مارفن كارلسن

''سميائيات البنايات المسرحية''

ترجمة : عبد الله مالكي

لقد تم استقصاء مظاهر عديدة من الفن المسرحي نتيجة تطور ميدان سميائيات المسرح الحديثة - بما في ذلك النص نفسه والعناصر الموظفة في العرض، وحركات وإيماءات الممثلين، والأنظمة السمعية البصرية الدالة كاللباس والإنارة والموسيقى والمكياج، الخ... إن الاهتمام الرئيس في استقصاء مثل هذه العناصر ينصب على المظاهر السميائية للنص، أو بالأحرى، على عرض النص. لقد أصبح الاهتمام مؤخرا ينصب أكثر فأكثر على مساهمات الجمهور ضمن هذا النسق، ولكن التركيز بات حول سميائيات النص والعرض طبعا. كل هذا جائز، لكن إذا أردنا أن نركز على سميائيات العرض المسرحي فعلينا أن نفهم أن العرض نفسه هو جزء من التجربة الكاملة لعملية الحضور إلى المسرح وفهم ما يجري حينما نمر بمثل هذه التجربة، هذا مع العلم أن العرض هو مركز تحليلنا.

ولقد أشار إيريك بويسنس في أوائل سنة 1953 إ لى أن دراسة سميائية مدققة للعرض في الأوبرا / المسرح، تفرض الاهتمام بالتواصل الذي يحدث لبضع ساعات في عالم بكامله فوق الخشبة وفي قاعة العرض، ولن نستغرب كثيرا إذا لاحظنا ألا أحد من بيسنس والسميائيين اللاحقين عمل في اتجاه هذا التحليل الضخم، ولكن يجب على ملاحظة بيسنس أن تذكرنا بأن السميائيات في حاجة إلى الاهتمام بحقل أكثر فأكثر اتساعا كما هو الحال في تحليل العرض المسرحي.

أود، في عجالة، أن أقترح جانبا من جوانب هذا الحقل الواسع وكيفية التعامل معه من لدن سميائي المسرح، إنه جانب من أغنى وأهم جوانب الحدث المسرحي إلى جانب العرض نفسه : إنه المحيط الفيزيقي للعرض. كما أريد أن أقترح كيف أن بعض الاستراتيجيات قد تطورت آنئذ في ميادين سميائيات الهندسة المعمارية والسميائيات الحضرية التي من الممكن أن تستعمل من لدن سميائي المسرح في مثل هذه التحاليل.

وبما أن السميائيات قد ارتقت إلى حقل دراسة في أوروبا، فإن فرعا من هذا الحقل الذي اتبعه بعض المنظرين، خصوصا في ايطاليا وبعد ذلك في فرنسا، قد اهتم بتضمينات أشياء هندسية فردية. إن النظرية المعمارية في الإنجليزية لم تهتم بظواهر من هذا القبيل إلا مؤخرا. لقد وضع منظرو أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الهندسة المعمارية إلى جانب الموسيقى ضمن الفنون المجردة اللامحاكية في مقابل الرسم، والنحث، والشعر. وهكذا، فقد أنكر هؤلاء المنظرون للهندسة المعمارية كون هذه الأخيرة أداة تملك قدرة خلق معنى تجتاز وظيفتها وتجتاز أي ميزة مجردة كالحجم والإيقاع. لقد تكلم ماكس ديسوار (Max Dessoir) في كتابه استطيقا في سنة 1924 عن الشعر كفن ذي ''مرافقات محدودة'' والهندسة كفن ذي ''مرافقات غير محدودة''.

رغم كل هذا، وحوالي سنة 1960، بدأ عدد من النقاد يناقشون فكرة أن الهندسة المعمارية أيضا لها معان تمررها، فقد نشرا سيدلمير في ألمانيا، وفون سيمسون في إنجلترا كتبا حول المرافقات المحددة للكنيسة في العصر الوسيط. كما أعطى هوطكور ؛ ونشر بولدوين سميث دراســة بعنوان مثيــر : القبـــة : دراسة في تاريخ الأفكار وفي أواخر سنة 1960، ظهرت كتب بعناوين مثل لغة الهندسة و المعنى في الهندسة مذللة الطريق أمام كتابات ذات اتجاه سميائي محدد ستظهر في مجلات خلال العقد الموالي. لقد بدأ الاستطيقي الماركسي جاستر يبوفا مقاله في (Kunst und Literatur) سنة 1976 بطريقة جريئة حيث يقول : '' يمكن أن نرى أن الجدلية بين التغيرات في نظام البنيات المادية ونظام المجتمع الإنساني من أفكار واعتقادات وقيم عاطفية بجلاء ووضوح تامين في الهندسة المعمارية''. إن عناوين سلسلة من المقالات الإفتتاحية المثيرة للاهتمام والجدل في أعداد 1976-1977 من المجلة الهندسية (Architecture Review تكشف عن الحد الذي أصبحت النظرية الهندسية تقبل فيه ليس المعنى الهندسي الضمني فحسب، بل حتى الفكرة القريبة من التواصل الهندسي : ''عماذا تتحدث الهندسة المعمارية؟'' وماذا يقول المهندس المعماري من خلال الهندسة المعمارية؟'' و ''ماذا يقول المجتمع في خلال الهندسة المعمارية؟''

والآن أريد أن أقترح أنه يجب على مثل هذه الأسئلة أن تكون تحديا بالنسبة لمؤرخي المسرح كذلك. عماذا تتحدث البنايات المسرحية؟ ماذا يقول المهندسون المعماريون من خلال هذه البنايات؟ وربما هناك سؤال أكثرإثارة للاهتمام ، وهو : ما ذا يقول المجتمع من خلال مسارحه؟ من المهم هنا أن ندرك أننا لا نتحدث، على وجه الحصر أو حتى أوليا، عن وظيفة المسرح كمكان للعرض. يوضح أومبرطو إيكو هذه المسألة بطريقة جيدة في مناقشته للهندسة المعمارية في كتاب La Structtura Assente (1968). إنه يقترح في هذا الكتاب أنه يمكن اعتبار أي شيء هندسي محدد علامة؛ وكأي علامة، فإن هذا الشيء يتكون من معنى (المدلول) الذي يكون في هذه الحالة هو الوظيفة التي يقوم بها هذا الشيء (فضاء للسكن، للتعبد، إلخ) كما أن هذا الشيء يقوم مقام ذلك المعنى (الدال) الذي هو في هذه الحالة البناية المرتبطة بتلك الوظيفة من خلا أَسْنُنٍ ثقافية تقليدية. كذلك فإن العلامة المكونة بهذه الطريقة تكون ككل علامة، على التو منفتحة على تطورات أخرى، وذلك بزيادة معاني متضمنة جديدة تأخذ بعدا أكثر من المعنى الوظيفي الأصلي. فكما أن للعرش الملكي الوظيفة المرتبطة بأي كرسي -أوأي شيء موضوع للجلوس- وكذلك معاني أخرى أكثر أهمية بالنسبة للمعاني المضمنة، فإن للمنازل والكنائس معاني أولية وظيفية كمواضع للإقامة والتعبد، ولكن أيضا مجموعة من المعاني الثانوية تهم الطريقة التي تربط مستعملي هذه الأماكن وسط مجتمعهم ككل في اللحظة نفسها وعبر التاريخ، بطريقة مماثلة، يمكن المسرح من معاني متضمنة إضافية للثقافة التي ينتمي إليها تفوق الوظيفة الأساسية في توفير فضاء لجمهور يريد مشاهدة عرض من العروض.

