 |
حسن نجمـي |
|
الفصل
الثالــث
الفضــــاء المفتـوح
|
|
|
I.
كيـف نقـرأ الفضــاء؟
كيف
نقرأ الفضاء؟ كيف ينبغي - بتعبير أدق - أن نقرأ الفضاء؟
ربما
كان الأمر يتعلق في جوهره بسؤال أشمل: «كيف ينبغي أن نقرأ؟»، وبالتالي «ما هي شروط
ومقاييس القراءة الجيدة؟» على نحو تساؤلات عبد الفتاح كيليطو [1] البدئية في كل
قراءة، لكن العميقة والمؤسسة في نفس الوقت، والتي تقوده إلى القول بأن «ما هو مسلم
به اليوم هو أن القارئ يقرأ النص انطلاقا من اهتمامات تخصه أو تخص الجماعة التي ينتمي
إليها»[2]. ومن ثم قصدية كل قراءة. قصدية القراءة التي نحاول أن ننجزها للفضاء،
للفضاء الروائي بالخصوص، وبالأخص للفضاء الروائي لسحر خليفة.
ربما
احتاجت هذه القراءة لبعض التدقيق، فنحن في الحقيقة لا نقرأ الفضاء[3]، بل نقرأ
أشياء وموضوعات وهوامش وظلالا ذات امتدادات وعلائق فضائية في حقل سردي حكائي له
خصوصيته وذاكرته وبنيته السيكولوجية والمعرفية، تماما كما «لا نتلقى الزمن [بل]
نتلقى أحداثا لها ديمومة معينة، وتتلاحق في نظام معين»[4]. لكننا لاعتبارات تتعلق
بالتبسيط والسهولة، وخضوعا للعادة، نواصل حديثنا عن قراءة الفضاء وتلقي الزمن[5] في
النص الأدبي وفي الواقع.
وإذا
كان كل نص «ينظم نوعا من الاستراتيجية»، كما يقول لنا أيزر، يندرج ضمنها الفضاء وقد
تكون في جوهرها وفي شموليتها استراتيجية فضاء بالذات، فإن هذه الاستراتيجية تحتاج
بالتالي إلى أفق استراتيجي هو الذي ينجزه نوع من الاستراتيجية تنظمه القراءة.
القراءة التي ينجزها قارئ يدخل «المجابهة» مع النص مسلحا بـ«حاجاته، كفاءاته،
معلوماته ونواياه» بتعبير أحد النقاد[6]. مجابهة ندخلها أيضا كقراء «وفقا لمصالحنا
وثقافتنا، أي وفقا لأفقنا بكل اختصار. وهذا ما سماه ياوس في أعقاب كادامر «اندماج الآفاق»...»[7].
بمعنى أننا نتلقى النص هنا كي نشركه بعضا من انشغالاتنا مثلما يأتي هو أيضا إلى لقائنا محملا بانشغالاته. ومن ثم يغدو السؤال: كيف نقرأ النص؟ سؤالا آخر هو الذي
طرحه إبش: «ما الذي يقوله النص لي وما الذي يمكن أن أقوله للنص؟»[8]. هكذا تتخلص
القراءة من اهتماماتها التقنية الجامدة، وتمضي إلى عمقها الأنطولوجي، حيث تلامس
«حركات وإيقاعات الأفكار والكلمات»[9] وتجعل وظيفتها الأساسية في تحقق نوع من
«الوعي بالذات والوعي بالنص في حركة يتداخل فيها الواحد مع الآخر دون أن يفقد مع
ذلك استقلاليته»[10]. إن القراءة لا قيمة لها إن كانت مجرد ابتلاع استهلاك وترديد
لأفكار ونوايا النص وحده، بل إنها لا تستقيم ولا تتحقق فعليا إلا من خلال تفاعلها
مع الذات القارئة كما سيمر معنا فيما بعد.
نعم،
للنص خصوصيته وتميزه، كما يوضح ذلك جيدا يوري لوتمان[11]، لكنه لا يقرأ نفس القراءة
بالنسبة لكل القراء، فهو يمنح لكل قارئ خبرا مختلفا، كل حسب مستوى وطبيعة وطريقة
فهمه وإدراكه. وهكذا، تصبح قراءتي للنص تحققا لذاتي وتحليلا لها. كأن النص كتب أصلا
ليحرك فقط نص النفس التي تقرؤه، بل كأن الذي يتحدث «داخل» العمل المكتوب يتحدث أيضا
«داخل» الذات القارئة[12]، والحال أن هذا الذي يحدث - كما سنرى - لا يحدث إلا في
المسافة القائمة بين الكتابة والقراءة، أي في الفضاء الذي يجمعهما. فضاء التفاعل.
هنا، حيث تتبع القراءة «سبيل استجواب الذات»[13] التي تقرأ واستجواب الذات التي
كتبت كما فعل عدد من القراء الجيدين: رولان بارت، دي مان، ستانلي فيش، ف. أيزر، أمبرتو إيكو، عبد الفتاح كيليطو... وآخرون.
بهذا
المعنى، ليست القراءة شيئا معطى فقط بواسطة النص الذي نقرأه، بل هي فعل نبنيه
وننميه عبر سفر جميل «لخيالنا العقلي»، بتعبير أحد الباحثين المغاربة[14]، نعيد
نسجه عبر ذواتنا ونتيح له إمكانية حياة جديدة ومختلفة فينا، في أنفسنا وفي أجسادنا
معا. «إن النص المقروء من طرف القارئ يحيا ويتذوت. إنه نسيج، لكنه نسيج من مادة
حية، متألمة، وربما مفكرة»[15]. بتدقيق أكثر، نحن نقتحم فضاء مكتوبا بوعينا كقراء،
لكن الذي يحدث أن الوعي القارئ يجد نفسه مراقبا، محروسا بعناية ولطف لا وعي النص
المكتوب. ومن ثم، لابد من القارئ الذي يعطي للكتابة معنى. القارئ الجيد إذن ضروري
لتشكيل النص وتتمته، وإلا بقي مبتورا وناقصا. هكذا أوضح الأمر لنا أحدهم قائلا:
«الكلام هو نصف يقوله المتكلم ونصف يسمعه المستمع»[16]. بل، ربما، كانت قراءتنا في
جوهرها استنطاقا لصمت الكتابة. أن نخترق خطابا له وضعه الاعتباري، له معناه ومعناه
المتعدد، أن نفتح شهية للكلام والتواصل، أن نكشف أسراره وإضماراته ونملأ فراغاته،
وأن نتيح للقراءة - بتعبير ميشيل فوكو - فرصة «أن نقول في الأخير ما كان منطوقا به
بصمت هناك»[17]. لكنها لا تقوله في حالة امتثال متبادل، بل ثمة شك قائم ما بينهما.
ثمة أيضا «قوى متخاصمة» لا يمكن التوفيق بينها إلا بخلق حالة «مجابهة» أو حالة
تنافس بين وعي القراءة ووعي الكتابة، اختراق لحميمية الكتابة، على نحو ما يؤكده موريس بلانشو[18]، لنحصل في النهاية على ما أصبحنا نعرفه ونردده ونسميه، اليوم،
الفضاء الأدبي.
الكتابة تستدعي، إذن، القراءة[19]. إنها تستدعي التأويل بمعنى أوضح، والفضاء الذي
تهيؤه لنا الكتابة يستلزم بهذا المعنى فضاء تهيؤه القراءة. هنا نفهم، بصيغة أخرى،
ما قلناه في الفصل الأول بأن استراتيجية الفضاء هي استراتيجية كتابة واستراتيجية
قراءة. وبالتالي، يصعب أن نوافق على الامتثال الذي يدفع بلانشو القراءة نحوه:
«القراءة لا تخلق شيئا ولا تضيف شيئا. إنها تتيح الوجود لما هو موجود»[20]. نعم.
القراءة حرية لا تمنح الوجود ولا تأسره، وخاصة لما يتعلق الأمر بوجود وعي الكاتب في
النص، اي ما أراد الكاتب أن يقوله، لكن حرية القراءة أكثر شساعة من ذلك. إنها تهتم
بما لا يريد الكاتب قوله أيضا.
