لمعت عيناها
بغشاء رقيق من الدموع و تأرجحت على شفتيها ابتسامة واهية ، ابتسامة
استرقت كيانها المهزوم إلى ماض أحست لأول مرة أنه اندلق بقوة في غياهب الأكاذيب
، هرب من مملكتها إلى دنيا .. ليست دنياها .. دنيا الآخرين .. تتهاطل على
خديها الشاحبين دموع مجنونة، ،،تطلق ضحكات هستيرية متتابعة ،تفرمل فجأة ،
محاولة انتشال نفسها من معاناتها ، تتمتم مذهولة وقد غطت وجهها سحابة
قاتمة من اليأس ..
- لعله كابوس ،
كابوس فظيع ،، مجرد حلم مزعج سأصحو منه بعد قليل ،، أو .. لما لا؟ بعد
سنين ؟ لأجد أن كل شيء حولي هو هو .. ثابت لم يعتره تغيير ، مجرد كابوس
.
رفعت رأسها
محملقة في سقف الصالون ، أمعنت النظر طويلا في ثرياته النفيسة و هي تتدلى
في دلال و كبر ، شاهدة على أيامها الخوالي ،،
تراءت لها
صورتها في السقف
..
رأت نفسها تلف
و تدور في أكبر المحلات ، تبحث عن ثريات تناسب هندسة وديكور منزلها ،
تقفز من واحدة لأخرى بجنون طفولي ، ثم ترى نفسها وهي تميل على أحمد تحسم
به قرارها..
- أيها تعجبك ؟
-
أنا ... لا يهم
، المهم أنت .
- ماذا تقول ؟
أريد رأيك، أريد أن ينطق كل شيء في البيت باسمك ..كل صغيرة وكبيرة أريدها
نقطة تصلني بك و تحمل لمسة منك
..
يقاطعها مبتسما
..
- ستحمل أكيد
بصمة ذوقك ،، لأني أحفظ ميولك و أذواقك جيدا .. سأميل دون وعي مني إلى
الشيء الذي تختارين ، من دون أن تشيري إليه ، مغناطيس سيجذبني إليه
.
و تضحك
.........
- يا أيها
الطفل الشقي الذي يأكل عقلي بالكلام ،، أثبت لي صدقك
.
يرفع أحمد
سبابته و يوجهها نحو ثرية غاية في الصنع تصرخ آمال بفرحة صبيانية ..
- هي عينها ما
اخترت في قرارة نفسي ، أنت دوما تقرأ ما بداخلي و تلتقط كل ما يختلج في
نفسي الصغيرة .. هذا المخلوق البسيط أوجد له الخالق من يجعل منه جبلا
شامخا مزهوا يتلذذ بنسمات الوجود العذبة
...
معك تصفو روحي
و بك يهدا بالي و منك أزود روحي بقوة تجعلني حريصة على البقاء ،، يا لها
من نعمة
.
يقاطعها وقد
أمسك يدها الناعمة الصغيرة ..
- و أنت أكبر
نعمة وهبتنها الحياة .
.........................................................................
على هذه
الكلمات .. اضمحلت الصورة المتراقصة في السقف ، ذابت المنارات ، تباعد
صوت تلك النبرات ، غاب الشريط ، رحل إلى عالم آخر ، اخترق الجدران ،
الحدود المعقولة ، اخترق الذاكرة .. الحدود اللامعقولة ، بعيدا عن عالمها
،،،حتى تلاشى
...
انتفضت من
مقعدها كمن أصابه مس ، أخذت تذرع البيت
..
الغرف كلها ،
الحمام،،، الرواق ،،،نظراتها فاحصة ، تائهة تبحث عن شيء يوقف هذا الزخم
المهول من الأحاسيس المتضاربة ، المتصارعة داخلها ، ذكريات متداخلة ،،
متناقضة ،،
هل هي خيال أم
واقع .. بدا المكان سرابا ، غريبا ، أخذت تتلمس كل أثاثه ، زهريتها
الفخارية الصينية الصنع ، صورة الموناليزا التي أهداها إياها أحمد في عيد
ميلادها ، كان يقول لها ..
- نورانية مثلك
، دافينتشي أكيد كان سيرسمك لو رآك قبلها
...
