إبراهيم القادري بوتشيش

النص التاريخي

بين الدلالة التقريرية والهرمنيطيقا

 

تستهدف هذه الورقة إثارة إشكالية نزعم أنها لا تزال -كمنهج- بعيدة عن الأضواء في حقل الدراسات التاريخية و ''التيمات'' المنهجية، ويتعلق الأمر بالتساؤل حول مدى إمكانية تطبيق الهرمنيطيقا في مجال التاريخ، وإلى أي حد يمكن للمؤرخ أن يستغلها كمنهج علمي يضع النص التاريخي في منطقة ''آمنة'' بعيدة عن كل تعسف في التأويل، ضمانا لسلامة صناعة التاريخ وصحة إدراك الوقائع المرتبطة به.

I - في مفهوم الهرمينيطيقا التاريخية

تتعدد المفاهيم التي يحملها مصطلح ''الهرمنيطيقا''، والدلالات المترتبة عن ذلك في الحقول المعرفية التي تتقاسمه، فقد استعمل في الأصل كمصطلح مدرسي لاهوتي، كا ن يقصد به العلم المنهجي الذي يروم تفسير نصوص الكتاب المقدس المتسمة بغموض معانيها، واستعصاء فهمها من طرف المتلقي الذي يشعر إزاءها بنوع من الاغتراب، الأمر الذي يستلزم فهما وإدراكا عميقين للوصول إلى معانيها (1م). وعلى مستوى النقد التاريخي تعرف الهرمينيطيقا حسب البعض (1) بأنها نظرية نقد التفسير التي تفيد في مقاربة النص من خلال استجلاء المعنى المتستر وراء معناه الحرفي، وذلك من خلال استقصاء الظروف التي أنتجت النص، والمناخ البيئي الذي انبلج منه، والثقافة السائدة التي يعد انعكاسا أمينا لها. بينما يقتصر البعض على توظيفها في حقل التحليل النفسي وعلاقته بالتاريخ كأداة منهجية يتم من خلالها كشف وسبر أغوار نفسية إحدى الشخصيات التاريخية، لتأويل سلوكاتها التي جعلتها تنهج هذا المسلك أو ذاك؛ وفي هذا الصدد ورد في موسوعة علم النفس (2) > أن "الهرمنيطيقا" هي تفسير النصوص الدينية والفلسفية والحقوقية، وأنه حقل أفسح المجال أمام دراسات متعددة في حقل التحليل النفسي التطبيقي<، وقد تم توظيفها من قبل بعض الباحثين لتحليل بعض الشخصيات ''الكاريزمية'' في التاريخ بناء على مقولات فرويدية (3).

بيد أن دلالة المصطلح توسعت لتصبح علما عاما في الفهم، ومنهجا لتفسير ظواهر العلوم الانسانية. وقد حاول رواد الهرمينيطيا الكلاسيكية أن ينفذوا من خلالها إلى باطن الوجود والروح الإنسانية، متجاوزين البناء اللغوي المتقوقع حول نفسه في عملية تأويل النصوص وتفسيرها، حتىإن ''ديلتاي'' ذهب إلى حد القول إن >فن الفهم يتمركز حول تفسير بقايا الوجود الانساني المحفوظ في الكتابة< (3م).

وقد ارتبطت الهرمينيطيقا في الأدب باسم ''هيدجر'' الذي أسس ما يعرف بالهرمينيطيقا الفينومينولوجية لارتباطها بماهية ظواهر الوجود الانساني في صلته بظواهر الوجود نفسه، وسيلته في ذلك اللغة ذاتها. في حين ارتبطت الهرمينيطيقا الفلسفية باسم ''جادمير''، وهي صنف يتسع ليشمل فهم وتفسير كل ما هو قابل للفهم والتعقل. وتتميز الأولى والثانية معا في أن معنى النص يتجاوز بنيته الشكلية، ويكشف عن الوجود، وبالتالي فإنه يقتضي تجاوز ثنائية الذاتية والموضوعية (3ث).

وإذا كانت مفاهيم الهرمينيطيقا تتعدد حسب تنوع الحقول المعرفية النفسية واللغوية والفلسفية واللاهوتية، فإن ما نتوخاه في هذه الورقة من مفهوم الهرمينيطيقا، يتمثل في ''علم التأويل''(4) أي ذلك العلم المبني على قواعد وأسس تجعل من التأويل والتفسير في مجال التاريخ بناء علميا متناسقا ومتلازما مع الواقع التاريخ العياني، يؤكده ويعضده، ولا يخرج عن سياقه المنطقي. وبعبارة أخرى فإن الهرمينيطيقا التاريخية (نسبة إلى التاريخ)، تعني محاولة تنظيمية للفعل التأويلي، أو هي بكلام آخر، محاولة بناء علمي لعمية التأويل التاريخي، يكون هدفها تنظيم استراتيجية منطقية للقراءة التأويلية للنص التاريخي، عبر ضوابط ومحددات علمية . إنها نسق فكري يتعامل مع النص بناء على منطق ضمني، وقيمة محورية يستطيع المؤول من خلاله أن يدرك عنصر التنسيق والوحدة باللجوء إلى الحدس لا بمفهوم التوهم العابر، بل بمعنى القناعة التي تستقر في النفس بعد طول المعاشرة والاستئناس مع النص (4م). ولعل هذا ما ينسجم مع المفهوم اللغوي للتأويل، فقد ورد عند ابن منظور (5) أن التأويل هو >التدبير والتقدير<، وهو مفهوم يؤكد الهامش الذي يترك للذات المؤولة، ولكنه هامش يستلزم الحكمة والمنطق في التأويل. وبهذا المعنى المتسم بالحكمة ورد في القرآن الكريم، إذ تردد 15 مرة مرات، 8 في سورة يوسف (6)، ومرتين في سورة الكهف (7) ، ومرة واحدة في كل من سورة الأعراف (8)، وسورة الإسراء (9) وسورة النساء (10)، وسورة يونس(11) ، وسورة عمران (12). والحاصل أن فضاء الهرمينيطيقا التاريخية ينظم العلاقة المنطقية بين مكونات ثلاثة :

أ- المرسل أو الباث، وهو الذي تأسس منه النص التاريخي بشكله التعبيري واللغوي.

