أسيا علي موسـى

7. الظل .

 

وقفت أمام البحر والفرح يغزو فؤادي وقد طافت خواطري بذكريات توارت في سكون أمواج بحر أوت الهادئة .

امتزجت حلاوة الذكرى بمرارة فراق لم يكن لي جلد عليه ، وشعرت كأني أغرق فيها ، و كأن الأعوام كلها تجمعت فوق كاهلي ، تنتهبني أشتات الماضي المبعثرة في رأسي .

ازداد الشغف للتطلع إليها فأطبقت جفني استرجع ذكريات غالية تسبح أطيافها كأنما هي حمامات بيضاء تحلق بي في دنيا الأحلام ..

و كان كل شيء جاهز لإعادة الشريط بكل تفاصيله ..

المكان هو نفسه لم يغير الزمن فيه شيء و الوجوه هنا كما كانت مع ما اعتراها من الكبر ، و البحر كاتم سري ، والرمال شاهدة أفراحي و أقراحي .. و السماء سامعة شكواي و ندائي .

كل شيء ما زال هنا ، ثابتا ، جاهزا لاعادة الماضي ..

رفت على محياي شاعرية ألاقة .

تزاحمت علي الخواطر من كل صوب، كأنها نسمات عبقة يتضرع منها أريج الصبا ، أريج نفاذ يبعث النشوة في القلب .

رحت أسبح فيما ولى و فات ..

و فجأة أحسست بخفق أقدام تتدانى مني ، أيقظني حفيفها من أحلامي ، فتحت عيني ..

كاد قلبي أن يثب من بين ضلوعي ، توهجت نظراتي توهج المشعل ن أحسست بقشعريرة تنتهب جسدي ،، فغرت فيهي في ذهول و أنا أحدق بنظرات فاحصة .

أمضيت على حالي وقتا لا أبدي حراكا ..

استحال العالم حولي فيه إلى رماد .. و توقف الزمن مشدوها يشهد اللقاء .

عبثا حاولت أن أنتزع عيني من عينيه المضطربتين الناطقتين بالعتاب ، عبثا حاولت أن أهرب من زرقتهما التي لطالما أغرتني بالإبحار في أعماق نفس ظلت عندي مجهولة.

ويقف لحظة اختزل فيها عتاب أربعة عشر عاما من البعاد ، لعلها كانت ثواني ، لعلها كانت قرونا من عمر العالم اختطفناها لنا ،

و أوقفت فيها نظراتنا معيار الكم و القيس و تجاهنا الكون برمته .

غامت أمام عيني في لمحة كل التزاماتي ، و أسقطت من حساباتي كل معايير الاتزان و التحفظ و تجردت ،، من حاضري ..

هتفت ..

- أنت ..

و هتف ..

- أنت..

انتشلت نفسي من جمودي عنوة و عادت الذكريات تتداعى في رأسي ، فراعني ما طرأ عليه من تغير .

أين مني ذلك الفتى اليافع الذي عرفت ن ذلك البرجوازي المختال المزهو طلعته الوسيمة و نضرة هيئته .

طالعني محياه ، و كأن هموم الكون ترقد على كتفيه .

بدا لي جسمه نحيفا ضامرا ووجهه شاحبا غائر الأشداق و نظراته تائهة .

دعكت عيني بقوة كأن غـمامة تغشاهما ، شعرت و كأني أختنق و كأن رأسي أتون يلتهــب .

غمغمت ..

- أين أنت ؟

أردف ..

- و أين أنت ؟؟

أخذ يتفحصني بنظرات لائمة ، كانت تمرق كنصال حادة إلى شغاف قلبي و أومأت رأسي و أنا أدعك أصابعي ، و لم أنبس بحرف .

و يستطرد بصوت خافت أذاب الصمت في سخرية مرة ..

- ما زلت أنا ، و ما زالت أحلامي تأخذني إلى صيف كان نقطة الانطلاق و خط الوصول ، كان جبل أحلامي و قمته مقبرة أوهام ولدتها في طفلة عابثة .

قاطعته و قد أصابت كلماته أحشائي ..

