I.
هي ذي إذن محاولة لقراءة سحر خليفة:
قراءة طمحت إلى إنصاف كاتبة روائية عربية ظلمتها قراءات نقدية حيث كان بنبغي أن
تُنْصَفَ وأن تُقْرَأَ قراءة عاشقة، وأن يُوَجَّهَ إليها النقد حيث لا يمكن السكوت
على عدد من أخطاء الكتابة والإبداع.
قراءة أيضا فيها إعادة اعتبار لمكون أساس من مكونات الخطاب الروائي، وهو الفضاء.
وخاصة عندما يكون هذا المفهوم هو جوهر كتابة أدبية قد لا تكون لها أية قيمة بدون
التركيز عليه وإعلاء شأنه في كل قراءة.
قراءة، من جانب آخر، تعرف قدرها وتعرف ما تريد. ومن ثم، فقد اختارت الجوانب التي
ترى ضرورة إبرازها - الآن على الأقل - ذلك «أنني لم أقل أشياء كثيرة: وبعضها ظل
في منطقة الصمت لأن التلفظ بها سيكون سابقا لأوانه في الوقت الراهن» على نحو ما
عبَّرَ عنه بعمقٍ إلْرُود إبش، ربما لكثافة المادة التي تستلزم الاكتفاء بما هو
ممكن، وربما لاتصال دراسة الفضاء في كتابة فلسطينية بواقع سياسي وإيديولوجي يحتاج
إلى نضج الشروط والظروف، وربما لكون هذه القراءة اختارت مقاربة تجربة روائية:
فلسطينية وكتبتها امرأة، أي فيها بعضٌ مما يخيف و«ما يخيف في الكتابة هو
ما تُحَفِّزُ عليه من انتشار للوعي»، من إثارة للقلق وتحريض على الرفض والشَّغَب
والمساءلة.
II .
حاولنا أن تكون هذه القراءة نقدية، أن تكون نقدا للوعي، وعي كتابة سردية عربية
فلسطينية معاصرة بالفضاء وبالمعنى. ذلك أن «كل ما يتبدى للوعي وكل ما يوجد
بالنسبة للوعي هو عموما معنى». ولقد قرأنا طويلا السرد الروائي والقصصي
الفلسطيني، وبغض النظر عما حققه بعض الشعر الفلسطيني في تمثله الجيد العميق للإشكال
الفضائي، يمكننا القول الآن إنه لأول مرة، ربما، تتوقف كتابة روائية فلسطينية في
استبطان إشكالات الفضاء داخل الأرض المحتلة وتفكرها. وذلك لا بوصفها حنينا أو
استرجاعا، وإنما كتابة تعيش الفضاء وتكتبه، بل وتعيش مشاكل نمذَجَته وتمثله
واحتماليته عن قرب، أي كيف تنتظم العلاقة الجمالية بين الفضاء المرجعي والفضاء
بوصفه بنية مُتخَيَّلَة.
لذلك جاءت قراءتنا تحويلية كذلك. فقد حاولنا أن نتسلَّلَ إلى طيات النص
الروائي عبر امتداده في خمس روايات، هي: لم نعد جواري لكم، الصبَّار، عبَّاد الشمس، مذكرات امرأة غير واقعية، باب الساحة لنسهم في
بناء المعنى وإثراء الحقل الدلالي لهذه التجربة.
صحيح، انزعجنا من كون سَحَر خليفة ليست لها أية «إشكالية سردية» مما
جعل الكثير من الأفكار التي لدينا حول الفضاء الأدبي غير قابلة للاختبار. والمشكلة
تكمن في أن عددا من العوائق التي تلقي بها كتابة سحر خليفة أمام القارىء المتمحص
تجعله لا يستطيع أن يبرهن على أهمية بعض الأفكار إلا بالحدس. ونحن نعرف أن الحدس
وحده لا يكفي لنعرف عمق الأشياء وجوهرها. إنه مجرد «وسيلة للاقتراب قليلا من
الحقيقة، ولكنه ليس في النهاية حقيقيا».لكن سحر مع ذلك تتيح إمكانية هائلة
للحديث عن موضوعاتية فضائية ( Une
thématique de l’espace).