هكذا
تكون القراءة التحاقا بنية الكاتب، التحاقا بعالم الكتابة كما هو مهيأ أصلا لإعادة
صوغ ولإعادة نسج، وفق مشترطات التفاعل، وفي أفق يجعل القارئ «لامستهلكا للنص، بل
منتجا له»، حيث تنتفي العلائق التقليدية بين «الصانع والمستعمل، صاحب النص وزبونه،
مؤلفه وقارئه»[21]، وحيث تتجه القراءة صوب هدفها مسترشدة بأفقها النظري والمعرفي،
مستندة إلى ذاتها المؤسسة. إن الكتابة، من ثم، لا تتحقق «إلا لأنها تحمل في داخلها
إمكانية القراءة والعكس صحيح أيضا. فالقارئ لا يستطيع أن يملأ بالمعنى المحدد إلا
العمل الذي لا يكون محددا تحديدا مطلقا»[22]. وهذا بالذات، ما يتيح لنا في كل قراءة
فاعلة نوعا من الاستجابة المنتجة، نوعا من «الدمج النفسي» الذي «يسمح للمرء بأن
يشعر بخيال النص كأنه خياله»[23]. ألم يقل هنري جيمس، في هذا المعنى، بأن «كل مؤلف
يمكن أن «يبتكر» قارئه بنفس الطريقة التي يبتكر بها شخصياته»؟[24]. هذا معناه أن
الكتابة وهي تنكتب تنجز بنينة مسبقة لقارئ مفترض، وبالتالي لمعنى محتمل كما يؤكد
ذلك فولفغانغ أيزر في كتابه «القارئ المفترض»[25]. معناه أيضا أن «القارئ المفترض
شرط نصي وسيرورة لإنتاج المعنى»[26]. وذلك من خلال تحقق المحتمل بواسطة عملية
القراءة. إن النص المكتوب ينجزه الفاعل الفني وفق شروط ومتطلبات الفعل الفني، بما
هو تجربة ومعرفة وتقنيات وأسلوب ومتخيل معين، لكنه يظل دلاليا فعلا ناقصا ما لم
يتهيأ له فاعل جمالي ضروري هو بالذات فعل القراءة، بما هو معاينة للنص الأدبي
ولمظاهر الاستجابة له. «وينتج عن هذه الوضعية أن العمل الأدبي لا يكون مطابقا للنص،
ولا لإنجازه، وإنما هو مكان وسط بينهما. فهو أكثر من النص، لأن هذا الأخير لا يغدو
حيا إلا حينما تتحقق ملموسيته. كما أن تحقيق هذه الملموسية لا يوجد، بوجه من
الوجوه، مستقلا عن الاستعداد الفردي للقارئ: إن تلاقي النص والقارئ هو ما يمنح
الوجود للعمل الأدبي، غير أنه لا ينبغي إطلاقا لهذا التلاقي أن يغدو مرادفا لارتباط
مقحم، بل يجب أن يظل احتماليا دائما بحيث لا يطابق بينه وبين واقع النص، ولابينه
وبين الاستعداد الفردي للقارئ»[27]. وبالتالي، فالقراءة تصبح هي بالذات هذا المزج
المعقد بين بنية النص وكيمياء الذات القارئة.
إن
علاقة القارئ بالنص - ينبغي المزيد من التأكيد - هي علاقة مزدوجة: من النص إلى
القارئ ومن القارئ إلى النص. هنا يتأسس الحوار والتبادل، وتتبلور تلك الجدلية
اللانهائية التي «تعمل على المحورين الزمني والفضائي»، حيث يكون النص متوفرا -
بالضرورة - على استراتيجية ينبغي للقارئ أن يستثمرها لا لفهم النص، بل لبناء معناه
المتعدد. واستراتيجية النص هذه هي التي تنظم في الحقيقة المنظورات المتعددة الممكنة
للنص ذاته، وتأخذ على عاتقها دور تحفيز القارئ على المساهمة في بناء المعنى.أيضا،
فإن «النص ينتج القراءة التي يستطيع إنتاجها، وهو لا يوجد إلا في قراءته»[28]، كما
يرى كريفل، ذلك لأن «النص هو أثره. أثره أو وقعه ( L'effet)
يحضنه، حيث تحكمه نية تتغيا نتيجة ما (...) فالنص لا يتميز عن الأثر الذي يولد في
ذاته»[29]. من ثم، رأى ألتوسير أن الآثار لا يتعين أن تكون خارجية عن البنية، ولا
أن تكون موضوعا، أو عنصرا أو فضاء موجودين قبليا لتأتي البنية كي تسجل عليهم رسم
نوعها: بل العكس تماما، هذا يعني أن على البنية أن تكون محايثة لآثارها، [...]
ليرتكز وجود البنية كله في آثارها. وباختصار، فإن البنية التي ليست إلا تنسيقا
نوعيا لعناصرها الخاصة، لن تكون ذات قيمة خارج آثارها»[30]. ويوضح كريفل هذا الرأي
أكثر قائلا: «إن النص يحمل أثرا معينا، ويشغل الأثر وضعية راجحة (موجهة) مقارنة مع
«المنطق الداخلي» للنص، والذي لا يكون أبدا وحده منظما ذاتيا، فالأثر هو إمكانية
فهم النص»[31].
تأسيسا
على ذلك، وبما أن الفضاء ليس مجرد خريطة جغرافية، أي ليس نصا ترتيبيا غير ذي موضوع،
إن استعرنا تعبيرا ليوري لوتمان[32]، فإنه يكون بدوره نتاجا لاشتغال تراكمي
للدلالة، وذلك من حيث إنه كباقي العناصر التكوينية للخطاب الروائي يعيد القارئ بناء
معناه ويشكل مظهرا من مظاهر نشاط القراءة.
وليس
جديدا في هذا الإطار أن نعرف أن الفضاء الروائي يتحكم فيه فضاء القراءة. يقول ميشيل بيتور
Butor:
«إن مجموع العلائق الفضائية القائمة بين الشخصيات أو المغامرات التي تحكى لي لا
تستطيع أن تصل إلي إلا بواسطة مسافة أتخذها بالنسبة للمكان الذي يحيط بي. عندما
أقرأ غرفة في رواية معينة، فإن الأثاث الموجود أمام عيني، وبدون أن أنظر إليه،
يتناءى أمام الأثاث الذي ينبجس أو يرشح من العلامات المرسومة على الصفحة.
« إن
هذا الكتاب (Volume)
- كما يقال - الذي أمسكه بيدي،
يحرر في ظل انتباهي إيحاءات تفرض نفسها، ترتاد المكان الذي أوجد فيه، تغربني
[تحملني إلى مكان آخر]. هذا المكان الآخر لا يهمني، لا يمكنه أن يستقر إلا بقدرما
لا يسعني المكان الذي أوجد فيه (...) إن المكان الروائي هو إذن تخصيص
(Particularisation) «مكان آخر» تكميلي
للمكان الواقعي الذي يستحضره»[33].
ليس
فضاء القراءة، إذن، هو فضاء التفاعل الذي تنسجه قراءة السواد على البياض في النص
الروائي، بل هو أيضا تضافر جملة من العناصر الأخرى لإسناد الخطاب المتخيل بما يسميه
أيزر «الوضعية المرجعية» التي «تنبني، بمشاركة القارئ، عبر تمثل خاص للواقع وفي
استقلال عنه في ذات الوقت»[34]. هكذا باختصار يمكن القول بأن كل قراءة للفضاء
الروائي هي، بمعنى ما، قراءة للنص الروائي بكل مشترطاته. وبالتالي، أن نقرأ الفضاء
الروائي هو أن نضبط عناصر وضعيته المرجعية: السجل، الاستراتيجية، مستويات المعنى،
مواقع اللاتحديد[35]، كما لو كنا نقرأ النص كاملا.
بهذا
المعنى، يمكننا أن نتحدث عن سجل الفضاء الروائي في رواية معينة أو في متن روائي
معين لا عن سجل رواية أو روايات فقط. ويمكننا أن نفعل نفس الأمر بالنسبة لباقي
المفاهيم، فنتحدث عن استراتيجية الفضاء، عن مستويات المعنى الفضائي وعن مستويات اللاتحديد كما يمكن أن تتيحها لنا قراءة المقاطع المؤشرة إلى حضور فضاءات في النص
الروائي المدروس. عملية إجرائية في الحقيقة طموحها أن تطوع منهجية للقراءة تبدو، في
أصلها وفي جوهرها، مرنة جدا، خصوصا حينما نكون مقتنعين بأن مشاركة القارئ للنص في تركيب المعنى «تقتضي ككل مشاركة مراعاة مصلحة الجانبين، أي مصلحة النص ومصلحة
القارئ. ينتج عن هذا شئ لابد من ذكره، وهو أن القارئ يمكنه أن يكون وفيا تماما
للنص، كما أن النص لا يمكن أن يكون وفيا تماما للقارئ. بعبارة أخرى: القارئ لا
يقترب من النص وهو أعزل خالي الوفاض، فللقارئ اهتمامه وتنظيمه الفكري، وحتى لو شاء
فإنه لا يستطيع أن يتخلى عن هذا التنظيم، والنص بدوره له تنظيمه الفكري، ويأبى
الخضوع للقارئ. لذلك يقع أخذ ورد بين الطرفين، أي تقع مساومة، والنتيجة التي لا
مناص منها لهذا الجدال الدقيق هي أنه يقع تحوير مزدوج: التحوير الأول: تحوير المنهج
المتبع لكي يلائم النص، التحوير الثاني: تحوير النص لكي يلائم المنهج»[36]. ولأن
الأستاذ عبد الفتاح كيليطو يعرف أن طرحا كهذا الطرح المنهجي قد يبدو للبعض متسرعا
أو قابلا للاستنكار، مع أنه نجح هو شخصيا في تطبيقه وأعطى نتائج هامة في دراساته
وأبحاثه، فإنه يسارع إلى مزيد من التوضيح قائلا: «قد تبدو لكم هذه النتيجة مستنكرة،
خصوصا القسم المتعلق منها بالنص الذي يتم تحويره، كيف يستساغ أن يحور النص؟ ومع
ذلك، فكيفما كانت القراءة، فإن هذا التحوير يحدث لامحالة، سواء كانت القراءة
تقليدية أو حديثة، ولن يجادل في هذه النقطة إ لا
معاند. طبيعة العلاقة بين المحلل والنص هي التي تقتضي وتحتم هذا التحوير»[37].