ب- المتلقي، وهو قارئ النص في زمان ومكان محددين، تختلف قراءته حسب محيطه الثقافي، ومكونات شخصيته.

ج- الموضوع : المؤول، وهو النص التاريخي في حد ذاته بكل ما يختزنه من حمولات دلالية. ومن المكونين الأولين ( الباث والممتلقي ) يتشكل " حوار" حول المكون الثالث الذي هو الموضوع المؤول. وداخل هذا ''الحوار'' تندرج صورتان : التأويل "التجريبي" الذي يشرح فيه المؤول نصا معينا انطلاقا من معايير معروفة يقوم بتطبيقها، والتأويل " الجاهز" الذي يؤوله المؤول انطلاقا من تصور مسبق. وبينما يحاول الأول فهم النص وتأويله عن طريق ''التجربة'' بجعله نصا يمكن إخضاعه لمجموعة من القواعد التي يراد تطبيقها عليه، يجنح الثاني إلى فرض تصور خاص تتبناه الذات المؤولة، انطلاقا مما تزعمه بقدرتها على فهم النص وتأويله ربما أكثر مما فهمه الباث نفسه أو قصده وفي هذه الحالة يمكن للحوار بين المتلقي والموضوع المؤول أن يكون حوارا من جانب واحد لا يترك المجال للنص أن يفصح عن معناه بنفسه، بحيث تسيطر عليه الذات المؤولة، وتوجهه حسب سلطتها المعرفية وتحكم توجهاتها(12م).

في ضوء هذه المعطيات، كيف يمكن للهرمنيطيقا في مجال التاريخ أن تنظم العلاقات بين تلك العناصر الثلاثة المكونة للعملية التأويلية، بطريقة تستهدف تقليص شبح الإدراك الخاطئ للنص، وملامسة التأويل الصحيح؟ وكيف يمكن تجاوز التأويل الجاهز؟ وهل يمكن للمؤرخ أن يبني تصورا تأويليا دون الوقوع في مطبات أو مزالق؟ هل يمكنه أن يبحث- كما فعل ''فيكو'' عن المفتاح والقاعدة المبطنة التي يستطيع بها المؤرخ العبور من ظاهرة إلى أخرى عن طريق ما يسمى بقانون التحويل؟ (12ث) أي تحويل المعنى الذي قصده الباث إلى المعنى الذي اجتهد فيه المتلقي/المؤول؟

لا سبيل لإنكار الصعوبات التي تعتور عملية التفكير في تأسيس قواعد تأويلية (هرمينيطيقا) بشكل عام، وتلك حقيقة وقف عندها ''بول ريكور'' حين خلص إلى القول بعــدم إمكانية وجــود هرمنيطيقــا جامعة أو نظرية تأويلية شاملة، لأن قواعد التأويل حسب وجهة نظره- تتسم بالتمايز والاضطراب (13). ونحن لا نصادر هذا الرأي الذي رغم وجاهته فإنه يحفزنا على التساؤل التالي : ألا يمكن القيام بمساهمة أولية لوضع ضوابط تؤطر الفعل التأويلي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ينطبق ذلك بالأحرى على مجال التاريخ؟

II - هل النص التاريخي قابل للتأويل؟

يذهب ''هانس روبرت ياوس'' إلى التأكيد أن مجال التأويل ينطبق على الشعر دون النثر، بل إن بعض الباحثين أقروا صراحة أن الكتابة التاريخية غير قابلة للتأويل لعدم وجود غموض في النص التاريخي، على عكس النص الشعري، ومختلف أنواع الإبداعات التي يخترقها الغموض واللبس، وهو ما يستدعي الفعل التأويلي(14) ولم يتزحزح موقف المدرسة الكلاسيكية الاسلامية من جيل المؤرخين الأوائل عن هذه القاعدة، إذ وضعوا خطوطا حمراء بين ''الكلام المفصل والمبين'' الذي هو قاعدة التأليف التاريخي عندهم، وأي شكل يستدعي احتمالات التأويل كالاستئناس بالرموز أو الفنون التشكيلية، أو منطق المجاز في الآداب العربية؛ لذلك لم يتجاوز مجرى التاريخ في دائرة اهتماماتهم أعمال ''الانسان المتعاقد'' حسب تعبير الأستاذ العروي (14م) فالتاريخ حسب هذا الاتجاه يدرس الانسان كإنسان مجرد، دون الاهتمام بما يندرج بمخلفاته الإيحائية والتعبيرية.

والملاحظ أن بعض المتشددين من المفكرين القدامى مثل الجرجاني قد ضيقوا بدورهم مساحة التأويل على المؤول، إذ لا يحق -حسب زعمهم- تأويل أي نص هو لسان حال المتكلم الذي يمتلك السلطة وحده في تحديد معاني كلامه، ويترتب عن ذلك أنه لا يبقى للمتلقي أي دور في التدخل في المعنى الذي أراده صاحب النص، لأنه وليد معان مسؤولة عن تمظهرها سالفا (14ث)

وعلى نفس المنوال سار بعض الباحثين المعاصرين انطلاقا من حجة مقنعة، هي أن النص الذي يصل المتلقي لا يكون بالضرورة ناقلا أو مستنسخا نفس الأفكار التي أراد صاحب النص التعبير عنها أصلا، ولذلك ينبغي التمييز بين ما يسمى بقصدية الفعل وقصدية التبليغ (14ر).

رغم وجاهة هذه الآراء القديمة منها والحديثة، فإننا نعترض على هذا المنحى الاقصائي للنص التاريخي من دائرة التأويل من عدة وجوه :

1- سيادة النص التاريخي الصامت أو المبتور : ثمة نصوص تاريخية ما يمكن أن نسميها بالنصوص الصامتة والنصوص المبتورة التي تخفي وراء السطور والمصطلحات أو وراء البتر مجموعة من الحقائق المستترة. ومعلوم أن صناعة المؤرخ لم تعد تقتصر على تقميش النصوص وجمعها ثم عرضها بطريقة جافة بعد ذلك، بل إن إحدى مهماته الأساسية تكمن في استنطاق النصوص، خاصة هذا النوع من النصوص الذي ذكرناه، وهو النوع الذي يستدعي تدخل المؤرخ عبر التفسير والتأويل.

