حسن نجمـي

الفصل الثامـن

فضــاء المحتمـل

 

  

I - عنـــف الفضـــاء:

«فضـاء المحتـل»!

كم تستحق هذه العبارة مُعَقَّفَاتها! ذلك لأن كتابة سحر خليفة لا تمنح المحتل (الصهيوني) أية إمكانية للاعتراف أو التحسيس بشرعية معينة، حتى وإن بدت بعض شخصياتها في حالة انكسار نفسي أو هشاشة معرفية وثقافية. ومن ثم، فالكتابة - على الأقل - لا تمنح للاحتلال أي فضاء فارغ كي يُؤَثِّثه بقبول أهله ورغبتهم. وإنما تتعامل الروايات الخمس بخيارات الرفض والمجابهة مع مجموع تجليات الاحتلال. صحيح، ثمة إشارتان عابرتان لأنسنة العدو والتعايش معه، لكن مع ذلك لا يبدو أنهما تخترقان النص أو تؤثران على الخيارات الاساسية لاستراتيجية هذه التجربة الروائية، استراتيجية الصراع والمقاومة:

· هناك أولا في «الصبار» مشهد إنساني يتم داخل السجن:

«وألقى الطفل نفسه بين ذراعي زهدي وبكى نائحا:

- بابا. بابا.

وضغط زهدي الجسم الصغير المرتعد إلى صدره وبكى بحسرة. وكان الرجال يحملقون في الطفل بذهول. انسحب بعضهم نحو ممر الغرف خوفا من رؤية المزيد وآخرون خبأوا رؤوسهم في جدران الساحة وبكوا بصمت. والمرأتان المتقدمتان برفقة الضابط تمسحان دموعهما بالمناديل.

وتأمل زهدي الجنديين الواقفين على الباب بحيرة. تبكيان! أنتما تبكيان! كل ما ترونه من وحشية وتعذيب داخل جدران الزنزانات لا يبكيكما ويبكيكما طفل لا يجاوز الخامسة؟«! (ص. 124).

· هناك أيضا في «عباد الشمس» فكرة التعايش التي تعبر النص من خلال حديث «عادل»، إحدى الشخصيات الأساسية في المتن الحكائي للرواية:

«وقد بحثت الأمر مع خضرون ومثقفينيساريين آخرين في إسرائيل وقالوا إن مشروعا كهذا قد يحقق ما لم تققه الحرب أو هيئة الأمم. إحدى الأستاذات في الجامعة العِبْرية قالت: حين قرأتُ تلك القصة المترجمة أحسستُ بالفاجعة وبكيتُ لأني، ولأول مرة، أحس أني أقف في الجانب المظلم» (ص. 126).

وباستثناء هذين الموقفين لا يحضر الاحتلال الإسرائيلي على امتداد النصوص الروائية إلا حضورا عنيفا، استفزازيا، مهدِّدا، ثقيلا ومرفوضا. إن الكتابة تقدم واقعا مشحونا بالاضطهاد والمُصَادَرة فيما يبدو أنه دليل تجربة فردية وجماعية، حتى لَنَشْعُر من داخل رصدنا لهذا الفضاء بالذات أن لِسَحَر خليفة ككاتبة فلسطينية نوعا من «غيرة المتخيل» كما يسميها جورج بولي[1]. يَغَار فضاؤها الروائي من فضائه المرجعي، يغار زمنها الروائي من الزمن الكرونولوجي، وتغار شخصياتها المتخيلة من شخصيات الواقع المعيش. بمعنى أنها حريصة على أن تمد جسورا بين ما تعيشه وما تكتبه بخصوص تجليات وامتدادات الاحتلال الصهيوني. وذلك إلى درجة تجعلنا نستشعر أن الموضوع الواقعي بحاجة لكي يتضح وليستوعبه الذهن إلى أن يعثر على امتداده في الكتابة.

إن سَحَر في رصدها لفضاء الاحتلال تبدو أكثر وضوحا وانسجاما من رصدها لفضاءات أخرى. ربما لأن استراتيجيتها على هذا المستوى واضحة وتواجه استراتيجيات واضحة كذلك، إذ ليس ثمة التباسات من قبيل تلك التي نعثر عليها في مستويات الصراع بين المرأة والرجل أو بين الفرد وآليات امتثال لهويته الجماعية. الأمر يتعلق هنا بسلطة احتلال تستبد بالفضاء الخصوصي للفلسطيني، وتديره بكل وسائل القهر والإكراه والاحتواء الإيديولوجي والرمزي. ومن ثم، تصبح الكتابة تنطُّعاً للمواجهة، بتعبير جوليا كريستيفا، حيث يتحول النص إلى «مجال يُلعَبُ فيه ويُمَارَس ويُثَمَثَّل التحويل الإبستيمولوجي والاجتماعي والسياسي»[2]. كما يتحول إلى شاشة كبرى تنعكس عليها إفرازات واقع الاحتلال وأنماط معايشة الناس لهذه الإفرازات. إن «ما أفرزه الاحتلال من علاقات جديدة نراها في النص الروائي حاضرة بكثافتها الداخلية ووقائعها وتفصيلاتها»[3]، وذلك عبر كتابة تسجيلية ثرية ونادرة في المتن الروائي العربي، خصوصا في ثنائية «الصبار» و«عباد الشمس»، حيث يستدفىء النص وتتمتع الكتابة بـ «ميزة استحضار الوقائع والتفصيلات ورصفها في المشهد الروائي، أي أنها تبدو كما لو كانت إعادة خلق للواقع، مشابه له في مماهاته وإعادة تركيبه» على نحو ما يؤكد الناقد الصديق فخري صالح[4].