أضف
إلى ذلك أنه - كما يذهب إلى ذلك الدكتور محمد مفتاح - «ليس مشروطا على كل نظرية أن
تجيب عن كل إشكاليات يطرحها النص يكفي أن تجيب عن نقطة أخرى أو يقترح نظرية
مغايرة... فعلى هذا الأساس، المهم هو أن تكون أعمالنا قادرة على تسليط بعض الأضواء
على الزوايا المعتمة التي لم تضأ من قبل»[38]. لكننا مع ذلك نبقى أكثر حرصا على استيحاء المعطيات الاساسية لنظرية القراءة، لإستتيقا القراءة بالأخص، صاعدين إلى
تجسيد عمقها الفلسفي الظاهراتي من حيث إن «نظريات الظاهراتية في القراءة أكثر أناقة
من غيرها لأنها تضم الفعل والبنية في إطار فكرة واحدة، وهي القصـد. القصد لابمعنى
مرادف للرغبة التي يعبر عنها القارئ أو «لما أراد أن يقوله المؤلف»[39]، بل كمحدد
لفعل الوعي وبنيته على أساس مبدأ القصدية.
وإذا
كان اجتهاد إيزر في كتابه المشار إليه هو الرحم النظري لقراءتنا، فالحق أن «النسق
النظري و - ضمنيا - ترسانَتَة الاصطلاحية لا يوجدان إلا بارتباط مع الموضوع، تماما
كما لا يمكن أن يكون ثمة من وجود للموضوع خارج الإشكالية والمجموع الاصطلاحي
النسبييْن هنا»[40]. وتنتج القراءة في هذا الأفق المنهجي إذا أتيح لها أن تستند إلى
تلك الروح الشعرية للعمل الأدبي التي تحدث عنها أمبرتو إيكو. الشعرية لا بوصفها
«قانونا مطلقا»، بل باعتبارها «البرنامج الإجرائي» الذي ينويه المبدع في كل عمل
أدبي قيد الإنجاز، وبمقتضاه يضمن عمله وجملة من المعاني البنيوية والتكوينية تسمح بـ«تسلسل التأويلات» وتعاقب «نمو المنظورات»[41]. ويلتقي إيكو مع إيزر في هذا
المنجز النظري المؤسس لعملية القراءة، وخصوصا حينما يؤكد إيكو بدوره على أهمية
وضرورة أن يدخل النص في قواعد لعبه «فضاءات بيضاء» تستلزم استراتيجية معينة للكتابة
يكون بإمكانها أن تتيح للقارئ بالفعل المساهمة في القيام بدوره التأويلي على أكمل
وجه. استراتيجية ليست في النهاية إلا عملية دقيقة «لاختيار معجم الأسلوب» لا تفتأ
تجد لها «القارئ النموذجي» الذي يصفه إيكو بكونه «القادر عبر الزمن على تفعيل أكبر
قدر من القراءات المتقاطعة»[42]. ومن ثم، طور إيكو - جنبا إلى جنب مع إيزر وياوس
وبارت وآخرين-مفهوم القراءة المفتوحة أو ما يسميه هو «الأثر المفتوح»
L'oeuvre
ouverte، حيث إلى جانب كون النص نسيجا، من الأقوال الشفوية أو
المكتوبة مثلما من تعدد مناطق المسكوت عنه، ركز بالأساس على أهمية الإمساك بالنص من
تحت «من مستوى القراءة نفسها» مقللا من أهمية الانشغال بالنص من فوق «على مستوى
قواعد الانفتاح» كما يفعل غريماس وتلامذته مثلا[43]. وهكذا يصبح جوهر دراستنا هو
البحث في نوع من «الفضاء المفتوح»، لابمعناه المعماري، بل من زاوية قابلية الفضاءات
الروائية للكاتبة الفلسطينية سحر خليفة للقراءة من حيث تكون القراءة تعاونا في صوغ
المعنى الفضائي بين الطرف الفني (المنتج) والطرف الجمالي (المتلقي)، ومن حيث يصبح
الفضاء المفتوح في قراءتنا هذه الفضاء الذي تنتجه البنى النصية وطبيعة الاستجابة من
جانبنا كقارئ فرد ربما، لكنه قارئ يعبر عن جماعة تأويلية معينة. لنقل إننا بصدد
القارئ غير المنتفخ باقتناع تحقق «الصفاء العلمي» في قراءته، بل إننا بمعنى آخر
بصدد «قراءة مرحة»، كما يسميها نيتشه، تنهض على أساس الاستراتيجيات النصية وتولي
الاعتبار الأقصى للتجربة الشخصية ولحقل الوعي الذاتي للقارئ في إنتاج المعنى، معنى
الفضاء وبالتالي معنى النص الروائي.
II.
الفضــاء رحــم المعنــى
عندما
سئل الحكيم، في قصة شرقية شائعة، عن معنى الحياة، أجاب: «الحياة نافورة». ولما سئل
من جديد: «ولماذا هي نافورة؟» رد قائلا: «وإن شئت، فهي ليست نافورة». هكذا ينبني
المعنى، معنى الأشياء ومعنى الكتابة. إنه «اليقين الملفوف بالشك»[44] فعلا.
الإمكانية المفتوحة لكي نمنح لابتكارات المتخيل جوهرا دلاليا حتى تصبح قابلة للتمثل
والاستيعاب والتلذذ.
لذلك،
لا يمكن للفضاء الروائي كتجل لتشييد معين للمتخيل أن يكون بلا معنى. وقد سبق لهنري
لوفيفر أن كتب أن «الفضاء لم يكن أبدا فارغا، بل تكون له دلالة على الدوام»[45]. لايمكن للفضاء أن يكون مجرد مكون مرمي في مساحات النص الروائي بلا معنى. كل شئ، كل
مكون في الخطاب الروائي له معنى ويتعين أن يكون له معنى. ليس هذا في حقل الكتابة
الأدبية فقط، بل لربما في الوجود الإنساني كله. حتى إذا كان هناك شئ بلا معنى، فإن
علينا أن نبتكره له، وإلا فلن تكون الإنسانية جديرة بإنسانيتها على نحو ما أوضحه
بارت[46].
وقد
يكون البحث في معنى الفضاء مفيدا في محاولات التقريب بين النص الأدبي والعمل
التصويري ( pictural)،
وهذا ليس مجال انشغالنا في البحث الحالي، لكنه - وهو يسائل طبيعة ووظيفة المعنى
الأدبي من خلال معنى الفضاء في الكتابة الروائية أساسا - يمكنه أن يطوع بعض
المعطيات النظرية لفن التصوير (Peinture)
لتشغيلها في القراءة الأدبية وفي محاولة الإمساك بحقيقة الكتابة، وذلك لمعرفتنا بأن
«المعنى ممتزج بالحقيقة» وأن «الدلالة هي سبيل الحقيقة»[47].
ربما
كان من المحال أن نتصور - كما أكد ليفي شتراوس في إحدى محاضراته - «معنى ما دون
نظام»[48]، وبالتالي فمن إكراهات نظام الفضاء بالذات أن معنى الفضاء يصعب اجتزاؤه
عن معنى الزمن، ذلك لأنهما معا يشكلان «حوضا دلاليا»[49]. ومن ثم، فإن كل اختراق
لحقل المعنى لن يتم إلا بالمرور عبر فهم وتحليل الفضاء والزمن في تداخلهما الجوهري
العميق من حيث إنهما المركز المستقطب لكل العناصر السردية والحكائية في الخطاب
الروائي. وكما نبه باختين إلى ذلك، فإن هذا الاختراق يمر على الأرجح عبر باب
«الكرونوطوبات»[50]. الكرونوطوب كفضاء رمزي، كبعد من الأبعاد الفلسفية في الكتابة
الروائية، وربما كأحد مميزاتها التجنيسية. لكن اعتبارات التنسيب في كل بحث تستدعي،
على كل حال، عملا إجرائيا بما قد يقتضيه من فصل وأولويات.