2- ظرفية انتاج خطاب النص : إن بعض النصوص التاريخية -كأية نصوص مكتوبة- تتكون من مجموعة من المصطلحات المركبة، المتضمنة لمجموعة من المعاني المحددة بلغة النص وظروف إنتاج الخطاب، وكافة أشكال المعرفة المنتمية لحقل النص، ناهيك عن حضور وعي الناص فيه (15)، وكل هذه المجموعة من المعطيات المحيطة بالنص التاريخي لا تجعله يعبر عن نفسه، مما يستدعي تدخل ''المؤرخ للوقوف على حقيقته وجوهره، وهو ما يفرض عليه الدخول في عملية التأويل. وفي هذا المنحى دعا ''مارك بلوخ'' إلى ضرورة تجاوز المؤرخ -عند تعامله مع النص- حدود الخط واللغة التي كتب بها، إلى التعمق فيه عبر شبكة الذهنيات، والمعتقدات السائدة عصر كتابته (16).

3- النصوص المؤولة أصلا : إن معظم النصوص التاريخية نصوص وصلتنا مؤولة أصلا في مصطلحاتها ومعانيها، فالنص التاريخي -مثل كافة أشكال الكتابة- يتأثر بقضايا العصر، ويتلون بالمناخ الثقافي السائد. كما أن الانقسام المذهبي الذي نشأ في ''دار الاسلام'' رفع من إيقاع التأويلات بين الفرق الاسلامية، فظهر ما يعرف بالتأويل الباطني الذي تبناه الشيعة، والتأويل السني الذي مثله السنة، ناهيك عن تأويلات المعتزلة والخوارج والتيارات الصوفية، وكان التنافس بين التيارات المتصارعة يغذي مسألة التأويل باستمرار (17).

4- سيادة النص المحابي : إن التاريخ المدون كما وصل إلينا هو تاريخ المنتصرين الذي يعبر فيه النص عن وجهة النخبة الحاكمة، أو بعبارة أخرى فإنه يمثل النص السلطوي الذي تم إنجازه تحت اكراهات سياسية وضغوطات مهيمنة، و إغراءات سخية تدفعه إلى منطقة التزلف والمغالطة وتزوير بعض الحقائق وإقصاء الثقافة المعارضة مما يجعله مشحونا بالألغاز والخبايا التي تستدعي التأويل عن طريق استحضار النص المضاد للنص الرسمي أو ثقافة المعارضة إن وجدت، حتى يكون التأويل صحيحا (18)،

5- المعنى المضمر للنص: إن المعنى الظاهري أو الصريح للنص التاريخي يخفي وراءه معنى مضمرا وجب البحث عنه عن طريق التأويل. وقد لمح ابن خلدون (19) إلى ذلك في مقدمته حين أشار إلى المعنى الظاهري والباطني، فقال عن التاريخ إنه > في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات وعلم بكيفيات الوقائع وأساسهاعميق. وفي نفس المعنى يقول الجرجاني بكلمات معبرة أيضا : >الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه الغرض بدلالة اللفظ وحده، ... وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللغة وحدها، ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة. ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار الكلام على الكتابة والاستعارة والتمثيل< (19م). معنى ذلك أن المحمول المعلوماتي كما يعكسه ظاهر النص يبقى مضببا، لذلك فإن بعض النصوص هي في نهاية التحليل لعبة مزدوجة لنظامين، أحدهما تقريري واضح، والآخر خفي مضمر يفسح للمؤرخ مساحة التأويل، لذلك وجبت الاستعانة بأدوات ومفاهيم لسنية، تمكن من النفاذ إلى منطقه الداخلي وتجاوز بنيته السطحية.

كما أن التأويل في التاريخ يصبح مشروعا عندما يكون المعنى الحرفي للنص غير معقول، أو مضطربا أو منافيا للوقائع التاريخية المعروفة (20).، ففي هذه الحالة لا يمكن للمؤرخ الحصيف أن يصمت أمام مشهد تاريخي غير عادي، لا تزكيه المعطيات ولا يقبله العقل. وفي غياب أي شاهد ملموس، يضطر للجوء إلى التأويل، لكن عبر ضوابط ومحددات كما سنذكر في موضعه.

6- انقطاع السند : وما يسببه ذلك من استفهام لدى المؤرخ، وهو استفهام مسبوق باستغلاق، وهذا الاستغلاق غالبا ما يكون مقترنا بالكوارث الطبيعية التي تحدث في التاريخ مثل انهيار سد مأرب، أو مخلفات الهزائم في المعارك التاريخية الكبرى حيث يقف المؤرخ أمام هذه الأحداث مستغربا مستعبرا لفك اللغز التاريخي (20م). وفي هذه الحالة ينبغي عدم التسرع في التعميم والتمييز بين التفسير القائم على مسلمة مشتركة بين الباحثين، والتأويل الذي يستلزم معاشرة طويلة حتى يحصل الاستئناس مع النص المؤول، والقدرة على التمثل وعلى تخيل وسيلة القياس، ومن ثم يجب على المؤرخ الذي يسعى لتأويل نصوص تفتقر إلى السند أن يكون متحرزا، وأن يتبنى الحذر في عميلة التأويل، لأن اطلاق العنان للمؤول قد تجعل خياله التأويلي يسرح بعيدا عن الوقائع الحقيقية، فينتفي الاتجاه العلمي الصحيح (20ث).

