على الرغم من تأخر ظهور المنهج السميائي في النقد المسرحي، فإنه
استطاع أن يخلق لنفسه زاوية متميزة للنظر إلى الظاهرة المسرحية، وأن
يصوغ أسئلته وقضاياه الخاصة، متوسلا بجهاز مفهومي علمي دقيق. وقد انصرف اهتمام هذا المنهج إلى تحليل النص الدرامي والعرض،
مركزا على تنظيمهما الداخلي، وعلى دينامية العمليات الدلالية التي
يشارك فيها كل من الممارسين والمتفرجين.
وحتى نقدم للقارئ العربي صورة موجزة وشاملة عن توظيف هذا المنهج
في مقاربة الفن المسرحي، وعن التطورات التي عرفها منذ نشأته الأولى،
أقدمنا على تعريب هذا النص الذي يشكل في أصله مدخلا من مداخل المعجم
المسرحي للناقد الفرنسي باتريس بافيس .
الترجمة
سيميولوجيا المسرح منهج ينصب على تحليل النص و/أوالعرض،
ويهتم بالتنظيم الشكلي للنص أو الفرجة، وكذا بالتنظيم الداخلي
للأنساق الدالة التي يتألف منها النص والفرجة، كما يعنى بدينامية
سيرورة الدلالة، وبإنتاج المعنى بواسطة تدخل الممارسين والجمهور.
ويمكن القول، إجمالا، مع ميشيل فوكو في تعريف السيميولوجيا، بأنها > مجموع المعارف والتقنيات التي
تسمح بتعرف العلامات، وبتحديد ما يجعل منها علامات، ومعرفة العلاقات
القائمة بينها، وقواعد تأليفها < (1). فالسيميولوجيا لا تهتم بالكشف عن المعنى ( وهومجال اهتمام الهرمنطيقا
والنقد الأدبي ) بل تهتم بنمط
إنتاج المعنى عبرالعملية المسرحية، التي تمتد من قراءة المخرج للنص
وصولا إلى النشاط التأويلي للمتفرج. فهي درس" عتيق" و"حداثي" في الآن ذاته، لأن التفكير حول العلامة والمعنى يقع في صميم
كل سؤال فلسفي. على أن الدراسة
السميائية بالمعنى الدقيق للكلمة تعود إلى بورس وسوسير. فقد لخص سوسير في "
دروسه" البرنامج الضخم
للسميائيات. فهي في نظره > علم يدرس حياة العلامات في
كنف الحياة الاجتماعية (...)
وهي التي ستعرفنا بماهية العلامات، والقوانين المتحكمة فيها < (2) . على أن تطبيق
السميولوجيا في الدراسات المسرحية ( على الأقل باعتبارها منهجا واعيا بذاته ) يعود - على الأكثر- إلى حلقة براغ اللسانية في الثلاثينيات من القرن العشرين، مع
باحثين أمثال : فلتروتسكي
وميكاروفسكي وهانزل وبوكاتيريف (3). وقد أصبحت تحظى داخل الدراسات السيميائية في السنوات العشرين
الأخيرة باهتمام متزايد.
1- " سيميولوجيا" أم" سيميوطيقا" ؟
إن الاختلاف بينهما ليس مجرد خصام حول التسمية، ولا حتى صراع
مصطلحي فرنسي أمريكي بين "سيميوطيقا" بورس و" سيميولوجيا" سوسير. بل هو اختلاف
يقوم في العمق على تقابل بين نموذجين للعلامة لا يقبلان الاختزال : سوسير الذي يحصرالعلامة في
الاتحاد بين دال ومدول، وبورس الذي يضيف لهذين الحدين، (اللذين يسميهما ماثولا ومؤولا) مفهوم المرجع، أي الواقع الذي تحيل عليه العلامة.