من هنا، وجب على المنظور السميائي الدفع بنا إلى اعتبار المسرح بناية هندسية موجودة في عدد كبير من المجتمعات والحقب التاريخية توفر مجموعة من المعاني المضمنة منتقاة وغنية، تتجاوز مهمتها الأساسية في توفير فضاء لالتقاء المتفرج بالعرض. سأعتبر أربع طرق عامة لاقتراح بعض الامكانيات المورطة في هذه النظرية للمسرح بهذا الشكل، بحيث يمكن تطبيق التحليل السميائي بطريقة نفعية على البنايات الفيزيقية للمسرح وعلى أماكن العرض عامة.

تبدأ عدد من المناقشات حول السيميائيات الهندسية بأخذ الفضاء بعين الإعتبار. وهذه الطريقة لا تثير الاستغراب. ومن الأكيد ألا أحد يحتاج إلى التذكير بأن الفضاء ''يتكلم'' -وأنه يمكن للتصورات الفضائية أن تصبح عناصر مهمة في خلق المضمار الفعال. ولا شيء، ربما، يفوق أهمية تمفصل الفضاء في علاقته مع الهندسة؛ وبالفعل فقد جادل بعض سميائيي الهندسة في أن سميائيات الهندسة المعمارية يجب أن تدرس بطريقة أحسن إذا اعتبرت ضمن السميائيات العامة للفضاء.

لقد حظيت قلة قليلة من الأشياء الهندسية في عدد من الثقافات ببنية فضائية أساسية متماسكة كتلك التي حظي بها المسرح؛ بحيث توحي طبيعة المسرح نفسه بفضاء دياليكتكي يتعارض فيه فضاء المشاهد مع فضاء المُشاهِد؟ من خلال هذا النقاش الضروري والمختصر، سأطور بعض التضمينات المرتبطة بهذا الافتراض الشائع، رغم أنني يجب أن ألاحظ قبل السير في هذا الاتجاه أن هذه الدياليكتيك، التي تقبل عامة كما هي عليه، قد تم خلقها ثقافيا ولم تكن ملازمة، وأن ترتيبات أخرى تبقى ممكنة. إن المسرح البيئ مثلا يدمج بوعي بين هذين الفضاءين المتناقضين بطريقة عادية. حيث يخلق هذا النوع من المسارح وضعية تشجع الجماهير على تجريب المسرح وفهمه بطريقة مختلفة تماما.

إن المسرح، خلال جل الحقب التاريخية، قد جمع حول الفضاءين المركزيين الاثنين للمشاهِد والمشاهَد فضاءات مساندة أخرى لكل منهما فضاءات ما وراء الستار التي تحيط بفضاء الممثل والتي تكون عادة غائبة عن الأعين وبعيدة عن الحدود الخارجية للمشاهدين؛ كما أن هناك الفضاءات ''العمومية'' المختلفة كالبهوات والحانات والأروقة المجاورة لقاعات العرض، حيث لا يرى الممثل . إن انتهاك حرمة هذه القوانين المنظمة للفضاءات -ممثلون في الأروقة أو ممثلون خلف الستار- تكون، بطريقة موازية، مثقلة رمزيا إلى حد كبير. توظف كل واحدة من هذه المجموعات المساندة للفضاءات كمنطقة انتقالية، وهي نوع من حاجز ضبابي بين العالم الخارجي، حيث يختلط الممثلون بالمجمهور في علاقات مختلفة تماما، والعالم الخاص الذي خلق من خلال مجاورة الركح لقاعة العرض. ويستعمل كل من المتفرجين والممثلين هذه الفضاءات الوسيطة لتهيء أنفسهم للقيام ''بأدوارهم'' المختلفة في الفضاء المركزي الذي هو الركح/ قاعة العرض. فيرتدي الممثلون اللباس والمكياج ويستأنفون أي تهييء جسدي أو نفسي يرونه ضروريا لدخول الفضاء الصوفي للركح ومواجهة الجمهور. كما يقوم المتفرجون بتعديلات مماثلة أكثر بساطة، حيث يتأكدون من حالة ألبستهم، ويدردشون مع الآخرين، متأهبين للمشاركة في نفس الحدث، ويقرأون البرامج أو يتجولون حول الفضاءات العامة المزركشة كما هو الحال في دور الأوبرا الكبيرة، منسلخين عن اهتماماتهم اليومية (الموجودة خارج المسرح) كما تدعو إلى ذلك كل هذه الأنشطة، وذلك للتركيز على ''أدوارهم'' المرتقبة في قاعة العرض واستمتاعهم كمشاركين في التجربة المسرحية. وفي أوقات الاستراحة ينسحب الممثلون والمتفرجون إلى عوالمهم المنفصلة والمختلفة حيث يمكنهم الاسترخاء لمدة قصيرة مع زملائهم من ضغط المواجهة بين الركح وقاعة العرض.

ويمكن ملاحظة أنواع كثيرة من الأنظمة الرمزية الأخرى في المكانين معا. فنجد وراء الستار، مثلا، أن الأهمية النسبية لممثلين مختلفين تقاس عادة بأحجام ومواقع مناطق التهييء، إذ يمكن أن يكون ''للنجوم'' مناطق واسعة خاصة باللباس، حيث تتموضع قرب الركح للاستعمال الشخصي، بيد أن الممثلين الأقل أهمية يحرزون على فضاء أقل اتساعا وعلى حميمية أقل، كما يجب عليهم أن يصعدوا أدراجا كثيرة باعتبار العلاقة بين مناصبهم في الانتاج أو في المهنة ككل. ونجد أن عدم الاحساس بهذه المسألة من لدن المديرين أو المسؤولين قد أدى غير ما مرة إلى صراعات مهمة وحتى إلى انسحاب ممثلين من الإنتاجات. كما أنه وجدت وبطريقة تقليدية ترتيبات اجتماعية مشابهة وأكثر تعقيدا في الفضاءات المدعمة عند الجمهور بحانات وأروقة مختلفة لرتب اجتماعية متنوعة.