وإذا تركنا السيرورة الحكائية الرئيسية، في كل رواية، جانبا أمكَنَنَا أن نجمع شتات حكاية أخرى تبدأ من أول رواية لسحر خليفة إلى آخر رواية لها، هي بالذات حكاية الاحتلال الصهيوني. ففي «لم نعد جواري لكم»، فضلا عن تجربة عبد الرحمن الميثلوني ومعاناته مع الاعتقال وسنوات السجن ثمة مشهد المباحث الممتد الخانق «... ورجال المباحث المختفون خلف النظارات القاتمة كانوا يذرعون الصالة بنشاط» (ص. 105). وتبدأ «الصبار» بثقل الحضور الصهيوني. فمن صورة السلطة وهي تطبع الجسد الفلسطيني بكل عنف: «عَذبُوه في كل شبر من جسمه حتى في تلك المنطقة. أطلقوا عليه كلبا مزَّقَ أعضاءه. قد يصبح عاقرا»، يحكي أبو محمد عن ابنه خالد، «ابن الحرام لم يتعلم. مازالت آثار التعذيب في جسمه، لكنه لم يتعلم، ويا خوفي يعمل عمله وينسفوا الدار» (ص. 8-9). وتَتَوالى صور الاحتلال في الرواية: «تصلون آبار البترول وتعودون هنا؟ ماذا يعجبكم هنا؟ أنتم لا تقدرون النعمة، لكننا نقدرها، سنوات قليلة ونكون هناك وتدخلون الكعبة بتصريح» (ص. 11-12)، يقول جندي الحدود للفلسطينيين العائدين. وينطق الفلسطيني أسماء بلاده بالعربية وينطقها الجندي الإسرائيلي بالعِبْرية (ص. 14)، ويتبدى الهاجس الأمني حتى في الأرض التي عرَّتْها الأيدي الخبيرة من كل أغطية الربيع حتى لا يندس شيء غير مرغوب فيه (ص. 21)، وفي الأراضي التي يتم إحراقها غصبا عن الفلاحين وإمعانا في اضطهادهم (ص. 36). وتتحول الحياة في الأرض المحتلة إلى منع تجول مستديم مزمن (ص. 25)، «والناس نيام. والدورية لا تنفك تذكر بالعين البصيرة واليد القصيرة» (ص. 58). ويصبح نسف البيوت والمحلات مشهدا لأشد حضورات الاحتلال عنفا وقسوة: «قل له يا عادل بحياة والدك. قل له بأن إسرائيل نسفت 20 ألف دار وأربع قرى» (ص. 72). أما الجيش فقد تحول عن الجبهات ليحرس الشوارع بالمجنزرات والمدافع والرشاشات». (ص.88).

ولا تخلو رواية لسحر خليفة من مظاهر التفتيش والمداهمة والمراقبة « - افتح هاديلت! (افتح الباب بالعبرية) / اليهود! رحمتك يا رب ماذا يريدون؟» (الصبار، ص. 138) « - تتصرفين كما لو كنتِ قد اعتدتِ في وجودنا في دارك؟ / - اعتدتُ وجودكم في منازل الجيران. لا أفارق النافذة إلا للنوم..» (الصبار، ص. 140).

في «عباد الشمس» تتواصل مشاهد النسف (ص. 20) والتفتيش (ص. 23)، ومنع التجول (ص. 38)، والحضور العسكري (الجيش) في الشارع (ص. 52)، والدوريات والتضييق (ص. 55)، وحصار المدن (ص. 93)، والرقابة ومشكلة الماء (ص. 154)، والمستوطنات الجديدة الزاحفة كالفطر (صص. 220-258)، والحواجز الأمنية (ص. 248).

ويعود هاجس المداهمة واقتحام البيوت وإجراءات التفتيش إلى «باب الساحة» ليشكل المشهد المهيمن على طول امتداد الرواية، بل ويتقاطع مع كل مشاهدها مسهما هذه المرة - وأكثر من أي نص آخر - من حيث يشكل حضورا تكوينيا على مستوى بنية النص ودينامية المحكي: العُوزيات مصوَّبة والأمر الدائم بفتح الحقائب (ص. 12)، «والجنود يفترشون باب الساحة ولا يدعون مارّاً يفلت دون تحرش. ضرب. صيحات. لكمات..» (ص. 17)، والكشافات تُضَاءُ فيتوهج الليل ويبدأ الاقتحام، ويبدأ الطَّرْقُ على الأبواب بالهراوات وأعقاب البنادق «اِفْتَخْ، افتخ، يالله افتَخْ باب، وافتَخْ سبَّاكْ، افتَخْ كلُّه..» (ص. 59)، وتنزل السلطة بكل ثقلها لتثبت الحضور وتحكم القبضة أكثر: «سدوا فوهة الزقاق المؤدي إلى باب الساحة ببوابة مسلَّحَة بالحديد والإسمنت. فرضوا منع التجول، وخلال المنع نصبوا البوابة المعهودة. براميل ملأوها بقطع الحديد والإسمنت المسلح. صفُّوها فوق بعضها حتى سدت فوهة الزقاق. وفي الفوهة الأخرى وضعوا نقطة يتدلى منها عَلَمُ كبير يغطي نوافذ الدر السفلى ويحجب الضوء عن السكان. لا أحد يخرج أو يعبر بدون تدقيق بالهويات وتفتيش» (ص. 69). ولما تتهدم البوابة، تعود السلطة الإسرائيلية من جديد لبنائها. «وهذه المرة ما كانت بوابة، بل كانت جدارا يمتد من دار الست زكية حتى حاكورة نزهة. أحضروا خلاطة ضخمة أضاءت الزقاق والمناطق المجاورة بأنوار ساطعة كغزو الفضاء، فبدت من بعيد كطبق طائر..» (ص.124).

إن رصدا دقيقا للمشاهد التي ترسمها سَحَر خليفة وتضع فيها تجليات معينة للاحتلال يؤكد لنا أن الكاتبة لم تختر هذه التجليات بانتقائية تمليها بعض التأثيرات غير الواقعية. كما أنها لا تحرص على تشويه صورة اليهودي أو الإسرائيلي تشويها كاريكاتوريا أو حاقدا، بل تقدم الصورة كما هي في الواقع. تقدمها كمتناقضات اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو إيديولوجية. نلاحظ مثلا أنها لا تمس الحقل الديني اليهودي، لا تشوه تمايزات الشخصية الإسرائيلية (اللباس، بنية الجسم، تقاطيع الوجه، لون الشعر والبشرة...)، لا تجعل شخصية من شخصياتها تبدي عداءً للعدو يصل درجة من درجات «اللاسامية الأوروبية»[5]. إنها تقدم عناصر لفهم طبيعة الاحتلال الإسرائيلي، عناصر لإقناع القارىء بشرعية مقاومته.

