وقفت أمام
البحر والفرح يغزو فؤادي وقد طافت خواطري بذكريات توارت في سكون أمواج
بحر أوت الهادئة
.
امتزجت حلاوة
الذكرى بمرارة فراق لم يكن لي جلد عليه ، وشعرت كأني أغرق فيها ، و كأن الأعوام
كلها تجمعت فوق كاهلي ، تنتهبني أشتات الماضي المبعثرة في رأسي
.
ازداد الشغف
للتطلع إليها فأطبقت جفني استرجع ذكريات غالية تسبح أطيافها كأنما هي حمامات
بيضاء تحلق بي في دنيا الأحلام
..
و كان كل شيء
جاهز لإعادة الشريط بكل تفاصيله
..
المكان هو نفسه
لم يغير الزمن فيه شيء و الوجوه هنا كما كانت مع ما اعتراها من الكبر ، و
البحر كاتم سري ، والرمال شاهدة أفراحي و أقراحي .. و السماء سامعة شكواي
و ندائي
.
كل شيء ما زال
هنا ، ثابتا ، جاهزا لاعادة الماضي
..
رفت على محياي
شاعرية ألاقة
.
تزاحمت علي
الخواطر من كل صوب، كأنها نسمات عبقة يتضرع منها أريج الصبا ، أريج نفاذ
يبعث النشوة في القلب
.
رحت أسبح فيما
ولى و فات
..
و فجأة أحسست
بخفق أقدام تتدانى مني ، أيقظني حفيفها من أحلامي ، فتحت عيني
..
كاد قلبي أن
يثب من بين ضلوعي ، توهجت نظراتي توهج المشعل ن أحسست بقشعريرة تنتهب
جسدي ،، فغرت فيهي في ذهول و أنا أحدق بنظرات فاحصة
.
أمضيت على حالي
وقتا لا أبدي حراكا
..
استحال العالم
حولي فيه إلى رماد .. و توقف الزمن مشدوها يشهد اللقاء
.
عبثا حاولت أن
أنتزع عيني من عينيه المضطربتين الناطقتين بالعتاب ، عبثا حاولت أن أهرب
من زرقتهما التي لطالما أغرتني بالإبحار في أعماق نفس ظلت عندي مجهولة.
ويقف لحظة
اختزل فيها عتاب أربعة عشر عاما من البعاد ، لعلها كانت ثواني ، لعلها
كانت قرونا من عمر العالم اختطفناها لنا ،
و أوقفت فيها
نظراتنا معيار الكم و القيس و تجاهنا الكون برمته
.
غامت أمام عيني
في لمحة كل التزاماتي ، و أسقطت من حساباتي كل معايير الاتزان و التحفظ و
تجردت ،، من حاضري
..
هتفت ..
- أنت
..
و هتف ..
- أنت..
انتشلت نفسي من
جمودي عنوة و عادت الذكريات تتداعى في رأسي ، فراعني ما طرأ عليه من تغير
.
أين مني ذلك الفتى
اليافع الذي عرفت ن ذلك البرجوازي المختال المزهو طلعته الوسيمة و نضرة
هيئته
.
طالعني محياه ،
و كأن هموم الكون ترقد على كتفيه
.
بدا لي جسمه
نحيفا ضامرا ووجهه شاحبا غائر الأشداق و نظراته تائهة
.
دعكت عيني بقوة
كأن غـمامة تغشاهما ، شعرت و كأني أختنق و كأن رأسي أتون يلتهــب
.
غمغمت ..
- أين أنت ؟
أردف ..
- و أين أنت ؟؟
أخذ يتفحصني
بنظرات لائمة ، كانت تمرق كنصال حادة إلى شغاف قلبي و أومأت رأسي و أنا
أدعك أصابعي ، و لم أنبس بحرف
.
و يستطرد بصوت
خافت أذاب الصمت في سخرية مرة ..
- ما زلت أنا ،
و ما زالت أحلامي تأخذني إلى صيف كان نقطة الانطلاق و خط الوصول ، كان
جبل أحلامي و قمته مقبرة أوهام ولدتها في طفلة عابثة
.