أخذت تتلمس في
دقة الموناليزا ، تبحث عنها فيها ، عن شيء يجمعها ،عن أحمد ،، لم تجد
شيئا ،، أرهفت سمعها لالتقاط نبرة ، نبرة واحدة من ذلك الماضي ،عيناها
ذاهلتان في شرود الغائب عن الوجود ، كانت صور الماضي تتطاير حول رأسها ،
تتداعى في صخب ، تحوم ،، حولها ،، تلهث مرهقة ، حزن عميق يجثم على صدرها
، يخنقها ألم فظيع
.. .........
لم تدر كم بقت
على تلك الحالة . أفاقت من غيبوبتها ، كان جسدها الصغير يتطوح في الرواق
و هي تتجه صوب غرفة النوم، فتحت الباب ،،، كان يرقد كطفل صغير ، كم بدا
لها بريئا وهو مغمض العينين ، مسلوب الوعي ، يسرح في أحلام لا تعلم من ..
يشاركه فيها
..
ألقت نظرة
فاحصة على الغرفة ،، كم كانت أنيقة ، جميلة ،، تفاوت الجميع في إطراء
ذوقها في تزيينها و انتقاء كل تفاصيل ديكورها
..
تحملق فيها ..
تجد أنها سخيفة ،، قبيحة ، غريبة عنها
.
تحملق في
الجدران الصامتة ، تحملق ،، علها تنطق ، علها تفيقها من كابوسها ،،
استحالت
الجدران الصامتة وحوشا تتهادى في الظلام ، تتحرك الهوينى ، تدنو منها ،،
تدنو أكثر ،، تخرج منها أذيال و أيادي بمخالب فظيعة ،، أنياب حادة تلمع
.. تدنو ، تريد ابتلاعها ،، تتراجع للخلف .. و تصرخ ..تصرخ حتى يبلغ
القلب الحنجرة
..
يهرع من فراشه
مذعورا ..
- آمال ما بك
؟ردي علي .. ماذا تفعلين في هذا الوقت من الليل ؟
كانت ملقاة على
الأرض ، ترنو إلى السقف في غياب تام ،، أسارير وجهها متراخية
.
حملها إلى
السرير
..
لملمت جسدها و
تكورت كقطة تبحث عن دفء مفقود .. أغمضت عينيها في هدوء .. واستسلمت منهكة
لنوم خال من ... الأحلام .
....................................................................
تسللت خيوط
الشمس في عذوبة إلى فراش آمال .. من بين الستائر المسدلة ، تدغدغ وجهها
الحلو الناعم ، توشوش العصافير متناقلة أسرار الطبيعة ، مسترسلة في سرد
أوبرا قصة الوجود ، مؤلفة سيمفونية تهدهد مرقدها فتسلمها لسبات عميق.
انزوى أحمد في
ركن من أركان الغرفة و ألقى برأسه إلى الحائط ، شفتاه مطبقتان بشدة ،
تكشفان عن ألم فظيع ، نظر إلى زوجته في حنو .. شاردا ، وقد اكتست مقلتاه
بحزن عميق ، راح يقلب علبة سجائره ،جلب منها واحدة ، ثم راح يقلبها بين
أصابعه ، غير دار ماذا يفعل بها ؟ هم بإشعالها لكنه ،، تراجع و ألقى بها
أرضا ،،
بدا ثقيلا
جامدا كأن الدهر يجثم على كتفيه ، أخذ يرمق آمال ،، شعر بقوته تتكسر على
عينيها المغمضتين و .. ساوره إحساس بأنه فض و غليظ و .. منهزم
.
أخذ يقترب منها
، وكلما اقترب أكثر ، يحسها تبتعد ، بحار و محيطات كانت تستوي بينهما ،أو
هذا ما كان يحس به
..
عاد إلى ركنه و
راح يترقب يقظتها في سكون ،،، شرد في مساحات الماضي المزدحمة بآلاف
الذكريات الحلوة
..
رأى نفسه شابا
وسيما ثريا ، تتلهف عليه الحسناوات ،و يحمل في مذكرته مئات الأرقام
الهاتفية و المواعيد و الأسماء المختلطة لكثرتها...
ثم رأى نفسه
يوكل أمر انتقاء شريكة حياته لوالدته ،
تخطبها له أمه
،تحفة فريدة ، لم تكن فائقة الجمال ،، بل ربما .. أقل بكثير من وردة و
مريم و هدى و ...و .. و لكنها كانت تجذبه ، كانت نظراتها بحورا عاش فيها
وقتا من الزمن النوراني ، تتراقص على نبرات صوتها الرخيم نسمات تهدهد
روحه المحلقة بحثا عن الآمان و الاستقرار ، عيناها عميقتان تشعان صدقا و
طهرا ، فتبعثان فيه راحة لامتناهية ،، يتحرك جسمها في هدوء .. وتضيء
أسارير وجهها بشفافية .. فتدخل حياته من باب واسع ، في ترو ، وتنغرس في
وجوده بثبات
..
