أسيا علي موسـى

9. كم كنت وحدك .

 

كم كنت وحدك يا ابن أمي ، كم كنت وحدك "

كم كنت وحدك و أنت تتلوى في فراش التصق بوجودك ، فألفك و ألفته قسرا ، ارتشف منك نضارة الصبا و امتص منها زهو الشباب .

كم كنت وحدك و أنت ترقب تحركاتنا منزويا في ذلك الركن الذي أضحى مكملا لجسدك ، و أنت قابع فيه ، غارق في صمتك المديد دهرا ألف معاناة لم تنبس بها أبدا .

كم كنت وحدك و أنت تتحمل مصمصة شفاه المتحسرين على حالك و المشفقين المجاهرين بمشاعر تستفزك و تضرم في أعماقك نار الغضب المكبوت .

كم كنت وحدك و أنت ترى هؤلاء يهمشوك بشفقتهم و يزيدون من غربتك ..

كم كنت وحدك و أنت تراكم آمالك المتكومة ، أحجارا في حلقك لم تجرؤ يوما على تقيؤها حتى تستريح .

كم كنت وحدك و أنت تلتصق بكرسيك المتحرك تبقيه جزءا منك ، يعطيك إحساسا بالأمان.

حتى اللحظات الأخيرة تشبث يداك بطرفيه ..

- لا تنزلوني ، لا تنزلوني ..

و حملوك عنه عنوة .. نعم هي النهاية ، كان عليهم أن يسووك ، أن يمددوك على الفراش اللعين ، حتى تلفظ روحا طاهرة تسمو إلى دنيا الأمان .

الحزن يزعق من كرسيك ، من جدران غرفتك ، من سقف حملق فيك في ذهول ..

كنت شبه ثملة تراءت لي وقتها أصداء أنين كل أشياءك ،

كتبك ، مذياعك ، جرائدك .. صرخات مرعبة ..

كنت أسمع أنين آمالك وهي تنتحر ..

أمسكت يدك ، كم كانت بيضاء لحظتها ،،

دعكت أصابعك بقوة ، لعلي أمسك الموت و أضغط عليه خارج جسدك ، أو أزرع فيك بعضا من روحي .

لكن هيهات ..

سكنت سكون الأبد .

أوف يا ابن أمي كم أضحيت وحدك ..

كم أضحيت وحدك و نحن ، نلتف حولك ،،

كم أضحيت وحدك و نحن نشيعك و نشيع معك ستة و عشرين سنة من الألم و المعاناة ،،كانت الستة أشهر الأخيرة فيها عصارة العذاب .

و كنت عندما اشتدت وطأة الألم ، تخافت بصوتك على استحياء ، تغمغم بعد أن بلغ السيل الزبى ..

- الذي متعوس ، متعوس .

لم نسمع لك نفسا و لا شكوى أبدا .

ثم تعود عودة التائب من ذنب لم يقترفه ، مقرا لقضاء الله ، متمتما ..

- أستغفر الله ، أستغفر الله ..

لا يمكن لأحد أبدا أن يتصور معاناتك و أن تتعيش النهاية منذ البداية ، و أنت تعلم أن الموت يطاردك في كل وقت .

............................................................

تداعت في رأسي الذكريات مريرة و عادت لقطات الاحتضار تحدث في الجرح الذي لم يلتئم بعد خدوشا تدميه و توقد في الفؤاد لهيب الشوق و لهفة اللقاء ..

تتراءى لي صورته في اليقظة و المنام ، لا تطفئ نار شوقي إليه .

أجمع حاجاتي و اعزم على السفر ، لأراه .

لعلي ألفظ حشرجة تلزم حلقي و أرتاح .

و رغم الألم ، يطير قلبي ، يرفرف عاليا و أنا أطوي المسافات فرحا ، فرحا تمزجه مرارة العلقم .

ألتهم الأرض بخطواتي المجنونة ، و أدخل البقعة التي تحضنه ، أدنو منه ، أقترب أكثر فأكثر ، أثني ركبتي ، أتلمس التراب لأتحسس شيئا ...منه .

ألقي جسدي على الأرض، أتشمم نفسا ما، أمرر أناملي على عشيبات تعلو القبر ، أتلمسها برقة لعلها تحمل نفحة من روحه .

مستسلمة ، ألقي يدي في هدوء ، ثم انتفض قائمة ، قانطة الممني ، أزفر حسراتي و أعود أدراجي وقد اضطرمت بوجداني نار الشوق أكثر .

و في طريق العودة ، تصارعني دموعي فأحبسها لأنها أقل بكثير و لن تقول مكنون ألمي .. أتفف بقوة مستضعف .

ووسط دوامتي و قنوطي ، أحس بهمس تتداعى أصداؤه إلى أذني ،إنه صوته ، كلمات كان يقولها لي عندما نتجادل في أمور الدين و الدنيا ..

- جددي إيمانك يا أختاه .

فيثير في كلامه سكونا و طمأنينة و أسلم قلبي لقضاء محتوم .

و تلوح لي روحه الطيبة مرفرفة في سماء بغير حدود ، في سماء لا تحتاج إلى أرجل تتحرك ، مع ملائكة استرقت من روحه الصافية ، طهرها .

و أرى وجهه الصبوح النضر ، مبتسما كما كان في حياته ،كلما تقاطعت نظراته نظرات الآخرين..

أرى ذلك الوجه الملائكي و قد اعتلته موجات سحرية من نور رباني خالد .

فأحمد الله ..

 

 
 

 

موارد نصيـة

آسيا علي موسـى

 

عفوا.. إنه القدر (قصص)

المحتــوى

1 - الشرخ .

2. عمي رابح .

3. ثلاثية الحزن الحالم .

4. الصورة .

5. زهرة .

6. الانتحاب الدفين .

7. الظل .

8. الربيع و السلام .

9. كم كنت وحدك .

10. صرخات من الأعماق .

11. مناجاة .

12. عفوا ملاكي .. إنه القدر .

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.