مغامرة
مجهولة العواقب. قد تعود بعدها إلى بيتك أو إلى السجن، البديلان في هذه
الحالة يعتبران ترفا إذا ما قورنا بفكرة عدم العودة إطلاقا إلى أي منهما.
فقد تقود الأقدار إليك مختلا يطعنك بسكين في شارع، أو تضطرك الظروف إلى
الهجرة كبديل عن الآنفصال عن زوجتك، وربما تستمع بأذنيك إلى رجال دين
يتفأوضون حول الأسلوب الأمثل لموتك.
هكذا أصبحت
مصائر الكتاب في عالمنا العربي مع مطلع الألفية الثالثة، وبعد أن تحول
الإبداع إلى مغامرة لا يقدم عليها إلا مجنون. موسى حوامدة أحد هؤلاء
المجانين، عاش أكثر من ثلاث سنوات في أزمة بسبب ديوانه 'شجري أعلي' .
حارب وحورب لتنتهي القضية بثلاثة أحكام شرعية وحكم مدني ببراءته. حسابات
المكسب والخسارة لا تقدم نتيجة واضحة، فحتى المنتصر في هذه المعركة
مهزوم، ويكفي ضياع ثلاث سنوات بين المخافر والمحاكم والتهديدات بالموت
ليولد رقيب ذاتي داخل حوامدة يفتش في قصائده الجديدة، بل ويزايد على رقيب
دائرة المطبوعات والنشر بحذف قصائد من ديوانه الذي كان قد أجيز بالفعل
قبل الأزمة: 'أسفار موسى.. العهد الأخير' نتيجة منطقية بعد أن تابع الجدل
الذي أثاره البعض حول أسلوب التخلص منه بعد أن يحكم بتكفيره، الغالبية
اتفقوا أخيرا على أن تقطع يده اليمني (التي كتبت) مع قدمه اليسري قبل أن
يتم إعدامه!! طريقة ليست شيقة للموت جعلت حوامدة يرد علي سؤال حول
الرقابة الذاتية بقوله: 'رغم الشجاعة التي منحها لي الله فإنني سأكون
كاذبا لو قلت لك أنني لن أعيد النظر مائة مرة في أي عمل جديد'. لكنه رغم
ذلك كتب نصا عن أزمته حمل عنوان (أبارك لك الفجيعة) وهو نص جريء غالبا
سيحتفظ به حوامدة لنفسه ولأصدقائه: 'حكيت في هذه القصيدة عن المشكلة، كنت
أجد نفسي أحيانا متوترا، وفي أحيان أخرى أندفع نحو استخدام كل ما أريده،
وأحيانا أخرى أتوقف، ليس خوفا ولكن تحاشيا لبعض المحظورات التي يمكن أن
تسبب لي مآزق، رغم أنني مقتنع أن من حقي أن أقول ما أشاء'. تردد قد يكون
مشروعا بعد التجربة التي أدت في النهاية إلى: 'شطبت كثيرا من المقاطع
الشعرية حتى من مجموعتي الجديدة خوفا من أن تسبب لي مشاكل'. يصمت قليلا
ثم يضيف مبررا: 'أنا شطبت لأنه من غير المعقول أن أظل في نفس القلق ونفس
التعذيب. من الممكن أن يكونوا يترصدون لي الآن علي أي هفوة، ومن الممكن
أن يرفعوا علي دعوي قضائية جديدة' ما هو المشطوب؟: 'شطبت الكثير من
المقاطع التي لا أود أن تفسر خطأ من الناحية السياسية والدينية.. ليس
معنى ذلك أنني لم أقل في الكتاب أشياء جديدة.. لا.. لقد قلت'
أنصف القضاء
موسى حوامدة قبل أسابيع فخرج من الأزمة ليراقب نفسه وليزعج رقباء دائرة
المطبوعات والنشر. تلك الدائرة التي كانت المحرك الأساسي للأزمة. أخرج
حوامدة ديوانه الذي سبقت إجازته (أسفار موسى.. العهد الأخير) ودفع به إلى
دار النشر التي ستصدره خلال أيام، لكنه صدٌّره بفقرة عنوانها: 'مجاز مع
شطب' قال فيها: 'وأجازت دائرة المطبوعات والنشر هذه المجموعة مع شطب عدد
كبير من المقاطع الشعرية، ورغم الاعتراض على مجانية الشطب غير المبرر،
فقد التزم الناشر والشاعر بذلك خشية مصادرة الكتاب، فتم حذف الكلمات التي
لم (ترق) للدائرة واستعيض عنها بقوسين على هذا الشكل ((.....)) '. تجربة
موسى حوامدة مع دائرة المطبوعات والنشر هي التي دفعته لذلك فهي التي قامت
بتحويل ديوان (شجري أعلى) إلى وزارة الأوقاف، لتقوم الأخيرة بتحويله من
جديد إلى محكمة عمان الشرعية، وبعد أن برأته المحاكم الشرعية في ثلاثة
أحكام منفصلة عادت الدائرة في العام الماضي 2001 لترفع قضية جديدة ضده
أمام محكمة مدنية على نفس الديوان اتهمته فيها بتحقير أحد الأديان
ومخالفة قانون المطبوعات والنشر بعدم التزامه بشطب ما أمرت به الادارة
واضافة قصائد كثيرة، وهو ما أثبت حوامدة عدم صحته بتقديمه المخطوط المجاز
للمحكمة وعليه ختم دائرة المطبوعات خاليا من أي إشارة لحذف أو شطب وأثبت
أنه لم يقم إلا بتغيير العنوان من (استحق اللعنة) إلى (شجري أعلى) تلافيا
لبعض الآنتقادات الدينية، حوامدة فجر مفاجأة في المحكمة عندما أكد أن
دائرة المطبوعات نفسها لم تحتج بعد صدور ديوانه (المجاز من رقبائها)، بل
طلبت شراء عشر نسخ، وشاهدت العنوان الجديد، ولم تعترض و قتها.
