موسى حوامدة. طريد الدولة والديـن

«شجري أعلى» لموسى حوامدة

قصائد لتهشيم السياق

علي سفر – سوريا*

 

 

 

انتهت قبل أيام المحكمة الماراتونية والتي حسمت القضية المثارة منذ ثلاث سنوات ضد الشاعر الاردني موسى حوامدة، ولعل اهم ما يمكن الخروج به من كل ما حصل مع الشاعر انما هو التاكيد ان ليس للشعر اي مزايا تمنحه استثناء من نوع ما يجعله في منأى عن تحميله احدى ذرائع التكفير واقامة الحد على قائله..! فالشعر ومنذ زمن الجاهلية كان احد اساليب المواجهة.. مواجهة الفرد للمجتمع (الصعاليك)، والجماعة للجماعة (الهجاء بين شعراء القبائل)، وواحد من اساليب اعلان الدعوة الدينية (امية بن ابي الصلت) وفي التبشير بها (حسان بن ثابت)، لا بل انه كان احد اساليب مواجهتها ايضا واذا كان النص الشعري الذي كتبه شعراء وقفوا في وجه الاسلام قبل نصره النهائي على اعداء دعوته، قد تم اخفاءها لسبب او لاخر مما يتصل بالقضاء على خصوم الدعوة وخطاباتهم وعدم الإبقاء على اي اثر منهم.. فإن انتفاء وجوده او تداوله بشكل جليٍ وواضح لا يلغيه او يجعلنا نتصور ان الشعر لم يكن – بوصفه فناً يحمل خطاباً – سلاحاً في وجه الإسلام لدى "الكفار" ممن لم يتبعوا في بدايات الدعوة خطى الرسول الكريم.. ان هذا الفن ذو الجذور الضاربة في الارض العربية يحتمل الكثير من كل ما يعتبر خطاباً ذي مدلول سياسي او اجتماعي او اقتصادي وعليه فإن قراءته وفقاً لمعيارية واحدة غير متعددة لا بد سيوقع القارئ ذاته في أسر هذه المعيارية وبالتالي تبني الإيحاءات الزجرية والقمعية المبثوثة في صلبها ومن ثم يصبح الموقف "النقدي" تجاه النص الشعري هو موقف "قانوني" يختص في كون الشاعر قد تجاوز الخط المسموح به من خلال المعيارية المحددة.. ومن هنا فإن معضلة النص الشعري الذي يفترض نفسه حمالاً للخطاب وداعية ينطق بلسان أصحابه تتحدد في كونه و دون ان يدري يجد نفسه قد أمسى في مواجهة من يعتبرون انفسهم حراساً للسياق الذي تنهل منه الجملة الشعرية خطابها و عليه فإننا نرى كمثال قصائد تتكلم عن "اليهودي" من وجهة نظر شعرية، وبعد ان يتم تداول هذه القصائد نسمع ان صاحبها قد اتهم بالتطبيع من قبل أصحاب الاختصاص في علم "إسرائيل"..! وكذلك يقع الشاعر الذي يكتب قصائد مليئة بالمضامين التي تدافع عن الطبقة العاملة... وعن نضالاتها... أسيراً لاتهامات علماء اجتماع الأدب بسبب كونه "قد تم سحب البرجوازية في نصه"..! أو كان "داعية تروتسكياً في تلك الجملة أو في ذاك الحرف"..! نسابا

وفي هذا السياق الاتهامي المتكرر تندرج قضية موسى حوامدة الشاعر الاردني الذي اتهم بالردة على الدين لكونه قد انكر حقائق قاطعة وردت في القران الكريم كما جاء في حيثيات الاتهام وانه قد اطال اللسان على احد الانبياء وانه ايضا قد استهزء بالسنة النبوية وبالمسلمين (مجلة النقاد، عدد: 11) وقد استند الادعاء على قصيدتين نشرتا في ديوانه "شجري أعلى" هما قصيدة "يوسف"، وقصيدة "سبيل"، وبالطبع لم يكن حراس السياق الذي فرض معيارته في القراءة سوى مجموعة من خطباء المساجد وبعض الدعاة المسلمين ممن يستطيعون فعل اي شيء في اي مكان وفي اي زمان، صحيح ان الشاعر قد تمت تبراته من التهم المنسوبة اليه غير انه وفي قراءة لحيثيات الدعوة، لا يسع المرء سوى السخرية من اصحاب الدعوة لكونهم قد اتهموا الشاعر بالردة وهذا ما لم يثبت عليه اذ انه قد نطق بالشهادتين امام قاضي عمان الشرعي وقد اعترف بإسلامه وإيمانه بالله، وبالاركان الخمسة، مما جعله بمنأى عن العسف الإجرائي الذي يهيج من خلاله صغار النفوس من عبيد الله.. وفي المقابل من هذه السخرية يحتاج المرء إلى الكثير من مقومات الثقة بالنفس وبالشعر وبالشعراء كيلا يذرف الدمع على مصاب الشعر والشعراء، والاحتماء في مساعيهم حينما يجعلون من قصائدهم قصائد مواجهة.. وهذه المقومات تبقى وللأسف الغائب الدائم في اغلب المواجهات الحاصلة بين المبدعين ومكفريهم. فهم الخاسرون دائما طالما ان ثمة من وهب هؤلاء المكفرين شرعية من نوع ما تجعلهم يقيسون الكلام على قدهم ويمدون الالحان بحسب اطوال اصواتهم دون النظر إلى حقائق تخص افكار الاخرين في الزمن الذي لم يعد بالامكان قراءة الشعر من خلال الزوايا التي اشرنا اليها في البداية حينما تحدثنا عن الشعر كأسلوب لمواجهة ما هو خارج النص.. نسابا

