حسن نجمـي

الفصل الســابـع

الفضــــاء الأنثـوي

 

 

 I - عتبات قـراءة أنثى سحـر خليفة

دأبت عدة كتابات نقدية مهتمة ومواكبة لما سمي حتى الآن بالكتابة النسائية العربية[1] على الانتباه لأنثى سحر خليفة باحتفاء كبير. وذلك من زاوية نظر متضامنة مع نموذج «البطلة» الذي تقترحه الكاتبة الفلسطينية. تلك «البطلة» التي تعلن ثورتها الخاصة في قلب «"ثورة منتكسة مغدورة من داخلها»[2]، وتقدم «مشروعا لشخصية نسائية إنسانية جديدة لم تألفها الرواية التي كتبتها المرأة من قبل»[3]. ولا تجد هذه الدراسة غضاضة في التعبير عن هذا الاحتفاء بالقول: «وتضم رواية سحر خليفة «عباد الشمس»[4] مشهدا نادرا تخلع فيه الفتاة الفلسطينية حزام العفة الجنسية، وتلبس للشرف ثوبه النضالي الوطني والشمولي الأصيل. فحين يمسك الجندي الإسرائيلي بفتاة فلسطينية تتظاهر مع رفاقها الطلبة ضد الاحتلال في الضفة، وحين يعجز هذا الجندي عن كسر عنفوانها بالضرب، يتكئ على عقدة الخوف الكلاسيكية العربية على العرض: «ما بتخافى من الضرب عرافيت، أنا بعرف على إيش بتخافي»..لكن الفتاة الجديدة تشق مريولها المدرسي عن الصدر، وتجيب الجندي/ «قصدك على هذا ..ولا على هذا بخاف»، حيث يعلق د. عفيف فراج بالقول: «هذه المرأة الجديدة، التي تخاطر بالجسد الطبيعي من أجل الوصول إلى تحرر عام تلتقي ذاتها الحرة في إطاره هي البديل للنمط الشوفينيي الأحادي البعد الذي تقدمه نوال السعداوي...»[5].

 

وفي كتابها «الرواية النسوية في بلاد الشام...»[6]، تحتفي إيمان القاضي بالروايات الفلسطينية أو ذات الموضوع الفلسطيني التي أظهرت «مفهوما ناضجا لحرية المرأة»، وإن كانت تسجل أننا لا نلتقي بنماذج كثيرة بهذا المعنى نظرا لهيمنة صورة المرأة النمطية (البيت، الزوج، الأولاد...). ومن ثم تسوق بعض الأسماء الروائية النسائية التي تعتبر رؤيتها للمرأة نموذجية وفي مقدمتهن تدرج إسم سحر خليفة. ورغم أن هذه الباحثة السورية تنتبه إلى كون الشخصيات «جاهزة لم تتغير تغيرا كبيرا...»[7]، وتعمد الكاتبة إلى إلصاق كلامها على شفاه بعض شخصياتها إلى درجة أن هناك بعض الشخصيات غير مثقفة وتتكلم لغة وخطابا ليسا لها...[8]، فإنها مع ذلك تنوه بالنموذج النسوي الذي تسعى سحر خليفة إلى تكريسه والانتصار له. ونراها تعود في خاتمة دراستها لتسجل أنه «على الرغم من الملاحظات السابقة بشأن الروايات ذات البنية التقليدية فإن هناك بعض الأعمال المتفوقة التي تدل على نضج كاتباتها وموهبتهن، وقدرتهن على الخلق والابداع، ومشاركتهن النشطة في إثراء الفن الروائي العربي، وتأتي في مقدمتهن سحر خليفة»[9].

 

وفي نفس السياق نقرأ في شهادة للروائية الفلسطينية الأخرى ليانة بدر «حول الكتابة النسائية الفلسطينية»[10] أن «سحر خليفة عبرت في رواياتها عن المفاصل الرئيسية في صراع الشعب ضد الاحتلال. وتحكي خليفة في رواياتها صراع النساء ضد القهر الاجتماعي المتمثل في الأعراف القديمة التي تميز بين الذكر والأنثى، وتجعل من المرأة أضحية على مذبح القيم التقليدية التي تعاملها بدونية وتمييز. وقد التفتت سحر إلى مجتمع الاحتلال كي تشير إلى أنه من الضروري العمل على إلغاء هذا التفوق الوهمي بينهما رجوعا إلى النضال العظيم الذي تقوم به نساء الأرض المحتلة وسط هذه الظروف القاسية».

 

أما د. فيحاء قاسم عبد الهادي، الباحثة الفلسطينية، فهي ترى أننا نقرأ وعي المرأة وتطورها من خلال ما كتبته المرأة الفلسطينية، وفي تقديمها لكتابة سحر خليفة، خاصة روايتها «عباد الشمس» يتبدى تقديرها لنماذج الشخصية النسائية التي تشيدها الكاتبة لالتقاط عناصر التناقض التي يمتلئ بها الواقع الفلسطيني. وتقف هذه الناقدة عند نموذج «سعدية» في الرواية، أحد نماذج الشخصيات في كتابة سحر خليفة، لتحتفي على الخصوص بمسار تطورها على مستوى الوعي والتجربة «فمن انسانة جاهلة بسيطة تعتمد على الزوج وتنتظره إلى إنسانة عاملة مكافحة. تتطور من إنسانة ترتعد أمام أي مشكلة الى إنسانة قادرة على الوقوف أمام الصعاب ومجابهتها. ومن إنسانة لا تمتلك غير أن تقول «منشان الله» مستنجدة حين تواجه المحتلين إلى إنسانة تقاوم المحتلين بالحجارة وتضربهم غير عابئة بشيء. إن سعدية هنا ليست علامة إيديولوجية أو شخصية مبشرة، بل انها نموذج إنسانة عادية تعيد صياغته الشروط فيصبح لا عاديا حتى عندما يتراءى أنه عادي منذ البداية حتى النهاية»[11].

 

وضمن سياق احتفاء الدكتور علي الراعي بنماذج مختارة من الرواية العربية، يقف الناقد المصري المعروف عند «الصبار" و«عباد الشمس» في كتابه النقدي "الرواية في الوطن العربي»[12]. وبعد أن يقدم المتن الحكائي الممتد على طول الروايتين معا، يحاول أن يبدي وجهة نظر تجاه كتابة سحر خليفة، وعلى الخصوص حول نظرتها للوضع الاعتباري للمرأة الفلسطينية كما تقدمه من خلال نماذج نسائية متعددة (سعدية، خضرة، نوار، رفيف).

 

إن النموذج النسائي الذي تكتبه سحر في «الثنائية» هو نموذج المرأة التي «تحررت تحررا فعليا، أملاه الواقع ولم تحدد مساره النظريات»[13]، وباستعراض د. علي الراعي للعناصر الحكائية للروايتين، نجده يختار بعناية مواقف نسائية تجسد مدى تعاطفه مع هذا النموذج. إن «نوار» ترفض الاستمرار في الانتظار الرومانسي لرجل مناضل يقضي العمر في المعتقل، ترفض أن تظل «معلقة بحباله» في حين أن الشباب ينصرم و«السنة القادمة غير السنة الرايحة»، ولم يعد ممكنا أن تقف طويلا في طوابير النساء الواقفات بانتظار زيارة السجناء «أترى ما رأى؟ لا تسل: من يدافع عن البلد؟». كما أن «رفيف» ترفض تقنين حركاتها وتأبى أن يصهرها التاريخ كرقم من الأرقام «أرفض أن أوأد في معبد أو بطن الحوت».