إن الاحتلال كما تقدمه مختلف الروايات الخمس لا يظهر كأفراد أو كتصرفات وتعبيرات فردية. إنه يظهر كمؤسسة، كسلطة عسكرية أمنية، قمعية بالأساس. سلطة تطبع الجسد الفلسطيني بمعالم جسدية (التعذيب، بتر الأعضاء التناسلية...). ذلك لأن الجسد المحكوم يمكنه أن يكون مادة للفعالية السياسية للحاكم المستبد، خصوصا إذا علمنا أن الجسد «يعتبر بمثابة مجال متنقل يستطيع نشر المعالم السياسية في كل مكان حل به مما يوسع من حدود المجال السياسي لكل فاعل ويقوي بذلك قوته ووزنه أمام باقي الفاعلين السياسيين»[6]. وهو سلطة توسعية النزعة: «سنوات قليلة ونكون هناك وتدخلون الكعبة بتصريح» (الصبَّـار، ص. 11-12)، سلطة تضع اليد على أرض فتسيجها وترمي العين إلى الأراضي الأخرى خارج السياج. لا حدود، لأن الرغبة أكبر مما هو تحت القبضة الحديدية، لا حدود، لأن الفضاء المنشود يقترحه الحلم والمتخيل وليس نتاجا لحقيقة تاريخية أو جغرافية. إن الفضاء الترابي اقتضاه الانتصار السياسي والعسكري مثلما كان فقدان هذا الفضاء من جهة أخرى تعبيرا عن هزيمة سياسية وعسكرية وثقافية أصبحت الآن جزءا من التاريخ.

ومن خلال تراكم مَشَاهد التفتيش والمداهمة ونسف البيوت، تحاول سَحَر خليفة أن تبرز كيف تسعى الدولة الصهيونية إلى أن تبلور معالمها السياسية في الفكر والذاكرة. بمعنى أن يصبح شكل الدولة مقبولا كواقع في أذهان الفلسطينيين، وذلك من خلال ترسيخ صور الجندي في جمارك الحدود، صورة الجندي في الشارع، صورة الشرطي يفتش ويراقب ويستخبر، صورة الجرَّافة وهي تنسف بيتا تحت أعين ساكنيه، صورة المدن والشوارع التي تُسْتَبْدَلُ أسماؤها من العربية إلى العبرية الدَّخيلة الاستيطانية. وفي فعل النسف ذاته للمسكن ثمة هدف سياسي وإيديولوجي واضح يستهدف الذاكرة الفلسطينية بالأساس وليس العقاب فقط. في «الصبَّار» تُنْسَفُ الدار بعد صدور أمر بإخلائها، بعد ثبوت أنها كانت مكانا لتخزين الأسلحة واستعمالها لأغراض ثورية. لكن ما يُنْسَفُ في الواقع هو شيء آخر: «وتأمل الدار من خلال ضباب. للمرة الأخيرة. ولن ترى مسقط رأسك بعد الآن. هذه الأدراج كم قطعتَها حبواً. زحفاً. قفزاً. والساحة السماوية أعلاها. والبركة وأصص الرخام. والأمسيات الجميلة تحت الليمونة مع الأقارب والاصدقاء. أمسيات. ذكريات» (ص. 174).

إن الدولة اليهودية تعرف معنى الجرح الذي يجترحه فعل مهول كهدم بيت وترك أهله في العراء. وهل جرَّبَ شخص كاليهودي في التاريخ الإنساني جرحا عميقا في الذاكرة كهذا الجرح؟ لذلك تلعب ضحية الأمس دور الجلاَّد اليوم وتعيد إنتاج صورها القديمة في أجساد الآخرين، في فكرهم وروحهم وذاكرتهم، وكأن الأمر يتعلق بنوع من التعويض! ولعله يتعلق بإعادة إنتاج فكرة «الفضاء الفارغ» التي تحدث عنها «رواد الصهيونية» عندما تحدثوا عن «وطن بلا شعب لشعب بلا وطن»، حتى وإنْ تعلق الأمر هنا بفعل نابع من اللاوعي، أي ما يمكن اعتباره نوعا من «تطبيع فضاء الحلم»، بتعبير يوري إزنزويغ Uri EisenZweig في كتابه الفذ «الأراضي المحتلة للمتخيل اليهودي»[7]. ومعناه أن إقصاء الفلسطيني من بيته، من أرضه، من فضاءاته المختلفة، هو إعادة إنتاج لفضاء الحلم الصهيوني. إعادة صياغة للعلاقة «الكونية» المستحيلة بين الهوية والفضاء، بين «المنظر الطبيعي للوطن» الذي اجْتُثَّ منه شعبُه و«روح الشعب الذي يسكنه»[8].

ومن الواضح أن سحر خليفة لا تتخيل هذه التجليات، بل هي تجليات مرجعية أساسا تحملها من واقعها المادي والتاريخي إلى المستوى الذي يجعل اللغة تستوعبها، وبالتالي يصبح المرجع منتجا للخطاب على العكس تماما من ميزة الأدب الصهيوني، حيث «المرجع كنتاج للخطاب» - والتعبير لجاك ديريدا[9] - مادامت هناك حاجة إيديولوجية لصياغة معالم فضاء معين، ينبغي أن يصبح له وضع اعتباري متميز واستثنائي في أذهان مَنْ ينبغي أن يخضعوا له أو يَقْبَلُوا به!

إن سحر خليفة ، على هذا المستوى بالذات، تغمس شخصياتها كليا في المعطيات الإيديولوجية والسياسية كما لو كانت تستأنف الحرب الأخرى بأدوات لسانية وثقافية وجمالية. ورغم التصاق هويات هذه الشخصيات بخيارات سَحَر، وتتحدد أساسا في علاقتها بالكتابة الروائية، فإنها تظل في مواقفها وردود أفعالها أكثر انسجاما مع معطيات واقع الصراع ضد الكيان الصهيوني. بمعنى أن الشخصية الروائية في هذا السياق تظل قوية الاحتمال على عكس الشخصية الأنثوية مثلا التي تظل احتماليتها ضعيفة، مقارنة مع ظروف وشروط الواقع الفلسطيني.

واللاَّفِت بهذا الخصوص أن سحر وهي تسوق العناصر التفصيلية لهذا الفضاء تبقى عند أبسط درجات الحكي، فهي تحكي بنمط الحكي كما هو محدَّد اجتماعيا. تماما كما لو أنها كانت تصِرُّ على ألا ترتقي بالفضاء المرجعي إلى مستوى البنية المتخَيَّلَة.