تعتبر قاعة العرض نفسها بالخصوص منبعا غنيا لدلالة سياسية واجتماعية واقتصادية. إن الإحراز على صندوق في الاوبرا كان يعتبر ،عادة في المجتمع الغربي، علامة من أهم علامات الانتماء للطبقات المحظوظة. وبالفعل، فقد تم بناء أوبرا المتروبوليتان في نيويورك أصلا للاستجابة، لا لحب هذا الفن، بل لأن الأغنياء الجدد المتمثلين في عائلات الفاندربيلت والأسطور والمورغان كانوا غير قادرين على إحراز مقصورات في الاكاديمية القديمة للموسيقى، حيث لم يبق هناك أي فضاء أرستقراطي فارغ بعد أن استولت عليه جماعةذوي السراويل القصيرة : عائلات الكاتينغ والشويلر، والفانريسلر . وعوض أن يستقر المجتمع الجديد في فضاء رمزي أقل قيمة، أحس بضرورة بناء مسرح يكون خاص به. وبالرغم من أن دور الأوبرا في إيطاليا من القرن بدءا السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر كان يمتلكها أرباب مختلفون -بعض الملوك، وبعض البلديات، وبعض الأشخاص الأغنياء -إذ أن المقاعد بقيت مرتبية بشكل متوقع إلى حد كبير، حيث تتم ''قراءاتها'' بسهولة من لدن كل من زار هذا المسرح. إن التباري على المقصورات الأكثر فخامة كان في الغالب ضاريا؛ وحينما يكون مسرح ما مرتبطا بقصر ملكي، كما هو الحال في توران، فإن الملك نفسه هو الذي يملك السلطة لكي يقوم بهذه التعيينات. كما كانت للقاضي الأول في البندقية هذه المهمة؛ وقد تقدم له سفير إنجلترا بشكاية رسمية سنة 1671 حول تخصيص مقصورة له بعبارات تليق برمزية هذه الوضعية: '' لم يكن يكترث بالموسيقى، ولم يكن يقدر الشعر أو يفهم المسرح، لكنه أراد المقصورة بكل بساطة لفخر مركزه كسابقه وككل المقيمين الآخرين حاليا بالبلاط".

إن الطابق الثاني من هذه المقصورات (من أربعة، أو خمسة، أو ستة طوابق) كان الأكثر أرستقراطية على الدوام. لقد كان الطابقان الأول والثالث يتمتعان بمركز يعادل الثاني في مجتمعات تكون بها أرستقراطية عريضة كافية لطلب هذا الامتياز. وفي الغالب كان لهذا الطابق درج إلى الأسفل، وكان يحوي خليطا من الارستقراطيين والمحامين والأطباء والموظفين . وفي سنة 1814 فتح الطابق الثالث لمسرح ريجيو إيمليا أبوابه للبنكيين اليهود الذين كانوا حتى ذلك الحين، ممنوعين من كل المقصورات، شأنهم في ذلك شأن اللامواطنين و ''الميكانيكيين'' . كانت ولم تزل الطوابق ما فوق الثالث تعتبر أقل قيمة، وحتى حينما يتم ترحيل التجزئات إلى الطابق الأعلى لفتح رواق أكثر رحابة، كان ذلك خلال القرن التاسع عشر علامة على أنه سيتم استقبال طبقة سفلى متميزة من الملاكين. كان يشار إلى هؤلاء في لاسكالا (La Scala) ب ''الناس الثانويين''. لكن هؤلاء لم يكونوا عمالا، ناهيك عن الفلاحين ؛ لكنهم كانوا عسكريين وصناعا وذوي مصانع صغيرة. فإذا رغب أناس من السلم الإجتماعي الأدنى في المشاركة في التجربة بالأوبرا، كان عليهم أن يقفوا خارج نقط الدخول لاستقبال ما يمكن استقباله من الأصوات الآتية من الداخل وذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر. وبالطبع، فإن الحجر الأساس التقليدي في هذا الترتيب الرمزي للمكان كان هو المقصورة الملكية التي كانت موضوعة في وسط أفضل منطقة وتواجه الركح مباشرة. وحتى ترتيب المقاعد بالطريقة المسماة بالديمقراطية في بيروت لم يستثن المقصورة الملكية التقليدية في الوسط الخلفي للقاعة والمخصصة للأمير الراعي.

وهناك منطقة ثانية أساسية في التحليل السميائي للبناية المسرحية التي تقوي الرسالة المسرحية، وهي منطقة الديكور وعوامل التصميم يمكن للبروز الفضائي للمقصورة الملكية وكذا لمكانتها المركزية أن يمنحا الفكرة الهندسية المباشرة والأكثر ظهورا، ولكن أغطية السقف، والتيجان، وشعارات النبالة، والاسلحة التي تكون حول المقصورة، كلها تساهم بشكل مهم في وقعها. يقول ستندال وهو يعطي تحليلا مختصرا، وسميائيا بالأساس، للمقصورة الملكية بمسرح سان كرلو بنابولي ''ليس هناك أكثر جاها وعظمة من المقصورة الملكية العظيمة التي توجد فوق المدخل الرئيسي. إنها تقوم على نخلتين ذهبيتين لهما علو طبيعي. إن الشارات مصنوعة من أوراق معدنية ذات لون خمري شاحب ، وحتى التــاج، ذلك الرمز المتقادم، لا يملك أي مظهر سخيف هناك'' إن الديكورات وحتى الأثاث في هذه المقصورات كانت تستعمل بصفة متكررة وذلك لإيصال أفكار حول مدى غنى ورتبة المالك الاجتماعية. لقــد أصبحت الحكومة في نابولي في القرن الثامن عشر مشغولة بهذا الاستعراض، وذلك لتفعيل قانــون إنفــاق المال الذي ينظم عدد الشموع المسموح بها في مقصورات المسرح حسب الرتبة الاجتماعية للمالــــك. ومن هنــا، تظهر الامكانيـــة الواضحة لخلق الدلالة من خلال هذا الحكم الذي ينعكس في التعبير الاحتقاري المتداول آنذاك بنابولي : ''إنه مجرد سيد ذي شمعة واحدة .

إن التنوع والتعقيد الموجودان في دلالة التصميم والديكور في البناية المسرحية كبيران جدا. إن المسارح تمنح أكثر من مرة، وعلى أعلى مستوى مباشر لجماهيرها، رسائل شفاهية معينة- علامات الخروج المفروضة من قبل قوانين السلامة في المسارح الحديثة، والاستشهادات الكلاسيكية أو أسماء الملوك أو الأبطال الثقافيين هذه الأسماء الموجودة فوق خشبة المسرح أمام المقصورات، والاستشهادات المرسومة على ستائر المشاهد في كثير من دور الاوبرا الأمريكية لأواخر القرن التاسع عشر. وفي ارتباط مع هذه الرسائل المكتوبة، نجد هناك رسوما ومنحوتات تمثل وجوها محط إعجاب أو رعاة الفن وقد أصبح وزن مثل هذه المرجعية الثقافية في بعض الحقب التاريخية طاغيا. لقد كان شارلز گارنيي يفتخر بإمكانية ملء كتاب كامل بالوجوه الاسطورية في أوبرا باريس الجديدة، موحيا أن ''كثرة الارتسامات التي تتدفق من المسرح الشعري قد يكملها الارتسام بالكثرة التي ''تنفجر'' من الهندسة المعمارية''. زيادة على هذا، فقد كانت هذه التفصيلات الغنية تتلاءم ورعاة الأوبرا العظيمة : ''إن ألماس ومجوهرات الواحدة منهم تعمل كصدى لرخام وزخرف الآخر''.