 

يضيف د. الراعي ضمن عرض الوقائع المختارة: «ولرفيف شكوى جهيرة الصوت من الرجال ومجتمع الرجال. تقول لنفسها: لن تحل مأساة الشعب وهؤلاء هم القادة: عادل وأمثاله. أنا نصف الشعب. أنا المرأة. أنا النموذج الذي يمارس عليه عادل تطبيق النظرية. عاجز هو عن رؤية واقع المرأة ومتطلباته. ماذا يقدمه للمرأة؟ ما حل بالمرأة الجزائرية بعد الاستقلال. ناضلت وحملت السلاح وتعذبت في سجون فرنسا ثم أعادوها إلى قاعدة الحريم وغطاء الرأس، وخرجوا هم إلى النور. ماذا أعجب عادل في؟ يشتهيني ويطالبني بشيء آخر. يحمل عبء حركة التاريخ وحمل عبئه هو. ويطالبني بالذكاء والثقافة والعمل المستمر. ويطالبني بأن لا تهون قواي وألا أتعثر. يطالبني أن أكون رجلا وأن أكون امرأة وأن أكون حمارة. أن أرى ما أرى وأظل حمارة. أعد العصي ولا أترنح. ويطالبني أن أكون وقودا للثورة البردانة. ووقودا لبروده هو. رفيف ترى أن تحرر الشعب لا يتم إلا من خلال تحرير المرأة. والمساحة التي تفردها سحر خليفة لهذه القضية تشي بأنها قضيتها هي في المحل الأول»[14]. ثم يحتفي الراعي بنموذج «سعدية» التي تنطقها التجربة ويجعلها الواقع الملموس تعيد بناء وعيها بالأشياء والبشر والعلائق وتنحاز - بعد طول امتثال - إلى خط المواجهةباتجاه تحررها الفعلي. وبعد أن يقدم المؤلف سردا لحكاية «سعدية»، يشيد بقدرة سحر خليفة وبأن لها «براعة ملحوظة في تصوير الناس العاديين من كل المعتقدات والمناصب وتظهر براعتها بصفة خاصة في تصوير النساء العاملات وغير العاملات». يسجل في نهاية قراءته أنه لولا بعض الزوائد ولولا ضعف عملية التشذيب وقلة التركيز «لما وجد النقد شيئا يقوله في ثنائية سحر خليفة سوى المدح الخالص»[15].

 

غالب هلسا في قراءة انطباعية تحليلية لرواية «الصبار»[16] يعتبر أن سحر أبانت عن رؤية نافذة للواقع الفلسطيني، هذه الرؤية «التي ألغت المقدس لصالح الواقعي، أصبحت بعد أكثر من عشر سنوات من كتابة الرواية نبوءة». كما لاحظ «أن شخوص هذه الرواية لا تكرر نماذج سابقة وثابتة، ولكنها تعيد بناء الانسان المناضل من خصائصه الواقعية، ومن ظروفه المحددة».

 

إن تجاوز النماذج الأدبية، التي ترسخت في وجدان الانسان العربي، هذه النماذج التي تستمد حياتها من حماس شعبي لا يفتر، ومن إعلام رسمي يدعمها.. ان هذا التجاوز بالذات هو ما يميز رواية سحر خليفة»[17].

 

أما الروائي والناقد الفلسطيني فاروق وادي فيرى أن الكاتبة تخرج «من تلقائيتها حينما تصر على «نمذجة» شخصياتها الروائية، أي خلق الشخصية النموذج التي تشكل معادلا لفكرة أعدت سلفا، فتصوغ الشخصية حسب مواصفات الفكرة»[18]. وفي نفس القراءة، يبدي وادي انتقادا لدرجة الوعي بمسألة المرأة.

 

إن «هذا الوعي يسقط فنيا حين يعجز عن إيجاد معادله وشكله الروائي». ويضيف ملاحظة أخرى قائلا: «في رواية سحر خليفة تغيب قوة الحدث المحوري والمتنامي، وتحل مكنانه الشخصيات والأفكار، وأحيانا الشخصيات - الأفكار. ولذلك، فإن البحث في الرواية هو بحث في الشخصية والفكرة، والشخصية - الفكرة. تطمح سحر خليفة في «عباد الشمس» إلى المزاوجة بين هموم الوطن تحت الاحتلال وهموم المرأة تحت ذات الشرط...«قضية المرأة جزء أساسي من قضية الوطن» (ص. 17)، مثلما تطمح إلى تعرية الموقف الانفصامي للمثقفين بين القناعة السياسية والايديولوجية بعموميتها وبين الموقف والممارسة من قضية محددة هي المرأة»[19].

 

فاروق وادي يسوق ملاحظة تتصل ببنية الكتابة، إذ يرى أن سحر تبدي قدرة على رسم الأجواء الحارة في المكان الشعبي، وتصل - برأيه- إلى ذروة امتلاك اللغة الشعبية عندما يتعلق الأمر برصد وتقديم تحركات وتعبيرات الشخصية الأنثوية. «مقابل ذلك، تخفق سحر عندما تقحمنا عنوة في أجواء المثقفين الباردة، فتهجر إلى المقال السياسي والفكري عادم الحرارة الفنية. وعندئذ يشهد البناء الروائي تهاويا ملحوظا لا تشفع له صحة الطروحات السياسية والفكرية الناضجة، والعاجزة في الوقت نفسه عن ايجاد معادلها وشكلها الفني»[20].

 

من جهة أخرى أبدى الناقد المصري فاروق عبد القادر - وهو ناقد مواكب لأعمال سحر خليفة ومتعاطف جدا مع تجربتها الأدبية - تبرما من هذا النزوع الأنثوي المبالغ فيه، والذي يصل حد كيل الهجاء للرجل.

 

يكتب ف. عبد القادر في قراءة له حول «باب الساحة» ضمن كتابه «من أوراق الرفض والقبول»[21] بأنه سبق أن كتب عن الأعمال السابقة لسحر خليفة (لم نعد جواري لكم، الصبار، عباد الشمس، مذكرات امرأة غير واقعية) - وهي قراءة لم نطلع عليها - وفي نهاية كتابته النقدية تلك، كتب: «رغم السخرية تظل حقيقة صادقة ومتماسكة وصافية كالبللورة: نعم. ثورة المرأة الفلسطينية جزء من الثورة الفلسطينية، فقط: دون أولويات زائفة تضع الجزء قبل الكل، ودون أن ينفي الكل الجزء، أو لا يوجد إلا بعدمه. ثمة علاقة جدلية ضرورية: لا يمكن تثوير المرأة إلا في رحم وضع ثوري، ولا يمكن تحقق الثورة بكل شروطها إلا في حضور امرأة ثورية...»[22]

 

وهكذا، بينما انتظر فاروق عبد القادر - بتعبيره في نفس القراءة القديمة - أن يظهر عمل جديد للكتابة متطلعا لأن ينهي إقامتها الطويلة «على هذا المقعد بين المَقْعَدَيْن»، جاء الجواب في «باب الساحة»، حيث قدمت الروائية القلسطينية «وجها جديدا من وجوه مدينتنا القديمة: وجه نابلس التي تعيش الانتفاضة»[23]، لكن وضعية البينَ بين تعود للظهور من جديد كانشغال مركزي في كتابة سحر: «المرأة في قلب «باب الساحة». المرأة قلب أعمال سحر خليفة، ولكن: أية امرأة هي التي تطالعنا بها الآن؟ الشخصيات النسائية في الرواية: نزهة وزكية وسمر هي التي تشغل القدر الأكبر من الاهتمام والتفصيل. وكلهن واقعات تحت قهر الرجل، بدرجة أو بأخرى، وبشكل أو آخر...»[24].

 

ويستعرض فاروق عبد القادر المَشَاهد النسائية في «باب الساحة» ليصل إلى مشهد «سَمَر» التي جاء منع التجول في بيت «نزهة» (المشبوه) دون أن تتمكن من العودة إلى البيت، وإحساسها بالمهانة حين كانت تتساقط على جسدها ضربات الأخ الأكبر: «وانطلق الآذان فجأة فأحست بالموت، فلا الاحتلال ولا الجيش ولا كل عفاريت الأرض، أقدر على سحقها مما سُحِقَتْ». من ثم، يعلن الناقد المصري عن موقفه إزاء نظرة سَحَر للرجل:

 

«في هذا المشهد تبلغ هجائية سحر خليفة للرجل قمتها. لم تتخل سحر عن هذه الهجائية أبدا، حتى الصيغة الجديدة للرجل الملثم لا تنجو منها!