7- بعد انفتاح علم التاريخ على سائر العلوم الأخرى: أخذت تقتحم مجاله نصوص جديدة تنتمي إلى حقول معرفية متنوعة المشارب كالأدب والفقه والأنثروبولوجيا وعلم النفس واللسانيات إلخ... وقد لعب هذا الانفتاح دورا أساسيا في التوجه نحو التأويل في التاريخ، ذلك أن نصوصا تندرج في مثل هذه الحقول المعرفية تستلزم بطبيعتها عملية التأويل. كما أن بعضها يمثل وجهة نظر قوى المعارضة، لكن بخطاب يعتمد على الرمز والتمويه كالتعبير بكلام ينسب إلى الموتى، أو بالخوارق والكرامات الصوفية، أو التعبير بالأحلام أو بالمعنى المضمر أو باستعمال صيغة المبني للمجهول في رواية الخبر. وبالمثل يرد الكلام في العديد من أمثال هذه النصوص ''التاريخية'' على لسان الحيوانات، وهو تعبير لا تفرضه الضرورة التعليمية التي يستهدفها صاحب النص فحسب، كما ذهب إلى ذلك أحد الباحثين(*)، بل أيضا لتفجير جملة من المكبوتات السياسية والاجتماعية لديه. وجل هذه الصيغ التعبيرية تعد أشكالا نصية تاريخية مجازية قابلة للتأويل، حتى أن بعض الباحثين (21) اعتبروا أن الكشف عن المعنى المضمر وفك الرموز من القضايا الجوهرية التي تختص به الهرمنيطيقا، ولا يتم كشف المعنى المضمر إلا من خلال الحوار الذي يفتحه المتلقي مع النص (22).

8- التورية : يوجد في التاريخ الصوفي بعض المتصوفة والأولياء الذين اعتمدوا على التأويل، أو الفعل الذي يستدعي التأويل الباطني أو الظاهري وسيلة للبحث عن جوهر الحقيقة أو التصريح بها؛ وفي هذا السياق، يذكر صاحب كتاب ''التشوف'' جملة من التأويلات التي كان يؤولها المتصوف الشهير أبو العباس السبتي (القرن 6هـ) صاحب مذهب "الوجود الذي ينفعل بالجود"على حد تعبير الفيلسوف ابن رشد؛ ولا غرو فقد كان حسب المؤلف المذكور >يتأول الركوع في الصلاة بالمشاطرة<، أي مقاسمة الأثرياء لأموالهم وممتلكاتهم مع الفقراء والمعوزين، >والسلام من الصلاة تعني الخروج من كل شيء<، أي التنازل عن كل ما يملك الإنسان قصد سد حاجة الغير، بل كان يؤول كل حركة في الصلاة بتأويل خاص يدور حول مذهبه في الجود والاحسان (23). وكان له من براعة الكلام واستعمال الرمز وإخفاء المعاني ما جعله يشتهر بفن ''التورية''، أي التمويه والتستر عن ذكر المقاصد، الأمر الذي يستدعي تدخل المؤرخ لفك طلاسم هذه التوريات التي تحويها نصوصه وتأويلها بما ينسجم مع الواقع التاريخي.

9- الإيحاء : يعد الإيحاء أحد الحوافز التي تجعل المؤرخ يلجأ إلى التأويل، فثمة أعمال فنية كالصور واللوحات والتماثيل، توحي بالعديد من التأويلات للمؤرخ، وكذلك الحال بالنسبة لفن النحت والموسيقى والأشكال الفنية كالرقص والموسيقى والأهازيج والحركات الفلكلورية، وأشكال الهندسة المعمارية والنقوش التي تزين جدران البيوت والزليج، والزخارف التي تتميز بها صناعة الخزف والأواني، كل هذه الأعمال الفنية الإيحائية وغيرها تسمح بهامش واسع من التأويل.

10- الرموز والألوان : يوجد في التاريخ العربي، العديد من الرموز والألوان التي لها دلالات ارتبطت ببعض الأسر الحاكمة كاللون الأسود بالنسبة للعباسيين، والأبيض للأمويين والموحدين، والأخضر للفاطميين، وكل هذه الألوان تفتح باب التأويل. كما أن شعارات الدول وألويتهم وراياتهم تستدعي التأويل أيضا. وقد فطن المؤرخون القدامى لذلك، فهذا ابن الخطيب يجسد الفكرة في معرض حديثه عن لواء العباسيين إذ يقول عنه : >وهو لواء يدعى الظل على رمح طوله أربعة عشر ذراعا وراية تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعا<، ثم يعلق على ذلك بقوله : >وتأويل هذين الاسمين: الظل والسحاب، أن الدعوة تطبق الأرض وتعممها كما يطبقها ويعمها السحاب والظل<(24).

11- علامات الألقاب والكنى وشارات الملك : تصبح بعض الألقاب الخلافية بدورها موضوعا للتأويل، ومن هذا القبيل لقب الخليفة العباسي المستكفي إذ > قيل إن اللقب مقرون بالضعف وقلة النجابة< (25)، وهو تأويل يزكيه بقاء الخليفة المذكور سنتين فقط في سدة الحكم (333-334)،

وفي نفس المنحى كانت كنى الخلفاء موضوعا للتأويل، فقد لقب الخليفة الأموي معاوية بن يزيد أو معاوية الثاني الذي لم يحكم سوى بضعة شهور بلقب ''أبي ليلى'' ويعطي ابن الخطيب المدلول التأويلي لهذه الكنية بقوله: >وذكر أن هذه الكنية تجريها العرب على المضعوفين<(26)، مما يؤكد على ما تحمله الكنى من دلالات رمزية رغم أن التأويل الذي طال الخليفة الأموي المذكور كان خاطئا، والراجح أنه نسج بناء على الروايات التاريخية المدسوسة على الأمويين.

وتبقى الشارات بدورها موضوعا للتأويل مثل شارات الملك وشارات الجيوش والنقود، وكذلك المسكوكات التي تصبح زخارفها قابلة للتأويل، وكل هذه الأشكال وغيرها من القضايا التاريخية تفتح أمام المؤرخ باب التأويل.

12- دلالات الأسماء القبلية الطوبونيمية : يذهب البعض إلى إمكانية تأويل أسماء الأعلام والأماكن التي تتضمنها النصوص انطلاقا من دلالات الأنساب والقبائل أو العلامات الطوبونيمية. وقد مكن هذا المنهج التأويلي من الكشف عن عديد من الألغاز المرتبطة بالتاريخ.

