كم كنت وحدك يا
ابن أمي ، كم كنت وحدك
"
كم كنت وحدك و
أنت تتلوى في فراش التصق بوجودك ، فألفك و ألفته قسرا ، ارتشف منك نضارة
الصبا و امتص منها زهو الشباب
.
كم كنت وحدك و
أنت ترقب تحركاتنا منزويا في ذلك الركن الذي أضحى مكملا لجسدك ، و أنت
قابع فيه ، غارق في صمتك المديد دهرا ألف معاناة لم تنبس بها أبدا
.
كم كنت وحدك و
أنت تتحمل مصمصة شفاه المتحسرين على حالك و المشفقين المجاهرين بمشاعر
تستفزك و تضرم في أعماقك نار الغضب المكبوت
.
كم كنت وحدك و
أنت ترى هؤلاء يهمشوك بشفقتهم و يزيدون من غربتك
..
كم كنت وحدك و
أنت تراكم آمالك المتكومة ، أحجارا في حلقك لم تجرؤ يوما على تقيؤها حتى
تستريح
.
كم كنت وحدك و
أنت تلتصق بكرسيك المتحرك تبقيه جزءا منك ، يعطيك إحساسا بالأمان.
حتى اللحظات
الأخيرة تشبث يداك بطرفيه ..
- لا تنزلوني ،
لا تنزلوني
..
و حملوك عنه
عنوة .. نعم هي النهاية ، كان عليهم أن يسووك ، أن يمددوك على الفراش
اللعين ، حتى تلفظ روحا طاهرة تسمو إلى دنيا الأمان
.
الحزن يزعق من
كرسيك ، من جدران غرفتك ، من سقف حملق فيك في ذهول
..
كنت شبه ثملة
تراءت لي وقتها أصداء أنين كل أشياءك ،
كتبك ، مذياعك
، جرائدك .. صرخات مرعبة
..
كنت أسمع أنين
آمالك وهي تنتحر
..
أمسكت يدك ، كم
كانت بيضاء لحظتها ،،
دعكت أصابعك
بقوة ، لعلي أمسك الموت و أضغط عليه خارج جسدك ، أو أزرع فيك بعضا من
روحي
.
لكن هيهات
..
سكنت سكون
الأبد
.
أوف يا ابن أمي
كم أضحيت وحدك
..
كم أضحيت وحدك
و نحن ، نلتف حولك ،،
كم أضحيت وحدك
و نحن نشيعك و نشيع معك ستة و عشرين سنة من الألم و المعاناة ،،كانت
الستة أشهر الأخيرة فيها عصارة العذاب
.
و كنت عندما
اشتدت وطأة الألم ، تخافت بصوتك على استحياء ، تغمغم بعد أن بلغ السيل
الزبى ..
- الذي متعوس ،
متعوس
.
لم نسمع لك
نفسا و لا شكوى أبدا
.
ثم تعود عودة
التائب من ذنب لم يقترفه ، مقرا لقضاء الله ، متمتما ..
- أستغفر الله
، أستغفر الله
..
لا يمكن لأحد
أبدا أن يتصور معاناتك و أن تتعيش النهاية منذ البداية ، و أنت تعلم أن
الموت يطاردك في كل وقت .
............................................................
تداعت في رأسي
الذكريات مريرة و عادت لقطات الاحتضار تحدث في الجرح الذي لم يلتئم بعد
خدوشا تدميه و توقد في الفؤاد لهيب الشوق و لهفة اللقاء
..
تتراءى لي
صورته في اليقظة و المنام ، لا تطفئ نار شوقي إليه
.
أجمع حاجاتي و
اعزم على السفر ، لأراه
.
لعلي ألفظ
حشرجة تلزم حلقي و أرتاح
.
و رغم الألم ،
يطير قلبي ، يرفرف عاليا و أنا أطوي المسافات فرحا ، فرحا تمزجه مرارة
العلقم
.
ألتهم الأرض
بخطواتي المجنونة ، و أدخل البقعة التي تحضنه ، أدنو منه ، أقترب أكثر
فأكثر ، أثني ركبتي ، أتلمس التراب لأتحسس شيئا ...منه
.
ألقي جسدي على
الأرض، أتشمم نفسا ما، أمرر أناملي على عشيبات تعلو القبر ، أتلمسها برقة
لعلها تحمل نفحة من روحه
.
مستسلمة ، ألقي
يدي في هدوء ، ثم انتفض قائمة ، قانطة الممني ، أزفر حسراتي و أعود
أدراجي وقد اضطرمت بوجداني نار الشوق أكثر
.
و في طريق
العودة ، تصارعني دموعي فأحبسها لأنها أقل بكثير و لن تقول مكنون ألمي ..
أتفف بقوة مستضعف
.
ووسط دوامتي و
قنوطي ، أحس بهمس تتداعى أصداؤه إلى أذني ،إنه صوته ، كلمات كان يقولها
لي عندما نتجادل في أمور الدين و الدنيا ..
- جددي إيمانك
يا أختاه
.
فيثير في كلامه
سكونا و طمأنينة و أسلم قلبي لقضاء محتوم
.
و تلوح لي روحه
الطيبة مرفرفة في سماء بغير حدود ، في سماء لا تحتاج إلى أرجل تتحرك ، مع
ملائكة استرقت من روحه الصافية ، طهرها
.
و أرى وجهه
الصبوح النضر ، مبتسما كما كان في حياته ،كلما تقاطعت نظراته نظرات
الآخرين..
أرى ذلك الوجه
الملائكي و قد اعتلته موجات سحرية من نور رباني خالد
.
فأحمد الله
..
|