 

«نعم، هي هجائية للرجل: الحاضر والغائب، المناضل والمتخلي، الشاب والشيخ، الأب والزوج والأخ: هذا أحمد يصدر حكما بالإعدام على أخته التي رعته ويتربص بها، حتى تفر منه، وهذا حسام نفسه: يقسو في معاملة نزهة التي تقدم له مأوى واهتماما غير مشوب، وقسوته - قبل أن يلجأ لبيتها وبعد أن لجأ - لا منطق لها، تبدو حجج نزهة في مواجهته ناصعة بينة، ويبدو موقفه القاسي جامدا وتقليديا وغير مبرَّر.

 

«وفي هذه الهجائية يشغل «السياسي» أو «المناضل» مكانه اللائق. وهنا حكاية مترددة عن المناضل الذي يتخلى عن رفيقته في النضال، ويتزوج من سواها، ويقطع ما بينه وبينها، أو يبقيها عشيقة في أفضل الأحوال، مرتين تتردد هذه الحكاية في «باب الساحة» (...)

 

«إتمام هذه الهجائية دَفَع سَحَر لأن تكتب أضعف فصول روايتها («اعتقال مركب»، صص. 153-168)، وهو الفصل الذي تأتي فيه أم حسام إلى بيت نزهة، هاربة من زوجها لائذة بزكية.

 

هذا الفصل كله خارج السياق الروائي وما يقدمه عن قسوة «الوجيه» الذي يلعب أدوارا ثلاثة متماثلة: أبا لحسام، وأخا لزكية، وزوجا لهذه السيدة الآبقة، سبق أن عرفناه في صياغات موجزة من قبل، فهو لا يضيف شيئا سوى إحكام حلقة الاتهام حول الرجل في أدواره الثلاثة تلك. حتى لا يستطيع الفكاك!

 

«هجاء الرجل يكمله - بالضرورة - مديح المرأة:

.. النسوة الثلاث يضعن خطة هدم الجدار الإسمنتي وينفذنها، دون تلكؤ، وزكية تحمي الشاب وتؤمن الطرق «للملثمين» في الليل لأنها «لا تخشى»، وسمر تقف أمام أخيها الذي أوسعها ضربا، تحميه من مرور الدورية، ونزهة هي التي تحرق العلم الإسرائيلي في النهاية.

 

«ولستُ - شخصيا - أعارض كيل المديح للمرأة، رفيقة وشريكة في النضال والمصير، ما أعارضه هو افتقاد الإنصاف. بعبارة أخرى: أكان لابد كي تبرز سحر خليفة دور المرأة أن تبخس دور الرجل؟ كل الرجال الذين عرفناهم في «باب الساحة» - سواء كان حضورهم حيا أو من خلال مستدعيات الآخرين - جديرون بالنقد واللوم لما فعلوه أو لما يمكن أن يفعلوه، وليس ثمة رجل واحد ناجٍ في عالم سحر خليفة. فإلى أين يمكن أن يؤدي بها - وبأعمالها هذا العداء «الشوفيني» للرجل؟»[25].

 

في القراءة الأولى لفاروق عبد القادر اختار عنوانا لمقالته سؤالا: تحرير المرأة أم تحرير فلسطين؟ وبعد أن عاد ليكتب عن التجربة نفسها من خلال «باب الساحة»، وتأكد مما سماه «ميزان الإنصاف الذي مال في يد سحر خليفة، وبدت في عملها زيادات ونتوءات لاضرورة لها»، اختار سؤالا آخر للقراءة الجديدة: قهر الرجال أم قهر الاحتلال؟

 

ناقد ينحاز إلى التجربة، لكنه لا يخفي انزعاجه من إغراقها في نزعة نسوية فوضوية. وذلك ما نستشعره من قراءات الناقد الفلسطيني فخري صالح الراصدة لأعمال سَحَر خليفة.

 

عموما يمكننا أن نلاحظ أن فخري يضيء هذه الأعمال الروائية، فهو بقدرما ينم عن تقدير للتجربة لا يبدي تجاهها - في نفس الوقت - أية رحمة. يبدو قاسيا، لكن بدون تجاوز. ويبدو ممسكا بآليات القراءة النقدية من حيث لا يفصل بين الشكل والدلالة، لكنه لا يحجب عثرات النص ولا يجد لها أعذارا أو ذرائع. هكذا نفهم أن لغة الكتابة في الغالب هي لغة تفسر الفكر الكامن، فحيث «يعجز السرد الروائي عن تجسيد هدفه من داخله يلجأ الكاتب إلى التفسير مختفيا وراء صوت الراوي يوجهه وينطقه بما يريده»[26]، وحيث «تعجز الشخصية يتدفق الترجيع الشعري وتلجأ الشخصية إلى المتخيل تستعيض به عن المشهد الواقعي، فتنتفي اللغة الشعرية نفسها لينتصب الفعل الواقعي مكانها..»[27] (مثال سَحَر في رواية «الصبار»). ومن ثم، يرى فخري صالح أن الاعتماد على الاسترجاع واللغة الشعرية قد يثير سؤال الكتابة الروائية العربية التي تنتجها المرأة. لماذا؟ لأن «الترجيع صفة أساسية للكتابة الروائية التي تنتجها المرأة العربية، وهو سؤال يجيب عليه الظرف التاريخي للمرأة العربية وتضيئه ظاهرة القمع المزدوج الذي تتعرض له»[28].

 

ومما يؤاخذه فخري على الحضور النسائي الطاغي في هذه التجربة أن العلاقة القائمة بين المرأة بوصفها جزءا أساسيا من قضية الوطن (عباد الشمس، ص. 17) تظهر في الخطاب الإيديولوجي في حين أنها لا تظهر في الخطاب الروائي «لأنها لا تتجذر في الكتابة الروائية ولا تظهر في المشهد الروائي، بمعنى أن كل ما نشهده في الرواية تأكيدا لتمحور الكتابة الروائية حول المرأة هو خطاب الإيديولوجيا التي تحملها «رفيف» ولا تمارسها»[29]. ومن ثم، تفتقد هذه الشخصية البوصلة الضرورية لفهم طبيعة الحدود الفاصلة أو المتقاطعة بين «جحيم التجربة الذاتية» والفضاء الإيديولوجي والسياسي الضاغط. وهكذا ستنتصر قيمة الممارسة على قيمة النظرية (نموذج سعدية أمام نموذج رفيف)، وسيتم العثور على إمكانيات لممارسة الحرية، لكن في غياب الوعي (نموذج خضرة) «حيث تبدو الحرية حرية العبودية أو حريةالاستلاب في تمردها، حرية بلا هدف وبلا نتيجة»[30].

 

وفي قراءة فخري صالح لرواية سَحَر خليفة «باب الساحة» نعثر على أفق التحليل نفسه، حيث الفضاء الأنثوي واضحٌ كسندٍ لعبور الأطروحة التي تقولب الشخصيات وتتحكم في المادة السردية باتجاه خدمة فكر جاهز. ولأن نية الكتابة تتقصَّدُ تثبيت الرؤية الإيديولوجية للكاتبة فقد حركت الشخصيات النسوية الثلاث (أم الشباب، نزهة وسَمَر) بما يليق بدينامية قَدر روائي في حين أن الشخصية الذكورية الوحيدة التي تحضر فعليا في النص (حسام) يتم حصرها وإعاقة ردود فعلها في الوقت المناسب. «إن حسام نفسه يبدو أداة لفحص خطاب نزهة، أو بالأحرى مثيرا ومحفزا لثورتها الصاخبة على المجتمع. إنه أيضا غير فاعل من الناحية الوظيفية في النص الروائي، فهو هامشي - ثانوي على صعيد الشخصيات الروائية. وكما يبدو فإن المشروع الإيديولوجي لسحر خليفة لا يكتمل إلا بالسكوت عن ردود فعل حسام تجاه خطاب نزهة..»[31].

