السِّيمْيولُوجِيَا والسِّيمْيوطِيقَا تسميتان حديثتان لعلم جديد
يُعنى بدراسة الأنساق الدالة اللفظية خاصة، وغير اللفظية: اللفظية لأن اللغة نفسها بلغت درجة عالية من الرقي، ولأنها
تتمتع بمكانة لا تضاهى في حياة الناس. ولهذا كثيراً ما اتُّخِذ علم اللغة نموذجا لدراسة باقي الأنساق
غير اللفظية. ويَعتبر أغلب الدارسين
فِردِنانْ دُو سُوسُورْ أبَ السيميولوجيا الحديثة. يقول سُوسُورْ وهو يبشر بهذا العلم:
>اللغة نظام من الدلائل المعبرة عن أفكار، ولذا يمكن أن
تقارن بالكتابة، وبأبجدية الصم ـ البكم، وبالطقوس الرمزية وبالأشكال
المعمارية وبالإشارات العسكرية الخ. على أن اللغة هي أهم هذه الأنساق على الإطلاق. وصار بإمكاننا تبعاً لهذا أن نتصور علماً يُعنَى بدراسة حياة
الدلائل داخل الحياة الاجتماعية؛ وقد يشكل هذا العلم جزءاً من علم
النفس الاجتماعي، وتبعاً لذلك قد يشكل جزءاً من السيكولوجية العامة،
وسندعو هذا العلم سميولوجيا. (ففي
اليونانية تعني سيمِيُونْ >دليل<) وهي تتكفل بتعليمنا بأي شيء تقوم الدلائل وما هي القوانين
التي تتحكم فيها....]
واللسانيات هي مجرد جزء من هذا العلم العام، فالقوانين التي قد
تستخلصها السيميولوجيا ستكون قابلة للتطبيق في مجال اللسانيات،
وستكون هذه مرتبطة بمجال محدد بدقة ضمن مجموع الوقائع الإنسانية<(1).
السيميولوجيا عند سوسور هي إذن هذا العلم العام للدلائل التواصلية
وليس اللغوية وحسب. والواقع أن
حصر السيميولوجيا في اللغة بمعناها الدقيق سيجعلنا نخوض في مجالات
العلوم اللغوية كالصرف والدلالة والتركيب. وإذا كانت هذه العلوم اللغوية من أعرق العلوم فذلك يعود إلى
الأهمية القصوى التي تحتلها اللغة في الحياة اليومية للإنسان. إن الإنسان الذي استعمل اللغة أول ما استعملها قد كان في نفس
الآن يعيد النظر في هذه الأداة التي يستعملها ويفكر فيها وينقحها
ويتحكم في استخدامها وفهم فعلها ومراقبة تأثيراتها. وهذا كله عمل لا يتصل فقط بالاستعمال الغفل بل يتصل في نفس
الآن بوضع هذا الجهاز موضع تأمل وتفكير. وهذا عمل يتصل بالسيميولوجيا، تماماً كما أن مفسر الأحلام
يقوم بعمل السيميولوجي وإن لم يكن على علم بذلك. ونظراً لأهمية اللغة في الحياة اليومية منذ آلاف السنين، كانت
صناعة هذا الجهاز اللغوي دقيقاً ومحكماً. إن أىة سميولوجيا لا يمكنها أن تتجاهل الإرث العلمي الذي أقيم
على أساس أهم الأنساق السيميولوجية الذي هو اللغة الإنسانية. ولهذا يجوز اعتبار علم اللغة النموذج الذي ينبغي أن تحتذيه
السيميولوجيا.