إن الفلسطيني (ة) - على نحو ما تقدمه هذه الكاتبة الروائية - موجود لتحصين فضاء ملموس، سواء من اجتياح المتخيل المضاد أو من أي شرخ أو اهتزاز في الهوية الجغرافية في حين أن الصهيوني (كفكرة وكدولة..) جاء ليشيد - بالقوة وبالفعل - فضاء متخيَّلاً لهوية متشظية. ومن ثم، فالكاتبة تتحكم في تحديد المسار العام لشخصياتها كي تجابه منزعا صهيونيا تحكُّمياً يستهدف الهيمنة المادية والرمزية على المرجع الوجودي الفلسطيني.

تأخذنا الكاتبة إلى داخل فضاء منغلق كي نقضي مع شخصياتها فصولا في الجحيم. ولذلك، فهي تُخْضِعُنا لنظرة مُغْرِضَة مشروطة باستراتيجية المجابهة والصراع، حيث يحق للشخصية الفلسطينية أن تفعل ما تفعل وتقول ما تقول في مواجهة ثقلها المأساوي الرهيب وهي ترى فلسطين تندرج في «معادلة جغرافية إشكالية»[10]. وفيما يسعى الوجود الصهيوني إلى تطبيع معالمه وامتداداته في الإدراك الفلسطيني لا يكف هذا الأخير عن تأريق الوعي الصهيوني.

هناك حالة توتر قصوى دائمة لم تتوقف إلا في رواية «مذكرات امرأة غير واقعية»، حيث ذهبتْ سحر خليفة تغْفُو قليلا في الجهة الأخرى لليل، وهي حالة تنتجها العلاقة النافرة بين الفلسطيني والصهيوني، بين صاحب الفضاء ومن جاءَ واغتصبَه. وأكثر من ذلك أيضا، العلاقة النافرة بين السلطة كسلطة - وهي هنا السلطة الإسرائيلية - وبين أولئك الذين تسعى لترويضهم وتطبيعهم والاشتغال بهم.

من هنا يلقي الهاجس الأمني بظلاله على فضاء المحكي: إن الفلسطيني عدوٌّ بالتعريف، أي أنه مصدر لكل شر محتمل! معناه، أنه مهما عدَّلَ الزمن من مستويات العلاقة المطبوعة بالنفور والتناقض والعداء، فالعدو موجود هنا دائما بوصفه آخر. ومن ثم، ضرورة عَسْكَرَة الفضاء ليتسنى للسلطة الاستيطانية أن تعيد إنتاج هذا الفضاء، وأن تعيد نسجَ علائقه، وأن تبني من جديد معماره الاجتماعي ونسقه الثقافي والرمزي. ومادامت هذه السلطة قائمة على أساس عسكري فإن خطابها - بما هو عسكري - «يرى في كل غيرية عدوا له، مثلما يرى رجل الشرطة في كل فردٍ شخصاً مشبوها»[11]. كما أن زمنه هو، بمعنى مَّا، زمن ثابت: «طالما هناك عدو، هناك خطر. وبما أن سيزيف يضع على رأسه قبعة، فإن الخطاب الأمني لا يمكنه أن ينتهي»[12]. وبالتالي، لا ينتهي التفتيش والمباحث والدوريات والمداهمة والتضييق والرقابة وحظر التجول والمنع والتعذيب والعقاب.

II - فضـاء النظـام.. ونظام الفضـاء:

إن فضاء الاحتلال، فيما يبدو لنا، فضاء بنيوي، حيث يحمل كلُّ مكانٍ منه أو أيّ شيء في ذاته، طابَعَ بِنْيَة بكاملها[13]. ومثلما اعتبرنا الفضاء الأنثوي في جوهره فضاء نفسيا، يمكن اعتبار الاحتلال فضاء سياسيا بامتياز، لكن له أبعاده التاريخية والثقافية والإيديولوجية والرمزية والحقوقية. وبما هو كذلك فإنه يصبح فضاء لتقاطع الاستراتيجيات السياسية والإيديولوجية وتصادمها نظرا للتعارض الجذري الحاصل في المنطلقات وفي الرهانات، ولأن «الحرب ليست بمثابة سعي للتفاهم»، بتعبير تودوروف[14].

لقد علمنا هنري لوفيفر بعمق أن المنظور السياسي عندما يصبح محدِّداً، فلا شيء في الفضاء باستطاعته أو بإمكانه أن ينفلت من هيمنة السلطة وامتداداتها الرقابية، فالسلطة تريد أن تراقب الفضاء بأسره وأن تحفظه منفصلا أو متصلا، متشذرا أو متجانسا مهما كانت الصعوبات والتحديات المطروحة[15]. وذلك إلى درجة يصبح فيها «فضاء النظام» متخفيا في «نظام الفضاء»، ويصبح هذا الأخير نظاما لبث الخوف والرعب والتوقع المريب: «كان الظلام قد خيم على المدينة. والشوارع خالية من الناس. والرجال قد لاذوا ببيوتهم خوفا مما تحمله الظلمة من مفاجآت» (الصبار، ص. 81). بل ولبث الإحساسات السالبة، حيث الإحساس بثقل التبدلات ومرارتها والإحساس بكون الفضاء المفتوح يصبح سجنا في عمق النفوس، وتفقد الأشياء طَعْمَهَا وبهاءَها ويخرج المولود من الرحم كما ليتهيأ لموته:

- كل الأشياء أصبحت تافهة: الألوان أصبحت كالحة، الطبيعة ما عادت جميلة، وهي كذلك ما عادات جميلة.. والحياة أصبحت عبارة عن درب أسود كئيب» (لم نعد جواري لكم، ص. 21).

- «أخذ يسير وهو يتلفت حواليه حيث اعتاد أن يرى الخضرة تنتشر في كل مكان. لكن المزارع كانت مهجورة، والأشتال ما عادت تغطي سوى رقع متفرقة من الأرض المهملة، وأصوات الدواب التي كانت تملأ الفضاء بثغائها ورغائها ما عادت تموسق الأجواء.

شيء ما قد تغير. بل كل شيء تغير، والتغيير قد شمل الريف أيضا لا المدينة فحسب. ماذا حدث؟!» (الصبار، ص. 38)

- «ماذا حدث للدنيا؟! ماذا حدث للناس؟ ماذا فعل بنا الزمن.. والاحتلال! هذه المزرعة الميتة!» (الصبار، ص. 40).

- كم كبرت الصبية. لكنها تذبل، ككل الناس في الاحتلال» (عباد الشمس، ص. 21).