 

ولعل أهم ما ميَّزَ قراءة الناقدة خالدة سعيد لرواية سَحَر خليفة «مذكرات امرأة غير واقعية» هو كشفها لبنية «التضاد وتساكن المتناقضات»: التناقض في شخصية البطلة (عفاف) - التضاد في تقديم صورة الزوج والرجل إجمالا - التضاد البنائي بين النصف الأول من الرواية والنصف الثاني - التضاد في طبيعة القصص الواردة في الرواية[32].وهكذا، فمثلما تظهر أغلب الشخصيات النسوية النموذجية في روايات سَحَر «تبدو لنا البطلة في مجمل الرواية مشروعا»، ورغم أنها ليست مروضة أو خاضعة، أي امرأة «غير واقعية» كما ينعتها الأهل - تلاحظ خالدة سعيد - فإنها «ليست متحررة عُمْقِيا»:

 

 

«تعي وجود الخطإ في أساس حياتها، وفيما هي تبحث عن العلة وتتوخى التحرر ترتكب مزيدا من الأخطاء. تأمل في التحرر من الزوج، لكن لتتزوج غيره. وهذا الـ «غيره» مجهول واحتمال. مع ذلك فهذا المجهول هو الشرط الذي رأته لتحررها. حفاظا على إمكانية التحرر تحاول الإجهاض فتفقد الجنين وتصاب بالعقم. فتضاف إلى مصائبها مصيبة جديدة، وإلى عوامل تنازلها عامل جديد. هي نفسها ترى العقم نقيصة جوهرية، إنها في هذا الوعي تدور على نفسها مثل قطتها عنبر التي تدور وراء ذيلها. في هذا الوعي تزداد براعة في الصمت وتزداد تقوقعا. وهي المتمردة تختار العزلة دفاعا عن نفسها أمام اتهامات الزوج. تتضاءل قدرتها على رؤية الآخر، وتنكفىء على ذاتها فتلغي ذات الآخر. غير أنها تداوي العزلة بمراقبة الملابس المنشورة على سطوح الجيران، وتتخيل الناس فيها. هذه البطلة تتأرجح «بين بَيْنَيْن». وهي تعرف ذلك كما يبدو في النص المثبت هنا، لكنها لا تعرف كل شيء. تعرف أن الخطأ موجود ولا تعرف أنها مبرمجة على هذا الخطأ. بطل ناقص هي، بطل يحمل علة يجهلها، علة موروثة وليس مسؤولا عنها. وهذا ما يمنحها، في آن واحد، مأساويتها وديناميكيتها كشخصية روائية كاشفة»[33].

 

 

هذا، وبينما تحاول «المرأة غير الواقعية» أن تكتشف الواقع، وفي غمرة دفق حوارها الداخلي الطويل في الرواية، ترى خالدة سعيد «هذا العباب من المرارات، أفكار كثيرة ومواقف تدعو للنقاش ولا تخلو من مغالطات. صورة عن الضياع والتمزق واختلال المقاييس والصور وراء الصمت»[34]. وحتى عندما يتعلق الأمر بحكي داخل حكي، تلاحظ خالدة سعيد أن سحر تختار حكايات معينة كي تخدم الجاهز: «العبرة هنا قائمة قبل الحكاية. الحكاية منسوجة بدءا من العبرة، وفق سياق مرسوم يُقْسِرُ الأسباب على الخضوع للنتائج. الحكاية أقوى من المنطق، فوق الصمت. منطقها استثنائي ونتيجتها قاعدة»[35].

 

 

II - قراءة أخــرى: فضاء المفارقــة:

فضلنا هنا أن نستأنس ببعض القراءات النقدية والشهادات لنرصد كيف يتم تداول وتلقي «المشروع» الذي تقترحه سَحَر خليفة في كتابتها الروائية، وخاصة الجانب المتعلق منه بحقل النساء وبمجابهة اليقين الذكوري وإزعاجه. وذلك حتى نتمكن من فهم أسس هذا التوجه من جهة، وكيف يشيد فضاءه الخاص من داخل التجربة الفلسطينية ومن باب الانحياز لثقافة هامشية تسبح ضد التيار السائد، وانسجاما مع فضاء فكري نظري ونقدي منتشر في العالم. في أمريكا وفرنسا بالخصوص.

 

وواضح أن سحر تتطلع لأن تكتب كتابة نسائية، نسائية جدا إلى درجة استفزاز آليات التلقي الذكورية، إذا صح التعبير، بل ولا تحظى بمجموع آليات التلقي النسوية. إنها تريد أن تكتب بطريقة أخرى، بلهجة أخرى، بمشاعر أخرى بحثا عن فضاء أكثر رحابة وأكثر تحررا وانفلاتا من ضغط وإكراه وعنف لغة الرجل. وحسب فرانسواز كولان، فإن لغة المرأة هي حرية القدرة على أن تتكلم المرأة كما تريد، وبكل الطرائق الممكنة، هي أن تظل اللغة قريبة من الجسد الأنثوي وألا تبتعد عنه مطلقا. أن تقول هذا الجسد المتعدد. لكن هذه الباحثة الفرنسية تلاحظ أيضا أن اللغة المكتوبة أو الشفوية وحدها لا تكفي للتعبير، بل هناك إمكانيات أخرى كالإيماءات، والاتصال، والحركة، والرسم، والرقص، والموسيقى، والأغاني، والصوت. ومن ثم، أن تتمكن المرأة من لغة التعبير والكتابة معناه أن عليها أن تستثمرها إلى أبعد حد ممكن. ذلك لأن هذه اللغة - في سياق محكوم بمنطق الرجل وهيمنته - تظل امتيازا واستثناء فقط[36].

في نفس الإطار، تؤكد الناقدة الفرنسية الشهيرة في حقل الدراسات النسائية هيلين سكيسوس Hélène Cixous على مبدأ الاختلاف بين الكتابة الأنثوية والكتابة الذكورية: «لقد ظلت النساء اللواتي يكتبن، في غالبيتهن، إلى حد الآن لا يعتبرن أنهن يكتبن باعْتِبَارهِن نساء، وإنما باعتبارهن نساء يمارسن الكتابة ككتابة»[37]. كما تلاحظ أن هذا الوعي ناتج عن كون هؤلاء الكاتبات لم يدركن الفواصل القائمة والممكنة بين المرأة والرجل في الكتابة، ويتعاملن مع الموضوع كما لو أن هذه الفواصل غير موجودة. والأمر في نظرها شبيه بتجاهل الانحياز في الحقل السياسي. فعندما يقول المرء: «أنا لا أمارس السياسة»، معناه أن الجميع يعلم أنها أفضل طريقة للتعبير عن كونه يقول: «أنا أمارس سياسة الآخر». وهكذا الأمر بالنسبة للكتابة كذلك - تقول هيلين سيكسوس - فأغلب الكاتبات هكذا: يكتبن كتابةالآخر، كتابةالرجل، حينما لا يكتبن كتابتهن أو يتنكرن لها بسذاجة[38]. بمعنى آخر، على الكاتبة أن تجعل كتابتها تشتغل على فضاء الرجل، بوعي واختيار ووفق استراتيجية، وإلا سيشتغل عليها هذا الفضاء.