وإذا كانت السيميولوجيا السُّوسُورِيَّة تمتاز بالمحايثة أي بحصر
دائرة الاهتمام في العلاقات القائمة بين الدلائل مركبياً وبدلياً
وبين الدوال والمدلولات. فقد
ظلت الكثير من العناصر الأساسية في اللغة بمنأى عن المعالجة العلمية
التي تنوِّر معرفتنا بهذا الجهاز الذي هو اللغة. إن النزوع السُوسُورِي المتسم بنزعة المحايثة قد أغفل المرجع
أو الأشياء التي تحيل عليها الكلمات كما ترك المبهمات أو الإشاريات
في الظل ولم يلتفت إلى العناصرالنصية التي تتخطى الجملة ناهيك عن
العناصر النفسية والاجتماعية والثقافية والحضارية التي لا يمكن
بدونها التمكن من الفهم المناسب لنسق اللغة. ولأمر فقد عمل السيميائي الأمريكي شارل موريس وشارل سنادرس
بورس، تدارك هذا النقص بالتمييز بين الأبعاد الدلالية والتركيبية
والتداولية: فالبعد الدلالي هو
العلاقة بين الدلائل والمراجع أو المعيَّنات؛ والبعد التركيبي هو
العلاقة بين الدلائل فيما بينها؛ والبعد التداولي هو العلاقة بين
الدلائل ومستعمليها<(2).
والواقع أننا بالعودة إلى إدراج عناصر الباث والمتلقي أي
المستعملين نُدْخِل من النافذة كل العناصر التي سبق لسُوسُورْ أن
استبعدها بدعوى أنها عناصر مشوِّشة على الدراسة المحايثة والتمييزية. والحقيقة هي أن سُوسُورْ لم يقْصِ هذه العناصر الخارجية إلا
لتأمين الدراسة السيميولوجية من الآثار السلبية لعلوم الاجتماع
والنفس والتاريخ التي كانت آنذاك تداهم كل المجالات بطريقة غير
مشروعة. كان المشروع
السُّوسُورِي هو التسييج العام للموضوع وحصر هذه المادة المدعوة لغة. وفي المرحلة الثانية نلاحظ عودة هذه العناصر بعد أن تبين
للدارسين تعذر فهم هذه المادة اللغوية أو اللفظية بدون مراعاة
العناصر الخارجية. وكنا هنا
شهوداً على الثورة الثانية في السيميولوجية. أو هو تحول السيميولوجية إلى نظرية في التواصل.
إن علماء التواصل يتحدثون عن باث ومتلق ونص. في حين يتحدث أرسطو بالتقريب، مقابل تلك الأطراف، عن
الإِيتُوسْ والبَاتُوسْ والُّلوجُوسْ. وهذه العودة المشروعة قد حدثت لتأمين الفهم السليم
للسيميولوجيا واللغة عامة. إنها
إدماج لهذه العلوم ضمن مشروع يخدم السيميولوجيا. ومن حق هذه العلوم أن تدمج السيميولوجيا، ضمن علم النفس
مثلاً، لخدمة أغراضها.
ومقابل هذا التوسيع لطبقات عمل السيميولوجي ومستويات التحليل، فقد
تم توسيع المجال الدلائلي بل اللغوي. فلم تعد اللغة تشمل فقط اللغة اللفظية المنطوقة أو المكتوبة
أو المصورة بل أصبحت تشمل عناصر ما كانت لتخطر ببال سيميولوجي من
قبيل فردنان دو سُوسُورْ.
>إن التواصل لا يقتصر فقط على توصيل الرسائل اللفظية
الصريحة أو القصدية؛ إن التواصل كما نتصوره يشمل مجموع العمليات التي
يتبادل بها المتخاطبين التأثير.
إن القارئ قد يتعرف بهذا على أن هذا التحديد يقوم على مسلمة كون كل
فعل وكل حدث يوفران مظاهر تواصلية، بمجرد ما يتم إدراكهما من قبل
كائن إنساني<(3).
إن السيميولوجيا قد تم تفجيرها لكي تصبح تواصلاً. وهذا التواصل قطع كل الصلات التي تربطه بالنموذج
الجَاكُوبْسونِي البريئ حيث المتكلم والمخاطب أقرب ما يكونان إلى
الآلات الصماء. إن هناك باثاً
يرسل إلى متلق ما عبر قناة خطاباً ذا موضوع ما وبسنن لغوي ما.
