عبد الله الهمس

تماسك الصورة بالبناء في كتاب

''الصورة والبناء في المراثي الجاهلية'' (1)

 

الكتاب في أصله مخصص للبحث في مسألة نقدية فنية شائكة، أخذت من جهد النقاد المعاصرين واهتمامهم ابتداء من النصف الثاني من هذا القرن ما هو معلوم لدى كل مشتغل ببلاغة الخطاب وعلم النص؛ ونعني بذلك قضية الصورة الفنية وما تفرع عنها من فروع أضحت محل منازعة وجدال وسجال بين النقاد، وهي ما تزال كذلك إلى يومنا هذا، وستظل على ذلك الحال ما دامت المسألة متصلة بالتأويل، ملتصقة بحقل النظر الذي سيكتب به الاستمرار بعيدا عن التجريب الذي يحد من مفعولها إن لم يسلمها إلى التوقف النهائي.

ولعل الباحث كان على وعي تام بخطورة ما أقدم عليه في ناحيتين اثنتين : الأولى تفسير مصطلح الصورة إجمالا؛ وفيه يحرص الحرص الشديد على تحديد مكونات الصورة باعتبارها منتجة للجمال الفني والمعنى الطريف في الآن معا، لمن فصل بين الحقلين فاعتبر أن الوظيفة المعنوية هي تالية للوظيفة الجمالية التي تأخذ صفاتها المؤثرة من تجاوزالألفاظ الشعرية والتحامها مع بعضها البعض، أكانت مؤلفة تأليفات أصيلة أم كانت مؤلفة من تأليفات مخالفة لذلك غير مألوفة ممثلة في التقديم والتأخير وإن عد من أسمى التأليف لخروجه عن المألوف المعتاد الذي تتقوى به المدلولات تبعا لما تحمله من قوة الائتلاف وشبهه على نحو ما هو مقرر في بابه.

ولتأكيد ذلك الازدواج الوظيفي كان الباحث مضطرا إلى الغوص في وسائل الأداء الشعري من جهة والابحار في عالم التجربة الشعرية العميق كي يستخرج أمثلة ونماذج يقوي بها مذهبه في الفهم، ويدحض فهم غيره، والأمران معا حتما على المؤلف توسيع مجال النظر في حقل المصطلح، وقد حدده في المحددات الثلاثة الكبرى التالية :

أ- الصورة ميراث وإبداع (2)، وفيه يعمق الاستفهام في الصورة الممكنة أو المختارة أو الفنية انطلاقا من عرض ومخاطبة جملة صيغ تعريفية تفسيرية كانت قد أعطيت لها أو ألصقت بها لداع من الدواعي بهدف ضبط تجاور وتآزر الألفاظ التي هيأت له لحظات التأمل وقربته من أجواء التحليل، ومكنته من عناصر التعليل واستخلاص النتائج الفعلية وفق ما هو كائن محقق بالفعل، مسلم به من غير شطط أو سقوط في التأويل المجحف المفرط الذي يؤدي إلى توسيع قاعدة الخلاف بين الملقي (الباث) والمتلقي (المستقبل (3) بدل حصره فيما يغني الجواب المتولد عن نمو السؤال الناتج عن وعي المخاطب واسترجاعه الذهني المتحول بتحول حقيقة القضايا، وتجدد الأفضية تبعا للتطور الحاصل على الدوام في الأفضية والعلوم الإنسانية بوجه عام.

