موسى حوامدة طريد الدولة والدين

موسى حوامدة أمام لعنة (يوسف)

حق الشعر وحدود التأويل

محمد علي شمس الدين- لبنان

 

 

كان يرغب موسى حوامدة ، الشاعر الفلسطيني الأردني الذي يتعرض اليوم في الأردن لمثل ما تعرض له نصر حامد أبو زيد في مصر من تكفير واتهام بالردة عن الاسلام ونقض النص القراني من خلال قصيدة له بعنوان "يوسف" أثبتها في ديوانه الصادر له حديثا عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بعنوان "شجري أعلى" .... كان يرغب في ما يروي ، بأن يعطي هذا الديوان، تسمية أخرى هي "أستحق اللعنة" إلا انه عدل عن ذلك "لمجرد التمويه" كما يقول في الصفحة الاولى من الديوان...

لكن يبقى استبدال "اللعنة" "بالشجر الاعلى" بالنسبة إلى حوامدة على ما نرى ، منطويا على ما تنطوي عليه هذه المجموعة الشعرية من عنصرين متداخلين في النصوص هما: الإثارة النقدية الواصلة لحد الاستفزاز ، والاستعلام النفسي بنتيجة الموقف النقدي هذا.... ما يلخصه حوامدة في مقطع شعري يستهل به ديوانه ويثبته كإعلان شعري: "ملعون / مدعوس كالخرقة / من لم يرفع رأسه" .

والانباء التي تصلنا من الأردن تشير إلى أن هذا الشاعر الساخر المنطوي في نصوصه وحكاياته على قوة نقدية مثيرة بل صارخة ، هو محاصر اليوم حصارا قويا بأصوات ودعوات دينية تنطلق من الجوامع أو المنابر ، تدعو إلى هدر دمه وقتله باعتباره مرتداً والتفريق بينه وبين زوجته...على غرار ما حصل مع نصر حامد أبو زيد... وكأنما لحقته لعنة "يوسف" التي سبق أن لحقت بمارسيل خليفة ، إلا انه نجا من شر اللعنة ...فقصيدة "يوسف" لموسى حوامدة تختلف في بنائها واستعارتها ومؤداها التعبيري والمعنوي عن قصيدة درويش المسماة " أنا يوسف يا أبي" فإذا كان درويش قد ضمّن قصيدته المذكورة مقطعا غير مكتمل من آية من سورة "يوسف" للإشارة إلى شبهه (هو الفلسطيني المتروك أو المغدور " بيوسف الآية القرآنية الذي تآمر عليه إخوته بعد ان ألقوه في الجب، وأتوا أباه بدم كَذِب... فلم يخرج درويش عن العبرة القرآنية بل زيّن قصيدته بالآية أو قواها بها ... فإن قصيدة "يوسف" لموسى حوامدة تنطوي على طاقة نقدية وساخرة مغايرة ، وعلى تأويل "اخــر" لحكاية يوسف... أشد حدة وأبعد تأويلاً من قصيدة درويش .. فالمخيلة الشعرية هنا تصل لحدود نقض الرواية الدينية من خلال إزاحتها عن موقعها النصي الظاهري، والتعامل معها بتأويل شعري سياسي معاصر .. هذا التأويل ذاته الذي سبق للإسلام في تاريخه الطويل، وعصوره المتفاوته بين القوة والانحسار، ان قبله او قبل مثلة تارة ، ورفضه لحد قتل صاحبه أو إحراقه بالنار أو صلبه تارة اخرى، كما حصل لأبي منصور الحلاج، على سبيل المثال.

فحوامدة ينطلق من الأساس الديني لقصة يوسف إلا انه يؤوّلها تأويلاً شعرياً فيخرجها في الظاهر عن الاصل. إن يوسف في القصيدة لم يسقط في الجب ولم يأكله الذئب ولم تعشقه زليخة وتقدّ قميصه من دُبُر، بل هي لم تره أصلاً ، فيوسف "من يوسف هذا؟" (كما يقول الشاعر): "ولدٌ مطرودٌ يعمل خبازاً أو ناطوراً / يتخيل أن تصدفه الملكة…." وإن رواية تقطيع النساء اللواتي استدعتهن زليخة لدى رؤية يوسف بجماله ، رواية غير صحيحة.. يقول " لو كان الأمر صحيحا لغرقنا في بحر دم احمر " ويستطرد: "الكذبة صارت أمر سماء / همّت.. همّا..همّ الخباز...كل القصة رغبة خدام أو صعلوك في لثم يد الملكة....)).

فالفكرة إذن في القصيدة المسرودة سردا شعريا حكائيا ، هي فكرة ضدية في ظاهرها للآيات وتنطوي على تأويل سياسي معاصر ينقله الشاعر من حيزه الديني إلى حيزه السياسي، فيوسف بحسب القصيدة ((يتوهم أن تعشقه الملكة / ويغالي في السرد فيوهم إخوته / أن المصريات يضاجعن الاسرائيليين ، ويعشقن رجال الموساد)).. يوسف إذن (يوسف القصيدة) هو رمز للإسرائيلي المعاصر المخادع ، وزليخة رمز للملكة المصرية (المعاصرة ايضا)... ولا ينبغي له أن يشيع في بلاطها الفضيحة.