إن المطابقة بين الباث والمتلقي لهو مجرد تصور للباحث، إذ الواقع
يخبر أن عمليتي الإرسال والتلقي نادراً ما تطابقتا. ولا يتم التطابق إلا في الصيغة الآلية التي لا تلتفت إلى
المعنى ولا إلى التباس الرسالة ولا إلى نشاط المتلقي التأوِيلي، وهي
الصيغة التي وضعها مهندسا التواصل الآلي شَانُونْ وَوِيـبِيرْ. وهنا لا نتحدث عن أى تواصل. إن التواصل ملازم للالتباس والغموض والتعدد المعنوي. وبالإضافة إلى هذا هناك تصور التواصل يقوم على الدلائل
اللفظية وحسب. وهذا التصور
موروث عن اليونان وربما كانت خاصية في الفكر القديم، حيث يتصور أن
التواصل لا يتم إلا بالكلمات.
ولهذا نفهم ملاحظات العالم الأنتروبولوجي الأمريكي دِيلْ
هَايْمَسْ حينما ذهب إلى >أن
الأنتروبولوجيا ينبغي لها أن تراعي التحديدات >المحلية< للتواصل. ففي المجتمعات
الحديثة يشير >التواصل< إلى تبادل المعلومات بين شخصين أو نقل المعلومات عبر وسائل
الاتصال. ولكن ما هو التواصل في
السياقات الأخرى غير الغربية.
ففي ثقافة هنود أُجِيبْوَا مثلاً يسلم الناس بأن الآلهة تخاطبهم
بواسطة البرق؛ وأن الأحجار هي علامات وضعتها الآلهة مرتبة في الخلاء
لمساعدة الرجال والاهتداء بها لقطع الفيافي. كما أن كهول قبائل الزُّونِي التي تسمع الذئاب تعوي خلال
الليل المخيم يزعمون أنهم يستطيعون >أن
يعيدوا ترجمة< >حواراتهم< للشبان. وحسب هَايْمَسْ
فإن كل هذه الوقائع هي من قبيل التواصل، وتبعاً لهذا ينبغي أن ندمج
في >اقتصاد التواصل< لمجتمع ما :
1- كل العوامل التي ينسب إليها أطراف هذا المجتمع نية
التواصل (الآلهة والأموات
والحيوانات) 2 - وكل الوسائل
التي تتوسل بها هذه الأطراف من (بروق
وأحجار ونباح) لمخاطبة الناس أو
للتحاور بينهم.
ففي أية ثقافة يضيف هَايْمَسْ] أو تجمع لغوي يتم ترتيب السلوك أو الأشياء باعتبارها منتوجات (بالصناعة والنزوع) ترتيباً انتقائياً، وتستعمل وتتداول وتؤول بحسب قيمتها
التواصلية. إن أي سلوك وأي شيء
يمكن أن يكون تواصلياً كما أن سجل الإمكانيات التواصلية لهو أوسع
بكثير وأكثر دلالية مما يبينه انتباهنا المعتاد إلى الكلام<(4).
ويقول إِيدْوَارد ت. هَالْ : >إن أولئك الذين يمتلكون،
مثلنا، تراثاً أوروبياً يعيشون في عالم من الكلمات يبدو لهم هو
الواقع؛ إلا أن الكلام لا يعني مع ذلك أن ما نوصله بغير الكلمات من
سلوكنا ليس متسماًً هو كذلك بالأهمية القصوى.
...] الأصعب هو أن نقبل بأن نماذجنا هي نماذج خاصة وتبعاً
لهذا فهي ليست كونية<(5).
والواقع أننا هنا نعيش مع الثورة الثالثة لعلم السميولوجيا. هنا لم يتم نسف النسق الداخلي للدلائل وحسب وتسليط الضوء على
عناصر السياق والباث والمتلقي، بل اتجه الاهتمام إلى اعتبار كل
الأشياء الخارجية قابلة لكي تكون أدوات تواصل طالما أنها تدخل في
دائرة الاهتمام وتؤثر بكيفية ما في توجيه سلوكنا.