قاطعته و قد
أصابت كلماته أحشائي ..
- إنه نفس
الصيف
..
صيف أغرتني فيه
حرارة عين زرقاء ساحرة إلى إلقاء روح تنتعش في يم ، صنعت شاطئه و موجه و
صخره
.
حتى السماء من
فوقه رفعتها بنفس الأوهام ووضعت لوهمي حدودا ،طوقته بسياج التكتم مخافة
أن يتطفل عليه أحد ،
و صنعت لك مملكة
ملكتك عليها ووضعت على رأسك تاجا لم يلبسه أحد ، ووقفت أمام الباب حارسة
، انظر إليك ،،
لكن كنت كلما حاولت
الاقتراب من عرشك .. تبتعد و تطير
..
يقاطعني
بهدوء......
- صنعت مملكة
لملك مجهول ، لم تسبري غور هذه النفس أبدا ، حكمت و قسوت عليها كما لم
يقس أحد ، علقتن في حبالك و هربت .
- حبي لك هو
الذي دفعني إلى الهروب
.
هل تذكر ؟ هل
تذكر ؟
و أبتسم في دعة
وسكون ..
- هل تذكر البحر
في ذلك اليوم ، كان هادئا ، يشهد تسلل أشعة الشمس الذهبية أعماقه ،
فتتلألأ صفحته المتراقصة انتعاشا ،
وقفت
يومها وحدي على الشاطئ ، كنت غائبة عن الدنيا ، غائبة عن أكوام البشر المتراصة
، لم تزعزني جلبة الكبار و لا صراخ الصغار
..
كنت في ربيعي
السابع عشر أحمل بين جنبي قلبا عذريا حالما
..
و فجأة اضطربت
دقاته و تسارعت وتيرته ، تمغنطت عيناي و التصقتا بك ،
مررت قربي مع
شلة من رفقائك ، فارتعشت أوصالي كأن تيارا كهربائيا أصابني بغتة ، ثم
اعترني نشوة لم يكن لي سابق عهد بها ، تمتمت بجملة لم أعها ولم أفهم
لماذا انزلقت من شفتي ..
- وجدت ظلي
لعلك لاحظت
وجومي فنظرت إلي و ابتسمت ، أحسست بسخونة شديدة تغزو وجهي و طأطأت رأسي
حياء
يقاطعني ..
- أذكر كل ذلك
، مازلت أذكر كل شيء بدقة ، و أذكر كيف .. هربت
..
أشحت وجهي عنه
و ساد الصمت
.
الذكريات تعتعة
مدوية تتردد في الأفق ، أسدلت جفني في مرارة ، دنا مني و عاد يسأل ..
- لم هربت ؟
رفعت جفني ،
فتقاطعت نظراتنا ، شعرت بقلبي يتفتح تفتح الزهرة فجر الربيع إذا هبت
عليها نسمات الشروق الرطبة
أحسست عطر
الذكريات يتضرع من وجهي و رأيت وجهه يتلألأ كالماسة تحت الشعاع ، اخترقت
الصمت في فرحة العائد من حلم جميل ..
- أهرب ؟ أهرب
من ظلي ،، نعم تمنيت ذلك منذ رأتك أول مرة ، بدأ الخوف يدب في قلبي منذ أول
ابتسامة ،
عابثا .. كنت
طفلا و كنت ..امرأة قبل الأوان
.
كنت برجوازيا
مدللا ، له ما يريد ، و كنت بسيطة خفت أن أصبح جزءا مما تريد امتلاكه
مؤقتا
.
كنت أنيقا
وسيما تسحر كل ناظرة ، أما أنا فلم أكن أملك غير قلب طهور أحبك بجنون
.
لأني أحبك ،
رحلت بعيدا حتى لا أراك ، خفت منك ومن جنوني بك ، لم أرد تصديق ابتسامتك
و لا كلماتك
.