ولأن
الدلالة تمثل «أثر التكوين البنيوي» لكل نص[51]، فإن تحليل الفضاء، تحليل معنى
الفضاء، يمنحنا منفذا للإمساك بالدلالة الشاملة للعمل الروائي[52]. ولذلك فإن هذا
الحدث القائم «بين الكلمات وفي عقل القارئ» هذا الشئ الهش الذي نسميه «المعنى»
برغم كل الأهمية التي قد نعطيها له فإنه ليس مطلقا، فهو محكوم بمعايير العقل
والحقيقة، وبالتالي فإن ما نتصوره «واقعية المعنى»، بتعبير إدمون باربوتان، يشكل
نقطة اختلافاتنا مثلما قد يشكل نقطة تلاقياتنا[53]. وبهذه الكيفية، فإنه يصعب أن
يتفق معنى أدبي معين مع قصد واحد. وبالتالي، لذلك تشكل الأعمال الأدبية «نوعا من
الشك»[54]. فهل لذلك أيضا بدا لجورج بيريك - كما مر معنا - أن الفضاء شك؟
لذلك -
فيما نتصور أيضا - ألح دريدا في نسقه الفكري التفكيكي على أن «هوية المعنى ضمن
الاختلاف» تتمثل في تعريفه، حتى أن إمكانية معانيه «الأخرى»، في أماكن أخرى وأزمنة
أخرى تصبح شرط هوية المعنى والآفاق التي يستند إليها المعنى وتظهر فضائيا في لغة
النظريات التفسيرية للظاهراتية لابد أن يعاد التفكير فيها وتعد جزءا من التيمة.
فالظروف الخارجية إنما هي داخل المعنى ولايمكن أن يعني المعنى إلا بفضل الخارج:
«الآخر» الذي يحتويه بوصفه إمكانية القيام بوظيفته»[55]. معناه أيضا أن سؤالنا: كيف
يكون للفضاء الروائي معنى؟ يجد جوابه لا فحسب في هويته المزدوجة: بوصفه «معنى»
تصوغه الكتابة وتعيد القراءة تشييده، ولكن أيضا في تعدد واختلاف كل تشييد جديد في
تاريخ تطور وتراكم قرائه.
ولأن
المعنى، معنى الفضاء ومعنى غيره من مكونات الخطاب الروائي، مضمر على الدوام، «واضح
في صمت» بتعبير ميرلوبونتي[56]، فإنه يصعب في ظل تلاحق القراءات والاستعمالات والتأويلات، أي مجمل أشكال وصيغ التشييد، أن يحافظ النص الروائي (الأدبي عموما) على
تجانس حقله الدلالي حتى وإن ظل تماسكه البنيوي قائما. ولعل أحد أبرز شروط شعريته أن
يبقى «احتياطيا دلاليا قابل للنفاد»[57].
هكذا
يمكن أن يكون معنى الفضاء الروائي أحد أكبر الإشكالات المطروحة في الحقل النظري
والنقدي مما يطرح صعوبات ومشاكل عدة بالنسبة للباحث في الموضوع. لذلك، ليست هناك من
إمكانية للإمساك بمعنى الفضاء واختراقه إلا من خلال تركيبه. «المعنى يجب تركيبه -
يقول كيليطو - وهنا تظهر العلاقة الحميمية بين القارئ والنص، كلاهما يشترك في تركيب
المعنى. لولا هذه المشاركة لما برز المعنى، مع العلم أن المعنى ليس سوى إمكانية لا
تنفي وجود إمكانيات أخرى»[58]. وإذن، كيف تمكن قراءة المعنى، روح النص؟ طبعا، كما
يقترح علينا بارت، بالإسهام في وقائع النص، وذلك لكي يغدو القارئ قادرا على خلق
سياقات مؤتلفة ومختلفة، وعلى نحو تصبح معه كل قراءة بمثابة تحد كبير لذاكرة
القارئ»[59].
واسترشادا ببارت أيضا، يمكننا أن نقول إن قراءة الفضاء معناها أن نجد (نوجد) معاني
الفضاء «وأن نجد المعاني، هو أن نسميها»[60]. هكذا تصبح قراءتنا نوعا من التحقق
اللغوي لـ«أنا»نا القارئة. لا ننس أن الفضاء ليس مصنوعا من أحجار أو من طوب، بل هو
تشييد لغوي. فلا معنى خارج اللغة. هكذا، إذن يغدو الوضع: أن أقرأ الفضاء هو أن أسهم
في بناء معناه. أعيد تكوينه. لكنني، وأنا بصدد هذا التكوين، في نفس الوقت يكونني
النص بدوره. «كتابة نص القراءة»[61] من هنا خطورة الكتابة كما يحددها ديريدا: «لا
تَعقُّل يمنعها من هذا الاستعجال الجوهري في اتجاه المعنى الذي تؤسسه هي، والذي هو
مستقبلها أولا»[62]..يتوقف ديريدا عند أهمية التواصل بين الكتابة والقراءة في نسج
المعنى والتحريض على نهوضه، ومن ثم يرى «أن على المعنى أن ينتظر أن يقال وأن يكتب،
حتى يسكن نفسه ويصبح ما يكون باختلافه عن نفسه، اي المعنى (...). بهذا يستعيد الفعل
الأدبي قدرته الحقيقية في منبعه وفي أصله»[63].نستنتج من ذلك أن الفضاء أو أي مكون
روائي آخر لا يمكنه أن يبقى ساكنا، جامدا بدون أن يعرض نفسه للدور التوليدي العجيب
الذي تنجزه سيرورتان (إحداهما على الأقل): «سيرورة الاستنبات» ( Germination)
و«سيرورة التفكيك» (Destruction)
- بتعبير هنري ميتران في تقديمه لكتاب دوني برتران[64]. وهما سيرورتان تمنحان لحقل
القراءة إمكانيات تأويلية كثيرة، وذلك بإبقائهما على النص مفتوحا ومؤهلا باستمرار
لإنتاج أسباب المتعة الجمالية.
إن
سيرورة الاستنبات، بما هي تعبير عن دينامية النص الداخلية وعن توفره مسبقا على
أرضية مشعة بالمعاني الكامنة، وسيرورة التفكيك، بما هي تنمية متواترة لمناطق التوتر
وعملية مقابلة بين القوى الذاتية المتخاصمة بين ثنايا النص، تجعلان من كل نص أدبي،
من كل مكوناته، خزانا ولودا للمعنى: كل قارئ يؤسس معناه الخاص. كل تاريخ جديد يأتي
لا يستنفد الاحتياطي الدلالي للنص. وفي هذا المنحى كتب بارت يقول:
«إن كل
عصر يمكن أن يعتقد فعلا بأنه يمتلك المعنى الأصولي للأثر، لكن يكفي أن يُوَسَّع
التاريخ قليلا حتى يتحول هذا المعنى المفرد إلى معنى جمع. والأثر المغلق إلى أثر
مفتوح. إن تعريف الأثر الأدبي ذاته يتغير: فهو لم يعد واقعة تاريخية وإنما أصبح
واقعة أنثروبولوجية نظرا لأن أي تاريخ لا يستنفده. كما أن تنوع المعاني لا يترتب عن
نظرة نسبية إلى العادات الإنسانية، ولا يدل على ميل المجتمع إلى الخطأ وإنما يدل
على استعداد الأثر الأدبي للانفتاح. وكون الأثر يمتلك في وقت واحد معاني متعددة،
فذلك ناتج عن بنيته، وليس عن عطب في عقول من يقرؤونه»[65].
لذلك،
فإننا لن نجد لدينا كقراء أية إمكانية للمفارقة والتعارض في أن نعتبر «المعنى على
أنه مرتبط بالتاريخ يتحكم به قصد معين في لحظة معينة» وأن نعتبر في ذات الوقت
«حقيقة ثابتة للنص، تتجسم في كلمة أو مجموعة من الكلمات يتجاوز معناها قصدا معينا
ويمكن أن يفهمها في بنيتها كل فرد يحسن تلك اللغة»[66]. ومن ثم، فالفضاء كما نفهمه
يقدم نفسه للقراءة من خلال تقديم النص نفسه فتشتغل عليه سيرورة الاستنبات، كما أننا
نسعى لنعثر عليه مندسا هنا أوهناك، كامنا في هذه المنطقة من النص أو تلك، فنقوم
بتقطيعه - بالفعل أو بكيفية ذهنية مجردة - ونخضعه لسيرورة تفكيك. وذلك في اتجاه
الارتقاء بمعنى الفضاء إلى مستوى الصياغة العامة للمعنى الكلي للنص، كصيغة للقراءة البارتية التي تضع طبقات عمودية للمعنى، يقوم فيها كل تركيب من تراكيب المعنى
بوظيفة الوحدة البسيطة للمعنى في تركيب المستوى الأعلى منه»[67]. قراءة عمودية تبقى
ضرورية للقيام بما وصفه جان بيير ريشار بـ«نقد الأعماق»[68]، حيث يتم الكشف، عبر
أعماق النص، عن أعماق الذات والذات القارئة في نفس الآن.
III.
أفــق التقطيـع: شـذرات الفضــاء
ربما
كان من البديهي اليوم التأكيد على أن النص (الروائي أو غيره)، بطبيعته الأدبية
واللغوية. وبقوة بنينته وتكوينه، لا يمكنه أن يكون مجموعا متجانسا ولا يمكن معه
كذلك، وهذا ما يؤكده ديريدا من خلال تجربته على الأقل: «ليس هناك من نص متجانس.