- إنه نفس الصيف ..

صيف أغرتني فيه حرارة عين زرقاء ساحرة إلى إلقاء روح تنتعش في يم ، صنعت شاطئه و موجه و صخره .

حتى السماء من فوقه رفعتها بنفس الأوهام ووضعت لوهمي حدودا ،طوقته بسياج التكتم مخافة أن يتطفل عليه أحد ،

و صنعت لك مملكة ملكتك عليها ووضعت على رأسك تاجا لم يلبسه أحد ، ووقفت أمام الباب حارسة ، انظر إليك ،،

لكن كنت كلما حاولت الاقتراب من عرشك .. تبتعد و تطير ..

يقاطعني بهدوء......

- صنعت مملكة لملك مجهول ، لم تسبري غور هذه النفس أبدا ، حكمت و قسوت عليها كما لم يقس أحد ، علقتن في حبالك و هربت .

- حبي لك هو الذي دفعني إلى الهروب .

هل تذكر ؟ هل تذكر ؟

و أبتسم في دعة وسكون ..

- هل تذكر البحر في ذلك اليوم ، كان هادئا ، يشهد تسلل أشعة الشمس الذهبية أعماقه ، فتتلألأ صفحته المتراقصة انتعاشا ،

وقفت يومها وحدي على الشاطئ ، كنت غائبة عن الدنيا ، غائبة عن أكوام البشر المتراصة ، لم تزعزني جلبة الكبار و لا صراخ الصغار ..

كنت في ربيعي السابع عشر أحمل بين جنبي قلبا عذريا حالما ..

و فجأة اضطربت دقاته و تسارعت وتيرته ، تمغنطت عيناي و التصقتا بك ،

مررت قربي مع شلة من رفقائك ، فارتعشت أوصالي كأن تيارا كهربائيا أصابني بغتة ، ثم اعترني نشوة لم يكن لي سابق عهد بها ، تمتمت بجملة لم أعها ولم أفهم لماذا انزلقت من شفتي ..

- وجدت ظلي

لعلك لاحظت وجومي فنظرت إلي و ابتسمت ، أحسست بسخونة شديدة تغزو وجهي و طأطأت رأسي حياء

يقاطعني ..

- أذكر كل ذلك ، مازلت أذكر كل شيء بدقة ، و أذكر كيف .. هربت ..

أشحت وجهي عنه و ساد الصمت .

الذكريات تعتعة مدوية تتردد في الأفق ، أسدلت جفني في مرارة ، دنا مني و عاد يسأل ..

- لم هربت ؟

رفعت جفني ، فتقاطعت نظراتنا ، شعرت بقلبي يتفتح تفتح الزهرة فجر الربيع إذا هبت عليها نسمات الشروق الرطبة

أحسست عطر الذكريات يتضرع من وجهي و رأيت وجهه يتلألأ كالماسة تحت الشعاع ، اخترقت الصمت في فرحة العائد من حلم جميل ..

- أهرب ؟ أهرب من ظلي ،، نعم تمنيت ذلك منذ رأتك أول مرة ، بدأ الخوف يدب في قلبي منذ أول ابتسامة ،

عابثا .. كنت طفلا و كنت ..امرأة قبل الأوان .

كنت برجوازيا مدللا ، له ما يريد ، و كنت بسيطة خفت أن أصبح جزءا مما تريد امتلاكه مؤقتا .

كنت أنيقا وسيما تسحر كل ناظرة ، أما أنا فلم أكن أملك غير قلب طهور أحبك بجنون .

لأني أحبك ، رحلت بعيدا حتى لا أراك ، خفت منك ومن جنوني بك ، لم أرد تصديق ابتسامتك و لا كلماتك .

أسكت بهدوء ثم أردف وابتسامة مرة تعتلي محياي ،

- لكنني لم أستطع أبدا أن أهرب منك ، لأنك كنت " ظلي "

التصقت ذ كراك بوجودي عنوة و التحمت بكياني التحاما ، هل خطر ببالك ؟

كم تألمت ..