- «الاحتلال يا أمي لا يرحم الصغار ولا الكبار» (عباد الشمس، ص. 29).

- «السجن.. دائما السجن. إذا خرجت للشارع فالسجن بانتظارك وإذا بقيت في المنزل فالسجن بانتظارك. وهناك ما بعد الجسر سجن ضخم، سجن كبير، أحكام عسكرية وزعماء مُؤلَّهُون كانوا منك وصاروا عليك. والويل لك كفرد والويل لك كشعب، فبأمرهم كل من عليها فانٍ، ويبقى ذو الجلال والاحتلال» (عباد الشمس، ص. 38)

- «إيه يا أبو العز، قسمتنا نشتاق واحنا في قلب البلد» (عباد الشمس، ص. 52).

- «طعم المَيَّة تغير يا أبو صابر» (عباد الشمس، ص. 57).

- «حتى الميَّة نشربها واحنا خايفين» (عباد الشمس، ص. 58)

- «القابلة: «اهدأ يا ابني رعاك الله، اليوم اسحبك من رحم الأم وغدا يسحبك رحم الأرض» (باب الساحة، ص. 218).

إننا نتحدث عن تبدلات، عن منفى داخلي، عن إحساس بالزمن، عن سجن رمزي ونفسي كبير، عن إحساس بالعزلة وبالخوف وبالذبول وبالتخاذل العربي: «زعماء مؤلَّهون كانوا منك وصاروا عليك»، عن «هذه المزرعة الميتة»، عن تغير الريف والمدينة...، ولا نتحدث في الحقيقة إلا عن استراتيجية سياسية شاملة يتم تصريفها عبر هذه الشذرات التي تلتقطها الكتابة. إن فضاء هيمنة السلطة هو أساسا «الفضاء الذي تنتشر فيه الاستراتيجيات»[16]. و«ليس هناك في الواقع من استراتيجية إلا لأن هناك مسبقا مشروعا سياسيا» كما يؤكد ذلك صاحب كتاب ما يسميه بـ «فضاءات إسرائيل»[17]، حيث يعرض لمختلف الاستراتيجيات الإسرائيلية التي يتم بموجبها ضبط فضاء الاحتلال، المادي والبشري والاقتصادي والرمزي، وبالخصوص الاستراتيجية الترابية (La stratégie territoriale) باعتبارها إوالية لمراقبة الفلسطينيين، ولخلق تجانس داخل الكيان الصهيوني نفسه (باعتباره كيانا لقيطا)، ولتصريف وتجسيد المشروع الصهيوني على أرض فلسطين...

طبعا، إن سحر خليفة لا تقدم بحثا تحليليا لمكونات هذه الاستراتيجية الصهيونية، ولكنها كمبدعة تحاول أن تكشف ما يتَخَفَّى من أبعادها وامتداداتها في الهوامش والخُلوات، وفي النفوس. كما تحاول أن ترصد آليات الاستيعاب التي تخرب الذات الفلسطينية وتسعى لتذويب هويتها كي يسهُل إدماجها في طاحونة الدولة الإسرائيلية. ولعل رواية «الصبار» هي الأكثر تعبيرا عن هذه الآليات واشتغالها:

· «ماذا حدث للبلد؟ ماذا حدث للناس؟ ماذا حدث لكم؟ لقد تغيرتم. حتى الصبية يدخنون في الشوارع. ودعايات الأفلام الفاضحة تلطخ الشوارع. والناس يلتهمون الكنافة ويبتسمون. وأنت أيضا تبتسم ]أسامة يخاطب ابن خاله عادل بعد عودته من الخارج[. ماذا حدث لكم؟ ماذا حدث للبلد؟ ابطروكم. استوعبوكم. ولا أرى في عيونكم ومضة خجل» (ص. 27).

· «العمل في إسرائيل فرض على عالمنا فرضا. نحن لسنا مَلومِين. ولا التركيب الاجتماعي ملوم. الاحتلال هو الملوم» (ص. 31).

·  «- من أين هذا؟

(...)

- هذا خبز يا أستـاذ

ورأى في عيني الشاب ملامح الهجوم فاتخذ موقف الدفاع

- هذا خبز يا أستاذ. وكمان الخبز له دين وملة؟ هذا خبز ممتاز مثل الذهب.

أمسك الشاب بقالب خبز ورأى عليه طابعا يحمل حروفا عبرية. وكان القالب جافا كجذع زيتونة رومانية. قال بغيظ:

- خبز من هناك. وجاف كمان؟ يا عيب الشوم.

(...)

- نعم يا سيد من هناك. واللاَّ مِين فين؟ كله من هناك يا أستاذ. كله من هناك» (ص. 61).

· «عيب؟ نزلت اشتَغِلْ هناك قُلْتُوا عيبْ. قعدت في الدار مثل النسوان قالوا عيب. بعنا الخبز قلتوا عيب. وانت يا أستاذ لابس بنطلون عالموضة وقميص مكوي وبتقوللي عيب! يا عمي مش احنا أول ناس اشتغلوا معاهم. لما كنا لسه دايرين في شوارع نابلس ندوّر على خبز كنتوا حضراتكم دايرين في شوارع تل أبيب تدوروا على شركات تسلمكم وكالات. مضبوط واللاَّ لأْ يا أستاذ؟ قول مضبوط واللاَّ لأْ...؟» (ص. 62).

· «أنت ما زلت في بداية عهدك بالتحرير. بكرة تتعلم.

· أدُونْ وجيفيرت واسلخلي وشالوم. كل هذا يعني أنك مؤدب ومهذب. أما عرافيم فتعني أنك لص قذر وخنزير ابن قواد. آخر مرة سمعت فيها كلمة عرافيم كانت من سائق إيجيد. لعنت أمه بعزا أبوه. لم يسمع ما قلت ولم يفهم. على الأقل فشيت قلبي. سلاحنا الوحيد يا ابن الأجاويد. والحالة زفت والأجر مضمون. يسحبوا الأرض من تحت رجليك ويقولوا يا حبيبي. عكاريت لا يحترموك إلا وهم محتاجين لذراعك. وعندما تهبط لا يكلف الواحد منهم خاطره برد السلام» (ص. 69).

