نقدم في هذه الورقة قراءة لصورة تنتمي إلى جنس الفوتوغرافيا
الصحافية. إن ما يبرر اختيارنا
لهذا المتن يكمن في الأسباب التالية :
- إن الموضوع المصور علامة بارزة في الحياة السياسية
واليومية بالمغرب
- إن المصوِر نموذج للفوتوغرافي الصحافي المغربي المعاصر
- إن جزءآ من القراء/المشاهدين
لهذه المادة الفوتوغرافية الصحافية هم جمهور مغربي.
- كون هذاالجنس الفوتوغرافي ما يزال يبحث لنفسه عن موقع له
في المشهد الإعلامي والثقافي بالمغرب.
المتن
يمثل المتن/الصورة الذي
نحاول قراءته مشهدا وسطا Plan moyen عموديا للوزير الأول وهو ينتفع بلحظة استرخاء بإحدى حدائق
مدينة الرباط كما يقر ذلك التعليق المرافق للصورة. ويظهر الوزير الأول ببزة وربطة عنق ويحمل في يده اليسرى جريدة
أو جرائد. كما تظهره الصورة
يخطو خطوات بطيئة على بساط من عشب وهو مغمض العينين. وللتذكير فقط، فإن الصورة من توقيع عبد الحق السنا، عن وكالة
فرانس بريس، ومأخوذة من مقال يحمل عنوان" ربيع الرباط" لمؤلفه
زياد ليمام وهومنشور بمجلة Afrique
Magazine الصادرة بتاريخ يوليوز/غشت 1989 عدد 155
قراءة في عناصرالصورة
لعل أول ما يشد بصر القارئ/المشاهد
إلى هذه الصورة هوالتأطير. إذ
جرت العادة أن نشاهد بورتريهات الأنتيليجنسيا المغربية في وِضعات
تظهر فيها أجسادهم ووجوههم محنطة. غيرأن الأمر هنا مختلف كليا : إننا أمام لغة فوتوغرافية تقاوم التنميط وتناهض الكليشيهات،
لغة تعلن عن فوتوغرافية صحافية جديدة وذلك من خلال العناصرالتالية :
- الحيز الذي خصص للموضوع في مجال الصورة : مشهد وسط عمودي من زاوية نظر
أمامية، تموقع الموضوع في المستوى الأول للصورة، غياب كل
عناصرالتشويش على الموضوع المصور، وأخيرا التركيب المنسجم للألوان.
- الحركة التي تولدها مختلف أحجام وأشكال النور الساقطة
على جسد الموضوع : خطوط مائلة
وأفقية وعمودية.
- توظيف فضاء طبيعي ومفتوح.
- إبراز الموضوع كجسد هادئ، يتحرك نحوالمشاهد بعينين
مغمضتين وعلى إيقاع خطوات بطيئة.
- التعليق الذي يرافق الصورة
: " الوزير الأول الجديد بإحدى حدائق مدينة الرباط ".
كل هذه العناصر تجذب إليها عين المشاهد وتستفزها. أليست رهانات الفوتوغرافي الصحافي هو أن يوازي بين إثارة
الفرجة وصنع الخبر/الحدث؟ هذا
ما تؤكده، على الأقل، سلسلة التقابلات التالية بين الإساليات
اللسانية والإرساليات الأيقونية :
الإرسالية اللسانية الإرسالية الأيقونية
-الوزير الأول الجديد - توظيف تأطير حديث ، لباس غير رسمي : لون ربطة العنق وشكلها ،- شكل البزة ولونها
-ينتفع بلحظة استرخاء - وحدة في مجال الصورة، خارج فضاء المكتوب وهم الملفات - حالة تأمل في الذات أو على
الأصح نظر موجه نحو الذات -
جريدة باليد اليسرى
-بإحدى حدائق الرباط - فضاء عمومي مفتوح، أشجار، عشب، هواء نقي
-ربيع الرباط - هيمنة
اللون الأخضر على الصورة
بناء على هذه المفاتيح التي يمكن أن نشبهها بقطع لعبة البوزل،
تتشكل في ذهن المشاهد شيئا فشيئا ملامح صورة عبد الرحمن اليوسفي
المناضل، الرمزالوطني، الإنسان العصري والقائد السياسي. وهو في لحظة اختلاء أوتأمل في الذات. لكن، بماذا يمكن أن ننعت هذه اللحظة : هل هي عزلة الحيرة ؟ أم عزلة
الرجال العظام ؟ أم هي لحظة استرخاء ؟ علما بأن كلمة détente تأخذ في المعجم الفرنسي Petit Robert المعاني التالية : إنها لحظة استراحة بعد توتر
فكري وذهني وعصبي، وهي أيضا اطمئنان البال وراحة الذهن، وهي أخيرا
انفراج سياسي. فما هو المعنى
الذي تريد أن تحدثنا عنه هذه الصورة ؟ مهما تعددت القراءات
والتأويلات، تبقى الصورة التي تمثل بورتريه عبد الرحمن اليوسفي صورة
ذات دلالة ، لأن في توظيف فضاء طبيعي وعمومي ومفتوح أكثرمن إشارة
إيحائية إلى أننا أمام فضاء جديد ونقي وصاف. وباختصار فضاء إيكولوجي يفوح بالنضارة والنداوة ( أثرالعشب على جذاء الموضوع
المصَور ) وأمام إنسان ينتمي
إلى الحياة العامة.
إن هذه الملاحظات تدفعنا إلى التأمل في الفوتوغرافيا باعتبارها
أداة للتواصل والتأمل في الأدوار المختلفة التي تلعبها في الصحافة. وبمعنى آخر هل هي أداة تقدم شهادة حية عن الواقع ؟ أم أنها
أداة تعيد صنع الواقع من جديد ؟ ؟ بل كيف توهم المشاهد وتخلق عنده
الإحساس بأن ذلك الشيء المصوَّر هو جزء من الواقع ؟
لنتأمل مرة أخرى هذا الفضاء الحيوي والزمن الطبيعي، ولنتأمل معهما
عنوان المقال " ربيع الرباط". ألا تحتوي في طياته الاستعارات المتكررة ( هيمنة اللون الأخضر على مساحة
الصورة، حديقة، ربيع ) على
إشارات إيحائية إلى فصل الربيع وإلى عالم الصور الجميلة والحالة التي
يتركها في ذهن المشاهد من قبيل الصفاء والخصوبة والولادة والتفتح ثم
التغيير. ثم إن هذه الكثافة
وهذا التعضيض في الاستعارات ألا يحيلان ثانية على أحداث وشمت التاريخ
السياسي الدولي المعاصر : ربيع
براغ ( 1968) وربيع ساحة
تاننمين ( 1989)، مع كل ما
تحمله هذه المحطات التاريخة من دلالات بارزة عن تاريخ نضالات الشعوب
من أجل التحرر والديموقراطية والعدالة وتشييد مجتمع تحترم فيه كرامة
الإنسان. إن بعث هذه الذاكرة
التاريخية من تحت الرماد من قبل كاتب المقال وتوظيفها من جديد في
سياق تحولات سياسية وتاريخية ثم تحيينها صحافيا، يطرح هنا والآن
أكثرمن سؤال ... ربما نجد
الجواب بعد فك سر العينين المغمضتين وإيقاع الخطوات التي اختاره
اليوسفي وهو يتقدم نحونا.
|