 

وتبدو سحر خليفة منذورة لهذا الاختيار، في الكتابة الروائية، (وفي الوقاع أيضا على نحو ما شاهدناها عليه في الشريط السينمائي «الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي). لكن الظاهر أنها تكتب كتابة أنثوية دون تَوَفُّر ثقافة نسائية في المجتمع الذي تكتبه. ومن ثم، فإن ما تفتقده - ما تشعر أن النساء يفتقدنه في الواقع - تحاول أن تشيده في الكتابة. ومن هنا هذه القسرية في إخضاع الأسباب للنتائج كما اشارت إلى ذلك خالدة سعيد[39]. من هنا أيضا تقوم الفكرة الجاهزة بِلَيّ ذراع الواقع ويتحول مشروع الكتابة الروائية إلى كتابة إيديولوجية أقل حرصا على الجانب الجمالي، وأكثر اندفاعا نحو بناء مشترطات الاستيعاب الإيديولوجي داخل اللغة الأدبية التي ينبغي أن يكون أفقها هو أن تتحرر من الإيديولوجيا الكامنة أصلا في طيات اللغة.

 

إن كتابة سحر خليفة كتابة مُصَـارِعَة.

إنها كتابة تَنْكَتِبُ وهي تستحضر خَصْمَهَا، تنكتب وهي تصارع أفكاره وطروحاته وأنماطه الثقافيةالسائدة، تنكتب وهي تسعى لتدمير ذخيرته الرمزية والتخلص من شباكه الإيديولوجية الملقاة على هامات النساء في المجتمع. ولذلك فهي كتابة تستعمل اللغة، وتقسر الكتابة، وتقود قبيلة الكلمات باتجاه نَسْج شبكة إيديولوجية مضادة تقتضيها طبيعة الصراع مع الرجل وطبيعة المهام التي أوكلتها لنفسها حركة نسوية هامشية (مهمشة)، حركة أقلية اجتماعية وثقافية بالاساس، داخل فضاء سوسيوثقافي هائج ومندفع.

 

ورغم أن سحر خليفة تبدو في «الوطن الذي اختارته لنفسها»،[40]، فإنها لا تكرس كل جهدها الإبداعي والجمالي لهذا الاختيار. ذلك أن الشكل الروائي يظل بعيدا عن أن يمارس أي إغراء خاص، فضلا عن أننا لا نعثر على أية روح أنثوية هاجعة فيه. يمكن أن نقول إنه شكل فقير من الناحية الفكرية والجمالية، ولا يسعف على بناء المعنى بالنسبة لكل قراءة ترى أن «كل شكل هو فضائي»[41]، كما سبقت الإشارة.

 

لو أن الشكل الروائي، خاصة منه ما يتعلق بمعمارية النص الروائي وصيغة ترتيب السيرورة الحكائية (مشكلة الزمن في الكتابة)، شَكَّلَ إضافة أو امتدادا (Ralonge) لخطاب الكتابة لأصبح مخزنا حقيقيا للأفكار والمشاعر والنزوعات[42]، ولأتاح للخطاب الأنثوي إمكانية أكبر للعبور والإقناع والتواصل.

 

إن القضية، قضية المرأة في روايات سحر خليفة، تبدو أكبر من الشكل الذي يحملها إلى حقل التداول، من مجرد بذرة إلى أرض الإخصاب. وبما أن «فعالية الخطاب تتوقف على بنيته»، كما لاحظ بيير زيما[43]، فإن نمطية البناء الروائي عند سحر خليفة هي التي تظل - في نظرنا على الأقل - سببا لرفض الطرح النسائي للكاتبة الفلسطينية واعتباره منفعلا أو عنيفا أو هجائيا أو، في أحسن الأحوال، إيديولوجيا.

 

وعندما لا تعير الكاتبة اهتماما كبيرا للشكل المعماري فهي تتخلى في الواقع عن بعض أسلحتها. ولعل رهانا إيديولوجيا يصل حد العدمية كرهان الأنثوي في كتابة سحر كان يحتاج إلى تكامل كل عناصر الكتابة الروائية، شكلا و«محتوى». لا يمكن لعنصر أن يتخلى عن آخر، ولا يمكن لعنصر أن يعيش ويشتغل لحسابه الخاص. وقد لاحظنا من خلال بعض القراءات النقدية، حتى تلك المُحْتَفية بكتابة سَحَر والمتعاطفة مع خطها ورهاناتها، كيف يتعثر التواصل بين الإرسال والتلقي، ويُبْدِي النقاد تبرما من إصرار الكاتبة على أن تجمع في ذاتها المتكلم والمستمع في نفس الآن.

والواقع أن الفضاء الأنثوي الذي يتم رصدٌ جيدٌ للعديد من مظاهره وتفاصيله وعناصره التكوينية، تتعامل معه الكاتبة كما لو كان نابعا من عمق الذات أو متخيلا فقط، وليس امتدادا لفضاء خارجي حسي. ومن ثم، هذه المفارقة: كتابة تَلِدُ فضاءً وتغتاله في نفس الآن. لماذا؟ لأن هناك عتمة إيديولوجية لا تسمح للأنثوي بأن يغدو مصدرا لكل ضوء في كتابة كفاحية لم تصقل مشروعها واختارت طريقا «تبرق ملامحها»، لكن بدون إعداد «عدة المسير» بتعبير خالدة سعيد[44].

إن ذات الخطاب الإيديولوجي تتصرف في هذه التجربة الوائية بأقل تلقائية، ما يجعل النص موزعا بين «أداء الرسالة» والنهوض بمتطلبات إستتيقا الكتابة (التي كلما تقوَّتْ كلما فجَّرَت الغُلالة الإيديولوجية الخانقة)، وموزعا كذلك بين نوعين من الأنا: «أنا مبدعة» و«أنا اجتماعية» يتعثر صَهْرُهُمَا في بوثقة واحدة لثقل «الأسطورة الشخصية»[45] التي تلهي الكتابة عن استكمال بناء مشروعها العام، وتضعف من حواريتها بالمعنى الباختيني للحوارية من حيث هي إقرار بوجود وعي متعدد داخل النص الروائي.

 

ولعل ما يجعل الفضاء الأنثوي في أعمال سحر - على أهميته وشساعته - أقل اشتغالا لفائدة نمو العمل الروائي هو أن ليس هناك تبادل حي بين هذا الفضاء وباقي الفضاءات الأخرى التي تدخل معه في علائق توتر متعددة. ومادامت آليات الكتابة لا تتيح إمكانيات أكثر لاشتغال الانكسار (Réfraction)، فإننا في الغالب لا نعثر إلا على تجليات لمركزية إيديولوجية[46].

وهكذا، فإن الأنثوي لا يرقى هنا إلى المستوى الذي يجعله ممكنا واقعيا (لا ممكنا فحسب) أو قابلا للتصديق عند اختبار الواقع. هل لأن السؤال القديم: ماذا تريد المرأة؟ الذي لم يجب عنه فرويد وتركه لاكان Lacan مفتوحا[47]، نعثر عليه بدون إجابة في كتابة سَحَر كذلك أم لأن هناك تضخيما للذاتي والفردي على حساب ما هو جماعي واجتماعي عام؟

 

إن النماذج النسائية في روايات سَحَر تختزل إشكاليات مجتمعية في حالاتها الذاتية الفردية، ومن ثم كلما حاولنا فهم هذه الذاتية عثرنا على «نمط خطابي» آخر لا يخلص الكتابة من استبدادية الجماعي، بل يُظْهِر إيديولوجيا أخرى إلى السطح، ليست في النهاية غير هذا الخطاب الأنثوي الذي لا يعرف ماذا يريد في الحقيقة بالرغم من مصداقيته كخطاب ونبل مقاصده.