أسكت بهدوء ثم
أردف وابتسامة مرة تعتلي محياي ،
-
لكنني لم أستطع
أبدا أن أهرب منك ، لأنك كنت " ظلي
"
التصقت ذ كراك
بوجودي عنوة و التحمت بكياني التحاما ، هل خطر ببالك ؟
كم تألمت
..
يحاول مقاطعتي
فلا ينجح في إيقاف الشريط المنساب بعذوبة ....
- شهرا أمضيته
في هذا الشاطئ ، ألحظك من بعيد ، من الشرفة أرقب حركاتك و أحفظ موعد نومك
و ساعة استيقاظك ، و أتتبع خطواتك ، أكتفي بتنفس هواء يحييك و تبليل وجهي
بماء يغريك
.
كنت أرقبك و
أنت تلهو مع أصحابك و عيناك تسترقان النظر إلي خلسة .. كنت أثير غضبك
بسكوني ، فتعبس حينا ثم ما تلبث أن تبتسم لي ..
- هل تذكرين
الصدفة التي التقطت لك من عمق هذا البحر ،من أبعد نقطة وصلتها سباحة ،،
ذات يوم ..
- نعم ، قلت لي
فأل خير عليك ن كم خفت عليك يومها و أنا أراك تصارع الموج و تختفي في البحر
،
-
ولم تصدقيني
طبعا ؟
خيم علينا صمت
كئيب ،
ثم سمعته يخافت
بصوته في نبرة شجن و لوعة و لوم ..
- ما ذنبي إن
كنت ثريا ووسيما كما قلت ، هل ينفي هذا أن يكون لي قلبا أحبك بجنون ؟
أقاطعه في هدوء
،كأنني لا أسمع ما يقول ..
- حملت الصدفة
لازمتني زمنا ثم تكسرت ،، فقررت أن أنساك ، لم اكن لك و لم تكن لي ، بيننا
عوالم كثيرة ، قررت
..
يقاطعني غاضبا
..
- قررت وحدك ،
كنت رافعة الدعوى و القاضي و الجلاد ، حكمت وكان حكمك قاسيا وكم كان
تنفيذه أقسى
.
كنت في طوية
نفسي أود أن أقترب منه و امرر أناملي على رأسه لأداعب بقايا شعر ولى مع
السنين
.
من أعماق ذاتي
ثار بي حنين إلى استدراك ما فات ، أعتصر منه بعض الفرح ،، لكنني ارتطمت
بصخور تفصل بين الحاضر و الماضي الذي ضاع و بات مجرد حسرة
مجرد ذكرى ،
أصحو من حلمي
..و أزفر في أسى ..
- لم أنسك أبدا
، تذكرتك حيث حاولت ذلك ونحتت اسمك حيث حاولت محوه
.
و أبتسم في
سخرية ..
- سجلت بعض الأناشيد
الدينية في أشرطة أم كلثوم التي أهديتني و كسرت الصدفة ، نعم كسرتها ،،
-
و نسيتني
..
أصرخ دون تردد
..
- لم ولن أنساك
أبدا
..
عندها استبدت
بي نوبة نشيج ، داريت وجهي راحتي في قوة و استرسلت في بكاء مر
.
أخذت أذرع المكان
في خطوات مضطربة ثم أبتعد عنه ، فيلحق بي و يقول في أسى وقد طفرت من
عينيه دمعات خجلة ..
- ظلمتني و
ظلمت نفسك
.
حدقت فيه طويلا
، كم كان هزيلا ، شاحبا ، لم أسأله ما الذي فعل به ذلك و هممت أن أمسح الدموع
المتدحرجة من مقلتين تسحراني إلى الأبد
..
لكنني
تراجعت و تمنيت أن أصرخ للعالم ، لي أنا بالذات بأن هذا الكهل هو ظلي ،
لكنني تماسكت
..
و وقفت ألحظه
وهو يبتعد عني بخطوات متثاقلة ، تتبعته حتى غاب
..
أدركت لحظتها
بأنني لن أنساه أبدا
.
|