والواقع أن الكاتبة توقف المستوى السردي ليبدأ مجال سيميائي آخر مع كل مقطع من هذه المقاطع، ليبدأ الواقع الاجتماعي والإيديولوجي القادم من خارج الفضاء النصي. إنه واقع معيش له أنساقه الأخرى (الاقتصادية، الاجتماعية، الإيديولوجية، النفسية، اللغوية...) ويقتحم النص الروائي مسلحا بوقائع، بتحديات، وبأنماط سلوكية جاهزة. وهذا معنى إشارة رولان بارت الذكية: «ومثلما تتوقف اللسانيات في التحليل عند الجملة، يتوقف تحليل السرد عند الخطاب، وبعد ذلك ينبغي الانتقال إلى مجال سيميائي آخر»[18]. أي أن كتابة سحر في بعض مستوياتها وفضاءاتها تغدو - في ظننا - بحاجة إلى أدوات أخرى للقراءة والتحليل غير الأدوات النقدية الأدبية وحدها. تماما مثل الطبيب الجراح الذي يحتاج، لإجراء عمليته بنجاح إلى تغيير المِقَصَّات. صحيح أن طرائق تحليل الاشتغال الإيديولوجي في الكتابة الأدبية يمكن أن تُسْعِفَ إلى حد بعيد، لكنها مع ذلك لا تكفي عندما يتعلق الأمر بروائية لا تتجرد من الفكر السياسي أو من الواقع السياسي، بل على العكس تجعلهما ظاهرة تكوينية أساسية في نصوصها. وأكثر من ذلك لا يتعلق الأمر بتفكير بالصور فحسب، بل بكتابة ذات طبيعة تصورية كذلك[19].

إننا بصدد سلطة سياسية لم تنتج فضاء معينا، لكنها تنشَط في إعادة إنتاجه، كما يوضح لوفيفر ذلك، بوصفه مكانا ووسطا لإعادة إنتاج العلائق الاجتماعية المستجيبة لاستراتيجيتها في الهيمنة والإخضاع والاستيعاب. وطبعا، ففي فضاء السلطة، لا تظهر السلطة كما هي فحسب، بل إنها تَتَسَتَّرُ تحت «نظام الفضاء» كذلك، حيث تَحْذِفُ، تراوغ وتفرغ كل ما يتعارض معها بالعنف الذي يقتضيه الحرص على الواجهة الخارجية، وإنْ لم يَكْفِ هذا العنف المتستر فبالعنف المفضوح[20]. ومهما يكن، فليس في السلطة ما هو سري، على نحو ما أكده البروفيسور إدوارد سعيد، فهي «تتشكل، وتفيض، وتنتشر، وهي تؤسس شرائع للذوق والقيم»[21]. وبالتالي، فإسرائيل - كما يقدمها النص الروائي لسحر خليفة - لا تشتغل فقط في ممارستها الفضائية كاستعمار استيطاني يصادر الأرض ويدمر الممارسة الاجتماعية التي وجدها أمامه قائمة، بل تشتغل ايضا كاية سلطة تحاول أن تندَسَّ في الوجدان وفي الذاكرة، وفي الاقتناعات الفردية والجماعية، مراهنة على تأزيم الهوية الفلسطينية وجعل الناس تعيش مأزقية ذاتية في علائقها بالقيم وبالواقع وبالذاكـرة.

وعندما تلتقط الكاتبة ذلك الشكل المتطرف لقابلية الناس للسلطة القائمة، فإنما هي تؤكد ضمنيا أن هذا الشكل يصبح السلطة التي تجرد الناس من حقوقها وقدراتها كأنها تريد أن تبدي موقفا تجاه حالة الامتثال الصامت الذي يمليه العجز والإحباط وثقل المنفى الداخلي العميق، وذلك بكونه موتا بطيئا غير معلن، وتعبيرا عن واقع يتحول إلى «لا واقع لا نهائي»[22]: «برطع يا سيدي برطع وخلي إسرائيل تخيل وتميل» (الصبـار، ص. 78).

ينبغي أن نسجل أن سحر خليفة لا تتيح فرصا أكثر ليكلمنا الإسرائيلي مباشرة، اللحظات التي يتكلم فيها في رواياتها يتكلم كجندي في الحدود أو كجندي يداهم البيوت في التفتيش والمطاردة. ربما لأن هناك أدبا صهيونيا مكلف بهذه المهمة مثلما يتكلف الأدب الفلسطيني بمهمة السَّنَد (Le support) الرئيسي للتعبير والتواصل مع العالم من داخل وجهة النظر الفلسطينية المحاربة. لكن مع ذلك، فإن خطاب السلطة الصهيونية ليس بعيدا عن الفضاءات التي تكتبها سَحر خليفة في أعمالها. وهنا ينبغي أن نشير كذلك إلى أن فضاء الاحتلال في هذا المتن هو كذلك فضاء خطابي، والخطاب ليس هنا بالضرورة خطابا لسنيا وإنما يتبدَّى كإيديولوجيا معلقة على كل شيء، لاصقة بكل فضاء: في تحويل الفكرة إلى فضاء مادي وممارسة اجتماعية واقتصادية وعسكرية وأمنية، في تنظيم السنن الثقافية[23]، في مسحة الفضاء الذي يتخذ طابعا دراميا[24]، في جعل الفضاء حقلا لاستعراض القوى، للإرغام والتوترات[25]...

لذلك يتراجع النص الروائي لسحر خليفة باعتباره «مؤسسة أدبية» مع المؤسسة - الطاحونة الصهيونية القائمة في الواقع وفي جسد النص ذاته. وبما أن هذا النص الإبداعي هو جهاز إيديولوجي كذلك، فضلا عن أبعاده المعرفية والجمالية، فهو يأخذ على عاتقه أن يجابه الخطاب الإيديولوجي السائد، الذي ليس في الحقيقة غير الفكرة الصهيونية ذاتها. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار التأكيد الذي يبلوره بيير زيما بخصوص قضايا الكتابة الأدبية، فإن كتابة سَحَر - بخصوص «فضاء المحتل» - «لا يمكن تناولها على المستوى الفردي، ولكنها تحيل إلى الوعي الجماعي»[26]. ومن ثم، نجد أنفسنا أمام فضاء خطابي يصارع فضاء خطابيا آخر، كتابة روائية تحاول إفراغ «الهوية الصهيونية من كل بعد فضائي»[27]، أي من كل شرعية للوجود أو السلطة أو التحكم

إن الإسرائيلي أجنبي، آخر،.جسد غريب في أعين الشخصيات العربية الفلسطينية. لا شيء يسعفه داخل العمل الروائي لينتسب إلى هذا الفضاء الذي ليس له: ذاكرته مجرد أداة للانتباه والحيطة والحذر والخوف الدائم من المباغثة، خصوصيته المستديمة هي أنه مجرد «غيطو» يلتصق بالجسد ويعمق غربته وغَيْرِيَتَه، قوته العسكرية لا تفعل أكثر من تعميق الأحقاد.