وعلى مستوى آخر للتضمن، فإن اختيار عناصر التصميم، ورسوم الديكور، وحتى الالوان، تظهر بعضا من الصور الفعلية أو الصورة المرغوب فيها من لدن أي مسرح. إن الاسهاب الدلالي المذهل في أوبرا گارني ساعدت على توثيق هذه البناية كخزان ثقافي كبير، ككنيسة لعبادة الفن الرفيع كما كانت تنظرإليها أوروبا أواخر القرن التاسع عشر. لقد كانت تجمع، على منوال كاتدرائية العصر الوسيط، وتعرض لكل الدروع الرمزية المرافقة لتاريخ وعرض مراسيمها التي أصبحت دنيوية. ويمكن أن نجد كل أنواع الاهتمامات الاجتماعية لذلك الوقت في تزيين المسارح. لقد تم إغلاق المسرح الفرنسي الوطني المعروف ''بمسرح الأمة'' لوقت وجيز سنة 1794 م حينما اعتقلت فرقته بتهمة التعاطف مع الملك. وحين تمت إعادة فتح المسرح تحت اسم جديد هو ''مسرح المواساة''، فقد تم تطهيره مظهريا من كل المرجعيات الارستوقراطية. فعوضت المقصورات القديمة والشرفات بدفعة ديمقراطية هائلة من المقاعد؛ كما حلت محل المقاعد الارسطوقراطية الخاصة بجنبات الركح تماثيل الحرية والمساواة كما تم إبدال تماثيل موليير بتماثيل نصفية لماراط (Marat)ولابطال ثوريين آخرين، وتمت صباغة الفريز المطلية بالذهب وأغصان الأكاليل المجصصة بالأحمر والأبيض والأزرق كما كان الشأن بالنسبة لقبة المسرح. وعند سقوط روبسبيير سنتين بعد ذلك تم ترميم المقصورات والشرفات. وعاد أبولو وآلهة الشعر (Muses) للقبة. وفي 1808م، عهد الامبراطور الجديد نابوليون أعيدت تسمية المسرح ''بمسرح الامبراطورة'' وبنيت شعارات مقصورة ملكية في موقع المقصورة الملكية السابقة، وطلعت شعارات في قاعات العرض حيث ظهرت قبل عشرين سنة الوردة الملكية (Lis) . هكذا، وبدقة متناهية، فقد عبرت أفعال عدة، كتغيير الاسم والترتيبات الفضائية والديكور عن التغيرات العظيمة التي طرأت على الساحة السياسية الفرنسية خلال سنوات الغليان.

ويمكن للتعبير الفضائي واختيار وترتيب عناصر الديكور أن تكشف عن عدد ضخم من المعلومات ليس حول نظرة المجتمع للمسرح فقط، بل حول كل أنواع الاهتمامات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إن هاتين المنطقتين من التحليل السميائي الممكن، أي الفضاء والديكور، تورطان بالطبع فصيلة محدودة من الجمهور -تلك الفصيلة التي تحضر فعليا إلى المسرح. أما المنطقتان الأخريان اللتان أريد ذكرهما فيورطان طرفا من الساكنة الحضرية أكبر بكثير من الأولى، حيث يمكن للمسرح أن يتحدث لساكن حضري وإن كان لم يحضر قط إلى المسرح. والأن نحول الاتجاه من سميائيات الهندسة المعمارية إلى ميدان ملتصق بها، رغم أن هذا الميدان لم يتطور بعد، وهو ميدان السميائيات الحضرية/ المدنية التي ترى المدينة ''نصا'' أنتجه الإنسان، ليتحدث عنه سكانها ويتحدث معهم ويتحرك من خلالهم ويراقبونه. ويتطرق هذا الميدان كذلك إلى أدوار المكونات الفردية، كالمسارح، داخل هذا النص.

لقــد تنبأ كينيث لينش في كتابه المدهش صورة المدينة ببعض اهتمامات ومقاربات هذا النوع من الدراسة. فقد عرض هذا الكتاب للطرق التي يبني من خلالها سكان مدينة ما محيطاتهم وينظمونها ذهنيا. لقد اقترح لينش خمسة أنواع من العناصر المستعملة ''لفهم'' النص الحضري: الممرات ، وهي الطرق المعروفة التي ينتقل السكان خلالها من جهة إلى أخرى داخل المدينة؛ والحافات، وهي تعمل كحواجز لممرات وكحدود غالبا بين نوعين من المناطق؛ وهناك الأحياء، وهي نسبيا مناطق كبيرة ذات مميزات عادية، كما أن هناك ملتقيات طرق حيث ينبغي للمسافرين أن يتخذوا قرارات الاختيار بين ممرات يتعاقب بعضها على بعض؛ وأخيرا هناك العلامات، وهي عناصر منفردة تستعمل للتوجيه.

ويطبق مقال رولان بارط ''برج إيفل'' (1965) استراتيجية مماثلة، وبعبارات سميائية، للعملية التي يفهم من خلالها الزائر برج ايفل والبانوراما التي تمتد تحت عينيه. فحسب تعبير بارط، يقوم هذا الزائر بفك شفرة هذا المشهد، مطبقا ''البنيوية'' دون معرفتها. ''إن باريس تعرض نفسها له كشيء مهيإ بالأساس لذكاء ذلك المشاهد. لكنه شيء يجب على الزائر أن يبنيه هو نفسه من خلال نشاط ذهني.'' ويسترسل بارط بقوله : إن الناظر يعطي هذه البانوراما اهتماما، ليس بسبب علاقات فزيائية فقط، بل كذلك لوجود علاقات وظيفية وضمنية.يقول :

فوق المحور القطبي الكبير وفي وضعية انحناء عمودية للوادي، تتكدس ثلاث مناطق واحدة فوق الأخرى، كما لو أنها جسد طويل ومنبطـــح، وكأنها وظائف للحياة الإنسانية؛ في القمة، وفي أسفل مونمارتر هناك المتعة؛ في الوسط، وحول الأوبرا، هناك المادية والأعمال والتجارة؛ وفي اتجاه القعر عند أسفل البانتيون، تجد المعـرفة والدراسة؛ عند اليمين وعند اليسار، هناك منطقتان ضخمتان للسكن تغطيان هذا الخط الحيوي وكأنهما غطاءان واقيـــان، واحدة سكنية والأخرى عمالية، وعلى مسافة منهما يوجد خطان غابويان وهما بولون وفانسن .