 

نقرأ الشخصية النسائية فلا نعثر على استقرار الوضع الاعتباري ولا على وضوح في الخيارات: في «لم نعد جواري لكم» المرأة «سامية» تخون طقس الصداقة والحب (عبد الرحمان المناضل السجين) وتندم ثم تعود فتخون مجددا وترحل، في «الصبار» نجد أن «نوار» تحب صالح، المناضل الذي دخل بدوره إلى السجن جزاء كفاحه، وبعد أن تعاهد نفسها على ألا تتزوج إلا هو، تضطر إلى التخلي عن هذا العهد ويضنيها الانتظار فتتخلى. أما في «عباد الشمس»، فيَعْلُو صوت «رفيف» مطالبا بتحرير الأرض عن طريق تحرير المرأة أولاً لتصل بأفكارها إلى أفق مسدود، خصوصا بعد أن تجد نفسها أمام امتحان قاس وهي تحاول أن تتواصل مع «سعدية» التي تعيش مرحلة عبور من لحظة إلى أخرى بعد استشهاد زوجها زهدي وخروجها إلى العالم الخارجي. هذا فضلا عن «خضرة» الشخصية الأخرى في الرواية التي لم تستطع أن توازي بين تحررها وإكراهات واقعها. أما «عفاف» في «مذكرات امرأة غير واقعية»، فتظل مشروعا ناقصا «تعي وجود الخطأ في أساس حياتها، وفيما هي تبحث عن العلة وتتوخى التحرر ترتكب مزيدا من الأخطاء. تأمل في التحرر من الزوج، لكن لتتزوج غيره. وهذا الـ «غيرُهُ» مجهول واحتمال. مع ذلك فهذا المجهول و الشرط الذي ارتأته لتحررها (...) وهي المتمردة تختار العزلة دفاعا عن نفسها (...) تعرف أن الخطأ موجود ولا تعرف أنها مبرمجة على هذا الخطأ...»[48]. وتظل «نزهة» في رواية «باب الساحة» أبرز مثال - كما سبقت الإشارة - على البطلة الروائية التي لا تبحث عن الحقيقة، بل هي تحدسها وتعرفها مسبقا، ثم تسعى لتعريتها أمام اندهاش الآخرين. حقيقة الانتساب الجماعي الذي لا يقيم اعتبارا للفرد وكرامته وطمأنينته!

 

هكذا، يصبح الفضاء الأنثوي في العمق فضاء متاهةٍ غير معلنة، فضاء ضائعا بامتياز تستشعر فيه الشخصية النسائية أن ما تبحث عنه بنوع من اليقين لا تستطيع أن تعرف ما هو، وما لا تراه أبدا هو الذي تكتشف أنها تعرفه أكثر[49].فضاء استلابٍ بامتياز، لكن هل هو استلاب واقع ترصده الكاتبة أم استلاب كتابة؟

 

 

III - جســد أنثــوي بدون هويـة جنسيـة

ربما خضعت قراءتنا للفضاء الأنثوي في أعمال الكاتبة الفلسطينية لتعميم معيَّن، وهو تعميم مقصود مادامت الغاية أساسا لم تكن هي أن نجعل من هذه القراءة نوعا من التمرين النقدي الذي أصبح يطبع جل الدراسات النقدية (الأكاديمية وغيرها)، حتى أصبحت كلها متشابهة رغم اختلاف المتون الروائية المقروءة، وخاصة لما يتعلق الأمر بكتابة أدبية تنجزها كاتبات.

 

ومادامت غايتنا هي أن نَعْبُرَ من الوعي الأدبي إلى الوعي بالواقع وبالتجربة الإنسانية، كما سبق أن أوضحنا، وأن نراقب مدى اشتغال الفكر في الوَعْيَيْنِ معاً، فإننا لم نهتم كثيرا بكل تفاصيل الكتابة الروائية التي تظل - بصرف النظر عن أهميتها - ثانوية اعتبارا لرهانات الدراسة.

 

من هنا نود أن ننتبه لتجليات أحد أهم العناصر التكوينية للفضاء الأنثوي في هذا المتن، وهو جسد الأنثى باعتباره محور هذا الفضاء، لأن الجسد هو المنطلق لإدراك الفضاء، كما نعلم. فـ «انطلاقا من الجسد ندرك الفضاء ونعيشه، ونعيد إنتاجه»[50]. وعلى هذا المستوى، تبدو كتابة سحر سخية جدا وهي تنظم العلائق بين الجسد الأنثوي والفضاء، حيث نعثر على جسدٍ ينكَتِبُ في الغالب. جسدٌ مُفَكَّرٌ فيه بعناية ويُرَادُ له ألاَّ يمضي في طريقه أعزل وحيداً، بعيداً عن أفكار الكاتبة وتوجيهاتها.

 

إننا نرى الأشياء ونقتحم الفضاءات مسلحين بعيون نساء انكتبنَ، لا بعيون نساء يعشن قبل الكتابة. ومن ثم، فإن أقوى الشخصيات النسائية هن اللواتي جئن إلى النص من دفء الحياة وحرارة التجربة كما هو الشأن بالنسبة لسعدية في «عباد الشمس» والسيدة زكية أمُّ الشباب في «باب الساحة» مثلا. إن هاتين الشخصيتين تبدوان كما لو كانتا قد خرجتا من جسديهما للتو وقامتا تمشيان. كما لو أنهما لم تَاْتِيَا من الليلة السابقة للنص من العشية الماضية للكتابة الروائية، وإنما نهضتا من جرح الواقع ومعاناته وذاكرته.

 

لذلك، يمكن القول إن أغلب الشخصيات النسائية لها «حاجة للخارج»[51] لأنها شخصيات مكتوبة على المقاس، من داخل الفكرة لا من حرارة الواقع. ومن ثم يمكننا أن نطرح السؤال: هل يمكن أن تستقيم كتابة نسائية بدون رمزية جنسية مثلا؟ هل يمكن استثمار الجسد الأنثوي في الكتابة الروائية دون إحساس بالحاجة إلى تشغيل رمزية الأسفل الجسدي (Le bas corporel)، خصوصا وأن القارىء المعاصر أصبح يعجب برمزية الجنس أكثر مما يعجب بالأخلاق التي يدافع عنها الكاتب، على نحو ما يؤكد لنا ذلك تودوروف.

 

إن هوية الكتابة النسائية «هوية جنسية»[52]، وهي وحدها التي تجعل تشييد الفضاء الأنثوي ممكنا، وتجعله يتكلم، يُبْدِي لطفه أو يكشف عن عدائه. ولذلك لا يكتفي هذا الفضاء، لكي يحقق دينامية في النص، بمجرد ظهور شخصيات نسائية، أو نساء لهن طرح نِسْواني، أو نساء يَرْقُصن ويغنين. فبدون بُعْد جنسي يصعب أن يعلن الجسد عن هويته كما هي وكما ينبغي أن تُكْتَبَ.

 

وحتى عندما تفسح الكاتبة للجسد الأنثوي أن يعبِّرَ عن علاقته بالآخر، فإن هذا الجسد لا يظهر في صورة إغراء وافتتان. إنه يظهر كجسد مدنَّس برذيلة الخيانة: إيفيت في علاقتها غير الشرعية مع فاروق، من وراء ظهر زوجها شكري في رواية «لم نعد جواري لكم»[53]، سامية في علاقتها بعبد الرحمن، في نفس الرواية، التي تعترف: أنا التي خُنْتُه» (ص. 142). ولما تسألها إيفيت: «ولكن لم خُنْتِه؟ ألم تُحِبِّيه؟» تتمتم بشرود وترد: «بل عبَدْتُه!». وتعود إيفيت لتسألها بدهشة: «لماذا خنتِه إذن؟ كيف استطعت ذلك وقد أحبَبْتِه؟» (ص. 142). كما يظهر هذا الجسد في لحظة إعاقة نابعة من خارجه (الحديث عن العذراء والبغي وما بينهما في «لم نعد جواري لكم» (ص. 144)، مشكلة الخنثى في «مذكرات امرأة غير واقعية»: «لرغبتي في الحصول على مزيد من الاحترام رفضتُ سِمَتي الأصلية وبتُّ «خنتُه»: لا هي ذكر ولا هي أنثى (ص. 6)، «فقدت هويتي وأصبحتُ «خنتة» (ص. 59)...).

