أسيا علي موسـى

1 - الشرخ .

 

لمعت عيناها بغشاء رقيق من الدموع و تأرجحت على شفتيها ابتسامة واهية ، ابتسامة استرقت كيانها المهزوم إلى ماض أحست لأول مرة أنه اندلق بقوة في غياهب الأكاذيب ، هرب من مملكتها إلى دنيا .. ليست دنياها .. دنيا الآخرين .. تتهاطل على خديها الشاحبين دموع مجنونة، ،،تطلق ضحكات هستيرية متتابعة ،تفرمل فجأة ، محاولة انتشال نفسها من معاناتها ، تتمتم مذهولة وقد غطت وجهها سحابة قاتمة من اليأس ..

- لعله كابوس ، كابوس فظيع ،، مجرد حلم مزعج سأصحو منه بعد قليل ،، أو .. لما لا؟ بعد سنين ؟ لأجد أن كل شيء حولي هو هو .. ثابت لم يعتره تغيير ، مجرد كابوس .

رفعت رأسها محملقة في سقف الصالون ، أمعنت النظر طويلا في ثرياته النفيسة و هي تتدلى في دلال و كبر ، شاهدة على أيامها الخوالي ،،

تراءت لها صورتها في السقف ..

رأت نفسها تلف و تدور في أكبر المحلات ، تبحث عن ثريات تناسب هندسة وديكور منزلها ، تقفز من واحدة لأخرى بجنون طفولي ، ثم ترى نفسها وهي تميل على أحمد تحسم به قرارها..

- أيها تعجبك ؟

- أنا ... لا يهم ، المهم أنت .

- ماذا تقول ؟ أريد رأيك، أريد أن ينطق كل شيء في البيت باسمك ..كل صغيرة وكبيرة أريدها نقطة تصلني بك و تحمل لمسة منك ..

يقاطعها مبتسما ..

- ستحمل أكيد بصمة ذوقك ،، لأني أحفظ ميولك و أذواقك جيدا .. سأميل دون وعي مني إلى الشيء الذي تختارين ، من دون أن تشيري إليه ، مغناطيس سيجذبني إليه .

و تضحك .........

- يا أيها الطفل الشقي الذي يأكل عقلي بالكلام ،، أثبت لي صدقك .

يرفع أحمد سبابته و يوجهها نحو ثرية غاية في الصنع تصرخ آمال بفرحة صبيانية ..

- هي عينها ما اخترت في قرارة نفسي ، أنت دوما تقرأ ما بداخلي و تلتقط كل ما يختلج في نفسي الصغيرة .. هذا المخلوق البسيط أوجد له الخالق من يجعل منه جبلا شامخا مزهوا يتلذذ بنسمات الوجود العذبة ...

معك تصفو روحي و بك يهدا بالي و منك أزود روحي بقوة تجعلني حريصة على البقاء ،، يا لها من نعمة .

يقاطعها وقد أمسك يدها الناعمة الصغيرة ..

- و أنت أكبر نعمة وهبتنها الحياة .

.........................................................................

على هذه الكلمات .. اضمحلت الصورة المتراقصة في السقف ، ذابت المنارات ، تباعد صوت تلك النبرات ، غاب الشريط ، رحل إلى عالم آخر ، اخترق الجدران ، الحدود المعقولة ، اخترق الذاكرة .. الحدود اللامعقولة ، بعيدا عن عالمها ،،،حتى تلاشى ...

انتفضت من مقعدها كمن أصابه مس ، أخذت تذرع البيت ..

الغرف كلها ، الحمام،،، الرواق ،،،نظراتها فاحصة ، تائهة تبحث عن شيء يوقف هذا الزخم المهول من الأحاسيس المتضاربة ، المتصارعة داخلها ، ذكريات متداخلة ،، متناقضة ،،

هل هي خيال أم واقع .. بدا المكان سرابا ، غريبا ، أخذت تتلمس كل أثاثه ، زهريتها الفخارية الصينية الصنع ، صورة الموناليزا التي أهداها إياها أحمد في عيد ميلادها ، كان يقول لها ..

- نورانية مثلك ، دافينتشي أكيد كان سيرسمك لو رآك قبلها ...

أخذت تتلمس في دقة الموناليزا ، تبحث عنها فيها ، عن شيء يجمعها ،عن أحمد ،، لم تجد شيئا ،، أرهفت سمعها لالتقاط نبرة ، نبرة واحدة من ذلك الماضي ،عيناها ذاهلتان في شرود الغائب عن الوجود ، كانت صور الماضي تتطاير حول رأسها ، تتداعى في صخب ، تحوم ،، حولها ،، تلهث مرهقة ، حزن عميق يجثم على صدرها ، يخنقها ألم فظيع .. .........