إن تقسيم بارط الذهني لباريس إلى أحياء رئيسية، مع حدود مميزة وواضحة، يتناسق جيدا ونظام لينش (Lynch) رغم أن بارط أكثر بنيوية وجشتالتي التوجه ملحا على عمليات الدلالة في التضاد، والتناوب، والتجاوز. إن كلا من بارط ولينش يدرسان كيف تتم القراءة والتمييز لدى سكان المدينة علما بأن كل حي يملك مجموعته الخاصة به من التضمينات المرتبطة. كلاهما يمنح اقتراحات محفزة من أجل تحليل المسارح التاريخية والمعاصرة في محيطها الحضري. ،من الواضح أن هذه المسارح التي تريد جلب انتباه وحماية الجمهور العام ستتموضع، كلما كان ذلك ممكنا، قرب نقط تقاطع مهمة وطول الممرات الأساسية، وربما قريبا من المعلمات البارزة. بيد أن المسرح المرتبط بشريحة، محددة من السكان سيوجد لا محالة في حي ملائم لتلك الشريحة إما لأن المسرح قد وضع في ذلك المكان عن قصد ليشارك إيحاءات ذلك الحي أو لأنه أصبح مرتبطا بحيه بعد أن تم تثبيته. إن السميائيات تشجعنا على أن نعير الاهتمام للإيحاءات المختلفة لنقطة تقاطع واحدة ولممر واحد، ولحي واحد في تقابله مع الأخر؛ وكذلك تشجعنا السميائيات على أن نتساءل حول المعاني الحضرية المتورطة في استعمال أي موقع خاص.

لقــد حظيت المسارح العمومية الاليزابيثية، على سبيل المثال بأهمية كبرى، وكان لكل مسرح على الأقل فكرة عامة حول إيحاءات تلك المواقع بالنسبة لسكان لندن الإليزابيثية. لقد كانت مناطق فينزبري فيلدز (Finsbury Fields) وبانكسايد (Bankside) مهمشة جغرافيا وكذا اجتماعيا وثقافيا، حيث كانت هذه المناطق مجاورة للمدينة ولكن لم تكن طرفا منها، ذلك أن حرية اعتبارها كذلك كان من قرار التاج البريطاني. لقد كان الحماة الذين يدخلون تلك المناطق يقطعون حدودا واضحة -سور المدينة أو الوادي- لدخول نوع من فضاء للعب يكون منعزلا، رمزيا وفيزيائيا، عن عالمهم المعهود، فضاء كان حقيرا ومثيرا في نفس الوقت، عاكسا بكيفية رائعة الوضعية الغامضة للمسرح في المجتمع الاليزابيثي.

وعلاوة على المرحلة الاليزابيثية، فقد أعطى المؤرخون اهتماما ضئيلا جدا للمحيط الحضري للمسارح التاريخية، أين كانت تتموقع؟ وما هي أنواع المؤسسات الأخرى، كالحانات والأبناك ودور الدعارة التي كانت تتموضع قربها؟ وأخيرا، ماذا يمكن لهذا الموقع ولجيارانه أن يقولوا لنا عن كيفية فهم المواطنين المنتمين لحقب تاريخية مختلفة للمسرح كشيء في النص الحضري؟ لنعتبر على سبيل المثال خريطة بارط الإيحائية للمناطق العامة لباريس، سنجد أن المسارح الكائنة داخل كل واحدة من هاته المناطق تشاطر، وبطريقة واضحة، شيئا من المعاني الضمنية للمنطقة ككل. هكذا، نجد أن حي ''المتعة'' بمونتمارتر يعطي التنوع والهزل (البورليسك ومسارح الحماقات الفرجوية (في أواخر القرن التاسع عشر، كان هذا الحي، إضافة إلى كونه بوهيميا فنيا بامتياز آنذاك، المقر المفضل للمسارح التجريبية الصغيرة كالمسرح الحر. إن منطقة ''المادية، والأعمال والتجارة'' عند بارط هي التي نجد فيها اليوم منازل الشارع والأوبيرا. وفي المنطقة التي يسميها منطقة ''المعرفة والدراسة''، نجد أن أهم مسرح هو الأوديون، فيما تختص الدار الوطنية بالأعمال الجديدة والأجنبية والتجريبية، بالإضافة إلى ثلة من المغامرات التجريبية والمصقولة ثقافيا.

وبما أن الاحترام الجماهيري للمسرح وللمنخرطين في هذا الفن قد تغير، فإن هذا قد انعكس بصدق على احترام الأماكن الحضرية. لقد كان يسمح في أوائل القرن السابع عشر للمسارح أن تتموضع داخل مدينة لندن ، لكن رتبتها الاجتماعية كانت دائما في الرتبة السفلى. إن المنطقة المجاورة للوادي والمعبد المشهور بالالساشية ، ربما كانت الحي الأكثر ظلاما في المدينة، كانت تحتوي على محكمة ساليزبري وحديقة دورست التي ستأتي فيما بعد (مع مدخل بواجهة الوادي ليتمكن الحماة من الطبقة العليا من الدخول دون المرور على الالساشية.

أما في القرن التاسع عشر، فلم تصبح المسارح منزوية في شوارع مظلمة وجانبية أو في جوارات تثير التساؤل، بل أصبحت بنايات عمومية غالبا في أرقى أقسام المدينة. وفي إعادة بناء باريس، استعمل بارون هاوسمان المسـارح في عدة مواقع كمميزات معلميــة لتحديــد نقط التقاطـــع في المدينة الجديدة، فتوجد الاوبيرا في مركز تصميمه، حيث تقترن هذه المنطقة من باريز بالبرجوازية الكبرى/العليا. فقد جمعت شوارعها الجديدة هذا المركز الثقافي بمعالم تمثل قيم مجتمعه : البنايات الثقافية والقصر الملكي، واللوفر وقوس النصر والبنايات الاجتماعية لمحطات القطار الجديدة، وبورصة القيم. لقد اختارت الحكومة الاشتراكية الفرنسية آنذاك موقعا لدار الأوبرا الجديدة المزمع بناؤها أيضا في تناغم مع ايديولوجيتها، وذلك تخليدا للذكرى المائتين للثورة الفرنسية. فقد اختارت الحكومة ساحة الباستي، مركز الحي السكني للطبقة الكادحة التي تكلم عنها بارط، وهي رمز الثورة ومظاهرات 1830، ومؤخرا نقطة لقاء المساندين الاشتراكيين لميتران.

