أسيا علي موسـى

2. عمي رابح .

 

لست أذكر يومها كم كان عمري بالضبط ن كل ما أذكره لم أكن قد بلغت سن التمدرس بعد.

كان الفصل صيفا ، وبيتنا جديدا ..

جلس"عمي رابح " في غرفة من غرفه الخاوية و تحلقنا حوله نستمع إلى حديثه الحلو و نطبع من ضحكته اللذيذة خيالات طائرة تحلق بنا في سماء لنا تعطينا إحساسا بالأهمية و ننتشي فرحا بأغانيه الجميلة .

ف " عمي رابح" مدرس كفء يعرف فنيات استقطاب اهتمامات الصغار و احتواء أحلامهم ، و لولا ذلك لما أسكت ضجيجنا و أخمد نار فوضانا ، وسمح لأمن أن تعد له العشاء بهدوء وتركيز، حتى يلذ أكله و تطيب نكهته.

" عمي رابح" يعشق الأكل عشقا و ينهل ما طاب من مستلذاته و حلاوته قدر الاستطاعة .

بقي ذلك اليوم عالقا بذاكرتي ليس بسبب الدجاج المعد للوجبة و لكن بسبب دجاجة أخرى .. هي كلمات أغنية علمنها " عمي رابح" ،ظلت راسخة في ذهني حتى قاربت الثلاثين وما زلت ألقنها أبنائي .

" جاجة يما لكبيرة ،تسوا سبعة دنانير .. الله... الله ،ماتسواش ..

كي جانا الفار وكلانا جاجة .. جاجة يما لكبيرة ..

كي جانا القط و كلانا الفار و كلانا جاجة، جاجة يما لكبيرة ..

كي جانا الكلب وكلانا القط .. وكلانا جاجة، جاجة يما لكبيرة .."

وهكذا تستمر الأغنية بتسلسل ،،حيوانات يفترس قويها الضعيف و ضعيفها الأضعف ..

لخصت كلماتها و بلغة بسيطة قانون الغاب .. وفهمت بعد أن كبرت أن " دجاجة يما "لم تكن إلا صورة مصغرة لكل المحقرين في الأرض ، لكل الضعفاء ، و أن الأغنية الصغيرة الجميلة لم تكن إلا إعداد للصغار لعالم كبير موحش قبيح ، يحكمه نفس القانون..

" عمي رابح" رجل شامخ الهيكل ، طويل ،عريض المنكبين ، ضخمة الهيئة ، مستدير الوجه يوحي مظهره بالهيبة و الوقار .. لكنه متواضع ، بسيط ، صاف حد الشفافية ، صريح حد التجريح أحيانا ، يستقبل الدنيا بنهم و أمل و بهجة .

يتهدج صوته بالعاطفة ، عيناه البنيتان تشعان بالمرح ن وضحكة لا تفرق محياه إلا في لحظات الغضب .

اسم ولقب و روح آمنة ، تشق دياجير الحياة في تحد بريء بتتبع الدنيا بنظرات ناقدة ، اجتمعت فيه كل الأضداد ، لكن قلبه صادق ،،

مجادل ،، يحب ذلك و يتلذذ بمخالفة رأي الآخرين ، لا تهمه في ذلك لومة ، يتكلم في كل شيء ،لا يعرف الحسابات ، لا تهمه التأويلات ، يندفع في حديثه بعفوية ، فإذا حدث و جادلته في أمر ضاقت حدقتا عينيه بقوة و تحرك فمه في كل الاتجاهات و تطاير اللعاب ،و إن غضب أكثر فالويل مما يقذفك به من نعوت ..

كم كنا نتلذذ بسماع نعوته و نضحك .. نضحك و يضحك هو . .. دون أن نبالي .

لكن الجدل في وطني لم يعد مباحا ..

انزوى الناس في زوايا السكوت الرهيبة المظلمة، وبقي هو عابئ ، يلوح بكلتي يديه مطلقا لسانه بما يجوز و لا يجوز،بما يرضيه ..

" وطني أنقذني

من مدن سرقت فرحي

أنقذني من مدن يصبح فيها الناس

مداخن للخوف و للزبل مخيفة

من مدن ترقد في الماء الآسن

كالجاموس الوطني

وتجتر الجيفة

" مظفر النواب"

و العقل لم يعد عندنا وسيلة للتفاهم ، قد كنا من غفلتنا نعتقد ذلك ..

هو عندنا على غير باقي البشر ، أسخف وسيلة للتفاهم..

و الناس هنا إما خائف أو مراوغ يخبئ بشاعة أنانيته بستار المسكنة و النفاق ..

" ولكني أول زنبقة خرجت لليقظة

أفزعها عالمكم

... فالخارج من حلم لا يرجع ثانية

و الداخل في حلم لا يرجع ثانية " مظفر النواب"

في ليلة من ليالي الظلام الرهيبة التي سايرت زمننا .

جلس عمي رابح . و جلست الذكريات أمامه ، نثر أمام عينيه أوراق الماضي .

تأوه ، جالت عيناه شاردة في أرجاء غرفة نومه ، وقد هجره النوم،

استقر نظره على مصحفه الذي لا يفارقه أبدا ، حمله إليه ، فتحه ليرمي بكل خوفه فيه ، و يطرد شبح الهم الذي زاره ليلتها ، راح يرتل آياته ،،،

دقات قوية على الباب ، كادت تقتلعه ،،،

إنه الموت ،، يفتح ذراعيه لأحد ما ن أضحى الأمر بداهة ،، فلمن تقرع طبوله الليلة ،

" أعترف الآن أمام الصحراء..

بأني مبتذل و بذيء و حزين كهزيمتكم

يا شرفاء مهزومين

و يا حكاما مهزومين ..

و يا جمهورا مهزوما ن ما أوسخنا .. ما أوسخنا ..

و نكابر ن ما أوسخنا

لا أستثني أحدا ." مظفر النواب"

أشار أحدهم إلى عمي رابح

- اتبعنا يا الحاج ..

أحس رجليه تنملان من فرط الخوف .. لمعت عيناه ببريق خاطف ، زم شفتيه بقوة من شدة الخوف ، غممت وجهه سحابة دكناء ن مسحت على محياه حزن عميق ،آثار كل

الضحكات الماضية و أخرست كل الجدالات ..

كم كان وحيدا ساعتها ،،

كم كانت الوحدة قاسية وقتها .. ك .. الموت ،،

كم كان القبر باديا فاتحا ليبتلع كل آماله ، كل إيمانه ،، سذاجته ؟

كان الخوف وقتها مباحا ..

قادوه .. وخيم السكون..

..........................................................

بعد أيام من البحث ، يعثر عليه ،،"' لحسن حظه و حظ أهله في إحدى غرف حفظ الجثث بأحد مستشفيات الضاحية ...

" جاجة يما لكبيرة ".. هو نفس القانون يحكم عليه ، ليختزل ببرودة ستة و ستين سنة من الصبر و العطاء..

 

 
 

 

موارد نصيـة

آسيا علي موسـى

 

عفوا.. إنه القدر (قصص)

المحتــوى

1 - الشرخ .

2. عمي رابح .

3. ثلاثية الحزن الحالم .

4. الصورة .

5. زهرة .

6. الانتحاب الدفين .

7. الظل .

8. الربيع و السلام .

9. كم كنت وحدك .

10. صرخات من الأعماق .

11. مناجاة .

12. عفوا ملاكي .. إنه القدر .

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.