لم تدر كم بقت على تلك الحالة . أفاقت من غيبوبتها ، كان جسدها الصغير يتطوح في الرواق و هي تتجه صوب غرفة النوم، فتحت الباب ،،، كان يرقد كطفل صغير ، كم بدا لها بريئا وهو مغمض العينين ، مسلوب الوعي ، يسرح في أحلام لا تعلم من .. يشاركه فيها ..

ألقت نظرة فاحصة على الغرفة ،، كم كانت أنيقة ، جميلة ،، تفاوت الجميع في إطراء ذوقها في تزيينها و انتقاء كل تفاصيل ديكورها ..

تحملق فيها .. تجد أنها سخيفة ،، قبيحة ، غريبة عنها .

تحملق في الجدران الصامتة ، تحملق ،، علها تنطق ، علها تفيقها من كابوسها ،،

استحالت الجدران الصامتة وحوشا تتهادى في الظلام ، تتحرك الهوينى ، تدنو منها ،، تدنو أكثر ،، تخرج منها أذيال و أيادي بمخالب فظيعة ،، أنياب حادة تلمع .. تدنو ، تريد ابتلاعها ،، تتراجع للخلف .. و تصرخ ..تصرخ حتى يبلغ القلب الحنجرة ..

يهرع من فراشه مذعورا ..

- آمال ما بك ؟ردي علي .. ماذا تفعلين في هذا الوقت من الليل ؟

كانت ملقاة على الأرض ، ترنو إلى السقف في غياب تام ،، أسارير وجهها متراخية .

حملها إلى السرير ..

لملمت جسدها و تكورت كقطة تبحث عن دفء مفقود .. أغمضت عينيها في هدوء .. واستسلمت منهكة لنوم خال من ... الأحلام .

....................................................................

تسللت خيوط الشمس في عذوبة إلى فراش آمال .. من بين الستائر المسدلة ، تدغدغ وجهها الحلو الناعم ، توشوش العصافير متناقلة أسرار الطبيعة ، مسترسلة في سرد أوبرا قصة الوجود ، مؤلفة سيمفونية تهدهد مرقدها فتسلمها لسبات عميق.

انزوى أحمد في ركن من أركان الغرفة و ألقى برأسه إلى الحائط ، شفتاه مطبقتان بشدة ، تكشفان عن ألم فظيع ، نظر إلى زوجته في حنو .. شاردا ، وقد اكتست مقلتاه بحزن عميق ، راح يقلب علبة سجائره ،جلب منها واحدة ، ثم راح يقلبها بين أصابعه ، غير دار ماذا يفعل بها ؟ هم بإشعالها لكنه ،، تراجع و ألقى بها أرضا ،،

بدا ثقيلا جامدا كأن الدهر يجثم على كتفيه ، أخذ يرمق آمال ،، شعر بقوته تتكسر على عينيها المغمضتين و .. ساوره إحساس بأنه فض و غليظ و .. منهزم .

أخذ يقترب منها ، وكلما اقترب أكثر ، يحسها تبتعد ، بحار و محيطات كانت تستوي بينهما ،أو هذا ما كان يحس به ..

عاد إلى ركنه و راح يترقب يقظتها في سكون ،،، شرد في مساحات الماضي المزدحمة بآلاف الذكريات الحلوة ..

رأى نفسه شابا وسيما ثريا ، تتلهف عليه الحسناوات ،و يحمل في مذكرته مئات الأرقام الهاتفية و المواعيد و الأسماء المختلطة لكثرتها...

ثم رأى نفسه يوكل أمر انتقاء شريكة حياته لوالدته ،

تخطبها له أمه ،تحفة فريدة ، لم تكن فائقة الجمال ،، بل ربما .. أقل بكثير من وردة و مريم و هدى و ...و .. و لكنها كانت تجذبه ، كانت نظراتها بحورا عاش فيها وقتا من الزمن النوراني ، تتراقص على نبرات صوتها الرخيم نسمات تهدهد روحه المحلقة بحثا عن الآمان و الاستقرار ، عيناها عميقتان تشعان صدقا و طهرا ، فتبعثان فيه راحة لامتناهية ،، يتحرك جسمها في هدوء .. وتضيء أسارير وجهها بشفافية .. فتدخل حياته من باب واسع ، في ترو ، وتنغرس في وجوده بثبات ..