لقد اكتسبت السيميولوجيا مع بزوغ فجر البنيوية مكانة مرموقة في
الفكر المعاصر. وهكذا بدأنا
نتحدث عن سيميائيات الشعر وسيمائيات السرد وسيميائيات الدراما. والواقع أن هذه السيميائيات قد تختلط بتسميات أخرى من قبيل
الأسلوبية والشعرية والبلاغية والتحليل اللساني للشعر ونحو الشعر،
إلى غير ذلك من الألقاب التي توضع لهذا العلم العريق الذي هو علم
الشعر. إن غض الطرف عن مثل هذه
التداخلات يوحي بأن السيميائيات قد وُلِدَت علماً تاماً مستوياً. والواقع أنه إذا صدق هذا على بعض الأنساق الإيقُونِيَّة من
قبيل الرسم والنحت والوصلات الدعائية والإشهارية والموسيقى، فإنه من
المحال أن ينطبق هذا على الشعر وهو الجنس الأدبي الذي يتوسل بالأداة
اللفظية المعتمدة في التواصل الشفوي والكتابي في العلوم وفي الإدارة
وفي المعاملات الاجتماعية.
لقد كان للشعر كممارسة اجتماعية موقعاً مرموقاً في المجتمع، وهذا
هو الذي جعله يختص بمكانة مرموقة أيضاً في اهتمام الدرس العلمي. ولهذا فمع مجيئ السيميائيات لم نكن نَطَـأُ أرضاً جرداء بل،
أرضاً خصبة.
إن أهم مستويات تحليل النص الشعري عند القدماء هي تلك التي عينتها
بلاغة المحسنات. ويتعلق الأمر
بالمحسنات الصوتية الإيقاعية والعروضية والقفوية والجناسية واللفظية
والتركيبية والفكرية. ويتحدث
البلاغيون علاوة على ذلك عن ترتيب النص أو بناء القصيدة. وقد استقلت بلاغة المحسنات استقلالاً تاماً على يدي البلاغي
اللاتيني لُنْجَانْ في كتابه الذائع مختصر الرائع(6) وحينما نستعرض أمامنا أهم المواضيع التي تطرق لها نجد: فن الرائع والأسلوب البارد والوسائل التي تسعف على معرفة
الرائع والروعة الفكرية والتفخيم والمحاكاة ووسائلها والصور
والمحسنات والالتفات والاستفهام والقطع ومجاز العدد والجنس والزمن
والضمير والتخلص والكناية والتشبيه والحكاية التمثيلية والمبالغة
وترتيب الكلم ووزن الأدوار، الخ<(7). وإذا أضفنا إلى هذا الأوزان والقوافي والصيغ السْتْرُوفِيّة
الثابتة سنكون قد قدمنا جرداً شبه تام لأهم مجالات عمل البلاغة
والأسلوبية والشعرية والتحليل اللساني للشعر وأخيراً سيميائيات الشعر.
يبدو أن البلاغة القديمة قد ظلت حبيسة هذه المهمة، أي مهمة إعدا
صنافة المحسنات. وفي هذا الأمر
تتساوى البلاغة العربية والغربية. وبشكل عام فإن القصور الذي نلاحظه في نظرية الشعر يعود إلى
اعتبارات ثلاثة مهمة.
1 - إن الشعرية القديمة في التراث الغربي قد كانت بالأساس
شعرية سردية. وهذا هو موضوع
شعرية أرسطو. بل إن الفيلسوف
الإسْتاجِيرِي اعتبر الشعر الغنائي شعراً منحطاً وطفولياً. ولهذا فهو لم يهتم به.
وفاز الشعر الدرامي في هذا الرهان، وبالخصوص التراجيديا، التي هي
حكاية مأساوية تنتهي حياة بطلها الطيب والبريئ نهاية دموية ناتجة عن
خطإ غير مقصود. ويبعث هذا الوضع
انفعالين لدى المتلقي هما الرعب مما يقترفه البطل والشفقة مما يتعرض
له. وهذه الصياغة للحكاية رغم
أنها تتوسل ببعض مقومات الشعر، مثل الوزن إلا أن الحكاية قد تحدت
الوزن فجعلته ناقلة الحبكة التراجيدية. لقد أنزل الشعر الغنائى في النظام الأرسطي منزلة فن منحط غير
جدير بتسمية شعر. إن
بُويِيزِيسْ اليونانية التي تعني الفعل تتطابق مع الشعر التراجيدي
الدرامي الذي يحتل فيه الفعل الموقع التمييزي إذ التراجيديا هي
بالتعريف حدث متصل تام له بداية ونهاية يتطور من المنبع إلى المصب
منتقلاً بحياة البطل من السعادة إلى الشقاء. وبدل هذا نجد الشعر الغنائي يقوم على انثيال انفعالي غير
حدثي، إذ الحدثية تقتل هذه الغنائية الشجية.