يستكمل
حوامدة قصته الجديدة مع دائرة المطبوعات، فبعد أن نما إلى علمها أنه أشار
إلى المحذوف من ديوانه (أسفار موسى) تم استدعاؤه إليها قبل أيام: 'كانت
قد تمت إجازة هذا الديوان قبل مشكلة ديوان شجري أعلى، وعندما انتهيت من
المشكلة، دفعت بديوان أسفار موسى إلى المؤسسة العربية مع التصدير المشار
إليه، استدعوني في الدائرة وسألوني: لماذا كتبت في بداية الديوان أنه تم
شطب الكثير من العبارات الشعرية؟ قلت لهم لأن هذا حدث، ولكي يكون القارئ
على علم بما جرى، فليس معقولا أن يمضي في قراءة الديوان وفق سياق معين ثم
يفاجأ بكلام محذوف. يجب أن يعرف القارئ أن الحذف تم بناء على طلب
الدائرة، فطلبوا أن نحأول الاتفاق على إعادة ما سبق حذفه مقابل شطب
المقدمة والملاحظات التي تشير إلى وجود حذف بمعرفة الدائرة ، خاصة أننا
نحتفل بعمان عاصمة ثقافية، قلت لهم: لا يوجد مانع عندي، فأنا لا أهوى صنع
المشاكل، وبالفعل تمت إعادة معظم المحذوفات، حأولوا أن يعيدوا إجازة
مخطوط الديوان كله من جديد، لكنني رفضت، وصممت علي عدم التفأوض على ما
تمت اجازته من قبل، في المقابل ألغيت المقدمة والملاحظات ووضعت بدلا منها
بعض الآراء النقدية التي كتبت عن دوأويني السابقة'.
كانت مشكلة
ديوان (شجري أعلى) قد أثيرت في عمان في شهر فبراير 2000 بعد أن اتهم
البعض حوامدة بالردة. الضجة جعلت إدارة المطبوعات تتراجع عن موافقتها حتى
أن د. حسين أبو عرابي مدير المطبوعات الأسبق أكد وقتها في ندوة عقدتها
رابطة الكتاب الأردنيين أن الدائرة صادرت الكتاب لحماية المؤلف! وبعد
ضغوط عديدة تم تحويل القضية إلى محكمة عمان الشرعية التي وجهت له تهمة
الردة وطالبته بإعلان التوبة لكي لا يتم حرمانه من ميراث المسلمين وما
يترتب على ذلك من تطليق زوجته ومصادرة أملاكه والحجر عليها وتحويله إلى
المحكمة الجزائية لينال عقوبة السجن، حوامدة رفض التهم وأكد أن قصائده
سياسية لا تقصد الإساءة للإسلام ولا القرآن أو الأنبياء وأضاف أن الشعر
يحمل تأويلا مختلفا عن الفهم السطحي للنصوص وأن اهتمامه يتركز على القضية
الفلسطينية ورفض التطبيع، وأن ما قصده في قصيدته هو نفي التطبيع عن الشعب
المصري لا نفي القرآن. وبعد أكثر من عشرين جلسة اقتنعت المحكمة بتأويلاته
وقررت رد التهمة في يوليو 2000، لكن محكمة الاستئناف الشرعية نقضت الحكم
لأنها رأت أن قرار المحكمة الشرعية لم يستند لذوي الاختصاص.
من جديد
أعادت محكمة عمان الشرعية محاكمة حوامدة وبنفس التهم السابقة، وعندما طلب
الشاعر الاستعانة بآراء نقاد عرب متخصصين في الشعر الحديث رفضت المحكمة
وطلبت رأي مفتي الأردن والشيخ صديق موسى السيد اللذين أكدا أنهما وجدا
القصائد مليئة بالكفر، على النقيض جاء رأي د. محمد بركات أبوعلي رئيس قسم
اللغة العربية في الجامعة الأردنية الذي أكد أن قصائد حوامدة لا تهدف
الإساءة للقرآن، وللمرة الثانية تتم تبرئة حوامدة. غير أن محكمة
الاستئناف الشرعية رفضت الحكم من جديد في يونيو 2001 وطالبت بإعادة محاكمته.
في المرة
الثالثة حكمت المحكمة الشرعية بإسقاط القضية نهائيا وبرأت حوامدة براءة
نهائية وقررت رد الدعوى ردا قطعيا غير قابل للاستئناف حسب قانون أصول
المحاكم الشرعية.
المفاجأة
كانت في موقف دائرة المطبوعات والنشر، فقد قامت برفع دعوى جديدة على موسى
حوامدة أمام محكمة مدنية بتهمة مخالفة قانون المطبوعات وتحقير أحد
الأديان، وبعد أكثر من عشرين جلسة قررت المحكمة تبرئة الشاعر براءة مطلقة
خاصة أنها لم تر في الديوان أية إهانة للشعور الديني، كما أكدت عدم
مخالفته للقانون.
انتهت
مشكلات موسى حوامدة مؤقتا، أما عن المستقبل فلا أحد يستطيع الجزم بما
سيحدث فيه، خاصة مع إعادة قراءة ملابسات القضية السابقة، إنها المغامرة
التي أشرنا لها في البداية .. تلك المغامرة التي تجعل الكاتب يتفرغ
لعشرات الأمور الداخلية ليس من بينها الإبداع .
|