التــأويل

حسناً... هذه هي السورة وهذا هو النص الشعري وهذا هو التأويل، والسؤال: ما هي حدود الشعر أو الفكر في اقتحام المقدس الديني، والى أي مدى يستطيع الشاعر او المفكر ان يقدم تأويلا للنص المقدس ولا يلحقه تكفير او تعزير او محاكمة؟

المشكلة كما نرى ليست جديدة وان كانت مثارة في هذه الايام ، بشكل شاسع ومتفرق اتخذ منحنى حادا في قضية سلمان رشدي والايات الشيطانية وتسليمة نسرين…. ومن ثم في قضية نصر حامد أبو زيد وصولا إلى موسى حوامدة… واتخذ منحنى فقهيا ملطفا في قضية مرسيل خليفة… وحيث هي قديمة تندرج فيها قضايا كثيرة من أشعار أبي نواس وبشار بن برد إلى محنة ابن رشد مرورا بمحنة كل من الحلاج والسهروردي القتيل وسواهما من المتصوفة الذين حملهم العشق الالهي إلى حدود الشطح وقول الكلمات والأشعار التي تنطوي ظاهرها على الكفر والإلحاد ، في حين وجد من يؤولها تأويلا صوفيا ويمنحها شرعية روح الإسلام وجوهره… ويكفي أن نعطي الحلاج مثالا على هذا الانقسام، هو القائل في شطحة من شطحاته: "سبحاني ما أعظم شاني" ، ومن أجلها وأجل مثلها حوكم وقطعت أطرافه وصلب وأحرق وذر رماده في دجله… ومع ذلك وجد بين المسلمين من اعتبره عارفا جليلا من العرفانيين المسلمين الكبار بل اعتبر شهيدا من شهداء العرفان الإسلاميين… وهذا الرأي الطيب فيه لا يقتصر على مذهب دون سائر المذاهب الإسلامية كالشيعة مثلا ، بل هناك رجال من جميع المذاهب يرون اليه هذا الرأي.... ولا تعوز دارسا التفاصيل والشواهد التاريخية الموثقة بهذا الصدد.

المسألة إذن بالنسبة لتأويل النص الفكري او الشعري او الفلسفي او الصوفي، المنطلق من اصل ديني او قرآني مسألة خلافية في تاريخ الفكر الإسلامي الفقهي والسياسي معاً، والرأي عينه يمكن ان يعطي بشأن قصيدة "موسى حوامدة"... ففي القصيدة ظاهر وباطن...واستعارة الأصل القرآني من أجل إحداث إسقاطات سياسية او فكرية عليه، لا تنطلق من التعامل مع تاريخية الحكاية القرآنية فالشاعر هنا ليس مؤرخاً بل تنطلق من "العبرة" المستمدة من القصص القرآني... فكل إنسان يقطف العبرة كما يراها...وذلك لا يؤذي النص المقدس ولا ينقضه، بل يجعله اكثر إشعاعا وارتياحا وإيحاء... ويصون معنى من معاني الحرية التي يمجدها الإسلام.

ما المقصود بأن القصص القرآني كسورة يوسف او أهل الكهف او ما ورد بشأن موسى وفرعون... وما إلى ذلك ليس "تاريخا" بالمعنى الحدثي العلمي وبالمصطلح التاريخي الذي هو مصطلح كبير متأثر بمصطلح الحديث في الاسلام ؟ القصد هو أن القصص القرآني قصص عبرة و حكمة وتعليم لبني البشر… فلو تجاوز الباحثون هذه العبرة إلى البحث في "تاريخية" هذه القصص فلا احسب انهم واصلون إلى اتفاق علمي او تاريخي حولها… بل اشك في ان يصلوا إلى منفعة علمية من وراء ذلك… والاصح البقاء عند حدود العبرة… وهي بلا شك من الحكمة الإلهية بمكان.. اي دخول القصص القراني في مدار الرمز، اكثر من دخوله في حيز التاريخ.. فالقرآن ليس كتاب تاريخ.. بل كتاب هدى وبيّنة وعبرة لمن تبصر واعتبر.

عبد الخالق

ولوا انتقلنا من قصيدة "يوسف" إلى سائر قصائد موسى حوامدة في مجموعته المذكورة، لوجدنا انها قصائد تنطوي على قوة نقدية مميزة، سبق ان عرف بها في الشعر العربي الحديث والمعاصر، شعراء قلة من أمثال أمل دنقل ومحمد الماغوط ونزار قباني.

