكن المتلقي من معرفة طرائق تناوب الرواة في عرض مواقفهم ودورهم في تركيب الأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية-المكانية. وهذا يجعل من الرواية نوعا سرديا متصلا على أشد ما يكون الاتصال بالعالم والتاريخ والبشر وكل المرجعيات الثقافية الأساسية في عصرنا. فالرواية في نهاية المطاف ظاهرة أدبية ثقافية.

مصادر البحث ومراجعه

1- إدوارد سعيد : الثقافة والأمبريالية، ترجمة كمال أبوديب، دار الآداب بيروت، 1997 ص 58

2- جيرار جونيت وآخرون : نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، ترجمة مصطفى ناجي، منشورات الحوار الأكاديمي، الدار البيضاء 1989 ،ص 98 - 100

3- عبد اللله ابراهيم، التلقي والسياقات الثقافية، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بيروت 2000، ص 14

4- صلاح الدين بوجاه : النخاس، دار الجنوب للنشر( د ت)

5-م ن ، ولمتابعة هذه الظاهرة ، نحيل على الصفحات التالية : 106 - 134 - 139 - 141 - 142 - 101 - 98 - 21 - 43 - 58 - 73 - 97 - وغيرها

6- م ن ص7

7- م ن ص 143

8- م ن ص 148

9 - م ن ص 46

10-م ن ص 19 - 20

11- م ن ص 32

12 تتركب صورة " غابرلو كافيلاني من خلال رؤية " لولا " في الصفحات 34 - 37

13 - م ن ص 34

14- الثقافة والأمبريالية ص 66

15- سليم مطر كامل، امرأة القارورة،( لندن، دار رياض الريس للكتب والنشر د ت )

16- م ن ص 8 - 9

17 م ن ص 7

19- محمد برادة : لعبة النسيان، دارالأمان،الرباط، 1987

20- دولوز وف. غاتاري : ما هي الفلسفة، ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، 1997، ص 184

21- لعبة النسيان ص 55

22- م ن ص 55

23- م ن ص 57

24- م ن ص 130

* من البحوث التي نشرناها في هذا الموضع :

- الرواية العربية والسرد الكثيف، تجربة مؤنس الرزاز أنموذجا، مجلة علامات في النقد، جدة ع 27 /1998

- التمثيل السردي في روايات الكوني، مجلة علامات في النقد ، جدة ع 32/ 1999

- الوجوه والمرايا، تبادل الأدوار السردية في رواية " البحث عن وليد مسعود"، لجبرا ابراهيم جبرا، مجلة الحياة الثقافية، تونس، ع 108/ 1999

- موسم الهجرة إلى الشمال : السرد، الهوية، العنف، مجلة الجسرة الثقافية، الدوحة، ع 3 / 2000

- السرد الكثيف في الرواية العربية : تجربة أمين معلوف أنموذجا، مجلة البحرين الثقافية، المنامة ، ع 24 / 2000

 

 

 

موارد نصيــة

مجلة إسـراف 2000

العدد 16 - 2001

المحتــوى

التمثيل في الرواية العربية: عبد الله إبراهيـم

النص التاريخي والتأويل: إبراهيم القادري بوتشيش

نظرات على المعجم الموحـد: أحمد الفوحي

محور العدد: السميائيات: الموضوع والاتجاهات

حول مبادئ سيميائية: محمد مفتـاح

مفهوم القيمة في السيميوطيقا السردية: عبد المجيد النوسي

السميائيات وموضوعها: سعيد بنگراد

السيميوطيقا والتواصل: محمد الولي

سيميولوجيا الصورة الفوتوغرافية: عبد الرحيم كمـال

قضايا السيميولوجيا المسرحية: باتريس بافيس - ترجمة: محمد العماري

قضايا الدليل الفلسفية: أمبرتو إيكو - ترجمة: حسن الطالب

سميائيات البنيات المسرحية: مارلن كارلسن - ترجمة: عبد الله مالكي

قراءة في كتاب «الصورة والبناء في المراثي الجاهلية»: عبد الله الهمـس

ربيع عبد الرحمن اليوسفي: جعفر عاقيل

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.