كما شاطر مهندسو المدن العصرية هذه النظرة الحديثة رغم كونهم أقل وعيا أيديولوجيا في اهتماماتهم، ذلك أن المسرح لم يعد مركزا لتجمعات العناصر غير المرغوب فيها ولكن، على العكس من ذلك، أصبح المسرح وسيلة للرفع من مستوى المناطق المجاورة. ومن الواضح أن هذا الاهتمام قد ظهر في عملية انتقاء المناطق المخصصة للمسرح الوطني الجديد بلندن وبالنسبة لمركز لنكولن ولقد شهدت نيويورك مؤخرا صفا من المسارح المتواضعة بغرب الشارع 42 مساهمة بذلك في الرفع من مستوى هذه المنطقة. ولقد قدم أوغوستين دالي مثالا مهما لهذه العملية منذ قرن من الزمن في مشروع مسرح لندن سنة 1891. وفي أواسط القرن التاسع عشر، تحولت لندن الأنيقة نحو غرب تلك المنطقة، تاركة الحي الموجود بين ليستر سكويروسوهو في حالة كئيبة وفقيرة، يقطنه المهاجرون واللاجئون السياسيون الوافدون من القارة. وحينما قرر دالي وضع مسرحه في هذه المنطقة غير الواعدة، فقد رأى البعض أن هذا القرار لم يكن اختيارا فرضته الوضعية الاجتماعية السفلى للمسرح، ولكن، على العكس من هذا، كان خطوة جريئة في عملية طال انتظارها ضمن التجديد الحضري، لقد وجه اللوم لمقال الحكومة وملاكي العقارات في الحي على عدم تنقية هذا العار الحضري منذ زمان : ''ربما تترك للأمريكي فرصة العمل التي يجب أن يقوم بها الانجليزي. فحينما يتوصل أوغوستين دالي بمسرحه سينقى هذا الوحل في ظرف أربع وعشرين ساعة''. لقد اتضح أن هذا التنبؤ، طبعا، كان متفائلا شيئا ما، ولكن ليس هناك أي شك في أن تموقع مسرح دالي في هذه المنطقة قد أعطى تركيزا أكبر فيما يخص تطور وسط ما هو الآن الحي الرئيسي للمسرح بلندن.

إن الحركة الدياكرونية للمناطق المسرحية هي مظهر من الدراسات الحضرية التي يجب أن تكون موضوع دراسة بالنسبة لمؤرخي المسرح. لقد توقع دالي عن صواب، وربما يكون عن جشع أيضا، حركة الحي المسرحي بلندن وترسيخه في منطقة ليستر سكوير بدلا من مواقع منتشرة في شرق المدينة. تاريخيا لقد تطورت مدينتا لندن وباريس ببطئ نحو الغرب، مع حركة إلى الأمام نحو الاحياء الأكثر أناقة في تطور المدينة، تاركتين المناطق السكنية غير المرغوب فيها والمناطق الصناعية ناحية الشرق. هناك علاقة واضحة بين هذه الحركة وتلك الخاصة بالمواقع المسرحية الأنيقة. لم ير شرق لندن ولا غرب باريس تأسيس مثل هذه المسارح، بل رأت تلك المناطق ظهور منازل عرقية أو عمالية أكثر بساطة للترفيه مناسبة لإيحاءات تلك الجوارات لقد كان هذا النمط أوضح في مدينة نيويورك حيث أملت تخوم جزيرة مانهاطن توسعا أغلبه نحو الشمال، فتحركت المناطق السكنية الأنيقة تدريجيا نحو أعلى الجزيرة عندما كبرت المدينة. لقد تم تشييد الحديقة ودار الأوبرا آسطور بالاس وأكاديمية الموسيقى وأوبرا ميترو بوليتان في نقط تقاطع مهمة على طول ممر برودوي، وكلها قرب مناطق عمومية مفتوحة وأحياء سكنية أنيقة. ورسمت كل هذه الأحياء، وقت بنائها، الحد الشمالي ، وهذا هو الحد الأكثر ارستوقراطية للمسرح في المنطقة الترفيهية. وبالإضافة إلى تلك الحركة، تدهورت بانتظام المنزلة الاجتماعية للمسارح التي كانت أنيقة في يوم من الأيام، كمسرح الباوري، وذلك بحركة نيويورك الأنيقة نحو الشمال تاركة الجوار بعيدا خلفها.

أخيرا، يمكن أن ننتقل من دلالة موقع المسرح داخل المدينة إلى دلالة البناية نفسها كوحدة داخل النص الحضري. ومن الواضح أن المظهر الخارجي للمسرح وشكله وعناصر الديكور لا تزود مالكيه فقط بل المارة العابرين بمعلومات حول تنظيم معين وحول ما يقدمه المسرح، وفي أحوال كثيرة، حول المسرح داخل مجتمع معين. وحينما تم اختراع الأوبرا في أواخر عصر النهضة برهن مبتكروها عن إخلاص كبير للافتراضات الثقافية لعصرهم عوض التراجيديا الاغريقية الكلاسيكية التي كانوا يظنون أنهم يحيونها. ويظهر هذا التقابل جليا في المسارح الفيزيقية التي خلقت لعرض كل واحد من هذه العصور. يقابل هيجل في فصل من كتابه ايستطيقا الذي يتطرق فيه لما يمكن تسميته اليوم بسميائيات الهندسة المعمارية، الرمزية المعمارية للمعبد الاغريقي داخل الكنيسة الرومانسية. إن الأول '' مرح، ومفتوح إنه مكان ممتع للحواس في تواصل مباشر مع العالم الخارجي للطبيعة. ''بيد أن الأخير منفصل تماما عن الطبيعة الخارجية وعن كل الأشغال المسلية والاهتمامات الحياتية المحدودة، فهو مكان ''لاجتماع أشخاص قصد تركيز أعدادهم في منطقة واحدة منغلقة عن باقي العالم''.

إن التقابل الهندسي الرمزي الذي يجده هيچل في البنيات الدينية الكلاسيكية والرومانسية يشابه إلى حد كبير التقابل الرمزي بين البنيات المسرحية الكلاسيكية والنهضة. كانت المسارح الإغريقية ولو أنها أكثر إثارة من المعابد الاغريقية، منفتحة على الطبيعة وعلى العالم، بيد أن المسرح العصري التقليدي، منذ عصر النهضة فما قبل. قد أغلق إلى أقصى حد ذلك العالم بطريقة محكمة. وبالطبع، هناك ايحاءات اجتماعية مهمة في هذا التغيير. يناقش ريتشارد وأگن في كتابه Die Kunst und die revolution أنه خلال أواخر القرون الوسطى وعصر النهضة كان الفن يؤخذ كوسيلة للتسلية خاصة بالأغنياء والأقوياء.

هندسيا، يقع الإلحاح على هذه العملية بإدماج مسارح أميرية داخل المساكن الملكية كجواهر في قبعات مالكيها. ولا شيء في الواقع يمكن أن يكون أكثر تقابلا مع المسارح العمومية المفتوحة والضخمة في العصور الكلاسيكية كهذه القاعات الصغيرة والمنمقة والضخمة والمنغلقة حيث لا يمكن للجمهور العام الدخول إلاحينما يسمح الأمير بذلك، حيث تتجلى سيطرة هذا الزخير على صورة هذاالمسرح في كل جوانبه، في هندسته وديكوره، في موضعه الفزيائي داخل القصر، وفي شعار نبالته فوق قوس الركح، وفي مقصورته المؤثثة بسخاء والمطلة على مركز الركح، وفي منظور المشهد الذي يكشف عن كل شيء سوى عن المفعول التام للأفضلية الذي تتيحه تلك المقصورة.