 

وما دامت الرؤية النِّسْوانية هي التي تؤطر حركة الجسد الأنثوي في مجرى هذه التجربة الروائية، فإن المرأة ككائن مختلف، يوجد في موقع مجابهة دائمة مع الرجل، تحاول أن تعطي لجسدها صورة غير الصورة التي له في الواقع، مما يجعلها «تفضل إبراز التمثل الذي تحمله عن جسدها بدل جسدها الملموس»[54]، بل وتفقد إحساسها بجسدها باعتباره قيمة في حد ذاته، مادامت في توتر ولا تملك صورة عن هذا الجسد في ظل غياب نظرة الرجل إليه.

 

لذلك، ربما كانت خيانة المرأة للرجل في روايات سَحَر تعبيرا عن حالة انجذاب إلى الممنوع واللامسؤولية، أي إعلانا عن تحَدِّي سلطة الرجل. والحالة هذه، فالنص الروائي يقدم لنا نموذجا للمرأة التي بدلا من أن تعري جسدها من إرغاماته، تدمر هذا الجسد. وبدلا من أن تعيد ولادته، تأخذه إلى العدم وتفنيه[55].وهكذا، فإن الإيديولوجيا الجِنْسَوية التي تكون في الغالب لا واعية في الكتابة النسائية تحضر في كتابة سحر خليفة بكامل الوعي والإصرار، لكنها بدلا من أن تتلبَّس اللغة وتزرع حيويتها في السيرورة السردية أو المتن الحكائي، لا تحضر إلا لإعاقة الرغبة الأنثوية.

 

إن سحر التي تنطلق من مرارة واضحة في كتابتها، لا تضع جسدها في ما تكتبه. ولعلها لا تشعر بحاجة إلى ذلك في ظل ثقافة ذكورية تلغي المرأة في الواقع والكتابة معا. ومن ثم لاحظنا كيف يتراجع فضاء الجسد، كحلم أو كمتخيل أو كاستعارة لحساب تجليات الجسد في الفضاء. الكتابة في حالة «انتقال من الطفولة إلى الوعي»، بتعبير هنري لوفيفر[56].ونحن نعرف أن الجسد الأنثوي ما لم يتحول إلى صورة، إلى شذرات إغراء، إلى تمثلات حالمة يصبح جسدا عاديا، مبتذلا ضمن ابتذال الحياة اليومية. ولعل سحر تتقصد هذا الحضور الجسدي لإعاقة الرغبة وتوجيه انشغال القراءة إلى الأفكار والطروحات لا إلى اللذائذ. فالمرأة ليست شيئا؛ إنها إنسان له همومه واهتماماته ومواقفه. حتى الحب تتم إعاقته في المحكي مادام ممارسة وجودية تكرس سلطة الرجل أكثر مما تقوي سلطة المرأة. ولذلك تراقبه آليات الكتابة حتى عندما يتعلق بتجربة فردية خصوصية. لا حب يستقيم في روايات سحر خليفة إلا إذا كان بين امرأة خائنة وعشيق متهور، بين شابة حالمة وشاب مُلثَّم يضع رجلا في الحياة وأخرى على حافة الموت، بين زوجة تبحث عن بديل وزوج ساذج مخدوع ثقيل الدم. وحتى عندما تتَّقِدُ رغبة المرأة باتجاه الرجل، فإن هذا الأخير يظل مجرد حاجة (Manque)، مجرد نقص تتلاقى باتجاهه الرغبات والأفكار والمواقف، نقص تشعر فيه المرأة بغياب الرجل وبنقصها الخاص أيضا:

 

 

- «لقد حاولتْ البحث عن رجل. لم تكن تؤمن بأن للرجل من الحق في الحياة أكثر مما لها، وقد حاولت البحث عن الحياة من خلال الجنس، عدة مرات، وكل مرة انتهت إلى هزيمة، فما كان الجنس يثير في نفسها سوى حاجة ملحة للتقيؤ..» (لم نعد جواري لكم، ص. 21).

 

- «... وهكذا ظل الباب موصدا، والأرض البور قاحلة جدباء، واللوحة الفارغة قطعة قماش لم تُلَوَّن بعد!» (لم نعد جواري لكم، ص. 40)

 

- «وأنا كإنسان، كامرأة، بحاجة للدفء واللذة. وهذا ما يقهرني: كوني إنسانا بحاجة للدفء واللذة! (...). لو كان باستطاعتي سحق هذا الجسد، لو كان باستطاعتي قتل مادتي! (لم نعد جواري لكم، ص. 112)

 

- «المهم هو أن أحصل على ذلك الإحساس الحار تجاه إنسان ما. أريد أن أحب رجلا، أن أتذوق ذلك الإحساس اللذيذ. أريد أن أحس باشياء، كثيرة كثيرة!» (لم نعد جواري لكم، ص. 132).

  

ومثلما في رواية «لم نعد جواري لكم» كذلك في «عباد الشمس» يًصادِر صوت الراوي صوت الشخصيات النسوية: عندما يتحدث الصوت الأنثوي مباشرة إلينا يعلو بوحٌ صارخ، عارٍ، راغب، وعندما يتحدث الراوي (وهو بالمناسبة راوٍ عالم بكل شيء) تختفي الرغبة ويظهر الرجل في قفص الاتهام. فالمرأة التي جربت أو الراغبة في خوض التجربة لا تعيش إلا الهزيمة وركام الفجائع. لماذا؟ لأن الرجل شرقي أولا، ولأن الرجل رجل قبل كل شيء: «ونظرت إليه من خلال الظلمة وعيناها تنضحان وأنفاسهما تتقطع. وأنَّتْ.. أخاف أن أظل وحيدة. أنا بحاجة إليه. بحاجة إلى حبه. وهو لا يعرف كيف يحب» (عباد الشمس، ص. 18)، كما أن الرجل الذي ثمة رغبة فيه هو من نوع خاص: «الرجل العربي مازال مريضا، منفصما منقسما يرغب في شيء ويطبق شيئا آخر.. مشدود إلى الماضي ويتغنى بالمستقبل» (عباد الشمس، ص. 19). أما «عفاف» في «مذكرات امرأة غير واقعية»، فإن الحلم الذي تتعلق بهدبه هو أن تعثر على نموذج مختلف للرجل: «سأظل أحلم برجل له صوت هادىء وعينان متفهمتان ويناديني بلطف. ينطق اسمي بنبرة أليفة لا أثر فيها للتسلط أو السلطة» (مذكرات امرأة غير واقعية، ص.17).

 

وإذن فالرجل موجود في الرواية، ولكنه في نفس الوقت غير موجود. إنه موجود هنا، بين موضعين، حيث لا جسر، لا تواصل، لا شيء غير نوع من الرفض المضمر أو الخوف أو التوقعات المقيتة. إن الرغبة مقموعة والتواصل مُجَابَهٌ بقوة الفضاء نفسه، الفضاء السالب الذي «أمَّنَت ]فيه[ سيطرة الرجل مناخا إيديولوجيا للإذعان»[57]. لذلك طالما هناك تعطيل لفعل الحب والجنس، فإن فضاء الحب يبقى ضئيلا جدا وغير فاعل لا في تحريك المحكي ولا في الدينامية السردية، خصوصا بالنسبة للغة الروائية. ولذلك أيضا يتحول غياب الرجل إلى انتظار شامل يلقي بظلاله على الفضاء النفسي لروايات سحر خليفة، حيث القلق والحيرة والشك حتى لتكاد كتابة سحر تصبح تعبيرا عن عدم يقين واضح بالمستقبل وإحساس باستحالة السيطرة على الواقع.