نخلص من حصاد التحليلات السابقة أن المؤرخ يضطر أحيانا إلى تأويل النص كلما تعلق الأمر بمعنى مضمر يخفيه المعنى الصريح، أو في حالة غموض النص أو إمكانية حمله دلالات رمزية قابلة للتأويل، وهي نتيجة فطن إليها القدامى فصنفوا فيها مصنفات مثل كتاب ''تأويل متشابه الأخبار'' للمؤرخ البغدادي (27) و ''قانون التأويل'' للفقيه المؤرخ أبي بكر بن العربي، و ''الكشاف عن حقائق التأويل'' للزمخشري. وتنهض هذه المؤلفات وغيرها قرينة على شيوع التأويل في العصور الاسلامية السالفة، كما أن عناوينها تشي بأن المؤرخين القدامي فطنوا إلى ضرورة وضع ''قوانين'' أو قواعد للتأويل. فهل يمكن في ظل القراءات التأويلية السائدة اليوم تحديد ضوابط يسير المؤرخ على هديها في عملية التأويل، مما يسمح بتأسيس علم تأويل تاريخي أو هرمينيطيقا تاريخية منصفة و ''محايدة'' تكون صمام أمن من المنزلقات التأويلية في الكتابة التاريخية المستقبلية؟

III- نحو تأسيس هرمينيطيقا تاريخية من خلال بعض الضوابط:

ثمة حقيقة جوهرية تطرح أمام المؤرخ عند كل عملية تأويلية تأتي من خلال تعامله مع الماضي، سواء كان ماضيا بعيدا أو قريبا؛ ذلك أنه بمجرد ما يبدأ في عملية التأويل، تصبح علاقته مع النص علاقة اغتراب، ويدخل مع الموضوع المؤول في سياق اجتماعي ثقافي غريب عنه، يعيش في زمن ومكان لا ينتمي إليها، وهنا تأتي مهمة الهرمينيطيقا في تجاوز هذا الاغتراب التاريخي عن طريق ما يسميه البعض بعملية المواءمة التي تجعل ما كان غريبا وبعيدا عن المؤول يصبح في ملكه، فيصير بذلك منتميا إلى ''العالم المعاش'' Life-World '' الذي ينتمي إليه صاحب النص حسب تعبير ''هوسلر'' (27م) لكن ما هي معايير هذه المواءمة التي يستقيم بها التأويل التاريخي؟ لقد كان الجرجاني على صواب حين نبه إلى خطورة التأويل، خاصة أن بعض المؤولين >صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين وأكثر... وهو على ذاك الطريق المزلة الذي ورط كثيرا من الناس في الهلكة< (27ث).

مع ذلك، ومع الاعتراف بهذه الصعوبات التي تعتور المؤول، والتي قد تجرفه إلى مهاوي الخطأ، ألا يمكن الاجتهاد في وضع معايير علمية تؤسس لهرمنيطيقا تاريخية كما حددناها سلفا؟ إذا كان من الصعب تحديد وصفة جاهزة تتأسس عليها هرمنيطيقا تاريخية، فلا أقل من تقديم بعض الضوابط التي لا نزعم أنها قد تساهم في بنائها دون تضافر جهود المؤرخين لسبر غور هذا الحقل ومنها:

1- بالنسبة للنص موضوع التأويل : ينبغي أن يشكل وحدة تتسم بالتناسق والكمال والشمولية والانتظام (27ر)، لأن المؤرخ إذا انطلق من نص يغلب عليه التفكك والاضطراب والابتسار والتقطع، فإن النص ذاته يصبح غير قابل للتأويل، وكل سعي وراء ذلك يكون مجرد لغط أو ''كماليات'' فكرية.

2- قبل تأويل النص، يجدر بالمؤرخ تأمله اعتمادا على تصورات ذهنية ومعارف أولية تعطي للمؤول أبعاد النص المؤول، ونقط الارتكاز كما يذهب إلى ذلك ''جاك لوكوف'' (28) وعلى هذه الأرضية يمكن أن يبني عملية التأويل عبر أسئلة افتراضية واستثمار المصطلحات التي يكون قد استأنس بها، فضلا عن العلامات والرموز الدالة (*).

3- فهم النص التاريخي الذي يستدعي بانغلاقه التأويل، وهذا الفهم يتشكل من خلال ما يقوم به المؤرخ من عمليات المقايسة والمقابلة والمعارضة والترتيب، انطلاقا من مجموع المستندات التي يجمعها، أو ما يسميه البعض بمسند البحث، يحتك بها ويستأنس حتى تصبح لديه نوعا من المعتاد والمألوف، فيصبح في عقله تصور يعكس النظام الضمني لتلك المستندات تقوده إلى حكم يستنبط منه مجموعة من الأقيسة بهدف إعادة تركيب تلك المجموعة في شكل كلة مغلقة على حد تعبير العروي، وإذا نجح في هذا المسعى يكون بذلك قد فهم النص، وتعد هذه القاعدة مشتركة عند كل المؤولين رغم الاختلاف في النتائج. ومعلوم أن الجرجاني قد شدد على ضرورة الفهم قبل أي تأويل،، واعتبر أن تعدد التأويلات وتضاربها ناتج عن عدم حصول الفهم الكافي لدلالات الألفاظ في سياقها أو سوء تقدير للصيغ النحوية المبنية عليها (28م).

4- حاجة المؤول إلى معرفة تاريخية تحيط بأهم التجارب التاريخية الكبرى للبشرية المادية منها والروحية، وذلك قصد استلهام المعنى الذي يحاول استخراجه من النص التاريخي المؤول، فالتاريخ الصرف يكتب حسب كلمات ''رينان'' بعاملين : >الحالة العامة للنفس البشرية، وبالحوادث والعوارض التي تتداخل مع الأسباب العامة لتحديد مسار الأحداث< (28م).

5- تجاوز القراءة السطحية للنص التاريخي إلى قراءة شمولية تقوم على النظرية الكلية الفاحصة، مع مراعاة التقيد بمقصدية النص، وعدم التسرع والتعميم، وقد كان العلماء المسلمون على حق حين وقفوا من التأويل موقف من لا يرضى بمجرد الظن.

6-البحث عن المعنى المضمر في النص، أي المعنى غير المصرح به في الجملة اللغوية المنطوق بها(29). وفي هذا الصدد ساق الأستاذ عبد الله العروي مثالا مفيدا عن مؤرخين كتبا عن حياة المسيح وهما ''ستراوس و رينان إذ وقف الأول عند ظاهر النص وصار يحكم به على أقوال الآخرين، في حين أن الثاني كان يتطلع إلى الحقيقة النفسية التي تتجاوز، بل ربما تتناقض مع المعنى الظاهري النص (29م).