وما يثيرالاستغراب هو أن مصطلح سيميولوجيا سيصبح دالا في أعمال
گريماص على سيميوطيقا بورس، في حين أن أعماله هو، التي تستلهم أبحاث
سوسير ويالمسليف، سيطلق عليها سيميوطيقا : > وبهذا تتسع الهوة بين
السميولوجيا التي تتخذ اللغات الطبيعية نموذجا لوصف الموضوعات
السيميائية من جهة، وبين السيميوطيقا التي تجعل موضوعها الأول هو
بناء لغة واصفة، من جهة ثانية (...) فالسيميولوجيا تسلم -
بقدر قد يكبر أو يصغر من الوضوح- بوساطة اللغات الطبيعية في قراءة المدلولات التي تنتمي إلى
السميوطويقا غيراللسانية (
الصور، الرسم، المعمار )، في
حين تنكر السيميوطيقا ذلك < (4). ويمكن قول كلام كثير عن هذا الإقصاء المسبق للسميولوجيا ( (المسرحية مثلا ) التي لم تكن سوى دراسة
للخطابات القائمة حول المسرح.
وهو أمر مشروع في المنظورالگريماصي الذي لا ينشغل إلا بالبنى
السيميوطيقية السردية ( العميقة ) ويؤجل الاهتمام بالبنى
الخطابية ( السطحية ). فگريماص يتوخى الكشف عن ظهور
المعنى وانبثاقه، ومن ثم فهو يُكِب على
>الكشف عن الأشكال السيميوطيقية الدنيا ( العلاقات، الوحدات ) المشتركة بين مختلف المجالات
البصرية < (5). وبناء عليه، فإن
المسرح باعتباره تجليا خطابيا خارجيا، لا يشكل موضوعا لبحثه. والحال أن عالم المسرح لا يستطيع التخلي عن وصف ما يرى على
الخشبة، كما أنه لا يتورع عن الربط بين العلامات ومرجعها ( دون أن يدفعه ذلك إلى أن يجعل
من المسرح محاكاة أيقونية للواقع، ومن الأيقنة معيارا للحكم على
العلامات المسرحية ).
هكذا فإن حديثنا في هذا الاستقصاء المتعلق بمكتسبات هذا المنهج
والمآزق التي سقط فيها، سيكون عن السيميولوجيا لا عن السيميوطيقا. غير أن مثل هذا الحديث عن سيميولوجيا المسرح يفترض أنه
بالإمكان عزل الظاهرة المسرحية وتخصيصها، وهو أمر إشكالي في السياق
الراهن، الذي تشظت فيه الأشكال المسرحية.على
أنه لا يبدو من الضروري الشروع بحل القضية الجمالية المرتبطة بخصوصية
الفن المسرحي أو لا خصوصيته، لنسلم بعد ذلك بقيام السيميولوجيا
المسرحية، بل ينبغي فقط تصور هذه السيميولوجيا بوصفها سيميولوجيا
تأليفية ( أي سيميوطيقا)
" توظف مجموعة من اللغات " )
(6) تلتقي فيها مجموعة من السيميولوجيات ( سيميولوجيا الفضاء، النص،
الإيماء، الموسيقي... )
2- صعوبات المرحلة السميولوجية الأولى ومآزقها
لقد ركزت المرحلة الأولى -
التي سيكون من غيراللائق السخرية منها
- على تأسيس سيميولوجيا المسرح، فصادفت الصعوبات المنهجية
الآتية :
أ- البحث عن العلامة الدنيا : لقد انخرط النقاد
السيميولوجيون في البحث عن علامة دنيا ضرورية للتقعيد للعرض، مقتدين
في ذلك بعلماء اللسان الذين يذهبون إلى أن > كل دراسة سيميائية بالمعنى
الدقيق للكلمة تقتضي تعرف الوحدات ووصف سماتها المميزة، واكتشاف
معايير دقيقة لتمييزها < (7).