2- الاعتبار الثاني هو أن الشعر الغنائي، وهو المقصود
عندنا اليوم بمصطلح >شعر<،
يقوم بالأساس على استخدام مكثف للدلائل. لقد كان علينا انتظار العصر الرومانسي لكي ينقلب هذا الهرم،
فيعتلي الشعر الغنائي قمة الهرم ويستوي على عرشه. ولهذا أصبح الشعر الغنائي الذي كان مرتَّباً ضمن مجموعة >الأجناس الشعرية الصغرى< مقابل أجناس الملحمة والتراجيديا والكوميديا، هو سيد الأجناس
الشعرية. لقد كف الشعر عن أن
يكون محاكاة للعالم. >لا تتحدد
اللغة بالنسبة إلى الكلاسيكي ولا تتمتع بأية قيمة إلا بالعلاقة مع
فكر سابق عليها. وعلى العكس من
ذلك، تتمتع اللغة بالنسبة إلى الرومانسي، وهم يعتبرون الشعر الغنائي
هو الشعر الحق] بوظيفية مستقلة: إنها كفاءة خلاقة، أي فعل وليست مجرد أثر.
...] وفي المقام الثاني بالتوازي مع ذلك فإن الفكر ليس كفاءة
هامدة لتسجيل الظواهر، إنه نشاط خلاق: لا يعود الفكر هنا مثل مرآة. إنه مثل مصباح، مصدر للضوء الذي ينشط العالم وينيره<(8). وهذا ما عبر عنه جان كوهين بشكل مكثف بعبارته:
>إن كلمة شعر والمقصود هو الشعر الغنائي] التي تعني في مفهومها الحديث صنفاً محدداً من الجمال إنما
ظهرت بظهور الرومانسية بالضبط<. (9)
هذه الاستقلالية للغة في علاقتها بالعالم الخارجي أكسبت القناة
اللفظية كثافة وسمكاً لم تكن تتمتع بها في التصورات الكلاسيكية
المحاكاتية. وهذا الموقف هو
الذي جعل الرومانسي الألماني الكبير نُوبَالِيسْ >يعتبر الموسيقى نموذج الرسم
والشعر، تلك الموسيقى التي تتنكر لسراب التمثيل، تنبسط في نظام
عناصرها الخاصة. وفي هذا
الاتجاه يؤكد بُودْلِيرْ، وهو يؤول إيدْكَارْ آلَانْ بُو، إن الشعر >لا يستهدف إلا ذاته<. ففي الشعر تبدو اللغة متناسية لواجب التواصل؛ إنها تكتفي
بالإلتفات إلى ذاتها في اشتغالها الخالص<(10)
وهكذا فإذا كانت اللغة في التراجيديا لا تقوم إلا بدور نقل
الحكاية بعيداً عن استغلال القشرة اللفظية الدالية بما في ذلك من
إىقاعات وقوافٍ وجناسات وتوازيات، وعن التصرف البالغ في المحتويات
المدلولية حيث المعنى لا يكتسب الشعرية إلا بإحالته على معان إضافية. فإن الشعر الغنائي لا يستوي على كرسي الجودة الشعرية إلا
بالاستثمار لكل هذه المقومات.
إن الدليل اللغوي في الشعر بالغ الغنى ومتعدد الطبقات الدالية
والمدلولية والمرجية والتلفظية.
ولهذا يقال إن الشعر لا يترجم.
لا يترجم لأن هذا النقل يعجز عن نقل كل هذه الملامح الدالية
والمدلولية بما في ذلك من جناسات وأوزان ونبر وإيقاع وتفاعيل وكم
مقاطعي وتوازيات وقواف ومحاكيات صوتية الخ الخ. ومجازات واستعارات وكنايات ورموز ثقافيةالخ الخ.