وفي تقابل قاطع مع بنايات الجمهور العريض لليونان الكلاسيكية، نجد أن هذه المسارح كانت محجوبة تماما عن الكل باستثناء الأمير وضيوفه، وأنها لا تقدم للجمهور الفضولي ولو حائطا خارجيا معينا. هناك مثال مثير للانتباه يعطيه أحد أشهر المسارح الاميرية وهو ذلك المسرح الذي بناه الكاردينال ريشايوه في قصره بجوار اللوفر. لقد وضع مسرح قصر الكاردينال كما وضعت البناية التي تحتويه، ليعكس مجد مالكه تماما كالطريقة الموضوعة من قَبْلُ من قِبَلِ المسارح البلاطية بإيطاليا. لقد كان ريشليوه واعيا أشد الوعي بالاستعمالات الرمزية للهندسة المعمارية. لقد كان أحد اهتماماته المركزية كوزير، هو الاستقرار المتواصل للخلافة، ذلك أنه كان يتذكر جيدا المعاناة التي عرفتها فرنسا من قبل المعارضين المطالبين بالعرش في الماضي. هكذا، وبما أن ريشليوه كان يسعى لتقوية حقوق ولي العهد سياسيا، فقد أصر في وصيته فيما يخص قصره، الذي كان يأتي بعد اللوفر من حيث فخامته ضمن المساكن الباريزية، كان يسعى أن يكون دائما في ملكية الملك أو ولي العهد، وذلك كرمز معماري للخلافة.

وحينما أصبح مسرح الكردينال في أواخر القرن مقر الأوبرا الوطنية، بقي تحت سيطرة ساكن القصر معماريا وسياسيا. ولقد احترق هذا المسرح سنة 1763، وتم اقتراح بناء الأوبرا الجديدة كمسرح وطني في موضع أكثر عمومية، ومن الأفضل في مكان بعيد عن عمارات أخرى قابلة للاحتراق. لكن دوق أورليان رفض أن يتنازل عن طلبه التقليدي المعماري والسياسي لهذا المسرح. زيادة على هذا، فقد رفض الدوق عدةعروض كانت ستمكن من إبقاء المسرح داخل القصر، مع إعطاء هذا الأخير هوية معمارية خارجية، وبتضحية بالغة قصد الاستجابة للترتيبات الداخلية للمسرح وللقصر، لقد ألح الدوق على أن يطبق نفس المبدإ العام على البنايات الجديدة، كما كان الشأن بالنسبة للبنايات القديمة. فقد تم إدماج المسرح في جناح تم بناؤه بطريقة متوازنة مع جناح آخر يضم وحدات سكنية بطريقة مكنت من إظهار المسرح من الخارج كطرف من سكناه الخاصة. فسواء أتعلق الأمر بالأوبرا الوطنية أم لا، فلقد بقي هذا المسرح مسرحه ''هو''، من حيث تجليه للعيان لا من حيث فضاؤه.

إن مسارح القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر غير النشيطة التي كانت أكثر شيوعا في فرنسا وانجلترا من أي مكان آخر، أضحت بسيطة في هويتها الخارجية كقاعدة عامة، قابعة داخل أركان حضرية حالكة. إن التصاميم القديمة لمسرحي دراري لين وكوفنت گاردن تظهر هذين الأخرين وهما ممتلئان بطريقة غير مريحة وراء صفوف من المساكن الصغيرة تقريبا على كل الجوانب. ولا يمكن ولوج هذين المسرحين إلا من خلال ممرات بسيطة أو دروب ثانوية. ولقد أسست دور الأوبرا الموجودة في أوروبا القارية في القرن الثامن عشر فكرة مختلفة لمركز ممكن للمسرح في النص المعماري. إن دارأوبرا 1741 لفريديريك العظيم في برلين كانت أول مثال رئيسي للنمط الجديد، وموقعته في مكان منعزل في فضاء عمومي منفتح وكبير، كانت معروضة ومزخرفة من حيث واجهاتها الأربع. وانطلاقا من تلك اللحظة تم بسرعة تعويض فكرة دار الأوبرا كملك معماري خاص بالأمير إلى فكرة أن دار الأوبرا هي بناية ثقافية عمومية (رغم أن لها علاقات رمزية قوية مع الطبقات العليا). إن رعاة دور الأوبرا الجديدة هذه، في وقت ما لم تكن لهم أية رغبة في قبول عامة الشعب الحضري داخل هذه البنايات، لقد أرادوا بوضوح أن تبهر مسارحهم الشعب نفسه، وأن تقترح علاقة بين عظمة معمارها وبين المنجز الثقافي ومجد المدينة، والدولة، والحاكمين. ومن هنا كانت المسارح العمومية بمثابة معلمة كما جاء على لسان لينش، ومساعدا في تحديد الخريطة الذهنية للمدينة كما تفعل أوبرا باريس بوضوح هكذا، فقد كان لدار الأوبرا العمومية أو المسرح خلال القرن التاسع عشر، في ضخامتها وعزلتها المعمارية، علاقات مهمة مع بنايات أخرى كالمتاحف العمومية الكبيرة لتلك المنطقة أو أقواس النصر للمرحلة الكلاسيكية.

إن المركز الذي تحتله مثل هذه البنايات في النص الحضري يتقابل بحدة مع ذاك الذي يؤسس من لدن المسارح التجارية الأكثر التزاما في نفس الحقبة تقريبا. لقد التحقت هذه الأخيرة (أي المسارح التجارية) بعالم التجارة معماريا وفضائيا، حيث ظهرت بكل بساطة في شكلها النموذجي كبناية مختلفة في صف واجهة معاصرة لمشهد بشارع حضري. إن التعبير الفرنسي ''مسرح الشارع'' يعكس بوضوح هذا النوع من التمفصل الحضري. لا يعرض إلا حائط واحد لسكان المدينة، وهي واجهة زخرفية تأخذ مكانها ضمن سلسلة من واجهات متجاورة أخرى تكون جهة واحدة من زقاق أو شارع عصري. لقد تطور هذا الترتيب المعماري في أوائل الحقب العصرية أساسا لخدمة متطلبات المتاجر. يتحرك الزبون المحتمل على طول شارع تجاري كما تحرك من قبل على طول صفوف من الاكشاك والاصطبلات في سوق العصر الوسيط أو في أسواق الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، مرورا بسلسلة من البضائع المعروضة للبيع.