غير أنه ليس من المفيد في شيء بالنسبة للمسرح تقطيع متصل العرض إلى
وحدات زمنية صغرى بناء على تحول الأنساق المختلفة، لأن ذلك من شأنه
أن يدمر الإخراج، ويفرط في وحدات المشروع الركحي. وسيكون من الأجدى الكشف عن مجموعة من العلامات التي تدل
بوصفها وحدة كلية ( Gestalt)
لاعبرالجمع بين علاماتها ( أي
وحداتها الدنيا ). أما بخصوص
التمييز بين العلامات الثابتة والعلامات المتحولة ( ديكور/ممثل/عناصر
ثابتة/ عناصر متحركة ) فلم يعد واردا في الممارسة
المسرحية المعاصرة. وهكذا نخلص
إلى أن العلامة لا تشكل شرطا قبليا لقيام سيميولوجيا المسرح، بل إن
الشروع بمحاولة رسم حدودها - أي
العلامة - مهما كلف من ثمن،
يمكن أن يعيق البحث.
ب - تصنيف العلامات : والأمر نفسه بالنسبة لتصنيف
العلامات (سواء أكان بورسيا أم
غيره). فهو ليس شرطا سابقا على
وصف العرض. ولا يعود الأمر فقط
إلى أن درجة الأيقونية أو الرمزية غير واردة في الكشف عن تركيب
العلامات ودلالتها، ولكن يرجع إلى أن التصنيف يظل عاما أيضا حتى يفسر
تعقيد الفرجة. وعوض الحديث عن
أنماط للعلامات (مثل الأيقون
والمؤشر والرمز والإشارة والقرينة)،
نفضل الحديث مع ''إيكو'' عن الوظيفة الدالة : ''إذ
ينظر إلى العلامة باعتبارها نتاجا للعملية السيميولوجية (Semiosis) أي عملية ربط
واقتضاء متبادل بين مستوى التعبير (الدال
السوسيري) ومستوى المحتوى (المدلول السوسيري). ولا يكون الربط موجودا منذ أول وهلة، بل ينشأ عن القراءة ''المنتجة'' للمخرج والمتفرج. إن هذه
الوظائف الدالة التي تشتغل في العرض تقدم صورة دينامية عن إنتاج
المعنى. فهي تعوض التصور الذي
ينظر إلى العلامات بوصفها لائحة، وتعوض كذلك تلك النظرة الميكانيكية
لشفرات التعويض بين الدال والمدلول. كما أنها تتيح التصرف في تقطيع الدوال، والكشف عن مدلول واحد
أو دال خلال العرض.
ج- الطابع الآلي لسيميولوجيا
التواصل : كثيرا ما فهم تشبيه ''بارط'' للمسرح ب ''آلة
السبيرنيتيقية...'' فهما حرفيا. فهو يرى أن هذه الآلة ''
تبعث لك عددا من الرسائل'' (...) المتزامنة ولكنها تتباين من حيث إيقاعها''
(...) بكيفية نتوصل معها ''بست
معلومات أو سبع في الآن ذاته (صادرة
عن الديكور واللباس والإنارة ومواقع الممثلين، وإيماءاتهم وحركات
وجوههم وكلامهم...) (8). هكذا
حاول بعض الباحثين اعتماد هذه الملاحظة لتطبيق الجهاز المفاهيمي
لسيميولوجيا التواصل على البث المسرحي، محاولين تحديد التواصل
المسرحي بوصفه عملية قائمة على التبادل ومحاولين كذلك إقامة علاقة
ترجمة أوتوماتيكية بين الدوال والمدلولات. بل إنهم يذهبون إلى حد جعل الإخراج دالا (حشويا) للمدلول النصي، الذي يعد أوليا ومعروفا، ويتساءلون عن كيفية ''المصالحة بين حضور دوال
متعددة مع مدلول واحد'' (9).