ولعل من صور التقليل من الظاهرة الأخيرة، القول بعمومية الصورة لتشمل مختلف مجالات الإنسان، والشعور، والوجدان، والطبيعة (4)، وحصر مدارها التفاعل مع المرئيات والمتخيلات زمن الإبداع بعامة، والشعري منه بخاصة الذي يكون المبدع فيه مضطرا إلى ابتكار لغة جديدة قادرة على تفجير الإحساس، ونسق الشعور وتوصيله إلى الخارج على هيأة مخالفة لما هو معتاد في الواقع بالرغم من استنادها على جزئيات ابتدائية معلومة يستوي في إدراكها المبدع (الشاعر) وغيره، وتوسيع مجال روافدها لتدخل فيه أمور كثيرة من بينها :

1- التجارب الخاصة والعامة المترسبة في ذاكرة المبدع من خلال المؤثر اليومي (5)

2- المشاهد اليومية التي تتغذى بها الحواس (6)

3- الشعور الوجداني الغامض في أصله (7)

4-الخيال المؤلف أو المركب (8)

5- الزمن بأقسامه (9)

وهذا التوسع في الروافد كان ضرورة وراءها الكشف عن الوظيفة لاحقا لما بينهما من تلازم تام ظاهر (10) نتج عنه الخوض في أنواع الصورة والمفاضلة بين صفاتها اعتمادا على التعمق في النص وتقديمه كأمثلة لتقوية عملية الفهم التي يفترض فيها الاستجابة للمطلوب، وإقناع المتلقي.

ب- تجذر الصورة في النفس الإنسانية منذ القديم (11) التي يتمثلها سرمدية ثابتة في الفكر الإنساني برغم اختلاف البيئات، ودرجة الوعي. فهو يراها في الآثار الباقية الجامدة، مثلما يراها في الطبيعة الحية والميتة على السواء. ومن خلال تمثله لتجربة الموت كما تصورها الشعراء القدامى، نراه يتدخل في توجيه الصور بعد أن يقوم بتجميع مختلف العناصر المكونة لها من غير تفضيل لإحداها على الأخرى ما دامت وظيفتها واحدة ومرماها محددا في التنفيس عن الذات الهائمة بعد انقطاع سبل الرجاء.

ج- التوسع في جلب الصور. فالباحث في الكتاب يقف على سيل هائل من الصور المستخلصة من مجموع مناحي البيئة القديمة الجاهلية بواسطة الاستقراء والاستقصاء والاستنباط فهو قد تمثلها في مصيبة الموت وما يصحبها من طقوس الرثاء والتعزية والحزن، مثلما تمثلها في الماء العذب السلسبيل وما يسببه من نماء وخصب ودمار (12)، ثم في الحكاية الشعبية وما تهدف إليه من وعظ (13) وتنفيس عن الذات المكلومة حتى تنتقص من طلب اللذات، وتتزود بما هو أنفع لها بعد الحياة المادية الفانية، وتعقبها لدى الحيوان في الطبيعة الصحراوية الجافة وهي تصارع القدر المحتوم تحت ضغط عجلات الدهر القوية الذي أوقعها في ردود أفعال عجيبة من جهة وطريفة في أخرى نسجت حولها الذاكرة الشعبية أساطير وقصصا ما تزال محل نظر وتأويل لدى المهتمين بالشأن الجاهلي بعامة والمسألة الشعرية بخاصة.

إن هذه العناصر التي يتداخل فيها الطبيعي الجاف بالإنساني الحي هي المعادل الموضوعي لجلال الموت الذي من دلالته الظاهرة الهدم والتخريب والتدمير وسواها من الآثار التي تعد من بقايا الخلفية الفكرية لإدارة الحياة لدى المتحمسين لها الذين استفاقوا على تقلب الزمن وبطش الدهر وغلبه القدر، والمعدودة على الدوام من القوة الخارقة لما تمثله من تحد للمخلوقات جميعها مهما كان توعها وجنسها.

والباحث قد تتبع خلفيات ذلك الشعور ثم سعى إلى تقريب صوره الحسية وغير الحسية التي تتخذ عنده أشكالا مغايرة بحسب تغير الجنس الصادرة عنه، لا فرق في ذلك بين الأدمي وبين الحيواني اللذين ألفت بهما الألفة بعيدا جعلت منهما موضوعا للاستئناس مرة، ومثالا للتشبيه وحسن الأمثولة مرة أخرى حسبما نتمثله بينا في القسم المخصص للحمار الوحشي الذي يقترن اقترانا كليا بالذاكرة الشعبية إلى درجة يضحي معها مرجعا لالتقاط الصور التي يمتزج فيها المجاز بالحقيقة، والواقع بالخيال المفرط حسب طول الصور أو قصرها التي تعكس بعض ما يعانيه الشعراء في حياتهم قبل أن تعكس واقع حال المخلوقات العجماء في حال النظر إليها من زاوية الرفض أو القبول.