3 -لقد اقتصرت الشعرية القديمة على وضع سجلات مستقصية
للمقومات الشعرية. ونكاد اليوم
ونحن نتصفح دراسات من قبيل العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق(11) نجزم بأن القدماء قد كانوا بارعين في الكشف عن المقومات
الشعرية والمحتويات الغرضية للقصيدة القديمة. ويمكن أن نقول نفس الشيء ونحن نتحدث عن التراث الغربي. إن جرداً من قبيل ذلك الذي يقدمه هُوكْ بْلِيرْ(12) جدير بالإعجاب من حيث تقصيه لأغلب المحسنات البلاغية، أو لما
اعتبر في لحظة تاريخية ما مقومات نالت تزكية المتذوقين. ومع هذا فلا نستطيع أن ندعي أن هذا الجرد قد كان كاملاً
ومستجيباً لكل أجناس الشعر عند كل الأمم وفي كل العصور. هذه السجلات تظل مقيدة بلحظاتها التاريخية وأعراف الثقافة
المحتضنة لهذا الجنس الشعري أو ذاك وبطبيعة اللغة التي استخدمها هذا
الجنس الأدبي أو ذاك.فإذا كنا
نزعم أن هناك شبه إجماع على اعتبار الاستعارة مقوماً متمتعاً بالحظوة
في كل المصنفات البلاغية القديمة فمن المحال تحقق نفس الإجماع على
مقوم من قبيل التقديم والتأخير.
تماماً كما نقول إن القافية التي كانت مقوماً شعرياً عند القدماء لم
تعد كذلك عند المعاصرين. يقول
يوري لوتمان:
إذا كنا نستطيع أن نطبق على قصيدة رومانسية الطريقة التالية: استخراج الاستعارات الغنية والنعوت وعناصر أخرى مما يدخل في
إطار الخطاب المكسو بالمحسنات، وتقديم تقييم للنسق المفهومي وللأسلوب
على أساس تلك المقومات، فإن هذه الطريقة تغدو غير قابلة للتطبيق على
نمط الشعر الْبُوشْكِينِي لسنوات01830. إننا لا نصادف هنا لا نعوتاً ولا استعارات ولا قوافي ولا >إيقاعاً< ظاهراً ولا >أي مقوم فني<(13)<.
وهذا الأمر المتعلق بالقيمة النسبية المنسوبة إلى نفس المقوم
الشعري إضافة إلى مقومات غيرها لا تظهر إلا في عصور أو في لغات أو في
أجناس يجعل السيوطيقا حبيسة >علم< وصفي واستقرائي يصعب أن يرتفع إلى مستوى العلوم النظرية
العامة التي تسيطر على موضوعها بعيداً عن القيود التاريخية والثقافية
واللغوية الخ الخ.
إلا أن التحدي المرفوع في وجه البلاغة هو المتمثل في لم هذا
الشتات بخيط دلالي ناظم. وأعتقد
أن السيميائيات، باعتبارها علم الكشف عن معاني الدلائل اللفظية وغير
اللفظية، هي صاحبة مشروع تقديم الأجوبة المناسبة عن هذا التساؤل
المشروع. فكيف يمكن أن تتفق
القافية والوزن والدلائل الاعتباطية والاستعارة والإيقاع على الإشارة
إلى هذا المعنى بعينه. بل وكيف
يمكن أن نتفادى حرج نسبة المعنى إلى الوزن أو إلى الجناس أو إلى حروف
وحركات بعينها. والحقيقة أننا
إذا أمكن أن نسند هذه المهمة إلى الدلائل اللفظية المعجمية فمن
المستبعد القيام بنفس السهولة بإسناد هذه المهمة إلى وزن عروضي أو
إلى قافية أو إلى محسن جناسي.
بمعنى آخر كيف يمكن أن نشرك كل طبقات الخطاب الشعري في توصيل نفس
المعنى.