يحاول مقاطعتي فلا ينجح في إيقاف الشريط المنساب بعذوبة ....

- شهرا أمضيته في هذا الشاطئ ، ألحظك من بعيد ، من الشرفة أرقب حركاتك و أحفظ موعد نومك و ساعة استيقاظك ، و أتتبع خطواتك ، أكتفي بتنفس هواء يحييك و تبليل وجهي بماء يغريك .

كنت أرقبك و أنت تلهو مع أصحابك و عيناك تسترقان النظر إلي خلسة .. كنت أثير غضبك بسكوني ، فتعبس حينا ثم ما تلبث أن تبتسم لي ..

- هل تذكرين الصدفة التي التقطت لك من عمق هذا البحر ،من أبعد نقطة وصلتها سباحة ،، ذات يوم ..

- نعم ، قلت لي فأل خير عليك ن كم خفت عليك يومها و أنا أراك تصارع الموج و تختفي في البحر ،

- ولم تصدقيني طبعا ؟

خيم علينا صمت كئيب ،

ثم سمعته يخافت بصوته في نبرة شجن و لوعة و لوم ..

- ما ذنبي إن كنت ثريا ووسيما كما قلت ، هل ينفي هذا أن يكون لي قلبا أحبك بجنون ؟

أقاطعه في هدوء ،كأنني لا أسمع ما يقول ..

- حملت الصدفة لازمتني زمنا ثم تكسرت ،، فقررت أن أنساك ، لم اكن لك و لم تكن لي ، بيننا عوالم كثيرة ، قررت ..

يقاطعني غاضبا ..

- قررت وحدك ، كنت رافعة الدعوى و القاضي و الجلاد ، حكمت وكان حكمك قاسيا وكم كان تنفيذه أقسى .

كنت في طوية نفسي أود أن أقترب منه و امرر أناملي على رأسه لأداعب بقايا شعر ولى مع السنين .

من أعماق ذاتي ثار بي حنين إلى استدراك ما فات ، أعتصر منه بعض الفرح ،، لكنني ارتطمت بصخور تفصل بين الحاضر و الماضي الذي ضاع و بات مجرد حسرة

مجرد ذكرى ،

أصحو من حلمي ..و أزفر في أسى ..

- لم أنسك أبدا ، تذكرتك حيث حاولت ذلك ونحتت اسمك حيث حاولت محوه .

و أبتسم في سخرية ..

- سجلت بعض الأناشيد الدينية في أشرطة أم كلثوم التي أهديتني و كسرت الصدفة ، نعم كسرتها ،،

- و نسيتني ..

أصرخ دون تردد ..

- لم ولن أنساك أبدا ..

عندها استبدت بي نوبة نشيج ، داريت وجهي راحتي في قوة و استرسلت في بكاء مر .

أخذت أذرع المكان في خطوات مضطربة ثم أبتعد عنه ، فيلحق بي و يقول في أسى وقد طفرت من عينيه دمعات خجلة ..

- ظلمتني و ظلمت نفسك .

حدقت فيه طويلا ، كم كان هزيلا ، شاحبا ، لم أسأله ما الذي فعل به ذلك و هممت أن أمسح الدموع المتدحرجة من مقلتين تسحراني إلى الأبد ..

لكنني تراجعت و تمنيت أن أصرخ للعالم ، لي أنا بالذات بأن هذا الكهل هو ظلي ، لكنني تماسكت ..

و وقفت ألحظه وهو يبتعد عني بخطوات متثاقلة ، تتبعته حتى غاب ..

أدركت لحظتها بأنني لن أنساه أبدا .

 

 
 

 

موارد نصيـة

آسيا علي موسـى

 

عفوا.. إنه القدر (قصص)

المحتــوى

1 - الشرخ .

2. عمي رابح .

3. ثلاثية الحزن الحالم .

4. الصورة .

5. زهرة .

6. الانتحاب الدفين .

7. الظل .

8. الربيع و السلام .

9. كم كنت وحدك .

10. صرخات من الأعماق .

11. مناجاة .

12. عفوا ملاكي .. إنه القدر .

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.