وأما الثانية فهي تفسير بناء قصيدة الرثاء، وهذا القسم (14) يمكن عده القسم التطبيقي للفرع النظري المتقدم الذي هو في الآن نفسه امتداد للمشروع الذي بدأه في كتابه الأول ''عناصر الوحدة والربط في الشعر الجاهلي'' (15) ذلك أن الباحث قد استكمل فيه دفاعه أو كاد عن مسألة الوحدة العضوية والموضوعية التي نشأ حولها نقاش انتهى إلى حد الخصام بين أنصار القديم والجديد، من خلال النظر الدقيق في مختلف عناصر الوحدة والربط لبناء القصيدة بعامة من غير تحديد لنوعيتها. وهذا الأمر يرجحه عندنا جملة إشارات من أهمها :

1-إعادة النظر في مصيبة الموت التي يسميها مشكلة (16) وكيف أمكنه تتبع قصتها اعتمادا على التيمات الظاهرة والخفية الواردة في مختلف النصوص الشعرية الجاهلية.

2- الوقوف الطويل أمام غرض الرثاء الذي ذكر بقيمته، وحدد مكانته، وعدد أقسامه وأنواع (17)، وأخيرا بأبعاده الميثولوجية، وبالمراسيم والطقوس التي صاحبت العقلية العربية أيام الجاهلية.

3- التركيز على موضوع الصورة انطلاقا من قصيدة الرثاء (18)، وفيه يتعمق الغرض الشعري على عادته في ذلك ليخرج منه قسمين كبيرين مختلفين تمام المخالفة أضفى على الأول منهما صفة (الرثاء التصريحي) (19)، وأما الثاني فأسماه (الرثاء الضمني) (20)، لمخالفة خصائصه خصائص النوع الأول.

4- التأكيد على سكونية الماضوية المتجددة التي تتصدر مقدمات غرض الرثاء (21) بخاصة الذي يكسبه صفة الديمومة تبعا لدوام نسل الإنسان في أرض الله.

5- العودة إلى تفسير بعض معاني الطلل ولو بشكل مقتضب (22) كان قد ادخرها قبل لحاجة كنها في نفسه أو عنت له لاحقا فتعمد إثارتها من جديد لنكتة أدبية خالصة هو أحق ببيان خلفياتها.

6- التكثير من ترداد مصطلح (البناء) الذي يعني عند الباحث الهيكل العام لقصيدة الرثاء، وإن لم يباشر منه سوى بعض عناصره كالمقدمة النسبية والغزلية التي اتخذها للبحث في صورة الرثاء الضمني الذي جلاه من مختلف النصوص الشعرية القديمة (23).

فالإشارات المتقدمة مجتمعة تكون الإطار الذهني للشاعر الذي كان محكوما بتقاليد شعرية موروثة هي ترجمة للوعي الشعري الذي تنامت مقاصده بتنامي قدرة الشاعر على إحكام الربط بين الصور الحسية وبين الصور المتخيلة المخترعة التي تلعب فيها اللغة الدور الحاسم في تجلية حدود التجربة الشعرية وخلفياتها ومكوناتها الفكرية، وتتجاوز قيم الرثاء التي سادت النظرية الشعرية العربية القديمة إلى البحث في مسألة الخلق وشروط الإبداع.

ويدخل في هذا الباب المناقشة التي ساقها المؤلف حول البناء الموضوعي للمرثية حيث تدخل ضمن عمود الشعر المتوارث الذي اعتبره قيدا شكليا، وأساسا نمطيا لم يمنع من التحليق بعيدا في سماء الإبداع الشعري مثلما يسمح بالتعبير عن التجارب الشخصية خلافا لمن قال بخلاف ذلك فاعتبر أنه عائق كبير يقيد الشعراء، ويحد من حرية التعبير عن التجارب الفردانية والعواطف والمشاكل الحياتية.