هذا السؤال (الخارج نصي) هو ذات القصيدة المعنونة بــ "عبدالله" لدى موسى حوامدة:

"يا عبدالله / من ملكك العربية / من أهداك القران / وأعطاك الكعبة؟ / يا عبدالله / ان الله / لم يخترك لتحصيل الجزية / او سفك دم الصوفية / واستئصال الحرية / عبدالله للان سجين / سجنته البلدية / إذ كان يبيع الناس / حصى الجنة / وعصا موسى السحرية!!!" ص (65) نسابا

غير ان عصا موسى حوامدة التي يرفعها سؤالا ههنا لا تجد جوابها فيما اثارته قضية منع موسى "شجرة أعلى" او في فحوى الدعوة التي اقيمت عليه فقط انها تجده ايضا في الشعراء جميعهم وفي المبدعين جميعهم ايضا حين تتطاول المؤسسة على نتاجاتهم الادبية بحجة مخالفتهم لخطوط المؤسسة الحمراء غير المعلنة واقصد بغير المعلنة ان هذه الخطوط غير محددة وفق معيارية معينة انما هي متروكة تبعا لتدرجات امزجة من يعتبرون انفسهم قيومين على السياقات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وكمثال على التدرج في المزاج قيام مؤسسة اتحاد الكتاب العرب في الوضوح الفكري..!! وقبل هذا المنع رفضت المؤسسة ذاتها السماح بنشر مجموعة محض الكلام "بحجة واهية قوامها ان القصائد نثرية وفلسفية..!! ومن الامثلة المختلفة ايضا منع طباعة اقاصيص "ارض الخراب" لناظم مهنا بسبب تشابه الاسماء الكنعانية مع اسماء الشخصيات والانبياء في التوراة..!! وطبعا لن تنتهي الامثلة اذا استمرينا في الابتعاد عن ذكر القضايا المعروفة كقضية "وليمة لاعشاب البحر" التي ما تزال طعمتها إلى هذه اللحظة مغروسة في اسنان الاعلام العربي والدعاة القضاة ممن تملكوا السياقات..!!

وبالعودة إلى الشعر والى مجموعة "شجري أعلى" لموسى حوامدة وبعد قراءة القصائد المزدحمة في المجموعة وبتجاهل للاسباب المثيرة التي تدعوك لقراءة المجموعة فإن توقفا نقديا موجزا لا بد سيمنح الشعر تلك الثقة ومقوماتها في مواجهة ما هو خارج النص ولتكون المواجهة اذا كان للشعر ان يدعو إلى معركة من هذا النوع هي معركة ما بين النص وبين ما هو خارج النص اي العودة إلى قراءة الشكل ودفعة قدما عبر مضمونه إلى مواجهة الرازح من الاشكال والمضامين وهنا نقوم نحن وبوصفنا قراء إلى الانحياز إلى الخطاب الشعري الذي يقدمه موسى حوامدة (مع التحفظ على بعض جوانبه التقنية مما يختص التزامه بالايقاعية والقافية) والذي يسمح بتفكيك العناصر الواقعية الرازحة في الاسطورة السائدة شعبيا واقصد هنا الاثر الاعتناقي والمسلَمات التي تنتج عن تداول حكاية ما في الواقع وهنا سنتلمس في الديوان وعلى طول الخط ان موسى كان يمارس نوعا من الحت لعدد هائل من المفاهيم الرازحة ايضا عبر الحكي وبما يحيل التاريخ إلى مشاهد تقارب "الكوميديا ديلارتي" حيث نرى الشخوص ذاتها في كل زمان ومكان ولكن مع الافتراق في التسمية بين مكان واخر فيقول مثلا في نص فلامنكو: "فلامنكو حرب بين الماضي والحاضر / تتلاحق دقات الاقدام / تتسارع ايقاعات الاكعب / فأرى غرناطة تهتز / وأرى عبد الرحمن الداخل / يهوى../ ابن زيدون يترنح / وابن حزم يشنق بالطوق / ارى ولادة بنت المستكفي / وارى ما يكفي" ص (33).