د- شمولية النموذج
السيميولوجي : بعد مرحلة
الغليان النظري، التي اتسمت بالحاجة إلى التميز عن اللسانيات
وبمحاولة صياغة نموذج سيميولوجي شمولي، وجدت سيميولوجيا المسرح نفسها -أمام تعدد الأشكال المسرحية- ملزمة بتكثيف لغتها الواصفة مع نمط العرض المدروس. والواقع أن التفريق بين المناهج يمكن أن يتم على مستوى
العملية السيميولوجية، وكذا على مستوى تنظيم العلامات والأنساق. فعوض النظر إلى الخشبة بوصفها نسقا يحاكي العالم، انصرف
الاهتمام إلى فهم العملية الرمزية التي يتم بها الانتقال من العالم
المعروض إلى العرض. وفي نفس
السياق جرى تطبيق النماذج العاملية المستلهمة من بروب و سوسير
وگريماص بطريقة تبسيطية وغير مميزة، بحيث تبدو العوالم الدلالية
للمسرحيات متشابهة بشكل غريب.
فتوظيف النموذج بالطريقة الكريماصية الصارمة، جعله يحافظ على طابعه
التجريدي واللاتشخيصي. وما أن
يطبق بكيفية مخصوصة على العالم الدرامي لنص درامي، حيث تكف العوامل
عن كونها '' وحدة تركيبية، ذات
طابع شكلي، سابقة على كل استثمار دلالي و /أو إيديولوجي (10) ، حتى نعود إلى مفهومي
الشخصية والحبكة.
ودون الانتقاص من هذا النمط من السيميوطيقا اللاتشخيصية، نفضل
التركيز على عملية تلقي جمهور محدد في شروط معينة، منجزين بذلك
سيميولوجيا ميدانية، تربط هذه الخطاطات التفسيرية بالمسارات
التأويلية للمتفرج : ''فمن
يتابع فرجة لا يمارس السيميوطيقا بمعناها في النظرية السيميوطيقية،
بل تصبح العمليات التي يرى بها ويسمع ويحس، عمليات تقويمية، وهي
عمليات ذات صبغة سيميوطيقية دائما''
(11).
هـ- فيتيشية الشفرة : لقد دفع الخلط الشائع بين
المادة الركحية- أي الموضوع
الواقعي- والشفرة- أي موضوع المعرفة، المفهوم النظري المجرد- علماء السيميولوجيا إلى اقتراح قائمة حصرية من الشفرات
المسرحية الخاصة. كما أن
التراتبية التي يقيمونها داخل تلك الشفرات (شفرة الشفرات) كثيرا ما تقود إلى تجميد الفرجة، مغفلة قضية اشتغال العرض،
ومؤكدة أن نسق العلامات المسرحية يمكن أن يترجم إلى مجموعة من
الشفرات.
ولعله من الأجدى الإعراض عن البحث عن تصنيف للشفرات بشكل قبلي،
والانشغال -مقابل ذلك-بملاحظة
الكيفية التي تصنع كل فرجة شفراتها، وتخفيها؛ والكيفية التي تتطور
بها تلك الشفرات على امتداد المسرحية، وكذا الكيفية التي يتم
بواسطتها الانتقال من الشفرات (أو
المواضعات) الصريحة إلى الشفرات
الضمنية. وعوض النظر إلى الشفرة
بوصفها نسقا ''كامنا'' في العرض، يتعين على التحليل أن يكشف عنه، سيكون من الأصوب
الحديث عن الكيفية التي ينشىء بها المؤول الشفرة؛ لأن المؤول
الهرمنتي -سواء أكان ناقدا أم
مجرد ممثل- هو الذي يقرر أن
يقرأ هذا المظهر من العرض بناء على الشفرة التي يختارها بكامل
الحرية، وبهذا تغدو الشفرة -حسب
هذا الفهم- منهجا للتحليل، أكثر
منها خاصية للموضوع المحلل.
و- الدلالة الإيحائية : لقد انصرفت شعبة هامة من
السيميولوجيا على إثر أعمال ''بارط''
(12) إلى استجلاء الإيحاءات التي تخلقها علامة من العلامات في
ذهن المتلقي. ولعله من اليسير
تكييف لعبة الأفكار المواكبة هذه مع قراءة الفرجة، وذلك بتشجيع
القارئ/السيميولوجي على إقامة
لوائح من العلامات المرتبطة بعلامة مركزية. وهو ما ينجم عنه إنتاج معاني مشتقة، وهي وسيلة مشروعة لتحليل
عرض من العروض، والتعليق عليه.