وهذا الانتصار لعمود الشعر ووحدة القصيدة ألزمه النظر من جديد (24) في ظاهرة المقدمات التي تتصدر القصيدة التقليدية. ولعل من أقوى الحجج لديه في هذه المسألة هي كون أصحاب البصر بالشعر لم يشعروا بتمزق القصيدة، خلافا لما توهمه بعض المتوهمين المتأخرين -فأحسوا أنها تشبه جسم الإنسان في تناسقه من حيث وحدة الشعور الجاري في كل عناصرها من الافتتاح إلى الإختتام الذي حرص الشاعر حرصا على تنميته وفق رؤيته المستخلصة من الميراث الشعري، المستندة على الذوق العام الذي كان يشترط في الرثاء تقنيات وآليات وشروطا ما كان للشاعر حق في أن يتجاوزها مهما بلغت درجة التمرد لديه، ومنها عدم السماح له بايراد الغزل أو النسيب لتناقضها مع الحالة النفسية.

وحين كانت قصيدة الرثاء خاضعة لبعض القيم الموروثة الثانية (25)، حاملة في أحشائها مواضيع أمست محل نزاع العلماء بالشعر، رأينا الباحث يتتبع مختلف الأقوال مع بيان خلفياتها الفنية والفكرية ثم يتبنى منها ما وافق مذهبه الذي غالبا ما يستند فيه على العادة الشعرية الجاهلية لا سيما إذا تعلق الأمر بمقدمات قيل عنها إنها لا تمت بصلة للموضوع الأساس.

والباحث في تلك المناقشات التي ساقها في مقام الرد على الذين عابوا تعدد الأغراض داخل قصيدة الرثاء يجدها تجنح إلى حقلين اثنين، الأول منهما فني ويتمثل في القوالب الشكلية كوسائل الأداء المتعارف عليها منذ نشوء فن الرثاء، والثاني موضوعي، وفيه يتعمد الفصل بين الأغراض التقليدية التي أريد لها أن تتآلف وتتجاور لبواعث أسلوبية أو تحفيزية حتى تقصد عمق فكر ووجدان المتلقي الذي يرغم على الانصات، ويحفز على خلق شروط التواصل التي من آثارها ما تضمنه قول ابن قتيبة (فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد) (26) .

فالأساليب والتعديل بين الأقسام يعدان من قيم الشاعرية، ومن صفات الشعرية في الآن معا، مثلما يعتبران من معيار الجهاز المفاهيمي المعتمد حين إرادة التمييز بين مستويات الشعر وبين طبقات الشعراء حسبما هو جلي في الدلالات الرامزة المتضمنة في بعض النصوص. (27) ومن بينها (السبب) و (الميل) و (الاستداء) التي تصب جميعها في اتجاه إحكام الصلة بالمتلقي. مهما كان مستواه الطبقي، لأن النفس الإنسانية جبلت على طلب الحقوق، والاستئناس بما يخفف المتاعب.

ولما كان العلماء بالشعر قد انشغلوا كثيرا بقصيدة المديح أكثر من انشغالهم بقصيدة الرثاء لسبب أو أسباب لا ندري عنها شيئا، فإن الباحث المؤلف قد سعى إلى استدراك بعض من ذلك حين خاض في الأمر فقسم المراثي إلى ثلاثة أضرب كبرى هي (28).

1- الضرب الأول يعرف بقصائده، وبمقطعاته القصار، ومن خصائصها البارزة قوة العواطف، وإظهار أحاسيس الحزن تجاه المرثي، فضلا عن وحدة الموضوع.