7- احترام القراءة السياقية للنص من خلال وضعه في سياقه المرجعي أي سياق التاريخ. فالمعنى المراد تأويله يحتاج إلى معنى آخر يثبته، وعلى المتلقي أن يرصد معنى للمعنى الذي أثبته في لحظة التأويل، ونعني بذلك ضرورة استحضار ظروف إنتاج الخطاب، وربط النص بثقافة المحيط الذي أنتجه، أي ما يسميه نصر حامد أبو زيد بتاريخانية المعرفة والتأويل. وفي إطار استحضار ظرفية إنتاج الخطاب، ينبغي التمييز بين تاريخية المؤلف وتاريخية النص، فتاريخية المؤلف تتمثل في ظروفه ووضعه السوسيو-اقتصادي والنفسي، وكذا التيارات الثقافية والحزبية التي كان ينخرط فيها. أما تاريخية النص فهي الحقيقة التاريخية التي يفصح عنها النص باعتبار أن ما يطرحه يكون موجها لأناس يعيشون في عصر له خصوصياته الثقافية والدينية والاجتماعية.

8- مراعاة انعدام وجود تناقض المعنى المؤول مع معطى الواقع، وإلا فقد التأويل مصداقيته (30)، فالتأويل التاريخي يجب أن ينتهي إلى التعاضد مع الواقع لا التنافر معه، لأنه يكمل صورة الواقع أو الحقيقة التي يبحث عنها المؤرخ.

9- عدم إسقاط الحاضر على الماضي في عملية التأويل التاريخي، فالنص يؤول حسب اختلاف ظروف البحث وظروف الانصات، وإن كان البعض يرى صعوبة التحرر من المحيط الثقافي للمتلقي (31).

10- احترام منطق النص وبنيته الداخلية ومقارنته بنصوص خارجية إذ لا يستقيم تأويل نص ديني كنص السير والمغازي على أنه نص ينزع نحو تضخيم تيار روح الجاهلية على سبيل المثال، أو تأويل هوية شخص اعتمادا على علامة اسمه فحسب، دون تكلف عناء البحث في مصادر أخرى(30م). وتقوم المقارنة الخارجية (النص المبرر بنص خارجي) بدور المدعم للمؤول، وكلما تعددت وسائل المقارنة -بالشواهد المكتوبة وغير المكتوبة- كلما كان التأويل أكثر رجحانا.

11- كما أن تأويل النص يحتاج إلى التحليل اللغوي في مستوييه الصوتي والدلالي، فبتفحص الجانب الصوتي في المصطلحات الواردة في النص، يلاحظ الباحث على سبيل المثال أن ثمة فرقا واضحا بين سكان إسبانيا المسلمة ونظرائهم في إسبانيا المسيحية، فالأوائل عرفوا نسقا صوتيا تتجلى فيه بعض الأشكال الصوتية الموروثة عن العربية كاستبدال (S بالشين و (K بالقاف والخلط بين ( e و (I وفك أجزاء السبق من الكلمات الإسبانية (32).

في هذا المنحى، سبق أن وظفنا الآلية الصوتية في دراسة سابقة (33)، لا مانع من اتخاذها كنموذج في هذه الدراسة : فعند معالجتنا لإشكالية وجود أو عدم وجود كنيسة في المغرب خلال القرن 12 م، استوقفنا نص يذكر فيه البيدق (34) أنه في سنة 550 هـ (1155 م قام الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي ''بغرس بحيرة أمام شنطلولية، وقد تبين لنا من خلال التحليل أن شنطلولية تعني كنيسة Saint Eulalie ، لأن البيدق كان ينطق بعض الكلمات بالدارجة التي تستعمل حرف الشين مكان حرف (S ، وتأكدنا من تعوده على النطق بهذه الطريقة من خلال مصطلحات أخرى أورد نطقها بنفس المخرج الصوتي مثل كلمة '' سينيور'' التي نطقها ''شينيور'' (بالشين) (35).

إن مراعاة هذه الاختلافات الصوتية ودلالاتها يعد أداة مهمة تسعى -بامتياز- إلى الحيلولة دون السقوط في جروف التأويل الخاطئ، لأن المعنى قد يتغير أحيانا حسب اختلاف مخارج الأصوات.

وغير خاف أن لسانيات الخطاب تقدم أدوات للتأويل من حيث الوقوف على ظرفية إنتاج الخطاب والعلاقات التواصلية بين عناصره، خاصة علاقة القائل بقوله، وعلاقة كل ذلك بالمقول، فضلا عما تقدمه من مختلف آليات البرهنة والاستدلال والجدل والاقناع (36).

12- الابتعاد عن التأويل الموجه المنطلق من مقولات جاهزة أو تصورات قبلية، والتحرر من أي احتواء للذات المفسرة، ووهمها بالقدرة على التأويل انطلاقا من توجهات معينة، ويمكن في أقصى الحالات تبني ما أسماه ''إيكو'' بالطوبيك الذي يمثل عند المتلقي الأشكال الأولى لمقاربة المعنى وفق خطاطة يتبناها هذا المتلقي، ويباشر وفقها عمليات التأويل اللاحقة (37).

13- تجاوز التأويل المأدلج : إن كل فعل تأويلي يفقد مصداقيته إذا اقترن بالإسقاط الإيديولوجي المقنع، والتقييم الشكلي الاعتباطي الذي يعمل على تجويف النص التاريخي من دلالته، وتحويله إلى هيكل فارغ لا قيمة له. وقد جر التأويل الإيديولوجي إلى عدة متاهات أوجزها المفكر إحسان سركيس في كتابه ''التأويل التاريخي ودور الفرد'' حين عرض لاختلاف وجهات التأويل المأدلج بين حزب الشعبيين الاشتراكيين الروسي الذي ذهب إلى حد نفي دور الزعماء والأفراد في التاريخ وتأويله لتقدم الأحداث التاريخية على أنها تتطور لا بنفوذ بعض العقول والإرادات المنعزلة، وإنما بالفعل المتبادل لعدد من القوى الاجتماعية المتداخلة، وأصحاب التأويل البطولي الذين يرون في الفرد ''كمية مهملة'' في التاريخ. ويورد في ذات الوقت آراء ''بليخانوف'' في نفي التأويل الفردي القاطع، والتأويل الاجتماعي السطحي، ومحاولته التوفيقية الجمع بينهما عن طريق مقولة الحرية والضرورة (38).