لقد التحق المسرح بهذا العالم التجاري على حساب التواء معماري هام. إن أهمية امتلاك واجهة جذابة على الشارع التجاري تجعل من تلك الواجهة باهضة الثمن. هكذا، تشجع هذه الوضعية السير في اتجاه عمارات ضيقة وعالية، وترتيبات ملائمة للمتاجر ولكنها غير ملائمة للمسارح بتاتا، خصوصا بالنسبة للمسارح التي تهدف إلى جلب جمهور عريض سيدفع أكثر لاحراز مقاعد ملائمة أمام الركح. فكانت النتيجة دائما واجهة لا علاقة لها البتة بشكل أو بنية المسرح التجاري التي تكون، دون شك ، مختبئة وراء عمارات مجاورة. وحتى نسق النوافذ والأبواب، حين توجد، يكون زخرفيا إلى حد كبير، ويعطي معلومات قليلة عن الاستعمال الفعلي للبناية. على أي حال، كل هذا يجعل، احتمالا، واجهة الشارع موضوعا ذا أهمية بالغة بالنسبة للتحليل السميائي، ذلك أن هذه الواجهة تشتغل أساسا باعتبارها رافدا للمعلومات وتقدم صورة عمومية، خاصة للمواطنين الذين يمرون من هناك.

لقد كان الديكور الخارجي للمسارح، كما هو الشأن بالنسبة للديكور الداخلي، يفضل دائما فكرة العصر حول الموضة الرفيعة - الكلاسيكية الجديدة في أوائل القرن التاسع عشر، ونمط المانصارد والباروكي الجديد نحو نهاية نفس القرن، والخطوط المكتسحة النظيفة للحداثة وفن الديكور في أوائل قرننا هذا. لقد كانت الأعمدة الاغريقية الكلاسيكية والمقصورات والاعمدة دائما شعبية، لا لعلاقتها بالمسرح الاغريقي الذي كان فعلا لا يستعمل هذه العناصر كثيرا، بل لأنها توحي بإنجاز كلاسيكي واحترام جمالي تقدم الشفرات المعمارية، الايكونوغرافية منها والفضائية، أحسن الادوات العامة لتحليل واجهات المسرح، لكن لا يمكنها بأي وجه من الأوجه أن تستنفذ معجميا مثل هذه المظاهر الخارجية. لقد تمت محاولة نقش كلمة ''للشعب'' فوق أبواب ''مسرح المساواة'' المرمم سنة 1793 وتمثال إلاهة المساواة ضمن هذه الأبواب، ذلك لكي ترسل نفس الرسائل للمواطنين المارين كما فعلت الترتيبات الديمقراطية للمقاعد والرايات ذات الألوان الثلاثية في الداخل. إن الطرق المختلفة التي يتم بها الاعلان عن الانتاج داخل المسرح على الواجهة تقدم كذلك منطقة غنية للتحليل.

إن معجم الواجهات المسرحية يتغير، ليس تاريخيا فقط، بل جغرافيا كذلك. لقد وجد زائر إنجليزي لنيويورك سنة1867 صعوبة في التعرف على المسارح، لأن مظهرها كان مختلفا تماما عن نظائرها الأوربية. ''إن المسارح الامريكية، مع بعض الاسثناءات، لا تتميز عن باقي المنازل المحيطة بها إلى أن يكشف لك وضع مقرب جدا الاسم، والأضواء، والمعدات الخارجية الأخرى عن مكان تسلية؛ ذلك لأنه توجد على جانبي المدخل الواسع، عادة، متاجر ومقاهي، وفوقه شبابيك فندق أو متجر للتقسيط'' .

توحي ملاحظات من هذا النوع بعدة أسئلة. ماهي وسائل الكشف عن هوية المسارح في دول مختلفة وحقب تاريخية مختلفة وماذا يكشف لنا التقاء هذه الوسائل عوض أخرى عن هذه المسارح؟ كيف يعرف سكان مدينة ما أن بناية معينة هي مسرح وليست بنكا أو فندقا؟ إلى أي حد تشترك المسارح في معجم معماري يسمح بربطها ببنايات أخرى عمومية أو خاصة؟ وبماذا تشي لنا هذه العلاقة المستوحاة من أهداف وتطلعات هذا المسرح ؟

في السنوات الأخيرة، تم توسيع اهتمامات تاريخ المسـرح بطريقة مسترسلة لتبدأ في الأخذ بعين الاعتبار النمط الاجتماعي والثقافي والاقتصادي التام، الذي يعتبر المسرح جزءا منه. إن الربح في فهم المسرح والممثل والحدث الممثل الآن قد تم إغناؤه من خلال هذا المنظور العريض. ومع ذلك، فحينما تتحـدث عن البنايات المسرحية فإننا نفعل ذلك من خلال خطاب تقليدي في البحث المسرحي حيث نسطر مسائل عدة كبروز المسرح الإيطالي الخصائص وتعاقب انحدارات وارتفاعات ثروات المداخيل المسرحية، وتقدم المسرح الخداعي في القرن التاسع عشر، مقيدين أنفسنا بعرض متسلسل لأحداث موضات مسرحية مغرية ونزوية... في شكل من الأشكال كظاهرة اجتماعية منعزلة تماما. ونادرا ما يتم التحري في أسئلة تهم المسرح كشيء مشيد خلال حقب ومواقع مختلفة -كيف ترتبط المسارح معماريا ببنايات أخرى من نفس الحقبة، ولماذا تستعمل هذه المسارح معجما خاصا في الزخرفة وأين تتموقع في المدينة وماذا يتضمن هذا الموقع، وكيف ترتبط بأجزاء أخرى من النص الحضري، أو كيف يضطلع نفس المسرح بعلاقات في حقب تاريخية مختلفة والمنطقة الحضرية حوله تتغير؟ يجب السعي وراء أسئلة كهذه، يمكن من خلالها أن تمدنا السميائيات المعمارية والحضرية بنماذج بحث أولية على الأقل، وأن تمنحنا تبصرات جديدة في المسرح لا كظاهرة اجتماعية منعزلة ولكن كجزء من البنية الغنية للمجتمع الإنساني.

 

 

 

موارد نصيــة

مجلة إسـراف 2000

العدد 16 - 2001

المحتــوى

التمثيل في الرواية العربية: عبد الله إبراهيـم

النص التاريخي والتأويل: إبراهيم القادري بوتشيش

نظرات على المعجم الموحـد: أحمد الفوحي

محور العدد: السميائيات: الموضوع والاتجاهات

حول مبادئ سيميائية: محمد مفتـاح

مفهوم القيمة في السيميوطيقا السردية: عبد المجيد النوسي

السميائيات وموضوعها: سعيد بنگراد

السيميوطيقا والتواصل: محمد الولي

سيميولوجيا الصورة الفوتوغرافية: عبد الرحيم كمـال

قضايا السيميولوجيا المسرحية: باتريس بافيس - ترجمة: محمد العماري

قضايا الدليل الفلسفية: أمبرتو إيكو - ترجمة: حسن الطالب

سميائيات البنيات المسرحية: مارلن كارلسن - ترجمة: عبد الله مالكي

قراءة في كتاب «الصورة والبناء في المراثي الجاهلية»: عبد الله الهمـس

ربيع عبد الرحمن اليوسفي: جعفر عاقيل

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.