بيد أنه يبقى من الضروري تنظيم اللوائح المحصل عليها بواسطة هذه
الطريقة المحايثة، وبالعلاقة مع مختلف الأنسقة الركحية، وذلك إما
بالنظر إلى نص كامن، شبيه بالتحليل الرمزي للحلم كما مارسه سيكموند
فرويد (13) أوبنفنيست (14). وبهذا نتجاوز مستوى
العلامات الدنيا والعلامات المفردة، وإيحاءاتها، إلى إعادة بناء بعض
الصور الأساسية للرمزية المسرحية كما يحققها النشاط الركحي (15) .
ز- العلاقة بين النص والعرض : وهي علاقة لم يتم توضيحها
حقيقة، لأن الأبحاث سارت في اتجاهين متوازيين، سيميولوجيا النص
وسيميولوجيا العرض، دون أن تعنى دائما بمقارنة نتائج المقاربتين. والحال أن السيميولوجيا النصية كثيرا ما أكتفت بإنقاذ النص،
بوصفه الجزء الثابت والمركزي من العرض؛ أو أن النص وجد نفسه بالمقابل- مبتذلا، ومنظورا إليه كنسق لا يختلف في شيء عن الأنساق
الأخرى، دون أن يؤخذ بعين الاعتبار وضعه المتميز في تشكيل المعنى. والحقيقة أن العلاقة بين العرض والنص، إما أنها كانت تغفل - مما يخلق المفاجآت عند
المقارنة بين نتائج المقاربتين السيميولوجيتين-،
وإما يبالغ في اختزالها، مما يجعل البحث عن العلامات المشتركة بين
النص والخشبة - مثل الأيقونات
والمؤشرات والرموز- يصادف صعوبة
اقتراح تصنيف مرن ودقيق للعلامات، كفيل بالكشف عن خصوصية عرض أو
أسلوب محددين.
وهنا أيضا يبدو اللجوء إلى نص الفرجة -أي من التوزيع الذي تتمفصل فيه
علامات العرض في الزمان والمكان- أفضل بكثير، لأنه يفيد في الكشف عن التناقضات بين الأنساق. ومن أشيع هذه التناقضات وأهمها، ذاك الذي يقوم بين الممثل
بوصفه جسدا ماديا مرئيا، والنص باعتباره نسقا رمزيا يستلزم وساطة
التمثيل الذهني للفرجة. وقد وضح
فلتروتسكي جيدا ''التوتر الجدلي
بين النص الدرامي والممثل، وهو توتر قائم أساسا على كون العناصر
الصوتية للعلامة الفنية جزءا لا يتجزأ من إمكانيات الممثل الصوتية"
(16).
وتشيع حتى عند بعض السيميولوجيين فكرة أن إخراج نص من النصوص
الدرامية ما هو إلا نقل له من سنن إلى آخر، وهي فظاعة سيميولوجية! بل يعتبر النص أحيانا مدلولا ثابتا يمكن التعبير عنه بأمانة
متفاوتة بواسطة دوال الإخراج.
وهذه التصورات خاطئة بالطبع، فلا يكفي أن يستظهر ممثلو فرقة بلانشون
وفيتيز أو بروك النص ذاته، ليحتفظ ذلك النص بالدلالة نفسها. فالإخراج ليس صياغة لبداهة نصية، بل ما يمنح النص هذا المعنى
أو ذاك هو تلفظه في إخراج مخصوص، وترهين مقتضياته والكشف عن المسكوت
عنه فيه. وبالرغم من ذلك، فإن
إمكانيات الإخراج (التأويلات) ليست محدودة، لأن النص يفرض على المخرج مجموعة من الإكراهات،
والعكس بالعكس، فلقراءة نص درامي، يلزم امتلاك فكرة غامضة عن تمسرحه،
كما أن العرض لا يستطيع أن يغض الطرف كليا عما يقوله النص. وكما يقول ''كير إيلام'' في خاتمة مؤلفه : ''يبدو
أن هناك حوارا ضئيلا بين السيميولوجيين المشتغلين بالعرض وشفراته،
وبين أولئك الذين يهتمون بالنص الدرامي وقواعده. غير أنه يتعذر -من جهة- تصور سيميوطيقا حقيقية للمسرح لا تأخذ في اعتبارها القنوات
الدرامية، وبنية الحدث، ووظائف الخطاب وبلاغة الحوار. ومن جهة أخرى، لن تكون شعرية النص الدرامي سوى ملحقة
بسيميوطيقا الأدب، إذا هي لم تحل على شروط العرض ومبادئه''
(17) .