كانت آمال روح
الفضيلة التي تنقصه ن أدرك أنها مكافأة
جميلة ، جوهرة
فريدة تتزايد قيمتها عنده بمرور الأيام
..
كان يقول لها
..
- أنت حياتي ،،
لكنها تقول
بتروي ،
-
للحياة نهاية
،،، لكن الروح بقاء .. أنت روح ترسب في ذاتي و .. لا تذوب ..
............................................
و رسب في ذاتها
.. وطفت على سطح حياته "نوال"..
نظرة ..
فابتسامة . فسلام ، فكلام ، فموعد ،، فلقاء
...
أخذته من دنيا
السكون .. إلى دنيا الصخب و الجنون
..
تلتهمه
ابتسامتها ، تغزو كيانه قهقهاتها التي توحي بإقبال على الحياة بنهم، يضحك
، يتلعثم ... يجمد .. يتورط ،، يسلم نفسه لها و ينام في عينيها ،، ليفيق
وقد اشترى لها شقة راقية ... و .. صنع لها ابنا ..
...........................................................
تحرك المزلاج و
انفتح الباب ، تدخل خولة في فستان نومها الكستنائي .. تقفز على ركبتيه ،
تقبله ، ثم تقفز على السرير تتلمس وجه أمها ، الذي غابت عنه كل التعابير
.
فركت آمال
عينيها ببطء ، كأنها لا تريد أن تفيق على واقع خالته أمسى كابوسا أفاقت
منه ،أحست جسمها ثقيلا ، كانت أجفانها وارمة و تحت عينيها غضون زرق كمن
يخرج من مرض مضن
.
أرسلت تنهيدة
عميقة ، زفرت معها هما ثقيلا ، شعرت بعدها براحة ، استدارت صوب أحمد و
راحت تحدجه بنظرة فاحصة... الذي سرعان ما راح يلتقط لفافته الساقطة
يشعلها ، ينفث دخانها بقلق و اضطراب ،
كانت نظراتها
تحاصره ، تخنقه ، ألقى لفافته مرة أخرى ، انتفض من مقعده بخطوات مضطربة
.كان يحكي قصصا مفككة الجمل ، بلا معنى ، كاد حلقه يحترق ، كان كلامه
متقطعا مختلا ، ،،
توقف فجأة ثم
.. خر جالسا قرب السرير ،ن أجهش بالبكاء مسموع ، بكى كطفل يتوخى أن تنزل
به أقصى العقوبات .
- لم أعرف كيف
حدث هذا.. غلطة.. سامحيني .. كنت
..
توقفه في رزانة
و لطف ..
- إن الفضيلة
أمان و سكينة و حرية وسعادة
..
إنها الجنة .
كم أتمنى أن أصبح فاضلة .. حتى أغفر لك ، لكنك حطمت روحي .. دعني ألملمها
في تؤدة حتى لا أخلط الأجزاء و أشتتها و أشوه تركيبها
..
سكتت برهة ثم
أضافت في دعة ..
- لا بد أن
يحدث التوازن في هذا الآدمي المسكين ، إذا ما وهن الجسم وضعف مالت القوة
إلى الروح حتى يخلد المرء إلى السكينة متجولا في خبايا روحانيته السرية ،
مستكشفا أغوارها ، مستمدا قوته من مخازنها ، مستردا لذاته توازنها
..
دعني أبحث أسد
الشرخ الذي يفصلنا ، الوقت كفيل بكل ذلك ،ن لكن الآن دعني واخرج من حياتي
حتى تعود لي سكينتي.
دفنت رأسها تحت
وسائدها و هي تخفي صوتا متهدجا مخنوقا ،، بقي أمامها راكعا ، ضئيلا
،صغيرا ،،
أحس بضآلته و
تحسر ، حاول أن يقول شيئا ، تلعثم ، بدا له الشرخ ممدودا كخندق يفصلها
عنه و دون ، أن ينبس بحرف ،،، خرج ، راح يبحث عن خولة ، يعانقها ن يلثمها
، يتشممها بلطف مزودا روحه ببعض من طهارتها
.
|