فقد أظهرت وعيا متناميا، من رواية لأخرى، بأهمية الفضاء في تعميق وبلورة التيمات
النفسية والوجودية والإيديولوجية المختلفة إلى درجة أن الفضاء يصبح أحيانا تيمة
حقيقية للكتابة، موضوعا لتأملها فيما بدا لنا نوعا من التَّفْضِيَة المحتشمة.
من هنا نظن أن الفضاء سيغدو مستقبلا انشغالا مركزيا في كتابة سحر خليفة عندما تتخلص
من كل ما تراكم في جسدها من ازدحام إيديولوجي ونفسي. سيحدث لها - في نظرنا - ما
يحدث لابن المدينة الذي تتغير نظرته لمدينته عندما يراها لأول مرة فارغة من أهلها،
حيث يتخلص قليلا من ازدحام الأجساد البشرية الذي يلهيه عن تأمل المعمار وتفاصيل
الواجهات والأرضية وغيرها. ذلك أن ما كرست له كتابتها حتى الآن من قضايا واهتمامات،
وما ضمنته رواياتها من قول إيديولوجي أو سياسي ذي وطأة ثقيلة، ظل يربك كثيرا شعرية
الكتابة، شعرية الفضاء أساسا.
إن سَحَر التي كتبت راهن الفضاء الفلسطيني روائيا مدعوة إلى التساؤل
حول مصير هذا الفضاء، روائيا كذلك. والحق أن سحر ليست هي نفسها في
مجموع مراحل مطولتها الروائية، إنها أضعف وعيا وتجربة في رواياتها الأولى وأنضج في
«باب الساحة»، لكن آليات الكتابة والوعي السردي بحاجة إلى جهد إضافي
مكثف. وذلك، للرهانات التي تتحملها سَحَر بوصفها روائية مصارعة على جبهات متعددة،
ولا تنقصها الجرأة وروح الحوار والإنصات.
III.
من الواضح أن كتابة سحر خليفة تحاول صياغة وإبداع الهوية من جديد ضمن تفاعل معقد مع
الواقع والتاريخ، لكن حسها النسائي المفرط - والذي يبلور في الغالب رؤية مائلة
وفكرا تدميريا - يُعِيق إمكانيات الإمساك بمصادر الواقع، خاصة منها اللغة والفضاء،
ويجعل الكتابة في النهاية حبيسة تقاطب مركزي فضلنا عدم إعطائه اعتبارا كبيرا، ونقصد
ما أسماه باشلار في «شعرية الفضاء» بـ «جدلية
الداخل والخارج، جدلية ترتد إلى جدلية للمنفتح والمنغلق»، بحيث كنا نجد
الكاتبة عند كل فضاء أنثوي تستبطن العالم الخارجي، تدخله إلى قمقم نفسي خانق ولا
تسمح لفكرتها عن المرأة أن تصبح مشروعا أو معنى راسخا قابلا للانتشار والإقناع
والانتظام في التاريخ. كما كنا نراها في فضاءات أخرى (فضاء الاحتلال مثلا) تتعامل
مع الواقع تعاملا سياسيا واضحا، أي تنتقل من إيديولوجيا الفردية
والإدراك الذاتي (حيث منطق الذات والداخل) إلى إيديولوجيا عمومية حيث
الوعي النقدي متَّقد والإدراك يكاد يكون مفتوحا كليا على معطيات التاريخ والمجتمع،
حيث يوجد هذا المجتمع قائما على القمع الخالص، ومحصلة آلية لِلَعِب قوى
متناحرة لا نتاجا للعفوية الواعية للأفراد الأحرار. ومن هنا يمكننا أن
نعتبر أن لفضائية الكتابة الروائية (Spatialité)
وظيفتين أساسيتين: من جهة، الوظيفة «الباطنية» للفضائية التي اشتغلت
في الفضاء الأنثوي وفي فضاء الهوية أساسا، ومن جهة أخرى الوظيفة «البرانية»
للفضائية التي ظهرت نشيطة في فضاء اليومي وفضاء الاحتلال مثلا. وقد تساءل هنري
ميتران عما تعنيه الوظيفة «الباطنية» للفضائية لدى برتران دوني B. Denis
في تقديمه لكتاب هذا الأخير «الفضاء والمعنى»، لكنها بالنسبة لسحر
خليفة فقد كانت لها أهمية تنشيط آليات استبطان العالم الخارجي وتحويله إلى مشاعر
وأحاسيس وردود فعل ذاتية، في حين لعبت الوظيفة «البرانية» للفضائية دورا معاكسا
تماما من حيث أسْعَفَت الكاتبة، عبر صوتها الطاغي في كتابتها وعبر شخصياتها، على
إخراج الطاقات الكامنة لتصيد مشَاهِد العالم الخارجي وتصيُّد لحظاته وتفاصيله.