إن السيميائيات ما تزال على هذا الصعيد طفلاً يحبو ولا يكاد يبين. وكل ما نتوفر عليه الآن مجرد ملاحظات عبقرية حقاً ولكن لا
يمكن أن ترتفع إلى مستوى النظرية التي تنطبق على آداب أمة ناهيك عن
آداب كل الأمم وكل المراحل التاريخية وكل الثقافات. إننا نتوفر على بعض الحدوس العبقرية، من قبيل قول حازم
القرطاجني:
>ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد
والرصانة وما يقصد به الهزل والرشاقة، ومنها ما يقصد به البهاء
والتفخيم وما يقصد به الصغار والتحقير، وجب أن تحاكي تلك المقاصد بما
يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس. فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة الباهية
الرصينة، وإذا قصد في موضع قصداً هزلياً أو استخفافياً وقصد تحقير
شيء أو العبث به حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة
البهاء، وكذلك في كل مقصد.
وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزناً يليق به لا يتعداه فيه
إلى غيره<(14).
يذهب حازم إلى أن الأوزان الشعرية باعتبارها تتابع حركات وسكنات
يحيل كل جنس منها على معنى خاص تنفرد به دون غيرها. بمعنى أن مجرد انتظام الحركات والسكنات يحيل على معنى. وهذا الوضع هو الذي يجعل بعض البحور صالحة لبعض الأغراض دون
غيرها. إن بعض أجناس الهياكل
العروضية تصلح للرثاء والبعض الآخر يصلح للفخر والآخر يصلح للغزل
وهكذا دواليك.
إلا أن هذه الحدوس في حاجة إلى التزكية ببراهين تجريبية. وفي الوضع الحالي للعلوم المتصلة بالشعر فإن هذا المطمح بعيد
عن التحقق.
وما يقول عن الأوزان يمكن أن يقال عن المقومات اللفظية الأخرى. إن كل محاولات الربط بين أشكال الجناس والمحاكيات الطبيعية
والقافية وبناء القصيدة والتفاعيل والنبر وبين المعنى هي مجرد
انطباعات لا ترقى إلى مسستوى الإثبات البرهاني التجريبي. وهذا العجز عن الربط بين متواليات لفظية ومقابلاتها الدلالية
لمما يثبط همم السيميائيين في وقتنا الحاضر.
وكما اصطدمت اللسانيات بصخور المرجع والإشاريات بما في ذلك
الأعلام والضمائر والظروف الزمانية والمكانية الخ فأخرجتها من دائرة
النصية إلى مجال التداوليات الرحب، كذلك حدث للسميوطيقا التي أخرجتها
عوائق المعنى والتعدد الدلالي والمجاز والقيمة الجمالية وتمزق
العلاقة بين الباث والمتلقي ومسألة العلاقة بالواقع، من مجال
المحايثة النصية إلى مجال النظرية التواصلية. إن مجرد انفطار العلاقة بين الباث والمتلقي في الأدب والشعر
خاصة لجدير بأن يطرح التحدي الأكبر في وجه المحايثة والسيميوطيقا. إن الخطاطة البريئة:
باث.....................>
نص........................>
متلق
مضللة جداً. ويعود هذا إلى
التطابق المزعوم بين الباث والمتلقي. كما يعود إلى الزعم بأن النص هو عينه في نظر الباث وفي نظر
المتلقي. وهذا الواقع هو الذي
دفع إلى التأكيد، بلسان أقطاب المرسة البْراغِيَّة، على كون هذه
العلاقة مزدوجة، إذ مقابل علاقة، باث....> نص، هناك علاقة نص.....>
متلق. يقول دُولُوزِيلْ:
>إن الدورة المنقسمة تخلق شروط تباعد، غير محدود، زماني
ومكاني وثقافي، بين المؤلف والمتلقين الفعليين أو المحتملين. وهذه المسافة المتغيرة تحدث تعديلات مهمة وتوترات وتباينات
دلالية. وبالنتيجة فإن تحويل
النصوص الأدبية هو أكبر من مجرد >تفكيك< سلبي، إنه إعادة صياغة فعالة لرسالة فقَدَ صاحبُها كلَّ سلطة
عليها<(15). إن المتلقي ليس
كياناً هامداً ولهذا فإنه يفعل في النص ويلونه بما يحمله من قناعات
وأفكار وعواطف. وهكذا فمقابل
الباث الذي ينتج رسالة، متسلحاً بكفاءات لغوية ومصاحبة للغة
وإيديولوجية وثقافية ومحددات سيكولوجية ومحاطاً بعالم الخطاب، نجد
المتلقي المسلح هو أىضاً بنفس هذه الكفاءات التي لا تكون متطابقة مع
مثيلاتها عند الباث؛ وهذا التباين الطبيعي هو الذي يجعل المتلقي لا
يعيد إنتاج الرسالة التي يتلقاها، وإنما يعمد إلى تأويلها. وما يحدث في الكلام العادي يحدث بشكل درامي في الشعر. ففي الشعر لا نتلقى الشعر الجاهلي بنفس المعاني التي حملها في
الجاهلية. إننا نؤول انطلاقاً
من كفاءاتنا المختلفة أشد الاختلاف مع الجاهليين. إلا أن هذا التباين لا يقف عند حدود التنافر المعنوي، بل إنه
يمتد إلى الأبعاد الجمالية.