وأهم ما تنجزه كتابة سحر خليفة، شخصياتها الروائية تجاه الاحتلال كما يظهر في فضاء النص، هو أنها لا تُشْعِرُ الآخر بأي اعتراف. حتى عندما لا يكون هناك عمل فدائي أو صراع، فإن الصمت والمناجاة والتعليق الخفيض والمونولوغات تقول كل شيء عن الرفض المطلق.

إنها كتابة تعرف أن الفضاء الأعزل وحده، وبدون إرادة وقبول الآخر (الفلسطيني)، لا قيمة له بالنسبة للإحساس الإسرائيلي. وبتعبير سارتر، «يكفي أن ينظر آخرٌ إليَّ لكي أكون أنا كما أنَا»[28]. وإذن يكفي ألا ينظر الآخر إلى الإسرائيلي لكي لا يكون هو هو. بمعنى آخر، طالما لم يعترف الفلسطيني به فهو بلا فضاء، ومَنْ لا فضاء له لا وُجُود له. ومن لا وجود له، بالطبع لن يكون إلا خياليا. وبالفعل، فإن «الأمة» التي تريد أن تتشكل على أنقاض أمة فعلية حية متواصلة في الفضاء وفي الزمن، و«الأمة» التي تريد أن تعثر لها على فضاء داخل فضاء الأمة الأخرى القائمة شرعيا، ليست أمة بالفعل، بل مجرد وَرَمٍ في الأحشاء.

 

من هنا يمكننا أن نفهم أيضا لماذا رفضت تلك المرأة (فرح حاطوم) في شريط «ميشيل خليفي» السينمائي «الذاكرة الخصبة» أن تتنازل عن وثائق ملكية أرض صودِرَت منها، ولماذا يصر بعض الإسرائيليين دفع المال مقابل تلك الأوراق مع أنهم أصبحوا يملكون الأرض ويتصرفون فيها. فالحجة هنا ليست مجرد أوراق، إنها اعتراف بوجود وإحساس بشرعية وجود. البحث عن الحجة إذن من وجهة نظرنا هو السعي لامتلاك الجوهر الفضائي الذي قد يشعر الإسرائيلي بتطبيع فضاء حلمه وتجسيد وطنه التجريدي. الوطن المتخيل لهوية ممزقة.

 

ويمكننا أن نفهم كذلك، من ثم، عددا من المشاهد التي تسوقها سحر ويظهر فيها الإسرائيلي مستفزا للفلسطيني بدون داع، خاصة أثناء تلاسُن الجند الإسرائيليين في نقط عبور الحدود أو مع الأمهات عند كل مداهمة للبيوت. إنه الاستفزاز الراغب في أن يلفت نظرة الآخرين واهتمامه. ففي نظرة الفلسطيني اعتراف بوجود الإسرائيلي، بوجوده معه في نفس الفضاء.

 

إن الإسرائيلي يأخذ بتلابيب الفلسطيني، يمسك بياقته لكي يجعله يفتح عينيه على فرجة يومية يلعب فيها الإسرائيلي نفسه[29]. والإسرائيلي الذي ترك تراثه الروحي ووطنه في مكان آخر، يحاول أن يعيد إنتاج ذلك من جديد. تَرَكَ فضاء حياته اليومية في وطن بعيد ويحاول أن يخترق فضاء الحياة اليومية الفلسطينية، سواء كأجساد أو كسلع أو كجنسيات متعددة أو كإكراه مادي أو كإرغامات رمزية...، ليستوعب هذا الفضاء الجديد ويصادره لحسابه، حتى لا يظل مقيما «إقامة متخيلة»[30] على الأرض، على هامش أهلها وعلى تخوم نظامهم الاجتماعي: «ونظر في ساعته متلهفا. ثم أخذ يرقب إشارات المرور وقد تراكمت أفواج السيارات من حولها. وكانت الشوارع مزدحمة. والأرصفة مغطاة بشتى أصناف البشر. شرقيون. غربيون. آسيويون. إفريقيون. أوروبيون. وأمريكان. مختلف الجنسيات. مختلف العروق. مختلف الألوان. وباتوا يحملون جنسية موحدة تنتمي للشرق الأوسط» (الصبار: صص. 47-48).

***

ليس هناك حياد في الفضاء الروائي، وفي المحكي الأدبي عموما، كما نبهنا إلى ذلك جان إيف تاديي[31]: كل فضاء هو ضد فضاء آخر. ونحن نعرف أن «النص يظهر، رغما عنه ورغم نوايا الكاتبـ(ة)، التناقضات الإيديولوجية التي لا يمكن حلها في الواقع الاجتماعي. فهو لا يمثل الإيديولوجية ولكنه يعرض لها مع إظهار تناقضاتها وفجواتها: «من هنا كانت فكرة أن النص الأدبي ليس تعبيرا عن الإيديولوجية («صياغتها في كلمات») بقدر ما هو إخراج لها (mise en scène) وعرض لها في عملية تنقلب فيها الإيديولوجية بشكل ما ضد نفسها...»[32].

هكذا نعثر على علاقة أخرى بين سحر خليفة ككاتبة والشخصية الإسرائيلية في الواقع وفي الكتابة: شخصية ممثلة.. لا تمثل إلا نفسها، وكاتبة تتكلف بالإخراج بما هو كشفٌ وإضاءة وتحويل «فضاء فارغ» إلى مشهد[33]، حيث يتداخل الفضاء الجغرافي والطوبوغرافي بالخطاب اللساني، وحيث يندَسُّ الإيديولوجي في المشهد ليلعب دوراً أساسيا في إنتاج الفضاء الروائي، وفي إنتاج المعنى.


 

[1]  - George. Poulet, L’espace proustien, op. cit., p. 79.

[2] - جوليا كريستيفا، علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، البيضاء، الطبعة الأولى، 1991، ص. 13.

[3] - فخري صالح، في الرواية الفلسطينية، مرجـع مذكـور، ص. 78.