إن السؤال المركزي الذي تطرحه كتابة سَحَر في النهاية هو: كيف تتشكل تجربة ترتبط
فيها العلاقة مع الذات بالعلاقة مع الآخرين؟ وبالتالي، كيف يمكننا صياغة هوية لا
تتحدد كوحدة في السلوك أو كثبات في الفكر والأحاسيس والتعلق بالفضاءات والأمكنة
والأشياء؟
وفي الحقيقة، وهذا ما حاولنا التأكيد عليه بإلحاح، لا يمكن فهم بنيات الفضاء
الروائي للكاتبة الفلسطينية الكبيرة إلا في سياق نظام إيديولوجي واضح المعالم.
كتابة تتغذى على إيديولوجيا وتحاول تفجير أخرى. لها نسقها الإيديولوجي وتجابه نسقا
إيديولوجيا هو نفسه الذي يحدد نظرة الاحتلال للفضاء وشكل تأثيثه وللسلطة القائمة
وإرغاماتها. من ثم أكدنا على أن سحر خليفة، وهي تكتب فضاء متخيلا مشدودا رغم كل شيء
إلى نموذجه المرجعي الملموس، تجابه فضاء متخيلا آخر مشدودا على العكس
إلى يوطوبيا مرجعية، إلى متخيل آخر كامن في الفكرة الأصلية التي كانت مجرد حلم
فأصبحت واقعا، أو أمرا واقعا بالتحديد.
لذلك، يمكن القول إن فضاءات سَحَر وأمكنتها كانت تتبدَّى في الكتابة
إيديولوجية بامتياز، سواء من حيث اختياراتها وتشكيلها أو من حيث كونُها
سَنَداتٍ ( Supports)
لصراع إيديولوجي بين الفضاء الفلسطيني الراسخ واليوطوبيا الصهيونية من جهة، وبين
الفكرة النسائية الفلسطينية الغاضبة والاقتناعات المنغلقة للرجل الفلسطيني من جهة
أخرى.
أما الشخصيات الروائية، وبرغم ما يمكننا تسجيله حول طبيعتها غير التلقائية وغير
الحرة، فقد تحددت مصائرها بقوة هذه الفضاءات المعمَّدَة بالإيديولوجي. ذلك أن
الفضاء العام للكتابة لم يتح للشخصية أن تتبلور. لم يتح لها كذلك أن تنتَصِر. ولذا،
يمكن اعتباره فضاء إعاقة. فضاء انشطار شامل: الشخصية الإسرائيلية
منشطرة بين تراث المتخيل الصهيوني وما يطرحه الواقع من تحديات وأسئلة مؤرقة،
والشخصية الفلسطينية المنشطرة بدورها بين وعيها الذاتي وتجربتها الشخصية المرة من
جهة وبين مستلزمات الانتماء الوطني من جهة أخرى، بل وتعيش حالة انشطار بين رفض
الاحتلال ومجابهته الشرسة وإمكانية معايشته (ولم لا.. إعلان تصالح معه في ظل تآكل
خفيف للهوية الجماعية، على الأقل كما لمسنا ذلك في أمثلة عابرة لم تؤثر كما قلنا
على المسار العام لطروحات هذه الكاتبة الروائية؟!).