2- الضرب الثاني يعرف بقصائده الطوال فحسب وفيه يكتفي الشاعر بالرثاء دون سواه ولا يتعرض للمواضيع الأخرى، علاوة على التخلي عن المقدمات التمهيدية التي تكون على حساب التأمل في الحياة، وضرب الأمثال لأجل إقناع المتلقي بأخذ العبرة والتعزي بمصائب الآخرين وهذا الاستطراد الذي يلحق بالمقدمات التمهيدية ليس به كبير أثر على الوحدة الموضوعية للقصيدة في رأي الباحث خلافا لأنصار الوحدة، ما دامت وحدة التجربة النفسية والشعورية والانفعالية قائمة في النص الشعري.

3- الضرب الثالث يعرف بقصائده الطوال مثل سابقه الضرب الثاني غير أنه لا يختص بالرثاء فحسب، بل يضيف إليه أغراضا أخرى كالفخر والهجاء وما افتتحت به من مقدمات تمهيدية في أحايين كثيرة ثم يحصر إطارها في أربع خصائص كبرى بارزة هي : (29)

أ- الابتداء بالحكمة وحتمية الموت.

ب - الابتداء بالغزل وبكاء الأطلال

ج - الابتداء بطلب السقيا واستعمال جملة (لا تبعد)

د - الابتداء بالحزن وذكر السهر والدموع أو بتحية المرثي ثم التأبين.

ومهما اختلفت بناء الأضرب المتقدمة فهي تشترك في أسلوبين بارزين يشكلان الطريقة الشائعة أو الاتجاه السائد وقتئد، أولهما : إظهار الحزن والجزع والبكاء والتأبين الذي يهتم اهتماما بتعداد المناقب وذكر الصفات الحميدة. وهذا البناء رآه الباحث في المقطعات والقصائد القصار، وفي قليل محدود من المطولات(30)وثانيها يعتمد تمهيدا مناسبا لهوى الشاعر، كأن يستعبر على شبابه الذاوي، أو ينبه على سنة الحياة وتقلباتها وما يتصل بخيرها وشرها وقضائها وقدرها (31)، ثم يرفعه بالتوجع على الراحل الذي يجد فيه فرصة للتوسع في حياته الخاصة والعامة وكل ما يمت بصلة إلى مصيبته فضلا عن التأبين الذي يمتح من الرزء العظيم، ولا يستبعد قصة الموت والحياة وجبروت الدهر، وفعله بالكائنات.

ويتحقق هذا البناء في المراثي الطوال الجاهلية (32)، ويخترق ظاهره في القصائد والمقطعات بحوث أخرى ذات قيمة أدبية تتمم الرؤية العامة حول الموضوع من بينها.

أ- البحث المخصص للبناء الفني في القصيدة المرثية الذي يرفض فيه الباحث القول بوجود خطة مسبقة لدى الشاعر الراثي لما لها من صلة بالصنعة الممقوتة في الفنون الأدبية جميعها، المناقضة لعملية الخلق والإبداع ذات الصلة الحميمة بالانفعال المنتج للصورة المثلى التي تولد مجتمعة في مكنون الشاعر في زمن واحد نتيجة وعيه المسبق بالفن الجميل الذي يطلبه الذوق العام، وليس ما يرغب فيه الخاصة حسبما يؤكده هيكل القصيدة الخارجي، وبناؤها الداخلي.

ومن خلال استقراء الباحث لشعراء الرثاء الجاهلي تبين له أن القصائد الطوال منه لا تكاد تخرج عن الأبنية الفنية الأربعة التالية التي قد يجمع منها الشاعر الراثي بين نظامين أو أكثر في المرتبة الواحدة من غير أن يحدث ذلك المزج خللا أو اضطرابا في الصورة العامة للقصيدة شريطة أن يحسن الشاعر المبدع توظيف تلك الأبنية لصالح إنتاج العلاقات الجمالية المتكاثفة المتآزرة والأبنية المشار إليها هي :

1- البناء النامي ويقصد به (البناء الذي تتوالى وتتابع فيه الصور الشعرية تتابعا محكما تشد الواحدة برقاب الأخرى، وتكون فيه الصور الشعرية مجموعات داخل التشكيل الجمالي للقصيدة) (33).

