لست أذكر يومها
كم كان عمري بالضبط ن كل ما أذكره لم أكن قد بلغت سن التمدرس بعد.
كان الفصل صيفا
، وبيتنا جديدا
..
جلس"عمي رابح "
في غرفة من غرفه الخاوية و تحلقنا حوله نستمع إلى حديثه الحلو و نطبع من
ضحكته اللذيذة خيالات طائرة تحلق بنا في سماء لنا تعطينا إحساسا بالأهمية
و ننتشي فرحا بأغانيه الجميلة
.
ف " عمي رابح"
مدرس كفء يعرف فنيات استقطاب اهتمامات الصغار و احتواء أحلامهم ، و لولا
ذلك لما أسكت ضجيجنا و أخمد نار فوضانا ، وسمح لأمن أن تعد له العشاء
بهدوء وتركيز، حتى يلذ أكله و تطيب نكهته.
" عمي رابح"
يعشق الأكل عشقا و ينهل ما طاب من مستلذاته و حلاوته قدر الاستطاعة
.
بقي ذلك اليوم
عالقا بذاكرتي ليس بسبب الدجاج المعد للوجبة و لكن بسبب دجاجة أخرى .. هي
كلمات أغنية علمنها " عمي رابح" ،ظلت راسخة في ذهني حتى قاربت الثلاثين
وما زلت ألقنها أبنائي .
" جاجة يما
لكبيرة ،تسوا سبعة دنانير .. الله... الله ،ماتسواش
..
كي جانا الفار
وكلانا جاجة .. جاجة يما لكبيرة
..
كي جانا القط و
كلانا الفار و كلانا جاجة، جاجة يما لكبيرة
..
كي جانا الكلب
وكلانا القط .. وكلانا جاجة، جاجة يما لكبيرة
.."
وهكذا تستمر
الأغنية بتسلسل ،،حيوانات يفترس قويها الضعيف و ضعيفها الأضعف
..
لخصت كلماتها و
بلغة بسيطة قانون الغاب .. وفهمت بعد أن كبرت أن " دجاجة يما "لم تكن إلا
صورة مصغرة لكل المحقرين في الأرض ، لكل الضعفاء ، و أن الأغنية الصغيرة
الجميلة لم تكن إلا إعداد للصغار لعالم كبير موحش قبيح ، يحكمه نفس
القانون..
" عمي رابح"
رجل شامخ الهيكل ، طويل ،عريض المنكبين ، ضخمة الهيئة ، مستدير الوجه
يوحي مظهره بالهيبة و الوقار .. لكنه متواضع ، بسيط ، صاف حد الشفافية ،
صريح حد التجريح أحيانا ، يستقبل الدنيا بنهم و أمل و بهجة
.
يتهدج صوته
بالعاطفة ، عيناه البنيتان تشعان بالمرح ن وضحكة لا تفرق محياه إلا في
لحظات الغضب
.
اسم ولقب و روح
آمنة ، تشق دياجير الحياة في تحد بريء بتتبع الدنيا بنظرات ناقدة ،
اجتمعت فيه كل الأضداد ، لكن قلبه صادق ،،
مجادل ،، يحب
ذلك و يتلذذ بمخالفة رأي الآخرين ، لا تهمه في ذلك لومة ، يتكلم في كل
شيء ،لا يعرف الحسابات ، لا تهمه التأويلات ، يندفع في حديثه بعفوية ،
فإذا حدث و جادلته في أمر ضاقت حدقتا عينيه بقوة و تحرك فمه في كل
الاتجاهات و تطاير اللعاب ،و إن غضب أكثر فالويل مما يقذفك به من نعوت
..
كم كنا نتلذذ
بسماع نعوته و نضحك .. نضحك و يضحك هو . .. دون أن نبالي
.
لكن الجدل في
وطني لم يعد مباحا
..
انزوى الناس في
زوايا السكوت الرهيبة المظلمة، وبقي هو عابئ ، يلوح بكلتي يديه مطلقا
لسانه بما يجوز و لا يجوز،بما يرضيه ..
" وطني أنقذني
من مدن سرقت
فرحي
أنقذني من مدن
يصبح فيها الناس
مداخن للخوف و
للزبل مخيفة
من مدن ترقد في
الماء الآسن
كالجاموس
الوطني
وتجتر الجيفة
"
مظفر النواب"
و العقل لم يعد
عندنا وسيلة للتفاهم ، قد كنا من غفلتنا نعتقد ذلك
..
هو عندنا على
غير باقي البشر ، أسخف وسيلة للتفاهم..
و الناس هنا
إما خائف أو مراوغ يخبئ بشاعة أنانيته بستار المسكنة و النفاق ..
" ولكني أول
زنبقة خرجت لليقظة
أفزعها عالمكم
...
فالخارج من حلم
لا يرجع ثانية
و الداخل في
حلم لا يرجع ثانية " مظفر النواب"
في ليلة من
ليالي الظلام الرهيبة التي سايرت زمننا
.
جلس عمي رابح .
و جلست الذكريات أمامه ، نثر أمام عينيه أوراق الماضي
.
تأوه ، جالت
عيناه شاردة في أرجاء غرفة نومه ، وقد هجره النوم،
استقر نظره على
مصحفه الذي لا يفارقه أبدا ، حمله إليه ، فتحه ليرمي بكل خوفه فيه ، و
يطرد شبح الهم الذي زاره ليلتها ، راح يرتل آياته ،،،
دقات قوية على
الباب ، كادت تقتلعه ،،،
إنه الموت ،،
يفتح ذراعيه لأحد ما ن أضحى الأمر بداهة ،، فلمن تقرع طبوله الليلة ،
"
أعترف الآن
أمام الصحراء..
بأني مبتذل و
بذيء و حزين كهزيمتكم
يا شرفاء
مهزومين
و يا حكاما
مهزومين
..
و يا جمهورا
مهزوما ن ما أوسخنا .. ما أوسخنا
..
و نكابر ن ما
أوسخنا
لا أستثني أحدا
." مظفر النواب"
أشار أحدهم إلى
عمي رابح
-
اتبعنا يا
الحاج
..
أحس رجليه
تنملان من فرط الخوف .. لمعت عيناه ببريق خاطف ، زم شفتيه بقوة من شدة
الخوف ، غممت وجهه سحابة دكناء ن مسحت على محياه حزن عميق ،آثار كل
الضحكات
الماضية و أخرست كل الجدالات
..
كم كان وحيدا
ساعتها ،،
كم كانت الوحدة
قاسية وقتها .. ك .. الموت ،،
كم كان القبر
باديا فاتحا ليبتلع كل آماله ، كل إيمانه ،، سذاجته ؟
كان الخوف
وقتها مباحا
..
قادوه .. وخيم
السكون..
..........................................................
بعد أيام من
البحث ، يعثر عليه ،،"' لحسن حظه و حظ أهله في إحدى غرف حفظ الجثث بأحد
مستشفيات الضاحية ...
" جاجة يما
لكبيرة ".. هو نفس القانون يحكم عليه ، ليختزل ببرودة ستة و ستين سنة من
الصبر و العطاء..
|