فهل نحاكم أمل دنقل مثلا حين يعتبر صلاح الدين الايوبي طبلا أجوف وقارب فلين، في قصيدته المعروفة "مرثية جديدة على قبر صلاح الدين" ونعتبر محمد الماغوط خائنا حين يمنح أحد كتبه العنوان المثير "سأخون وطني"...؟ ان صرخة المقهورين أصفى الصرخات.. ولا يحاسب اللفظ هنا بل ينظر في سويداء القلب.. قلب الشاعر ماذا فيه؟

وتجربة موسى حوامدة الشعرية تجربة شاعر وحكائي صاحب مزاج شخصي ساخر وحر ومغاير بلا ريب… ولا يمكن فهم مراميه من دون هذه السمات ففي قصيدة من قصائده بعنوان "عبد الخالق" يرسم صورة بالكاريكاتور لكائن ما اسمه "عبد الخالق" وقد يعيش بين ظهرانينا ونراه كل يوم، وينطوي على نقائض تفجر السخرية في نفوسنا.. فهو "عبد الخالق" / "ويا سبحان الله: مفتونٌ بالنسوة والغلمان وألوان الجنس وصنع الخير لكل العالم / ويصلي الصلوات الخمس / ومخلوق للحسنات / والافلام الزرقاء وترتيب السهرة والعطف على الايتام / فالعطف على الايتام يزيل الاثام / وعبد الخالق عبد الشهوات / لكنْ باب الرحمن فسيح الأرجاء / فهو الأصلح والأنكح والأرجح والأزكى والأنقى والأبقى في الصلوات وفي طلب السترة / فيا سبحان الله على عبد الخالق / يا سبحان الله الرب على هذا الكرش الدالق / الصدر الدافق / والصوت الناعق / والفحل الشبق الحارق / المتزوج حتى التخمة... لكن الزوجة طالق" ...

ونسأل: هل يحاكم موسى حوامدة على مثل هذه الصورة بالكاريكاتور الشعري، لكائن بشري يدعى عبد الخالق؟ على ما فيها من نقد للعادات والمقولات والافكار السائدة في مجتمعاتنا؟ أين فعل الفن وفعل السخرية إذن، بل أين حرية إطلاق الفكرة الناقدة في الحياة.. الفكرة اللطيفة المعرية وغير المجرحة؟…

والسخرية المعرية والجميلة لانها فنية، تصل إلى كل ما يرفضه الشاعر في السياسة والمجتمع، الناس والعادات الأفكار. وهو يبدأ بالسخرية من ذاته أولاً، فأول قصائده بعنوان "المرايا" يعلن فيها رعبه من النظر في المرآة، حيث لا بد "سيرى وجهه"...

ويصل مبضعه لكل شيء... للحائط الذي تحول "جاسوسا للأجهزة الأمنية". وللعريس الذي لا يجد في ليلة عرسه سوى "القطة" ولزوجة الحطاب التي "تشتهي إصبع الشجرة" وللأندلس وحمولتها المضحكة في الذاكرة حيث يقول امام ولاّدة بنت المستكفي "وأرى ما يكفي" والى البلاد والوطن حيث صراخ ساخر مجروح رافض لكل مظاهر البلاد الزائفة والوطن المدجن... الوطن المنفي في الحانات، المسلوب الروعة " وطن يعبده التجار وتحرسه السمعة / وطن جرعة/ وطن سلعة..." .. والسخرية من المفلس الحشاش الذي يقول في نهاية القصيدة ".. ذلك اني أفلست وأفلست وأفلست / فانهال الناس عليّ / وانهار الأمن عليّ / وانهال الله عليّ / فحشّشت".

فإذا لم تشفع لموسى حوامدة، الرهافة والإحساس الجارح بغلط الأشياء والسخرية اللاذعة والذكية وهلهلة الكلمات والأفكار والأوزان... فماذا سيشفع له؟

جريدة السفير اللبنانية"/ بيروت 4-2000

 

 

موارد نصيـة

موسى حوامــدة

طريد الدولة والديـن

المحتــوى

سيف التكفيـر يضرب في الأردن. الشاعر موسى حوامدة طريد الدولة والدين (مجلة النقاد اللبنانية)

إيهاب الحضري: الشعر كفر، الخيال بدعة. حالة موسى حوامدة "نموذجا"

د. صلاح فضـل: موسى حوامدة في «شجري أعلى»، مفارقات الشعر والسياسة والدين

محمد علي شمس الدين: موسى حوامدة أمام لعنة (يوسف). حق الشعر وحدود التأويل

د. ضياء خضيـر: على هامش تكفير الشاعر موسى حوامدة. عمل التاريخ.. وعمل الشعر

علي سفـر: «شجري أعلى» لموسى حوامدة قصائد لتهشيم السياق

فريد ضمـرة: كائـن سماوي ناظم

موسى سامي عبد الحليم «المحامي»: موسى حوامدة؛ أديب فلسطيـن يضع قضايا الاحتلال في مركز كتاباته

بيان من صاحب شجري أعلى: عن الحقيقة الغائبة دائما

موسى حوامدة: تسبيح وشعر «اللهم ادخلهم التجربة».. وهب يا رب أني كفرت!!

ٍٍ موسى حوامدة: دجالون وكذابون !!

ٍ موسى حوامدة: أبارك لكَ الفجيعة

إعادة محاكمة الشاعر موسى حوامدة للمرة الثامنة

 

 
 
جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.