14- مراعاة معاني الدلالات الرمزية في النسيج الثقافي : عند افتراض وجود دلالة رمزية في النص التاريخي، فإن تأويل المؤرخ يغدو ضروريا، لكن يتحتم عليه الأخذ بعين الاعتبار ما تعكسه الدلالة الرمزية في الفكر، ومدى تجذرها في الثقافة العربية إذا كان النص المؤول يهم التاريخ العربي، وبما تختزنه هذه الثقافة من مأثورات ومعتقدات شعبية ومتخيل اجتماعي، على أن يكون النص مكونا من جملة معاني تربط بينها الدلالة المباشرة التي تحيل عليها الوحدات المكونة له.

والحقيقة أنه مهما حاولنا وضع ضوابط للارتقاء بتأويل النص التاريخي إلى المستوى العلمي المأمول، فإنه يصعب حصرها أو الاتفاق كلية حول مواصفاته، لأن بعض النصوص التاريخية يشوبها التعقد، كما أن بعضها قد ينفلت من هذه ''القواعد'' لعدم انطوائها على معنى واحد يمكن أن يصاغ حوله إجماع مثل النصوص المناقبية الغارقة في الرموز، المحلقة في فضاء الغيبيات، والمشحونة بالمواقف المتنوعة والمقاصد المختلفة، مع تداخل الواقع مع المتخيل، مما يتمخض عنه تأويل يصبح هو نفسه موضوع تأويل، ليدخل في سلسلة من التأويلات اللامتناهية التي لا يمكن وصفها أكثر من أنها اجتهادات مفيدة. وفي هذا الإطار تدخل محاولات الأستاذ محمد مفتاح، رغم أنه اعتمد في تأويلاته على من أسماهم ''بالعقلانيين'' من الأسلاف والمتصوفة، ولذلك كان محقا وأمينا حينما كان يردف إلى أحكامه المؤولة عبارة ((إذا صح هذا التأويل)) (38). وهو نفس النهج الذي سرنا على هديه في دراسة سابقة حين حللنا موقف المتصوفة من أزمة المجتمع الموحدي ونظرتهم إلى كيفية التحول الذي ينشدونه، إذ تبين أنهم كانوا يرومون إلغاء المجتمع القديم كلية وتدشين مجتمع جديد، استنادا إلى روايات مناقبية تدل جميعها على فكرة ''البعث'' من جديد؛ يتجلى ذلك في الروايات الكرامية التي تتردد دائما في كتب مثل كتاب التشوف لابن الزيات حول الماء والبحر والحج والسمك، إذ كلها تؤكد أن هذه الظواهر تعكس في الثقافة العربية -الاسلامية التطهر وتجديد القوى الروحية و''ميلاد''ا جديدا للإنسان، وهو ما تدعمه وقائع السياق التاريخي المتولد من الأزمة نفسها (39).

خلاصة القول إن الحديث عن هرمنيطيقا تاريخية مسألة شائكة ومعقدة لتعقد النصوص ذاتها، وقد أثبت البحث بالحجة قابلية بعض النصوص التاريخية للتأويل شريطة التقيد بضوابط قد تساعد في بناء ''علم التأويل التاريخي'' بناء علميا متكاملا، وفي هذا السياق تأتي أهمية وضع فهم وإدراك النص ومعاشرته والاستئناس به، وتأسيس معجم للرموز التاريخية على غرار ما قام به Chevalier jean (40) كمسألة ملحة في الأبحاث المستقبلية حول الهرمنيطيقا في مجال التاريخ.

الهوامش

1م - سعيد توفيق : هرمنوطيقا النص الأدبي بين هيدجر وجادمر، مجلة نزوى، عدد 2 ، مارس 1995 ص 84.

1 - لا نجلو وآخرون : النقد التاريخي، ترجمة عبد الرحمن بدوي ، طبعة الكويت، ص 118

2- الترجمة العربية للدكتور فؤاد شاهين

3- راجع محمود اسماعيل : قراءة نقدية في الفكر العربي المعاصر ودروس في الهرمينيطيقا التاريخية، مصر العربية للنشر والتوزيع، 1997، ص 93 وما بعدها ، ثم ص 121 وما بعدها.

1) محمد بن عياد : التلقي والتأويل : مدخل نظري، مجلة علامات، عدد 10، 1998 ص 9

4 م) عبد الله العروي : مفهوم التاريخ، ج 2 : المفاهيم والأصول، المركز الثقافي العربي، بيروت 1992 ص 313

2) يقول : أول الكلام وتأويله : دبره وقدره وإن كان يلاحظ أنه خلط بين التأويل حسب هذا المعنى والتفسير حيث أضاف : وأوله وتأوله فسره. انظر لسان العرب، دار المعارف ج 1، ص 172

3م) سعيد توفيق : م س، ص 84

3ث ) نفسه، ص 90

3) انظر الآيات رقم 6،21،36،37،44،45،100،101.

4) انظر الآيتين رقم 78و 82

5) انظر الآية رقم 53

6) انظر الاية رقم 35

7) انظر الآية 59

8) انظر الآية 39

9) انظر الآية 7. وكل الاحصائيات السالفة الذكر تمت عبر قرص السيديروم : Holy Coran, ver 6,0 انتاج شركة صخر.

12م) سعيد توفيق ، م.س ، ص 90

12ث) عبد الله العروي : م.س ، ص 312

10) اقتباسا من : محمد بن عياد : م.س، ص 18

11) نفسه، ص 9

14م) عبد الله العروي: م.س ص 316

14ث) حميد لحميداني : المقصدية ودور المتلقي عند عبد القادر الجرجاني، بحث نشر ضمن أعمال ندوة '' قضايا المصطلح في الآداب والعلوم الإنسانية'' منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة الندوات 12،ج 1، سنة 2000 ص 148

12) نصر حامد أبو زيد : إشكاليات القراءة وآليات التأويل، البيضاء المركز الثقافي العربي (ط2) ص 254.