ومن خلال الاستشهادات والنعوت التي ساقها يقرر أن هذا البناء يتميز يتدفق الصور المنتجة للصورة الكلية التي يطلق عليها مصطلح ''الصورة الإنسانية'' مثلما تتحقق معه الموازاة الشعرية لموقف الشاعر الذي يكون مضطرا شاء أو أبى إلى تراكم صور الحدث بواسطة الموضوعات الممهدة التي تحسب في عداد الاستطراد عند بعضهم وهي ليس كذلك عنده.

2- البناء المتكرر المركزي ويريد به (البناء الذي يجعل صورة معينة تتكرر بين الفينة والأخرى لأهميتها ورمزيتها وعلاقتها الوطيدة بنفس وموقف الشاعر ) (34).

ويستخلص من مجموع الآراء والمناقشات التي ساقها حول هذا البناء أن الصورة المتكررة فيه (تولد صورا وتشكيلات جمالية مختلفة تدفع القصيدة نحو التقدم كلما أحس الشاعر بفتور أو ضعف نفس) (35).

3-بناء التضاد ويعنى به البناء الذي (يقوم على تضاد الصور وتقابلها،والمقارنة بينها ليفضل صورة على أخرى) (36) ويستفاد من المناقشات والاستشهادات التي ساقها الباحث حول أقسام التضاد وأنواعه الداخلي في هذا البناء أن تعدد الصور المتناقشة فيه (تحمل دلالاتها الحقيقية موقف الشاعر الحائر المضطرب والمتوتر من شدة الهول والمصائب) (37).

4- البناء السردي ويقصد به (قص وسرد وحكي المواقف والأحداث المشابهة للحالة التي يوجد فيها الشاعر، وذلك بايراد نماذج وصور مشابهة لما يريد أن يصوره) (38).

ويتبين من مختلف الشواهد والاستدلالات والتعليقات المصاحبة لها أن هذا الضرب من البناء يتكئ على المباشرة. مثلما يعتمد الوصف الخارجي الاستعراضي؛ وأما الصورة الشعرية فلا يلجأ إليها إلا حين إرادة التوضيح وضرب المثل التأكيدي.

واعتمادا على خصائص كل ضرب منها أو أكثر داخل الهيكل العام، فإن المؤلف لم يستسغ فكرة الفصل (39) بين العناصر المكونة له، ويرى جازما أن لكل جزء اسهاما معلوما وقدرا محددا في إنتاج الصور الفنية ما دام يحمل رؤية ما داخل نسيجه خلافا لمن تعمد إقصاء الأجزاء الممهدة بسبب غرابتها عن الموضوع الأساس، وإن كانت من صلب التجربة التي لا تتحمل تجزيء مكوناتها، وإقصاء مرجعياتها الذوقية المرتبطة بالعادة الشعرية في كل المضامين ومن بينها غرض الرثاء الذي من شروط اكتماله الإحاطة التامة بالمرثي حتى تكتمل صورته الخلقية والخلقية لدى الرأي العام المتلقي الذي يعنيه كثيرا الاستفاضة في حياته، والاستطراد في كل شأن يجعل التأسف عليه وعلى فراقه مشروعا؛ برغم تجافيه لقيم الرثاء التي نصت على أن الغزل والنسيب لا يلائمان العاطفة الحزينة والقلب الملتاع، ولا يناسبان الأسى الذي لا يسمح لصاحبه بالتفكير في المرأة بله التشبيب بها (40) في لحظة يطغي عليها الشجن.

وعلى خلاف ما أجمع عليه العلماء بالشعر، فإن الباحث لم يعتبر المقدمات النسيبية (41) هزلا أو عبثا أو لغوا من القول، بل يراها عملا فنيا يقصد بها تهيء سماع المتلقي للإصغاء ثم الإقبال على القول. لقرب الغزل وشدة صلته بالنفوس الإنسانية مهما تقلبت أحوالها، مثلما يرى فيها آصرة رحم (42)، وعلاقة نفسية، ومعادلا فنيا لفقد المرثي وما يجوز أن يخلقه في أقربائه وأصحابه من أسى عميق يصعب تجرع كاساته.