لذلك، ينبغي التساؤل: كيف يمكن ان تكون هناك «هوية - قائمة بين خطابين»؟
فلسطيني يتنازعه خطاب الذات والنزعات الفردية، ثم خطاب الانتماء، والتواصل والهوية
الجماعية، وإسرائيلي وَجَدَ نفسه في مواجهة قَدَر رهيب ليس بإمكانه رفضه ولا قبوله،
مما جعله يعيش دورا ملتبسا: «دور الضحية» و«دور البطل»،
في فضاء من الالتباس الشامل.
IV.
لا نريد لهذه الخاتمة أن تكون تلخيصا لدراستنا ولا تكرارا لما قلناه في مدخل أو
تمهيد أو في هذا الفصل أو ذاك، لكن يبقى أن نقف عند جانب آخر، فضائي بامتياز،
ويمكنه أن يضيء بعض أبعاد هذا المتن الروائي، وهو فضاء الغلاف اساسا، سواء على
مستوى صورة الغلاف أو عنوان الرواية أو طريقة تقديم الغلاف ذاته للقراء مما يحتاج
في الحقيقة إلى دراسة متكاملة.
وعموما، لا يهتم النقد العربي بهذا الجانب رغم أهميته القصوى، معرفيا وجماليا، بل
ولصلته العميقة بالحقل التداولي للنص الأدبي العربي. وربما كان ذلك عائدا إلى ما
يطرحه الفضاء البصري والحقل الإستتيقي بشكل عام في الساحة الثقافية العربية. لكن
ينبغي أن نسجل أيضا اهتمام بعض النقاد المغاربة بدلالة الغلاف وجمالياته وإسهامه في
تشكيل معنى النص.
ولعل أهم ما يثير في أغلفة روايات سحر خليفة، أخذا بالاعتبار درجة معينة من التواطؤ
الذي يبديه كل كاتب مع أغلفته وكذلك ضرورة التحوُّط التي يفرضها احتمال اعتباطية
الإنجاز أو عدم موافقة الكاتبة مسبقا على شكل أغلفة أعمالها. لكن في كل الأحوال،
ثمة علاقة واضحة بين الرواية كنص أدبي مكتوب والشكل الذي تظهر به للقراء: ما يتعلق
بصور الغلاف، اللون، نوعية الحروف الطباعية، العنوان، ترتيب إسم الكاتبة، نوعية
الورق، الحجم، إلخ. وبالتالي لا يمكن للغلاف أن يكون محايدا أو غير ذي موضوع في
تشييد معنى النص والتأثير على مستوى توقعات القارىء ودرجات الانتشار وطبيعة التداول
فيما يمكن إدراجه في باب سوسيولوجيا الثقافة.
وإذا كان الأستاذ عبد الفتاح كيليطو اعتبر أن صورة الغلاف نوع من الشرح، وأنها
ككل شرح تضيف شيئا إلى النص وقد تعرض بعض التفاصيل لا توجد في النص، وإن
كنا لا نرى في ذلك - على الأقل في سياق دراستنا هذه - شيئا من «عجائب الاتفاق»، فإن
الناقد المغربي عبده جيران قدَّم جهدا نظريا وتطبيقيا جيدا، خصوصا ما يتضمنه الغلاف
من مكونات التلقي التواصلي، وما يقترحه على مستوى شرط التعاقد
ومحتواه الرمزي أو الإيضاحي، والمؤلف بوصفه «مالكا للبلاغ الأدبي»، أي كل ما يهم
تصرفات التواصل التي يبديها كل غلاف.