هناك في كل نص، حتى في النصوص الميتافيزيقية الأكثر تقليدية، قوى عمل في الوقت نفسه
قوى تفكيك للنص. هناك دائما إمكانية لأن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على
استنطاقه وجعله يتفكك بنفسه»[69]. لذلك، تبدأ عملية تشكيل المعنى بتقطيع النص في
الاتجاه الذي يصبح معه ممكنا أن نحدد كيف تتراتب مكونات النص الروائي بالنسبة لحضور
الفضاء هنا أو هناك بوصفه مكونا بدوره، وبالتالي كيف يحكم أحد هذه المكونات مكونا
آخر، كيف يقابله، كيف يعاكسه أو يراوغه أو يناقضه. ومن ثم، يغدو الإمساك بالمعنى
عبر مجاري الفضاء خاضعا لما أسماه برتران دوني
B. Denis
بـ «الخط الموجه» أو «التيار الهادي» (Le
courant conducteur)
[70] الذي لحم مختلف
مستويات المعنى المتراكمة في النص والموزعة على شذرات ومقاطع متعددة.
نعرف
أن الفضاء، أن معنى الفضاء لن يقدم لنا نفسه بسهولة أو يعرض مؤشراته في هذه المنطقة
أو تلك من الخطاب الروائي بوضوح، وخصوصا لما نتصور أن فضاء النص في الحقيقة هو النص
ذاته. لكن كما أكدت تجربة أمبرتو إيكو، فالمرء «لا يستطيع أن يصف الميدان بأكمله
لنص معين: فكل وحدة للمعنى يمكنها أن ترتبط بوحدات أخرى للمعنى عن طريق سلسلة
لانهاية لها من التأويلات»[71]، والقارئ - الدارس وهو يقوم بقراءته ملزم بإنجاز
عملية عزل للمقاطع التي يعتبرها أكثر امتلاء بالدلالة وفق متطلبات ونوايا دراسته،
وبالتالي - وحسب مثال يقدمه إيكو ويسوقه صاحب «المعنى الأدبي»[72] - فإن المفردة
المعجمية «الرجل»، مثلا، تصاحبها صفات تشريحية معينة يمكن للقارئ أن «يضخمها» أو
«يخدرها» بحسب صلتها بالموضوع. فإذا كان الرجل يركض، فإنه يضخم صفة امتلاكه رجلين،
في حين يخدر صفة امتلاكه البنكرياس (مثلا)». وهكذا فإن نهج القراءة السليم على نحو
ما نجده في نظرية إيكو أو إيزر يمنح لكل مكون قيمته الدلالية ومقدراته التأويلية،
وبالتالي فليست هناك من مقاطع متسكعة، بل كل مقاطع تتعاقب في النص يتطور ويتبلور
معناها في أفق باقي المقاطع التي تسبقه أو تتبعه أو تجاوره. «المهم - بتعبير إيكو -
أن نتذكر أننا لا نلاحظ أية مرحلة «يُنْبَذ فيها» الموضوع»[73].
لذلك
نقترح قراءة شخصية تكون - إذا صح التعبير - عبارة عن قراءة فضائية حتى ولو كانت
الكتابة الروائية التي ندرسها - هنا والآن - زمنية بالمعنى الذي حددناه مع ليسينغ
في فصل سابق. وهي قراءة تحاول أن تجاور مقاطع تختلف سياقاتها في أفق الحصول على
وحدات قراءة، خصوصا لما نعلم أن الكتابة الروائية في الأصل تكتب جزءا بعد جزء،
مقطعا بعد مقطع، ولا يوجد هنالك نص روائي «كليا بجميع أجزائه»[74]. معناه أننا
مضطرون دائما لكي نتعامل مع النص الواحد كمتعدد، كشذرات حاملة للمعنى.
في هذا
المنحى أيضا يقول الروائي الإيطالي إيطالو كالفينو: «إن القراءة ميكانيزم [إوالية]
تستدعي استحضار الذهن والبصر أكثر مما هي تمرين بصري. كما أنها مسار تجريد أو أكثر
تحديدا طريقة لاستخراج العناصر الملموسة من عمليات مجردة كالتعرف على العلامات
الفريدة وتفكيك ما نراه إلى عناصر صغيرة وتجميعها في مشاهد دالة وتلمس في كل ما
يحيط بنا: التوترات والاختلافات والاستثناءات والتكرارات»[75]. قراءة تفكيكية
يؤطرها حس فضائي واضح، قد يهمل المقاطع ذات الهشاشة الدلالية ويتقدم بالمقاطع
الخلفية إلى مقدمة المشهد ليجعلها أكثر نتوءا وأكثر تعبيرا.
إن
المقطع ( Le
morceau)
أو الشذرة (Le
fragment) التي يتم اجتزاؤها من امتداد النص
الروائي، من حيث هي تشخيص لفضاء معين، لها بلاغتها وقوتها الدلالية. الشذرات
(المقاطع) محركات داخلية للكتابة ومنطلقات أساسية لكل قراءة. نفهم ذلك في ضوء
الطابع التركيبي لمفهوم الفضاء باعتباره محددا بعلائقه مع باقي المفاهيم الأخرى
داخل الخطاب الروائي، وايضا من حيث طابعه الدينامي كمفهوم متحرك وفاعل داخل الخطاب،
كمنتج للمعنى.
ولعل
تقطيع النص، تشذيره، هو ما يتيح للقارئ الإمساك بطبيعة العلائق والتوترات في كل نص
أو في مجموعة نصوص للكاتب الواحد. هكذا يكون كل نص عطوبا: ما يكونه هو ما يهدده
دائما. ما يلازم نسق تكوينه يؤسس شروط تفكيكه وإعادة إنتاجه في نفس الوقت. وهذه
القابلية «للعطب» هي التي ترفع من إمكانيات الإخبار الدلالي في الكتابة الأدبية، هي
التي تمنحنا كقراء شيئا للتفكير. تمنحنا، بتعبير أدق، حصتنا في التفكير.
ويتيح
تقطيع النص أيضا طريقة لكي نجعل موضوع بحثنا أكثر مرئية، لكي يصبح الفضاء أكثر
عراء. لنقل إنه يتيح لنا أن نقرأ النص الضمني للنص الذي يقدم نفسه للقراءة. أن نقرأ
رواية داخل الرواية كما يرسم الرسام لوحة داخل اللوحة، لوحة على جدار في غرفة تشهد سيرورة حكائية معينة.
إن
النص الروائي الطويل قد لا يبدو طويلا إلا لمن لا تهمه فيه إلا الحكاية، حبكتها
ونهايتها. أما من تهمه الكتابة وكيمياؤها المعقدة فإنه في كل نص روائي يجد خيطا من الانقطاعات واللحظات وحالات الدفق الروحي. وقد أصبحنا نرى في عدد من نماذج الرواية
العالمية المعاصرة تجارب ناجحة في كتابة روائية واعية بقيمة وشعرية بناء النص
الطويل على أساس شذري خفي: روايات الإيطالي إيطالو كالفينو وخاصة «مدن لامرئية»[76]، النمساوي بيتر هاندكه وخاصة في روايته «المرأة العسراء»[77]،
والألماني هرمان هيسه وخاصة في روايته الجميلة والأقل شهرة «تجوال»[78]، حيث هناك
دائما هاجس تكثيف رواية في صفحة، تكثيف صفحة في جملة، وتكثيف الجملة في كلمة:
«أحيانا ننجح في أن نستريح في لحظة، ثم يولد - ولا يهم أين - فضاء معين»، يقول بيتر
هاندكه[79]. أن ينبجس الفضاء في عمق الزمن ذاته. أن يظهر الفضاء في المقطع الذي لا
ننتظره فيه. وأتصور أنه لو لم تكن الكتابة الروائية تواصلا سرديا مركبا من مقاطع
لما كانت ستتيح للقارئ ما تسميه استتيقا التلقي بمناطق اللاتحديد، ولما وجد المتلقي
في النص «فضاء فارغا» يملأه بتجربته وبإحساسه وفكره وخياله. كما أتصور أن بناء
المقطع وإيلاء أهمية في الكتابة للتفصيل السردي يفتح عين القارئ أكثر على جوهر
النص. وما نقتطعه من النص لنقرأه في عزلته يصبح ناتئا أكثر في حقل الرؤية. كما أنه
يجعلنا نقرأ لا الرواية وحدها، ولكن أيضا مجموعا من أطيافها وظلالها وهوامشها. ألم
يصف غوته الأدب بأنه «شذرة الشذرات»؟[80] والشذرة بالتعريف الاصطلاحي هي «المقطع من الشئ المنكسر»[81] على أن لا تكون نتاج قصدية الكاتب. ومن ثم، فهي تجتزأ بغاية
تعميق التأمل في التفضيل أو بغاية الاستشهاد (اليد الأخرى للكتابة) أو للكشف عن
«النص الضمني الكامن خلف النص المعلن»[82]، وبالتالي لتصبح كل شذرة تعبيرا عن مجموع
النص[83] ( Du «Un -
Tout»)
ولتمنحنا إمكانية التفكير في الموضوع الذي نسائله، بل التفكير في التفكير نفسه، أي
تفكير القراءة في تفكير الكتابة.