فكيف يمكن لجمهور اليوم المحمل بثقافة جمالية واسعة تمتد من الشعر
القديم كله إلى الإنجازات الحضارية الجديدة الممتدة من الأدب إلى
المسرح والسينما والتليفزيون الخ الخ أن يتذوق الشعر الجاهلي كما
تذوقه جمهور الجاهلية. أكيد أن
هذا الزاد لا يمكن تعطيله لأجل التذوق بنفس طريقة الجاهليين. والواقع أن هذا التنافر يحدث حتى بالنسبة إلى الآداب التي
تعاصرنا. إن المتلقي جهاز يفور
بالنشاط والحيوية. ولهذا فإن
النصوص التي يتلقاها هي نصوص مغايرة للتي يتصورها المبدع.
إن وضع الشعر خارج إطار السيميوطيقا المحايثة وضمن العلاقة الباث.............> المتلقي مع ما يحمله كل واحد منهما من عتاد فعال من شأنه أن
يجعلنا ندرك بشكل أفضل الصناعة الشعرية. وبعبارة أخرى إن السيميوطيقا الشعرية لا يكتمل مشروعها إلا
بتحولها إلى نظرية في التواصل الشعري. إن هذا الخروج هو الشرط الأساسي لإدراك مناسب للنص.
الهوامش
1- Ferdinand de Saussure, Curso de linguistica general, ed.
Akal editor, 1980, pp. 42-43
2- O. Ducrot et T. Todorov, Dictionnaire encyclopédique des
sciences du langage, éd. Le Seuil, Paris, 1972, p. 117.
3- Y. Winkin, Anthropologie de la communication. De la théorie
au terrain, éd. Le Seuil, 2001, p. 55
4- Y. Winkin, "Vers une anthropologie de la communication, p.
20, Sciences Humaines, n!4, 16, Mars/Avril, La Communication,
1997, Hors Série, pp. 20-23
5- E. T. Hall, Le Langage silencieux, éd. Le Seuil, Paris,
1984, pp. 12-13.
6- Longin, Traité du sublime, éd. Livre de poche, 1995
7- Traité du sublime, pp. 213-214.
8- J. Molino, "Problèmes de la métaphore", in Langages (la
métaphore), n! 54, Juin,1979, pp. 15-16.
9- جان كوهن : بنية
اللغة الشعرية، تر . محمد الولي
، محمد العمري، منشورات توبقال ، البيضاء ، 1986 ص 21
10- J. L. Joubert, La Poésie, éd. Armand Colin, Paris, 1988, p.
86.
11 - ابن رشيق ، العمدة ، في محاس سنالشعر وآدابه ،
دارالمعرفة، بيروت ، 1988
12- H. Blair, Leçons de rhétorique et de belles lettres, éd.
Hachette, 1945.
13- I. Lautman, La Structure du texte artistique, éd.
Gallimard, 1970, 1970, P. 150.
14 - حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الزدباء ، تح
محمد الحبيب بن الخوجة ، منشرات ، دارالغرب الإسلامي ، بيروت ، 1981 ، ص 266
15- L. Dolezel , Historia breve de la poetica, éd. Sintesis,
Madrid, 1997, pp. 230-231.
|