13) و.كوثراني: مارك بلوخ : التاريخ : دراسات البشر في الزمن لا في الماضي ، مجلة منبر الحوار ، بيروت 98، ص 78

14) أركون : تاريخية الفكر العربي، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت 1986 (ط1) ص 15

14ر) حميد لحميداني : م.س، ص 154

18) نفسه ، ص 172

19) المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت (ط3) ص 4

19م) دلائل الإعجاز ، تحقيق السيد رشيد رضا ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت 1978 ، ص 202

20) عاصم الدسوقي : البحث في التاريخ : قضايا المنهج والإشكاليات، بيروت 1991، دار الجيل ،ص 76

20م) عبد الله العروي : م.س، ج 2 ص 312

20ث) نفسه ، ص 315

*) عبد الفتاح كيليطو : الحكاية والتأويل : دراسات في السرد العربي. دار توبقال للنشر ، البيضاء 1988، 36 .

21) نصر أبو زيد : م.س ، ص 20

22) نفسه ، ص 36

23) ابن الزيات : أخبار أبي العباس السبتي ، نشره أحمد التوفيق على هامش كتاب التشوف، منشورات كلية الآداب بالرباط 1984، ص 453 .

24) إعمال الأعلام، ج ، ص 257

25)، نفسه ص 406

26) نفسه، ص 194

27) حاجي خليفة : كشف الظنون ، مجلد 1 ص 335

27م) سعيد توفيق : م.س، ص 92

27ث) دلائل الإعجاز ، ص 286

27ر) عبد الله العروي : م،س، ج 2، ص 314

28) عن : عفيف عثمان : الذاكرة والتاريخ من خلال كتاب المؤرخ جاك لاكوف، مجلة منير الحوار 1998، ص 94 - 105

28م) دلائل الإعجاز، ص 286 - 294

$) كما فعل عبد الفتاح كيليطو في حكاية الجمل مع أبي سهل، انظر : م.س، ص 65-66

28م) حياة المسيح ص 47 : عبد الله العروي : م.س، ص 313

29) بنعيسى أزاييط : من تداوليات المعنى المضمر : اللسانيات واللغة العربية بين النظرية والتطبيق)) بحث نشر ضمن كتاب اللسانيات واللغة العربية بين النظرية والتطبيق، منشورات كلية الآداب بمكناس، سلسلة الندوات 4، سنة 1992 ،ص 56

29م) عبد الله العروي : م.س، ج 2، ص 313

30) حرية التأويل عند أمبيرتو إيكو، ملحق ''العلم الثقافي'' بتاريخ 9 يناير 1999 ص 12 ، عمود 2

31) رضا الزواوي : في الفكر الجدلي : دراسة تحليلية نقدية للنصوص، ص 17 وما بعدها

30م) انظر عبد الفتاح كيليطو : م.س، ص 62 ، حيث اعتمد في تأويله الأصل المتصوف أبي سهل القرشي بأنه من مكة، علما بأن ثمة أسماء مشتركة بين المغاربة والمشارقة قد توحي بهذا التأويل ولكنها قد تكون غير صحيحة.

32) الحسين بوزنيب : التحليل اللغوي منهاج لاستنتاج جوانب حضارية: بحث نشر ضمن أعمال ندوة التاريخ واللسانيات : النص ومستويات التأويل، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، س. ندوات ومناظرات، رقم 20، سنة 1992 ص 42

33) إبراهيم القادري بوتشيش : مباحث في التاريخ الاجتماعي للمغرب والأندلس خلال عصر المرابطين، بيروت 1998، دار الطليعة ص 83

34) أخبار المهدي بن تومرت : تحقيق عبد الحميد حاجيات ، الجزائر 1986 ص 114

35) نفسه ، ص 69

36) الحسين المجاهد : صورة السودان في الخطاب التاريخي المغربي خلال القرن 16هـ ، نموذج مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفاء لعبد العزيز الفشتالي، نشر ضمن أعمال ندوة التاريخ واللسانيات : النص ومستويات التأويل، مرجع سابق، ص 311

37) سعيد بنگراد : السيميوزيس والقراءة والتأويل، مجلة علامات، عدد 10، ص 50

38) للمزيد من التفصيل انظر احسان سركيس : التأويل التاريخي ودور الفرد . دار دمشق للطباعةر(دون تاريخ)، ص 34،35.

38) راجع مقاله : السياسة الحيوانية : قراءة في كرامات أبي يعزى، بحث نشر ضمن أعمال ندوة : التاريخ واللسانيات المشار إليها سلفا، ص 80

39) للمزيد من التفاصيل حول الموضوع راجع كتابنا : تاريخ الغرب الاسلامي، قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة، بيروت 1994، دار الطليعة ص 112 وما بعدها

40) Jean chevalier : Dictionnaire des Symboles.Paris-Robert,Lafont, 1982

 

 

 

موارد نصيــة

مجلة إسـراف 2000

العدد 16 - 2001

المحتــوى

التمثيل في الرواية العربية: عبد الله إبراهيـم

النص التاريخي والتأويل: إبراهيم القادري بوتشيش

نظرات على المعجم الموحـد: أحمد الفوحي

محور العدد: السميائيات: الموضوع والاتجاهات

حول مبادئ سيميائية: محمد مفتـاح

مفهوم القيمة في السيميوطيقا السردية: عبد المجيد النوسي

السميائيات وموضوعها: سعيد بنگراد

السيميوطيقا والتواصل: محمد الولي

سيميولوجيا الصورة الفوتوغرافية: عبد الرحيم كمـال

قضايا السيميولوجيا المسرحية: باتريس بافيس - ترجمة: محمد العماري

قضايا الدليل الفلسفية: أمبرتو إيكو - ترجمة: حسن الطالب

سميائيات البنيات المسرحية: مارلن كارلسن - ترجمة: عبد الله مالكي

قراءة في كتاب «الصورة والبناء في المراثي الجاهلية»: عبد الله الهمـس

ربيع عبد الرحمن اليوسفي: جعفر عاقيل

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.