كانت آمال روح الفضيلة التي تنقصه ن أدرك أنها مكافأة

جميلة ، جوهرة فريدة تتزايد قيمتها عنده بمرور الأيام ..

كان يقول لها ..

- أنت حياتي ،،

لكنها تقول بتروي ،

- للحياة نهاية ،،، لكن الروح بقاء .. أنت روح ترسب في ذاتي و .. لا تذوب ..

............................................

و رسب في ذاتها .. وطفت على سطح حياته "نوال"..

نظرة .. فابتسامة . فسلام ، فكلام ، فموعد ،، فلقاء ...

أخذته من دنيا السكون .. إلى دنيا الصخب و الجنون ..

تلتهمه ابتسامتها ، تغزو كيانه قهقهاتها التي توحي بإقبال على الحياة بنهم، يضحك ، يتلعثم ... يجمد .. يتورط ،، يسلم نفسه لها و ينام في عينيها ،، ليفيق وقد اشترى لها شقة راقية ... و .. صنع لها ابنا ..

...........................................................

تحرك المزلاج و انفتح الباب ، تدخل خولة في فستان نومها الكستنائي .. تقفز على ركبتيه ، تقبله ، ثم تقفز على السرير تتلمس وجه أمها ، الذي غابت عنه كل التعابير .

فركت آمال عينيها ببطء ، كأنها لا تريد أن تفيق على واقع خالته أمسى كابوسا أفاقت منه ،أحست جسمها ثقيلا ، كانت أجفانها وارمة و تحت عينيها غضون زرق كمن يخرج من مرض مضن .

أرسلت تنهيدة عميقة ، زفرت معها هما ثقيلا ، شعرت بعدها براحة ، استدارت صوب أحمد و راحت تحدجه بنظرة فاحصة... الذي سرعان ما راح يلتقط لفافته الساقطة يشعلها ، ينفث دخانها بقلق و اضطراب ،

كانت نظراتها تحاصره ، تخنقه ، ألقى لفافته مرة أخرى ، انتفض من مقعده بخطوات مضطربة .كان يحكي قصصا مفككة الجمل ، بلا معنى ، كاد حلقه يحترق ، كان كلامه متقطعا مختلا ، ،،

توقف فجأة ثم .. خر جالسا قرب السرير ،ن أجهش بالبكاء مسموع ، بكى كطفل يتوخى أن تنزل به أقصى العقوبات .

- لم أعرف كيف حدث هذا.. غلطة.. سامحيني .. كنت ..

توقفه في رزانة و لطف ..

- إن الفضيلة أمان و سكينة و حرية وسعادة ..

إنها الجنة . كم أتمنى أن أصبح فاضلة .. حتى أغفر لك ، لكنك حطمت روحي .. دعني ألملمها في تؤدة حتى لا أخلط الأجزاء و أشتتها و أشوه تركيبها ..

سكتت برهة ثم أضافت في دعة ..

- لا بد أن يحدث التوازن في هذا الآدمي المسكين ، إذا ما وهن الجسم وضعف مالت القوة إلى الروح حتى يخلد المرء إلى السكينة متجولا في خبايا روحانيته السرية ، مستكشفا أغوارها ، مستمدا قوته من مخازنها ، مستردا لذاته توازنها ..

دعني أبحث أسد الشرخ الذي يفصلنا ، الوقت كفيل بكل ذلك ،ن لكن الآن دعني واخرج من حياتي حتى تعود لي سكينتي.

دفنت رأسها تحت وسائدها و هي تخفي صوتا متهدجا مخنوقا ،، بقي أمامها راكعا ، ضئيلا ،صغيرا ،،

أحس بضآلته و تحسر ، حاول أن يقول شيئا ، تلعثم ، بدا له الشرخ ممدودا كخندق يفصلها عنه و دون ، أن ينبس بحرف ،،، خرج ، راح يبحث عن خولة ، يعانقها ن يلثمها ، يتشممها بلطف مزودا روحه ببعض من طهارتها .

 

 
 

 

موارد نصيـة

آسيا علي موسـى

 

عفوا.. إنه القدر (قصص)

المحتــوى

1 - الشرخ .

2. عمي رابح .

3. ثلاثية الحزن الحالم .

4. الصورة .

5. زهرة .

6. الانتحاب الدفين .

7. الظل .

8. الربيع و السلام .

9. كم كنت وحدك .

10. صرخات من الأعماق .

11. مناجاة .

12. عفوا ملاكي .. إنه القدر .

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.