«إن الصورة تظل على ظهر الغلاف قصدية بالمعنى الذي أرساه رولان بارت بصدد تحليل
الصورة الإشهارية، ما دامت تطمح إلى أن تكون ترجمة ما للمحتوى الإيضاحي، وقد تكون
لا قصدية - في نفس الآن - وفق التحليل النفسي كما أرساه فرويد بصدد اللوحة»، يؤكد
جيران في دراسته، معتبرا من جانبه أن الصورة لا تعمل في الغلاف «سوى على
مضاعفة دلالة الخطاب وتدعيمه وترجمته». ومن ثم نعتبر أن سحر خليفة، سواء
كانت هي مَن اقترَحَ صور أغلفتها أو تواطأت بقبولها مقترحات لفنانين آخرين، لها
أساسا حرص على إبراز انشغالها النسائي أكثر من أي انشغال آخر تضمنته كتاباتها. إن
صورة المرأة هي التي تملأ العين وتمنح أغلفة الروايات خطابا يشي بخطاب الروايات قبل
قراءته. وخطاب الغلاف كما يظهر في روايات سحر لا يشكل عتبة أولى للقراءة فحسب، بل
ويفرض سلطته كاملة على القارىء ويمنح النص هوية بصرية ينبغي أن نقبلها كإحدى هويات
النص، «فالغلاف هو أول من يحقق التواصل مع القارىء، قبل النص نفسه، فهو ينتزع
السلطة من النص ويتحدث باسمه إلى إشعار جديد، فهو الناطق بلسانه، يقدم قراءة للنص،
وبالتالي يضع سمات النص وعلاماته وهويته».
إن المرأة ذات الأذرع الثمانية محمَّلَة بكل ما يؤشر إلى تعدد وظائفها ومتاعبها
(أواني، مكنسة، بندقية، حقنة، كتاب، رضاعة...) في صورة غلاف «لم نعد جواري لكم»،
كافية لتقول كل شيء، وينضاف إليها مشهد المرأة وهي تقف في مقدمة الصورة وخلفها أجمة
وكأن الرسالة الأيقونية تقول شيئا عن علاقة الشجرة بالغابة (من يخفي من؟). هذا
بينما تقف المرأة في صورة غلاف «مذكرات امرأة غير واقعية» برأس له أذن قطة مغمور
بما يشبه البخار في إشارة إلى المرأة «الهوائية» أو «غير الواقعية» كما تصفها
الرواية. وطبعا لا تنسى الرسالة التفاحات الحمراء كما ظهرت في النص فتقشر في الغلاف
الأول واحدة وتشطر أخرى في الغلاف الأخير للرواية. وللتفاح - كما نعلم - علاقة
إيروسية وجنسية لها تاريخ يعود إلى جدنا آدم مثلما لها تراث جمالي في التصوير
العالمي (تراث «الطبيعة الميتة» وتفاحات الفرنسي بول سيزان
(1839 - 1906- أشهر
من نار على علم). أما النساء الثلاث وهن وراء البوابة الحديدية في صورة غلاف «باب
الساحة» فيظهرن في لحظة انتظار أو ترقب أو اندهاش أو تساؤل. هذا بينما ظهر غلاف كل
من «الصبار» و«عباد الشمس» أضعف الأغلفة دلاليا، خاصة من حيث رسم نبات الصبَّار
وزهرة عباد الشمس مما يضعف من إمكانية التوقع لدى القارىء. وطبعا، فهوية نساء
الأغلفة يكشف عنها لباسهن المطرَّز تطريزا فلسطينيا واضح المعالم.
وبما أن خطاب الغلاف ليس عناصر إيقونية (صورية) فقط، فإن إسم المؤلفة وجنس الكتابة
(رواية) واسم الهيأة الناشرة (دار الآداب) وعنوان الرواية تشكل عناصر لسنية في
الخطاب نفسه. فإذا ظل المعنى خفيا بين طيات الصور أو التباسها فإن هذه العناصر
اللسنية تضيف اقتراحات واضحة المقاصد والوظائف لجعل التعاقد بين سحر خليفة وقرائها
المفترضين ممكنا وقابلا للتنفيذ والتأكيد. ولعل العنوان بالذات يظل أكثر هذه
العناصر إثارة لفضول التحليل والمقاربة. وذلك لما توفره العناوين عادة - كما أكدت
ذلك سوزان سونتاغ في دراستها حول رولان بارت - من «إمكانية إضافية» لفهم النص
الأدبي.
