صدرت
أواسط العام الحالي 1999 عن المؤسسة العربية
للدراسات والنشر في بيروت المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر موسى حوامدة
والتي جاءت تحت عنوان "شجري أعلى" وفي 112 صفحة من القطع المتوسط فيما
استدرك في ملاحظة طريفة ونوه ان اسم الديوان الأصلي
كان "أستحق اللعنة" وتم استبداله على سبيل التمويه.
من هذا
الاستهلال نطل على مفارقات والتفافات حوامدة في هذه المجموعة التي تسلحت
ليس فقط بتعدد الصور ذات الايحاءات المختلفة بل أغتنت ببلفونية صوتية
تأرجحت بين الشجى والولوج الارادي في حزن عميم وبين المفارقات
الكاريكاتورية ليعيد إلى ذهن القارئ مرة اخرى خفة الشاعر الساخر في
حوامدة وسخريته الشعرية الخفيفة.
وليس على
سبيل استعراض معرفي او قدرة على النظم تدججت قصائد المجموعة بوعي النظم
وكأني بحوامدة يقول"إنني حداثي بيد
أني لن أغفل ما تعودته الأذن
العربية تحت وطأة 20 قرناً من النظم وحري بي ان أجرب ذلك متسلحاً بصورة
مضارعة وخيال دائم التشظي والمعاصرة، يقول في قصيدة بعنوان "غدر" :
بحور الشعر
نعرفها
ونعرف قيمة
الجرس
ونبني شعرنا
حراً
على بيت من
الأنس
بكت أوزانه
عمراً
ودهراً لم
تزل تؤسي
ومن النظم
إلى محاولة جديدة عرفت كثيراً في أشعار يابانية وترجمت وكتبت على منوالها
في الإنكليزية والفرنسية وحتى العربية – قصيدة ((الهايكو)) في هذه
المحاولات لا تبدو على حوامدة الحيرة أو التردد أو الامعان في الحقائق
الصلبة دون خوف من ملاحظة نقدية متجهمة أو أخرى لا زالت تستخدم المنطق في
محاكمة البديهيات ، يقول حوامدة تحت عنوان "مرايا" :
يا الهي
كلما حدقت
في المرآة
أرى وجهي
قد تكون
الصورة الذهنية لدى حوامدة هي الأكثر طغيانا غير انه لم يقع في فخ
الشعرية الحديثة التي عمادها المتقابلات والنقائض الكاريكاتورية وأحيانا
المواقف التي تحمل "هيغلية" فرحة وقرائن تكاد تنساها مع
أنها جزء من المشهد اليومي يقول :
ويدي خشب
الرمان
وأنا أرشف
قهقهة
الفنجان
وفي مكان
اخر يقول
أشكر الحناء
علم الايدي
الرضا
من هذا
التنوع في الأداء الشعري تصل سخرية حوامدة
وحزنة وحدة رؤاه الفلسفية , فهو يخفي تأكيده على انه كائن سماوي بشعريته
على افتراض أن ثمة من هو (أرضي) ليس من علو
الشجر في العنوان ، بل بهذه الفوضى المنضبطة ليس بعبث القوافي
أو التدوير الفني للقصيدة بل بالوثبة الشعرية
التي تطير وتطير ، يقول:
منساقا نحو
نحو النور
مد الولهان
يديه
فتأوه
ظل مقهور
واذا كان لا بد
للشاعر أن تلهج روحه بالحكمة, فثمة ما يثير
التأمل الحكيم لدى حوامدة على الرغم من انه، كما ذهبت ، يخفي رغبة
نورانية سماوية إلا أن
ذلك لم يقطع حبل الود مع الأم/الأرض
، وإلا كيف له ان يؤنسن الأشياء وينفخ فيها من
روحه لتبدو أكثر حياة أو حضوراً...
وجدتْ غيمة
رعداً
فتطاير منها
اللعاب
وتناثر فينا
الندى
****
قابلت نجمة
صحن ماء
فاشتهت
نفسها
ودرجاً على
درب التنوع ايضاً والاتكاء الناضج على تراث اعتاد الحنين اليه اذ الشاعر
يرفع اليد اليمنى عكازة الماضي وباليسرى تباشير فجر لغة جديدة لم تشوهها
البساطة، بل جاءت مثل امرأة نعرفها من ملامح نحبها وصوت اعتدناه كما
التبغ، يقول:
أشارك
غرناطة الحزن
أمشي لها
عارياً من ذنوبي
نفياً بلا
سفن
أو خطب
وفي مكان
اخر :
انا نخلة
الكرخ
زيتونة
الشرق
أرزة لبنان
مئذنة
القيروان
وفي قصيدة
"يوسف" ، هذا المعنى الدلالي المشبع بالاسقاطات يخبئ خلفه مساحة هائلة
للتأويل ولا بأس ببعض التجديف ، والا كيف يكون الشاعر "غاوياً" :
لم يسقط
يوسف في الجُبّ
لم يأكله
الذئب
ولم تنقص من
خزنة مصر الغلة
لم تكذب
تلك الملكة
وزليخة لم
تر يوسف اصلاً
من يوسف
هذا؟
يقول د.
ابراهيم خليل في كلمة له على غلاف المجموعة : ((تعد الشهادة في نظر
الشاعر ولادة جديدة لان الوطن يزهو بدم الشهداء ويفتخر ويقترب خطوة جديدة
على طريق الشعر لذلك تظهر جدلية الموت والثورة في شعر حوامدة ظهوراً
جلياً)).
اما المرحوم
الشاعر الكبير بلند الحيدري فيقول ايضاً: ((إن حوامدة شاعر جيد، له من
ذاكرته العينية ما يسعفه على التقاط الصور الموحية وبناء ايقاعات القصيدة
دون ضجيج مفتعل )).
أما د. محمد
عبيد الله فيقول في نفس المكان انها : ((مجموعة جديدة تنضاف إلى شعرنا
الحديث بصوت مختلف وبروح تفارق المألوف في الشعر الحديث)).
و أخيرا فأن
حوامدة في هذه المجموعة يعلن بعد مرور اكثر من الف عام عن هذا الفلكلور
الجاهلي الرائع، وهو يعلي من قامة شجره في الموسم المناسب لذا ستحل عليه
اللعنة وسينجو ....
ــــــــــــــــــــــ
*
فريد ضمرة كاتب وناقد فلسطيني مقيم في سويسرا
|