وبالرغم من الضرورة المنهجية لعملية التقطيع، ربما بالنسبة لكل مناهج البحث
والتحليل وليس فقط بالنسبة للمنهج الذي أخذنا به في هذه الدراسة، برغم الطابع البيداغوجي أيضا لهذه العملية، يطرح السؤال - ولاشك - حول كيفية إنجاز هذه العملية:
كيف نقتطع النص؟ بل كيف نقتطع مقاطع ونعتبرها شذرات دالة على فضاءات النص أو تحمل
من المعنى ما يجعلها فضاءات؟
هناك
في تصورنا طريقة أولى لاقتطاع الشذرات يمكن أن يعتمدها الباحث تأسيسا على الاجتهاد
النظري للناقد الألماني لوسيان دالينباخ
Lucien DALLENBACH [84]
الذي يحدد مفهوم الشذرة ويميز بين ثلاثة أنواع من الشذرات: نوع أول من منظور
أركيلوجي، ويدل على «البقية أو الفضلة (Le
reste)، الخراب أو الرسم الدارس (La
ruine)، الفتات (La
miette)، الأثر (La
trace)، المذكرة (Le
mémorandum)». ونوع ثان من منظور آخر (Eschatologique)،
وتدل فيه الشذرة على «رشيم (مبدأ) المستقبل» (Germe
de l'avenir). ونوع ثالث تعتبر فيه الشذرة
كفجوة (Habitus)
مطلقة في كلية ضائعة. وبهذا التحديد المتنوع تكون الشذرة كما لو كانت علامة على
ضياع أو فقدان أو محو النص ككل، وفي نفس الوقت كشهادة على نص كامل ينبغي أخذه بعين
الاعتبار سواء كان حاضرا ومتحققا وملموسا أو كان «بنية غائبة» تمارس حضورا عن بعد.
لنقل إن استعمال المقطع (الشذرة) في تشكيل معنى معين هو نوع من الاستعمال لسالب (Le
négatif) النص. وبهذا المعنى أيضا، فإن
«الشذرة، قبل أن تكون تقريبا شكلا لغياب الشكل، هي وعي حاد بضياع الوحدة
والمعنى»[85]، ومن ثم، أهمية أن تتلاقى الشذرات، أن تتصادى وتتخاطب - سلبا أو
إيجابا، لايهم - في أفق استراتيجي واحد هيأته الكتابة وتكمل القراءة تشكيله.
أما
الطريقة الأخرى لتقطيع النص إلى شذرات أو مقاطع تصلح لأن تكون وحدات قراءة فتوجد
أسسها في المفاهيم التي حددها إيزر لضبط الوضعية المرجعية، كما سبقت الإشارة إليها
آنفا، ونعني: السجل، الاستراتيجية، مستويات المعنى ومواضع اللاتحديد. ذلك لأن سجـل
النص يركز على أهمية عمودية التواصل، والتي ينبغي «أن تتقاطع وتتكامل مع أفقية
التنظيم النصي»[86]. كما أن استراتيجية النص، كما يحددها إيزر، فيما هي تصل بين
عناصر السجل وتمد الجسر بين السياقات المرجعية وبين القارئ، فيما تحرص على لحم
النص، تقوم في نفس الوقت بتحديد طبيعة وحدات القراءة التي تسهل مهامها. إنها
استراتيجية يضعها النص الروائي نفسه لتسهر على تخاطب أجزائه ومقاطعه المختلفة في
انتظار قدوم القارئ. «إن مهمة الاستراتيجيات إذن، بالإضافة إلى إقامة ذلك النسق
ولحم أجزاء النص، هي توفير تلك «الإجراءات المقبولة» التي تساعد على قيام التواصل،
ومن ثم تقاطع التنظيم الأفقي للنص مع عمودية التواصل والمعرفة، أي إبراز ما هو جديد
وما يستحق أن يبرز «كعنصر غير مرتقب وسط ما هو مألوف»[87]. أما بخصوص مستويات
المعنى، حيث تحتل العناصر المساهمة في بناء المعنى «مواقعها بالانتقال من «المستوى
الخلفي» إلى «المستوى الأمامي»، وحيث يتم «نزع القيمة التداولية» عن تلك العناصر،
من خلال الانتقاء، لتحتل موقعها الجديد في بناء السياق العام للنص». وبالتالي،
فالأساس هنا هو «انفصال» كل عنصر منتقى عن «عمقه» الأصلي ليطفو على سطح المستوى
الأمامي»[88] [التشديد منا]. ويبقى مفهوم مواقع اللاتحديد، وأهم ما يفيد به عملية
القراءة - في نظر إيزر الذي استجلب المفهوم في الأصل من إينكاردن - هو «الفراغ
التكويني» ( le
vide
constitutif)
الذي يرصع النص عبر امتداداته والذي لا يتوقف عن أن يمتلئ باضطراد عبر القراءة
والتمثل التلقائيين[89].
وهكذا،
يمكننا أن نقتطع وحدات لقراءة الفضاء الروائي بوصفها وحدات تكوينية للنص الروائي،
بوصفها وحدات دلالية، بوصفها أدوات إحالة مرجعية: «ما يذكر لا يكون له معنى إلا
كمرجع لما لم يذكر»[90]، بوصفها فراغات وتباعدات وانفكاكات وطاقة نفي: «حيث يتم رفض
بعض ما يقدمه النص كحقائق أو معارف أو أفكار»[91].
بهذا
المعنى، تأتي الترابطات الغريبة ( Associations
étrangères)
لتمارس وقعها[92]، ولتتوالد مناطق التوتر والقوى المتخاصمة في النص الواحد، وعلى
امتداد مجرى القراءة، ولتتيح لوعي القراءة أن ينبجس داخل فضاء الكتابة ومتخيلها.
وبهذا المعنى أيضا يتأكد أن النص الأدبي هو بالفعل «ملتقى طرق، وموضع للقاءات أكثر
مما هو مكان للعزلة»، بتعبير تودوروف[93].
ولا
أعرف في الحقيقة ما إذا كنت بهذا التقطيع قد قدمت جديدا أو قمت بتحصيل حاصل، أو على
الأقل لست متأكدا من أنني توفقت في مد جسور لتعايش اجتهاد كل من فولفغانغ إيزر في
«فعل القراءة» ورولان بارت، سواء في «س/ز» أو في دراسته البنيوية الشهيرة (التحليل
البنيوى للسرد)[94]. لكن المؤكد أن بارت يلح في دراسته تلك على وجوب تقطيع السرد
وتحديد مقاطع الخطاب السردي في شكل وحدات سردية يقودها منظور إدماجي «ومنذ البداية
ينبغي أن يكون المعنى هو معيار تلك الوحدة؛ والطابع الوظيفي لبعض مقاطع القصة هو
الذي يضع الوحدات (...) فمنذ الشكلانيين الروس والوحدة تتألف من كل مقطع من القصة
يقدم نفسه كتعبير عن تعالق ما»[95] [التشديد منا]. ويشدد بارت، في نفس السياق، على
أهمية الإدماج في لحم وترتيب المقاطع، فالإدماج «هو الذي يمكن من توجيه فهم العناصر
المتقطعة، والمتجاورة، والمتنافرة»[96]، يقول بارت معتبرا «أن صعوبة الانتظام أو
انكسار التركيب ( La
dystaxie)
توجه نحو قراءة «أفقية»، بينما يطرح الإدماج على السرد قراءة «عمودية»..»[97]. وحسب
بارت أيضا فإن «المقطع هو أساسا كل متلاحم لا شيء يتكرر فيه؛ فالمنطق يتوفر هنا على
قيمة محررة يشاركه فيها كل السرد؛ ويحدث أن الناس يطعمون السرد بدون انقطاع بما
عرفوه وما عاشوه، وذلك على الأقل في شكل ينتصر على التكرار ويبني نموذجا لصيرورة
ما»[98]، لعلها هي صيرورة المعنى بالذات الذي «لا يوجد في «نهاية» القصة - كما يقول
بارت - بل يخترقها»[99].
إن
القراءة المقطعية إذن ستنقذنا من سبيلين متباطئين للقراءة، لقراءة الفضاء بالذات:
السبيل الأول يقترحه علينا جان إيف تاديي في كتابه «المحكي الشعري»[100]، فمادام
الفضاء يتحدد في نص ما - في نظره - كمجموع العلامات المنتجة لوقع تمثلي، فإنه يرى
أن ندرس «بنينة العلامات الفضائية، بعض العلامات المنتجة للفضاء في المحكي». قراءة
سيميائية لها أهميتها، لكنها تفضيلية أكثر بالنسبة لمن يأخذ على عاتقه قراءة متن
روائي شاسع. وأكثر تفصيلية منها ما يقترحه علينا هنري لوفيفر كسبيل لقراءة
الفضاء[101]، قراءة يرى أن تنطلق برصد وتجميع أبجدية «المعجم الفضائي» (ماء، خشب،
رمال، إسمنت، حجر، لون...) والمرور بعد ذلك إلى مستواها التركيبي (منازل، مسارح،
مكتبات، بنايات...) للعمل على فرض ومناقشة أسلوبيتها، إلخ؛ وإذ ندرك قيمة الدور
الذي يمكن أن يلعبه المعجم المعبر عن الفضاء المختلف في دينامية الفضائية ( Dynamisme
de
la
spatialité)[102]،
فقد لا تخلو طريقة كالتي نجدها لدى لوفيفر من تعسف على مفهوم الفضاء الأدبي وانحسار
نظر أكيد.