[4] - المرجع نفسه، ص. 88.

[5] - يشير البروفيسور شموئيل موريه، وهو ناقد إسرائيلي مشبع بالفكر الصهيوني، إلى أن غالبية النتاج الأدبي العربي المعاصر تعاملت مع النماذج اليهودية تعاملا «مشرعا أمام شتى التأثيرات الخارجية، بدءا بالقرآن الكريم والحكايات الشعبية وانتهاء بما أسماه اللاسامية الأوروبية بعامة، والنازية بخاصة». انظر تفاصيل طرحه في دراسة أنطوان شلحت، «مقدمات لدراسة شخصية العربي في الأدب الصهيوني»، ضمن مجلة الكرمل (الفلسطينية)، العدد السابع، 1983، صص. 377-384.

[6] - انظر دراسة محمد شقير، «مقاربة في المجال السياسي»، ضمن المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، محور المجال والسلطة، السنة الثانية، صيف - خريف 1988، ص. 7.

[7]  - Uri Eisenweig, Territoires occupés de l’imaginaire juif: Essai sur l’espace sioniste, Ed. Christian Bourgois, Paris, 1980, p. 85.

[8]  - Ibid., p. 87.

[9]  - Cité par Uri Eisenweig, Territoires occupés de l’imaginaire juif..., op. cit., p. 51.

[10]  - Ibid., p. 25.

[11]  - Ibid., p. 380.

[12]  - Idem.

[13] - انظر حديث غوسدورف عن «فضاء البنية» ضمن المبحث الخاص بالفضاء الأسطوري في كتابه الصادر بالفرنسية:

- Gusdorf, Mythe et métaphysique, Ed. Flammarion (Champs), Paris, 1984, p. 101.

[14] - تودوروف، نقـد النقــد، مرجع سابق، ص. 152.

[15]  - Henri Lefebvre, La production de l’espace, op. cit., p. 446.

[16]  - Ibid., p. 354.

[17]  - Alain Dieckhoff, Les espaces d’Israël, Ed. Fondation pour les études de défense nationale, Paris, 1987, p. 161.

- انظر عرضا لهذا الكتاب في مجلة الدراسات الفلسطينية (بالفرنسية) / Revue d’études palestiniennes, n° 27, Printemps, 1988.

 [18] - رولان بارت، «التحليل البنيوي للســرد»، ترجمة حسن بحراوي - بشير القمري - عبد الحميد عقار، ضمن مجلة آفــاق، مرجع مذكور، ص. 23

[19] - انظر التمييز الذي يضعه افنير زيس في دراسته المشار إليها بين الصورة والطبيعة التصورية، ضمن الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، م. م.

[20] - Henri Lefebvre, La production de l’espace, op. cit., p. 370.

[21] - انظر أجزاء من وجهة نظر إدوارد سعيد في نص افتتاحي لمجلة بيادر (الفلسطينية)، العدد 3، خريف 1990، ص. 7. إلا أننا، من جهة أخرى، وبالرغم من أن ليس هناك في السلطة ما هو سري، فليس هناك أيضا فضاء واضح وشفاف. ذلك الذي تكلم عنه ميرلوبونتي في كتابه فينومينولوجيا الإدراك كفضاء تحظى فيه الاشياء والموضوعات بنفس الأهمية ولها نفس الحق في الوجود. انظر: Maurice Merleau-Ponty, La phénoménologie de la paerception, op. cit., p. 332.

[22]  - Cf., Maurice Blanchot, L’espace littéraire, op. cit., p. 130.

[23]  - Steffen Nordahl Lund, L’aventure du signifiant, op. cit., p. 97.

في هذه الدراسة يؤكد سطيفان نوردال لاند أن «الإيديولوجيا أيضا (ودائما) هي التي تنظم حياة السنن الثقافية».

[24] - Henri Lefbvre, La production de l’espace, op. cit., p. 450.

[25] - يشير هنري لوفيفر (المرجع السابق، ص. 170) إلى المهندس والمنظِّر المعماري فونتوري Venturi الذي لا يرى في الفضاء وسطا فارغا ومحايدا، تشغله بعض الأشياء الميتة، وإنما له صَوْغٌ جدلي للفضاء (Une dialectisation de l’espace) على اعتبار أن الفضاء حقلٌ للقوى، مليء بالاختلالات والتوترات...

[26] - انظر بيير زيمــا، النقد الاجتماعي، ترجمة عايدة لطفي، مرجع سابق الذكر، ص. 23.

[27]  - Uri Eisenzweig, Territoires occupés de l’imaginaire juif: essi sur l’espace sioniste, op. cit., p. 77 et p. 86.

[28]  - Alain Finkielkraut, Le juif imaginaire, Ed. Seuil, Paris, 1980, p. 207.

[29]  - Ibid., p. 208: «J’étais simplement le comédien de moi même».

[30]  - Ibid., p. 215.

[31] - Jean Yves Tadie, Le récit poétique, op. cit., p. 61.

[32] - باليبار وماشري: عن بيير زيما: النقد الاجتماعي، م. م.، ص. 59.

[33] - يرى بيتر بروك، المخرج المسرحي البريطاني الكبير، في «الفضاء الفارغ» أن الإخراج المسرحي يبدأ من أبسط فعل: «أستطيع أن أتناول أي فضاء فارغ وأسميه مشهدا. يكفي أن يَعْبُرَ شخص ما هذا الفضاء الفارغ بينما يكون شخص آخر بصدد النظر إليه لكي يصبح فعلٌ مسرحي جاهزا». انظر: Peter Brook, L’espace vide - Ecrits sur le théâtre, Ed. Seuil, Paris, 1977, p. 25.

 

 

 

موارد نصيـة

حسن نجمـي

شعرية الفضاء الروائـي

المحتــوى

 مقدمـــة

الباب الأول:

 الفصل الأول: الفضـاء. أية استراتيجية؟

الفصل الثاني: السيرورة الحكائية ومشكلة الفضـاء

الفصل الثالث: الفضـاء المفتـوح

الباب الثاني:

تمهيـــد

الفصل الخامـس: سحر خليفة وأمكنتها

الفصل السادس: فضاء الهويـةِ

الفصل السابع: الفضأء الأنثـوي

الفصل الثامن: «فضاء المحتمل؟!»

على سبيل الخاتمـة

 

 

 

 

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.