إن عنوانا مثل «لم نعد جواري لكم»، بكل هذا النفي والجزم، يعلن عن خيار نسوي قاطع
وحاسم وواضح من شأنه أن يوجه القراءة من البداية. كما أن «الصبار» و«عباد الشمس»
بوصفهما عنوانين يحملان بعض أسماء النبات يحيلان مباشرة على علاقة مفترضة مع الأرض
ويؤشران إلى معنى له خطابه الجاهز حول عالم معيَّن يُفْتَرَض أن يعثر عليه القارىء
داخل النص الذي سيُدْعَى لقراءته عندما يجتاز عتبة الغلاف. أما «مذكرات امرأة غير
واقعية» فهو عنوان كتاب لم تتم فيه الإشارة مطلقا، لا في الغلاف ولا داخل الكتاب،
إلى جنسه الروائي. كأن هناك رغبة مبطنة لحمل القارىء على الاعتقاد مسبقا بأنه مقبل
على قراءة مذكرات حقيقية (وهو جنس أقرب إلى الرواية والكتابة الأدبية عموما) لامرأة
غير حقيقية، «هوائية» (الرواية، الصفحات:
5-6-7-8-34-58-95-112-129-130).
وهو عنوان لا يخلو كسابقه «لم نعد جواري لكم» من إثارة أو استفزاز يأخذ بعين
الاعتبار ضرورة استدراج قراء جدد، إضافة إلى القراء التقليديين للكتابات الروائية
العربية. أما عنوان «باب الساحة»، فهو يؤشر إلى اسم مكان يجعلنا نتوقع كقراء مسبقا
بأن النص سيقدم رواية لأحداث مسرحها مكان يحمل نفس الإسم.
والعنوان لدى سحر خليفة على العموم يكشف قبليا عن محتوى النص أو معالمه الأساسية.
العنوان بهذا المعنى «علامة واصفة»
(Un
méta-signe)
يبعث بالقارىء لا إلى محتوى النص الذي سَيُقرأ، وإنما يبعث به كذلك - في هذه
التجربة - إلى طبيعة صاحبة النص نفسها، سواء بوصفها المرأة التي نلتقيها خارج
الكتابة، أي بوصفها إنسانة تعيش وجودها البيوغرافي، أو بوصفها مبدعة لها امتدادات
معينة في النص. وهي علاقة قائمة كما أوضح ذلك باختين.
إن عناوين سَحَر، بمعنى ما، عناوين براغماتية تحاول أن تضمن للنصوص
قراء إضافيين. وذلك بإبراز أبعاد التوتر الجنسي أساسا الذي تعمقه الصورة أكثر،
وبإثارة الفضول والاهتمام ورغبة الاقتناء. ومن ثم، فالعناوين «تكمل رأسمالا
إيديولوجيا» تتبعنا كيف شيدته وصرفته الكاتبة على امتداد مطولتها الروائية.
كما يمارس وظيفة معرفية من حيث يوجه ويبرمج سلوك القارىء وينمذج مسبقا طريقة تلقي
النص وتفكيكه.
ومع أن هذه العناوين تحاول أن تكون نفعية، على قدر من الوضوح المثير للفضول، فإنها
مع ذلك تظل تحجب أبعادا أخرى للنصوص تحتاج إلى قراءة متمحصة يقظة. وتلك إحدى وظائف
العنوان الإيديولوجية التي تغري بالدراسة الهادئة العميقة.
V.
ومهما يكن، فإن الكتابة الروائية لسحر خليفة تثير شهية القراءة، خصوصا بالنسبة
لأبعادها الفضائية الثرية. وقد حاولنا أن نقرأ جانبا من شساعة هذا المتن، ويبقى أن
يتم الاهتمام بالمكونات الأخرى (الزمن، الشخصيات، اللغة...). كما أن هناك مهمة
علمية تقتضيها حاجتنا إلى نقد الوعي الفلسطيني عبر الكتابة الأدبية (الشعرية
والسردية)، مما يستلزم توسيع مقاربة مفهوم الفضاء في كتابات أخرى، ولم لا.. إنجاز
دراسة مقارنة - على هذا المستوى - بين متن سحر خليفة ومتون روائية فلسطينية أخرى
(غسان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، إميل حبيبي، يحيى يخلف، رشاد أبو شاور، ليانة
بدر...)، وهو ما يحتاج إلى جهد وإمكانيات تتجاوز قدراتي المحدودة راهنا.
[انتهـــى]
|