لنقل
بأن عملية التقطيع التي نحتمي بها هنا هي نوع من «تفجير» النصوص الروائية بحثا عن
إمكانيات أخرى مختلفة تجعل الكتابة الروائية غير موقوفة، من حيث معناها، على
تماسكها البنيوي وجمود تكوينها، بل أن تكون بالفعل دائمة التخلق والولادة والامتداد
الدلالي. بتعبير آخر، في المقطعية هناك إمكانية حقيقية للإحساس بكون العمل الأدبي
هو «وحدة ممزقة» يتملكها «تناقض رائع» هو القوة الحيوية للقصد الأدبي، كما يلاحظ
ذلك موريس بلانشو[103]. وبالتالي، فقد لا يفعل التقطيع أكثر من العودة بالنص الذي
يقدم نفسه على أنه «متجانس» و«توحيدي» إلى طبيعته الأولى، تناصيتهُ من حيث «إنه
ترحال للنصوص وتداخل نصي»، فضاء لتقاطع الملفوظات الفضائية القادمة من نصوص أخرى أو
لتنافيها أو تناقضها[104]. لنقل أيضا بأننا بذلك ندرس النص الروائي هنا «كتداخل
نصي، نفكره في (نص) المجتمع والتاريخ»، وذلك عبر وحدات قراءة نقتطعها على شكل مقاطع
روائية، لسانية ودلالية، تظل تأخذ بعين الاعتبار «كلية الإنتاج الروائي»، بتعبير
كريستيفا[105]، أي تظل عملية التقطيع - ينبغي توضيح ذلك أكثر - عملية أركيولوجية
تتغيا «توسيع الإشكالية من خلال السؤال العام للفضاء في الخطاب الروائي» كما يؤكد
ذلك بحق دوني برتران
D.
BERTRAND [106] الذي
أكد على قيمة أن نتعامل مع نص الفضاء كنص «يظهر في الأفق كموضوع بانتظار الوصف،
مهيأ لأن يقارن مع نصوص أخرى ولأن يصب في نمذجة معينة»[107]، ذلك لأننا «لا نستطيع
أن نفكر في مشكلة الفضاء - أو بتعبير أدق، في مشكلة التَّفْضِية (Spatialisation)-
خارج تصور شمولي وتكاملي للدلالة الخطابية»[108].
إن
المقاطع والشذرات الممثلة لوجود بنى فضائية في النص الروائي المتعدد لسحر خليفة
تشكل فضاء تناصيا معينا، فضاء لا يؤسسه أساسا وعي القراءة. وذلك من خلال عملية جمع
المعنى عبر المقاطع المنفصلة والمتباعدة، و«إخضاعها» لمقاربة تركيبية تمد جسورا
عاشقة ومتعاطفة من شأنها أن تلامس «الهوية العميقة الموجودة بين الشذرات
ذاتها»[109]. ومن ثم، يصبح فعل القراءة استكشافا حقيقيا، وتصبح بالتالي عملية
التقطيع طريقة للإمساك بجوهر الروائي ( Le
romanesque). لقد كان رولان بارت (ولنتذكر
ذلك بكثير من الاستيحَاء) يرى أن ما هو روائي ليس إلا «مجرد تقطيع لا بنية
له»[110].
هكذا
نقترح إذن سبيل التقطيع لنقرأ الفضاء الروائي، أو بالأحرى لنقرأ التفصيل الفضائي
كما نقرأ لوحة فنية معلقة أمام بصرنا[111]. نقف بأنوفنا قرب الجدار ثم نتراجع قليلا
كما لو لنختزن ما رأيناه، ثم نعود لنعمق النظر والتأمل والإصغاء لنبض التفصيل،
لنلتقط مجرى هذا التفصيل نحو ما يربطه بتفاصيل أخرى، ولنلامس مادة اللوحة كما لو
لنتأكد من تحقق النتوء. كما لو أننا نريد أن نشم رائحة اللون.
لنتذكر، في نفس المنحى، ما كتبه صاحبا كتاب
L'univers du roman:
«إن الروائي، كالمصور (Le
peintre) أو الفنان الفوتوغرافي، يختار أولا
قطعة من فضاء فيؤطرها، ثم يتموقع على مسافة معينة تجاهها»[112]، ويبدأ الاشتغال
وتحريك الفعل الروائي (السردي والحكائي) والتحري حول المعاني المتعددة للفضاء، حول
أسس بناء (أو حول بناء أسس) المعاني المحتملة للفضاء الروائي.
يفعل
الكاتب ذلك، فكيف لا يعمقه القارئ؟!
[1] - انظر: عبد الفتاح كيليطو، «مسـألة القراءة»، ضمن كتاب
المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، للعروي، وكيليطو، والفاسي الفهري، والجابري،
مرجع مذكـور، ص. 19، وأيضا: عبد الفتاح كيليطو، الحكاية والتأويــل، دراسات في
السرد العربي، الدار البيضاء، دار توبقال، الطبعة الأولى، 1988، ص. 21.
[2] - Cf., José MORAدS,
La perception de l'espace et le temps», in L'espace et le temps aujourd'hui, op.
cit., p. 150.
- [3]Ibid., p. 150.
[4] - Ibid., p. 150.
[5] - W., ISER, L'acte de lecture, op. cit., p. 161.
[6] - ستينميـز، ذكره إلرُود إبش، «التلقـي الأدبــي»، ترجمة محمد
برادة، مجلة دراسـات سيميائيـة أدبية لسانيـة، العدد السادس، خريف - شتاء 1992، ص.
23.
[7] - ستـاروبنسكي في تقديمه لكتاب هانس روبير ياوس:
Pour une esthétique de la perception (الترجمة الفرنسية)،
انظر مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، مرجـع سـابق، ص. 45. (ترجمة محمد
العمـري).
[8] - إلْرُود إبش، مرجـع سابـق، ص. 16.
[9] - Georges POULET, in Qu'est-ce qu'un texte?, op. cit., p.
66.
[10] - Ibid., p. 66 - 67.
[11] - Iouri LOTMAN, La structure du texte artistique, op.
cit., p. 55.
[12] - وليـم راي، المعنـى الأدبــي، م.م، ص. 76.
[13] - المرجـع السـابق، ص. 208.
[14] - انظر مناقشـة عبد السلام بنعبد العـالي لمداخلة عبد الفتاح
كيليطو، ضمن كتاب: المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانيـة، م.م، ص. 39.
[15] - Georges POULET, in Qu'est-ce qu'un texte?, op. cit., p.
65.
[16] - Montaigne, in Michel ERMAN, L'CARSPECIAUX 156 "Times New Roman Euro"il de Proust,
Paris, Ed. A. - G. NIZET, 1988, p. 122.
«La parole est moitié à ce qui parle, moitié à celui qui
écoute».
[17] - ميشـيل فوكـو، نظـام الخطـاب، ترجمة د. محمد سبيـلا،
بيروت، دار التنوير، الطبعة الأولى، 1984، ص. 19.
[18] - Maurice BLANCHOT, L'espace littéraire, Paris, Gallimard
(Idées), 1955, p. 305.
[19] - Edmond BARBOTIN, «Présupposé et requêtes de l'acte de
lire», in Qu'est-ce qu'un texte?, op. cit., p. 123.
[20] - Maurice BLANCHOT, op. cit., p. 10.
[21] - R. BARTHES, S/Z, op. cit., p. 10.
[22] - انظـر وليم راي، المعنـى الأدبي، م.م، ص. 25.
[23] - نفســه، ص. 75.
[24] - هنري جيمس، «قارة أدبية مجهولة»، عن الملحق الثقافي لجريدة
الاتحاد الاشتراكي، العدد 109، 22 دجنبـر 1985.
[25] - انظر التقديم النقدي الذي أنجزه حول هذا الكتاب إبراهيم
الخطيب، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 118، 23 فبراير 1986 -
(صص. 4-6).
[26] - نفســه، ص. 6.
[27] - نفســـه، ص. 4.
[28] - Charles CRIVEL, Production de l'intérêt romanesque: un
état du texte (1870 - 1880) (un essai de constitution de sa théorie), Ed.
Mouton, 1973, p. 32
[29] - Ibid., p. 17.
[30] - Ibid., p. 20.
[31] - Ibid., p. 21.
[32] - Iouri LOTMAN, op. cit., p. 334.
[33] - Michel BUTOR, Répertoire II, op. cit., p. 43.
[34] - انظر: عبد العزيز طليمات، «الوقع الجمالي وآليات إنتاج
الوقع عند فولفغانغ إيزر»، دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد 6، خريف - شتاء
1992، ص. 58.