3- الاتجاهات الجديدة:
أ - الإخراج والسيميولوجيا : بعد النقاشات النظرية الأولى
للنقاد السيميولوجيين الذين اقترحوا نموذجا متكاملا، لكنه شديد
العمومية والتجريد، تمت العودة إلى مساءلة براغماتية أكثر للموضوع
المسرحي، مثلما كان الأمر في بداية حلقة ''براك'' اللسانية مع هونزل وفلتروفسكي وبوكاتريف. هكذا أصبح يتعين على كل اشتغال دال أن يجري تفسيره في السياق
الخاص بالعرض المدروس، كما غدا الإخراج فعلا سيميولوجيا يحرص على محو
آثار اشتغاله، بدرجات متفاوتة، لكنه لا يفتأ يفكر في تركيب علاماته
وقراءتها، فالمخرج ذو النزوع السيميولوجي (مثل دومارسي ) يفكر بواسطة مجموعات متوازية
من العلامات، ويعي مقادير المواد التي يستخدمها، كما أنه يكون ذا
حساسية بتواترالعلامات الموظفة، وكذا بالتناسب القائم بين الأنساق : الموسيقى ''التشكيلية'' ، القول ''الفضائي'' والإيماء المناسب للإيقاع الخفي للنص إلخ (18). فربما كان التوجه بخطى
وئيدة نحو بلاغة معممة للإخراج (أو
على الأقل نحو بلاغة إخراج مخصوص). ويبقى أمام السيميولوجيا أن تكشف عن الصور البلاغية المتحكمة
في إنتاج المعنى باعتباره ناتجا عن أنساق العلامات. ويشكل التقابل بين الاستعارة والمجاز نقطة انطلاق جيدة
بالنسبة لهذه البلاغة، وإن كان عليها ألا تقتصر عليهما.
ب - تنظيم أنسقة العلامات : تبحث السيميولوجيا عن
التقابلات بين العلامات التي تنتمي إلى أنسقة متباينة، كما أنها تقيم
تعارضات ثنائية بين الشفرات، وتقترح تراتبية بين المواد في هذه
اللحظة أو تلك من لحظات العرض.
فالإخراج يركز على بعض العلامات مهملا بشكل حتمي أخرى؛ كما أنه يعين
لحظات الوقف في العرض بواسطة نسق الإنارة، ويعزل المقاطع. يضاف إلى هذا أنه يرصد بشكل خاص مفاصل الأنسقة الركحية،
ويتلذذ بإدراك مظاهر التفاوت بينها، من قبيل التناقض الذي يمكن أن
يقوم بين النص والنسق الموسيقي أو التنغيم، وكذا الديكور الذي يمتنع
عن التعبير، طالما أن النص واللعب لم يقوما بتوضيحه إلخ. وتهتم السيميولوجيا بخطاب الإخراج، أي بالكيفية التي تتوالى
بها مقاطع العرض، وكذا بالحوارات والعناصر البصرية والموسيقية. فهي تبحث في تنظيم ''نص
الفرجة'' أي في بنيته وكيفية
تقطيعه. إنها تذكرنا بالفكرة
الحدسية القائلة إن فهم العرض يعني القدرة على تقطيعه وفق كل
المعايير : السردية
والدراماتورجية والإيمائية والإيقاعية. وبذلك فهي تقع على المستويين الاستبدالي (أي تحليل النسق بكامله في كل
لحظة من العرض) والتأليفي (تطور هذا النسق على امتداد
العرض). إنها تعطي لنفسها حرية
البحث عن التشاكلات الجديدة والموضوعات ، أي عن العناصر المتكررة أو
المترابطة التي يسمح تعرفها بقراءة منسجمة للفرجة.