إن الجهود التي بذلها المولف في سبيل إثبات صلة المقدمات التمهيدية بالموضوع تتجمع في خلاصتين اثنتين : أولاهما التنبيه على أن اقتران الغزل بالرثاء إنما هو نهج شعري درج عليه شعراء المراثي لبواعث منها ما يعود لأسلوب العزاء الذي يتعمد التخفيف من المصاب؛ ومنها ما يرجع لاقتناعهم بأن لا تناقض بين مختلف الثنائيات ومن بينها الموت والحياة، وثانيتها التأكيد على شساعة باب الرثاء وامتداد أفقه الذي لا يتعلق بالبكاء والجهر بالتفجع فحسب، بل ينفتح على مختلف الأغراض المساعدة الأخرى كالفخر، والحماسة، والتهديد، والوعيد، والهجاء، والحكمة، والتأمل وهلم جرا.

هوامش :

1- الصورة والبناء في المراثي الجاهلية ، هو كتاب الدكتور سعيد الأيوبي الصادر عام 1996 ضمن سلسلة دراسات وأبحاث رقم 2 التي تتكفل بنشرها كلية الاداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة المولى إسماعيل بمكناس.

2- ينظر من صر 12 إلى ص 110

3- ينظر ص 17

4- ينظر ص 20

5- ينظر ص 30

6- ينظر ص 31

7- ينظر ص 31

8- ينظر ص 32

9- ينظر ص 32

10- ينظر ص 34

11- ينظر ص 114 وما بعدها

12- ينظر ص 184

13- ينظر ص 190

14- ينظر ص 235 وما بعدها

15- طبع بمطبعة المعارف الجديدة عام 1986

16- ينظر ص 114

17- ينظر ص 125 وما بعدها

18- ينظر ص 158

19- ينظر ص 158

20- ينظر ص 158

21- ينظر ص 238 وما بعدها

22- ينظر ص 161

23- ينظر ص 162 وما بعدها .

24- ينظر ص 239

25- تنظر في كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر، ص 111، تحقيق كمال مصطفى، طبعة مطبعة السعادة.

26- الشعر والشعراء، ج 1، ص 21، طبعة دار الثقافة، ط 4، 1980

27- ينظر الصورة والبناء ص 253 وما يليها.

28- ينظر ص 253

29- ينظر ص 254

30- ينظر ص 254

31- ينظر ص 254

32- ينظر ص 254

40- ينظر العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده لأبي الحسن بن رشيق القيرواني، ج 2 ص 151، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبعة دار الجيل ط 4 1972

41- ينظر الصورة والبناء ص 256

42- ينظر ص 273

 

 

 

موارد نصيــة

مجلة إسـراف 2000

العدد 16 - 2001

المحتــوى

التمثيل في الرواية العربية: عبد الله إبراهيـم

النص التاريخي والتأويل: إبراهيم القادري بوتشيش

نظرات على المعجم الموحـد: أحمد الفوحي

محور العدد: السميائيات: الموضوع والاتجاهات

حول مبادئ سيميائية: محمد مفتـاح

مفهوم القيمة في السيميوطيقا السردية: عبد المجيد النوسي

السميائيات وموضوعها: سعيد بنگراد

السيميوطيقا والتواصل: محمد الولي

سيميولوجيا الصورة الفوتوغرافية: عبد الرحيم كمـال

قضايا السيميولوجيا المسرحية: باتريس بافيس - ترجمة: محمد العماري

قضايا الدليل الفلسفية: أمبرتو إيكو - ترجمة: حسن الطالب

سميائيات البنيات المسرحية: مارلن كارلسن - ترجمة: عبد الله مالكي

قراءة في كتاب «الصورة والبناء في المراثي الجاهلية»: عبد الله الهمـس

ربيع عبد الرحمن اليوسفي: جعفر عاقيل

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.