[35] - نفســه، صص. 58 - 62. ونشير إلى أننا سنسترشد بهذه الدراسة
الجيدة في توظيف مفاهيم إيزر المشار إليها في تتبع وتشغيل المفهوم المركزي لبحثنا
(الفضاء)، استنادا بطبيعة الحال إلى مؤلف إيزر L'acte de lecture
واعتمادا على طموح وروح المغامرة التي تقتضيها سيرورة البحث نفسه.
[36] - عبد الفتاح كيليطـو، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد
الاشتراكي، العدد 66، الأحد 24 فبراير 1985، ص. 6.
[37] - نفســه، الصفحة نفسها.
[38] - د. محمد مفتاح. انظر الحوار الذي أجرته معه مجلة آفــاق
(الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب)، العدد 1، السلسلة الجديدة، 1990، ص. 164.
[39] - انظـر وليم راي، المعنــى الأدبــي، م.م، ص. 17.
[40] - Steffen NORDAHL LUND, L'aventure du signifiant (une
lecture de Barthes), Paris, Ed. PUF, 1981, p. 21.
[41] - Umberto ECO, L'CARSPECIAUX 156 "Times New Roman Euro"uvre ouverte, op.
cit., p. 10.
[42] - Jules GRITTI, Umberto Eco, Paris, Ed. Universitaires,
1991, p. 34 - 35.
[43] - Ibid., p. 34.
[44] - عن قراءة في فكر
وتجربة بيتر بروك (عبد الواحد عوزري)، انظر: الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد
الاشتراكي، العدد 113، 19 يناير 1986.
[45] - Henri LEFEBVRE, La production de l'espace, op. cit., p.
180.
[46] - Roland BARTHES, cité par Gérard GENETTE, Figures I, op.
cit., p. 194.
[47] - Roland BARTHES, S/Z, op. cit., p. 68.
[48] - كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي،
الدار البيضاء، منشورات عيون المقالات، الطبعة الثانية، 1986، ص. 14.
[49] - نستعير هذا التعبير الاصطلاحي من جلبير ديران، عن كتاب
محمد سبيلا، حوارات في الفكر المعاصـر، الرباط، مؤسسة البيادر للنشر، الطبعة
الأولى، 1991، ص. 192.
[50] - M., BAKHTINE, Esthétique et théorie du roman, Paris, Ed.
Gallimard, 1978, p. 398.
[51] - Charles CRIVEL, Op. cit., p. 54.
[52] - Jean WEISGERBER, L'espace romanesque, op. cit., p. 228.
[53] - Edmond BARBATIN, in Qu'est-ce qu'un texte?, op. cit.,
pp. 146 - 149.
[54] -
وليم راي، المعنــى
الأدبــي، م.م، ص. 23.
[55] - نفســـه، ص. 161.
[56] - MERLEAU PONTY, Le visible et l'invisible, op. cit., p.
267.
[57] - - Umberto ECO, L'CARSPECIAUX 156 "Times New Roman Euro"uvre ouverte, op.
cit., p. 23.
[58] - عبد الفتاح كيليطـو، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد
الاشتراكي، م.م.
[59] - إديث كيروزيـل، عصـر البنيويـة، من ليفي شتراوس إلى
فوكــو، مرجـع مذكـور، ص. 197.
[60]- R., BARTHES, S/Z, op. cit., p. 17.
[61] - Steffen NORDHAL LUND, L'aventure du signifiant..., op.
cit., p. 91.
[62] - جاك ديريدا، الكتـــابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهـاد، م.م،
ص. 143.
[63] - نفســـه، ص. 142.
[64] - Henri MITTERAND, in L'espace et le sens, Op. cit., p.
11.
[65] - رولان بارت، النقــد والحقيقــة، ترجمة إبراهيم الخطيب
(مراجعة محمد برادة)، الرباط، مؤسسة سمير، الطبعة الأولى، 1985، ص. 54 - 55.
[66] - المعنـى الأدبي، م.م، ص. 10.
[67] - نفســه، ص. 194.
[68] - Michel COLLOT, «Thématique et psychanalyse», in
Territoires de l'imaginaire (pour Jean Pierre Richard), Paris, Ed. Seuil, 1986,
p. 214.
[69] - ديريــدا، الكتابــة والاختــلاف، م.م، ص. 49.
[70] - B., DENIS, L'espace et le sens, op. cit., p. 189.
[71] - انظـر: المعنــى الأدبي، م.م، ص. 148.
[72] - نفســـه، ص. 148.
[73] - نفســه، ص. 155.
[74] - نفســــه، ص. 29.
[75] - إيطالــو كالفينــو، «المكتوب واللامكتــوب، هندسة العالم
في كلمــات»، ترجمة مبارك الشنتوفي، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي،
العدد 92، 24 غشت 1985.
[76] - إيطالـو كالفينــو، مدن لامرئيـــة، ترجمة ياسين طـه حافظ،
بغداد، دار المأمون للترجمة والنشـر، الطبعة الأولــى، 1987.
[77] - بيتـــر هاندكــه، المــرأة العســراء، ترجمة: مـاري طـوق،
بيروت، دار الآداب، الطبعة الأولى، 1990.
[78] - هرمـان هيسـه، تجـــوال، ترجمـة: طاهـر ريـاض، عمــان، دار
منارات للنشـر، الطبعة الأولى، 1990.
[79] - Peter HADKE, cité par Alain, MONTAUDON, Les formes
brèves, Paris, Ed. Hachette, 1992, p. 11.
لمزيد من فهم آليات الكتابة الروائية عند بيتر هاندكه، يمكن أيضا
الرجوع إلى الكتاب الذي كتبه عن تجربته في الحياة والكتابة مترجم مؤلفاته إلى
الفرنسيـة: Peter Handke, Par G. A. GOLDSCHMIDT, Paris, Ed. Seuil,
1988.
[80] - Voir Alain MONTAUDON, Les formes brèves, op. cit., p.
78.
[81] - Ibid., p. 77.
[82] - Ibid., p. 79.
[83] - Ibid., p. 80.
[84] - Ibid., p.87.
[85] - Ibid., p. 94.
[86] - انظـر دراسـة طليمات حول الواقع الجمالي...، دراسات
سيميائية أدبية ولسانيـة، مرجـع مذكـور، ص. 58.
[87] - نفســه، ص. 62.
[88] - نفســه، الصفحـة نفسها.
[89] - W. ISER, L'acte de lecture, op. cit., pp. 289 - 297.
انظر أيضا الترجمة الجيدة لفصل من كتاب إيزر (بعنوان: «التفاعل
بين النص والقارئ»)، ترجمة د. الجيلالي الكدية، (مراجعة د. محمد العمري)، مجلة
دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد 7، 1992، صص. 7 - 15.
[90] - انظـر: الترجمة السابقة لدراسة إيزر، م.س، ص. 10.
[91] - دراسة طليمات حول الوقع الجمـالي...، م.س، ص. 63.
[92] - W., ISER, L'acte de lecture, op. cit., p. 131 - 132.
[93] - تودوروف، (حوار مع)، ترجمـة: محمد برادة، مجلة الكرمـــل،
العدد 15، 1985، ص. 300.
[94] - رولان بارت، «التحليل البنيوى للســرد»، ترجمـة: حسن
بحراوي، بشير القمري، عبد الحميد عقـار، مجلـة آفــــاق (الصادرة عن اتحاد كتاب
المغرب)، ع. 8 - 9، 1988.
[95] - نفســه، ص. 11.
[96] - نفســـه، ص. 26.
[97] - نفســه، الصفحـة نفسها. ويمكن أيضا أن نشير إلى انتباه
صاحب «الفضـاء الروائي...» (م.م) لأهمية البعد العمودي في قراءة الفضاء، ولو بشكل
عابر، باعتباره بعدا قابلا لتشكيلة عريضة من احتمالات المعنى. Cf.,
J., WEISGERBER, L'espace romanesque, op. cit., p. 228.
[98] - نفســـه، ص. 27.
[99] - نفســه، ص. 100.
[100] - Jean Yves TADIة,
Le récit poétique, op. cit., p. 48.
[101] - Henri LEFEBVRE, La production de l'espace, op. cit., p.
312.
[102] - Gerges MATORE, L'espace humain, op. cit., p. 34.
[103] - Maurice BLANCHOT, L'espace littéraire, op. cit., p. 309
- 310.
[104] - انظـر: جوليا كريستيفا، علـم النــص، ترجمـة فريد الزاهي،
(مراجعة عبد الجليل ناظم)، م.م، ص. 21.
[105] - نفســه، ص. 22.
[106] - B., DENIS, L'espace et le sens, op. cit., p. 24.
[107] - Ibid., p. 18.
[108] - Ibid., p. 17.
[109] - Georges POULET, in Qu'est-ce qu'un texte?, op. cit., p.
77.
[110] - رولان بارت، لــذة النــصً، م. س، ص. 33.
[111] - Voir Bertrand DENIS, L'espace et le sens, op. cit., p.
62.
[112] - Roland BOURNEUF et Réal, OUELLET, L'univers du roman,
op. cit., p. 109.
|
|
|
|
|