ج- التطورات الأخيرة : لم تعد الاتجاهات المعاصرة
تجنح إلى الانعزال والاقصاء، بل أصبحت السيميولوجيا تعيد إلى مجالها
الميتودولوجي تدريجيا كل ما سبق أن أقصته. وبهذا أصبحت تعنى بإشكالية الخطاب وأفعال الكلام ونظرية
العوالم الممكنة ومقتضيات الخطاب والسوسيوسيميائيات. إن هذه التطورات الأخيرة تشهد على تطويع المناهج اللسانية
الصرفة، وعلى الرغبة في إنشاء شعرية أو بلاغة للأشكال المسرحية، مع
عدم الاقتصار على خصوصية النوع المسرحي، ومحاولة استيعاب كل
التحليلات الفرجوية. ويبدو أن
سيميولوجيا المسرح -في معناها
الواسع- ليست علما جديدا، أو
مجالا بكرا للبحث، بقدر ما هي دراسة تمهيدية، وإبستيمولوجيا ''لعلوم الفرجة''،
أي أنها تفكير حول العلاقة بين مشروع دراماتورجي وتحقق ركحي.
هوامش
* P.Pavis Dictionnaire du théâtre, Ed Sociales, Paris, 1980,
pp. -364
** قد يلاحظ القارئ أننا نستعمل ثلاثة مصطلحات للإحالة على
نفس المفهوم، هي : سيميولوجيا
وسيميوطيقا وسيميائيات. ولعل ما
فرض علينا هذا التردد المصطلحي هو حرصنا على الوفاء للنص المعرب،
الذي وظف المصطلحين الأولين، أي سيميولوجيا وسيميوطيقا، وحدد الفروق
بينهما في الحقل الفرنسي، ونحن نميل إلى تعريبهما بمصطلح سيميائيات،
لأنه أقرب إلى التركيب العربي.
1- M.Foucault : les mots et les choses, Paris-Gallimard, 196,
p. 44
2- F.De Saussure Cours de linguistique générale-Paris Payot -
1971p 32-33
3- حول تاريخ هذه المدرسة ينظر
K.Elan-Semiotics of theatre and
Drama-Methuen-London-1980/Metejka I Titunik Semiotics of Art:
Prague School Contrebution Cambridge MIT press 1976
4-
Greimas-ourtés-Sémiotique dictionnaire de la théorie du
langage,Paris-Hachette-1979
p 338
5- Ibidem p 282
6- Ibidem- p 375
7-E.Benveniste-Problèmes de linguistique générale
Paris-Gallimard 1974-P 64
8- R.Barthes-Essais critiques-Paris Seuil 1964 p 258
9- A.J Greimas .JCourtés op-cit P 392
10-A.J Greimas-J Courtés op-cit p 3
11-M.Nadin De la condition sémiotique du théâtre in Revue
roumaine d'histoire de l'art n! 15 p 25
12-Voir R Barthes Mythologies, Paris Seuil, 1970 Seuil 1970,
S/Z Paris, Seuil ,1970
13-Freud S L'interprétation des rêves, paris, PUF 1973
14- Benveniste E-Problèmes de linguistique générale Paris
Gallimard 196- pp 75-78
15- Ertel E-Elément pour une sémiologie du théatre in travail
théâtral n! 28-29 -1978
16- in Matejka L, Titunik I-Semiotic of Art, Prague School
Contribution-Cambridge-MIT press 1976-p 115
17- Kear Elam-Semiotics of theatre and Drama-London Methuen
1980-p 210
P.Pavis-Notes Towards a Semiotics Analysis. in : The Drama
Review, T 84 December 1979 18-
|