ان هذا المسعى المتاح من خلال الشعر انما يدعم في اسمنت الاسطورة اللغوية والبلاغية النثرية الايحائية ذات الدلالات الساخرة من الحدث مقابل تصدع الاسطورة التاريخية الدوغمائية المثبتة على جوانب الاثر التاريخي المعبر عنه ببلاغة الماضي التليد.. ومن خلال هذا الفعل الشعري نرى ان الشعر انما يعود إلى الواجهة في كونه اسلوب مواجهة ولكن في طور جديد من اطوار تطوره.. صحيح ان حوامدة وكما يقول عنه محمد عبيد الله في مقدمة الديوان "يحاول...ان يعالج...الواقع بعيوبه وفضائحه ومفارقاته، مثلما يسعى إلى المحافظة على حرارته ولمعانه، انه ينقد زيف الواقع بسخرية حادة وبالتركيز على التضاد الذي ينتج ثنائيات جارحة تكثف بعضا من ملامح الحقبة التي نعيشها من واقعنا العربي" ص (9) نسابا

الا ان هذا التحديد في شكل مماحكة الواقع سرعان ما يقودنا إلى حصر الخطاب الشعري في بيت النار من بندقية الفن في مواجهة الواقع وهنا لا اعتقد الشاعر يرمي لان يكون شعره مجرد طلقة موزونة ومقفاة.. نسابا

ان موسى حوامدة وكما تبدى من خلال الكثير من قصائد "شجري أعلى" انما يناكف الواقع من خلال استحداث النموذج الخارج عن التصور المتاح فهذا العالم لا يقوم الا من خلال ذات الشاعر وبالتالي فإن صوته الذي يعبر من خلاله عن علاقته بهذا الواقع يصرح بشكل العلاقة المتصورة معه فيقول: "حين أموت / ينبغي ان ينتهي العالم / في نظري على الاقل" ص (89)

وبالتالي يحق لنا التساؤل اي واقع هذا الذي سيموت بعيد موت الشاعر.. الاجابة تجيب عنها قصائد الديوان التي تجعل الشاعر يموه عنوان "استحق اللغة" بعنوان "الدنيا قبل السُكر forever شجري أعلى" مثلا او الدنيا كما يتحدث عنها في نص "مدينة / للتجارِ / وبعد السكر مدانة / للخمارْ / فاشربْ قبل اليسر / وبعد العسر / وبعد السُكرِ.. / "وخل السلاح صاحي.." / يا صاح / إن شئت الاستمرار". ص (97) . نسابا

انها حرب جديدة يصنعها مبدأ استحداث النموذج كما يفعله موسى حوامدة وعليه فإن قراءة اخرى للديوان ربما ستمنحه أعداء جددا من مقاس الذين يدعون عليه الان وأقصد فجار السياقات الرائجة والمتاحة هذه الأيام.

ــــــــــــــــ

* شاعر وناقد ومخرج تلفزيوني سوري والمقالة منشورة في موقع  .

نشرت هذه المقالة في نسـابا أون لاين

 

 

موارد نصيـة

موسى حوامــدة

طريد الدولة والديـن

المحتــوى

سيف التكفيـر يضرب في الأردن. الشاعر موسى حوامدة طريد الدولة والدين (مجلة النقاد اللبنانية)

إيهاب الحضري: الشعر كفر، الخيال بدعة. حالة موسى حوامدة "نموذجا"

د. صلاح فضـل: موسى حوامدة في «شجري أعلى»، مفارقات الشعر والسياسة والدين

محمد علي شمس الدين: موسى حوامدة أمام لعنة (يوسف). حق الشعر وحدود التأويل

د. ضياء خضيـر: على هامش تكفير الشاعر موسى حوامدة. عمل التاريخ.. وعمل الشعر

علي سفـر: «شجري أعلى» لموسى حوامدة قصائد لتهشيم السياق

فريد ضمـرة: كائـن سماوي ناظم

موسى سامي عبد الحليم «المحامي»: موسى حوامدة؛ أديب فلسطين يضع قضايا الاحتلال في مركز كتاباته

بيان من صاحب شجري أعلى: عن الحقيقة الغائبة دائما

موسى حوامدة: تسبيح وشعر «اللهم ادخلهم التجربة».. وهب يا رب أني كفرت!!

ٍٍ موسى حوامدة: دجالون وكذابون !!

ٍ موسى حوامدة: أبارك لكَ الفجيعة

إعادة محاكمة الشاعر موسى حوامدة للمرة الثامنة

 

 
 
جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.