 

هل يمكن أن نزعم إذن أن الفضاء الأنثوي، بمعنى ما، ليس شيئا آخر غير الفضاء النفسي لهذه التجربة الروائية؟ وإلا ما الذي يتبقى في فضاء أنثوي بلا حب، بلا جنس، بلا حضور فعلي لابتذال العلائق بين النساء والرجال؟ ما يتبقى هو ما كان يسميه جورج باطاي بـ «التواصل الأبيض»[58]، وهو التواصل البارد، اليائس، الفارغ، العدمي، غير المقصود، وغير المحسوب للأنثى مع مختلف فضاءاتها.

 

إن القارىء، حتى القارىء المستعجل، يمكنه أن يكتشف طبيعة وعي سحر خليفة أو بدقة أكثر، طبيعة الوعي الجماعي للنساء الفلسطينيات (ولمَ لا النساء العربيات؟...) الذي تترجمه، بمعنى ما، «كمجرد وعي «ممكن» لا يتحقق بصرامة إلا في الرواية»[59]. أما إن تعاملنا مع هذا الوعي واقعيا، أقصد إن اختبرناه في الواقع الاجتماعي والثقافي الفلسطيني والعربي السائد، فإنه سيكون وعيا يناهض «عجزا جذريا» كما لو كان مجرد عجز طارىء.

 

لذلك، يبدو لنا أن أنثى سَحَر خليفة هي أنثى بروستية بامتياز: تكشف عمق الوجود فيما هي تكتشفه في فراغ كل وجود، تكبر أحلامها ورغباتها وفي نفس الآن تصبح حاجزا تصطدم به الخطوة المرتابة وغير المتيقنة. ذلك لأنها «ضحية لتعذيب باطل وغير مفهوم - بتعبير لوكاش - كما تصطدم النحلة بالزجاج، من غير أن تنجح في اختراقه، بل ومن غير أن تدرك أن ليس ها هنا طريق»[60].

 

هكذا يَتَبَدَّى لنا الفضاء الأنثوي في هذا المتن فضاءَ تتلاقى فيه استراتيجيات الخيبة والإخفاق والانتظار. لكنه فضاء يستدعي صيغة أخرى، بلا شك، للفعل والوجود.

 


 

[1] - «الكتابة النسائية» أو «الأدب النسائي» مصطلح مازال يثير عدة اعتراضات وتحفظات. وقد توقفت عنه بعمق الناقدة العربية خالدة سعيد في كتابها: المرأة، التحرر، الابداع، دار النشر الفنك، الدار البيضاء (المغرب) - الطبعة الأولى، 1991، صص. -85-88. وهي ترى أن هذا المصطلح «شديد العمومية وشديد الغموض. وهو من هذه التسميات الكثيرة التي تشيع بلا تدقيق، ولا يتفق اثنان على مضمونها، ولا يتفقان على معيار النظر فيها (...). وإذا كانت عملية التسمية ترمي أساسا إلى التعريف والتصنيف، وربما إلى التقويم فإن هذه التسمية، على العكس، تبدأ بتغييب الدقة وتشوش التصنيف وتستبعد التقويم. هذه التسمية تتضمن حكما بالهامشية مقابل مركزية مفترضة» (ص. 85).

ومثلما هناك عدد وافر من الباحثين والنقاد العرب يمضي في أفق هذا الاختيار الذي نتبناه بدورنا، نجد آخرين وأخريات يتبنون على العكس هذا المصطلح ويتداولونه بكيفية حاسمة: أنظر عرضا جيدا لمختلف التصورات والاجتهادات في دراسة رشيدة بنمسعود «استراتيجية الكتابة النسائية»، مجلة عالم الفكر، المجلد 21، العدد 1، يوليو - أغسطس - سبتمبر 1991، صص. 119-130، وكذا دراسة بثينة شعبان «الرواية النسائية العربية» - مجلة مواقف، عدد 70-71، شتاء - ربيع 1993، صص. 211-233. كما يمكن الاستئناس أيضا بمقالة  أساسية لمنى أبوسنة، «إشكالية الابداع في الأدب النسائي»، مجلة إبـــداع (القاهرة) - العدد1، يناير 1993، صص. 22-25، وكذا دراسة اعتدال عثمان، «الخطاب الأدبي النسائي بين سلطة الواقع وسلطة التخييل» ضمن نفس المجلة، نفس العدد، صص. 13-21.

[2] - د. عفيف فراج، «صورة البطلة في أدب المرأة. جدلية الجسد الطبيعي والعقل الاجتماعي»، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 34 - ربيع 1985، ص. 150

[3] - المرجــع السابق، الصفحة نفسها.

[4] - في هذا الاستشهاد تسمي هذه القراءة الاحتفائية الرواية بـ«دوار الشمس» خطأ عوض «عباد الشمس» (هل هو خطأ مطبعي فقط؟).

[5] - م. س، الصفحة نفسها.

[6] - إيمان القاضي، الرواية النسوية في بلاد الشام: السمات النفسية والفنية (1950-1985)، دار الأهالي، دمشق، الطبعة الأولى، 1992.

[7] - المرجع السابق، ص. 283.

[8] - نفسه، ص. 285.

[9] - نفسـه، ص. 403.

[10] - ليانة بدر، «حول الكتابة النسائية الفلسطينية»، ضمن جريدة القدس العربي ليوم 4 مارس 1991.

[11] - د. فيحاء قاسم عبد الهادي، «تطور وعي المرأة الفلسطينية من العفوية إلى التنظيم»، ضمن مجلة أصوات معاصرة (المغرب)، العدد 2/3، 1992، ص. 102.

[12] - الدكتور علي الراعي، الرواية في الوطن العربي (نماذج مختارة)، دار المستقبل العربي، بيروت/القاهرة، 1991.

[13] - المرجع السابق، ص. 252.

[14] - نفسـه، ص. 249.

[15] - نفسـه، ص. 252.

[16] - غالب هلسا، «الصبار؛ رواية الواقع الفلسطيني» ضمن مجلة مواقف، العدد 72 - صيف 1983.

[17] - المرجع نفسه، صص. 82-83.

[18] - فاروق وادي، «سحر خليفة وثلاثة هموم للكتابة الروائية» ضمن مجلة الطريـق اللبنانية، العدد 3-4، صص. 182-183.

[19] - المرجـع نفسه، ص. 184.

[20] - نفســه، ص. 186

[21] - فاروق عبد القادر، من أوراق الرفض والقبول - وجوه وأعمال، دار شرقيات للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1993.

[22] - المرجع نفسه، ص. 259.

[23] - المرجــع نفسـه، الصفحة ذاتهـا.

[24] - نفســه، الصفحة نفسها.

[25] - نفســـه، صص. 262-263.

[26] - فخـري صالح، في الرواية الفلسطينية، مرجع مذكـور، ص. 91.

[27] - المرجــع نفسـه، ص. 90.

[28] - المرجــع نفسـه، الصفحة نفسها.

[29] - نفســه، ص. 100.

[30] - نفســه، الصفحة ذاتها.

[31] - فخـري صالح، «"باب الساحـة" لسحر خليفــة: الانتفاضة بعيون هامشيــة»، ضمن جريدة الـقدس العربي، العدد 1212، الجمعة 9 أبريل 1993، ص. 6.

[32] - خالـدة سعيــد، المرأة التحرر، الإبداع، مرجع سابق، ص. 98.

[33] - المرجع نفسـه، ص. 98-99.

[34] - نفســـه، ص. 100.

[35] - نفســه، ص. 102.

[36]  - Françoise Colin, in Maria Yaguello, Les mots et les femmes, (Essais), Ed. Payot, Paris, 1987, p. 66.

[37]  - Ibid., p. 66.

[38]  - Ibid., p. 68.

وتعقيبا على رأي هيلين سيكسوس، تبدي مارينا ياكيلو مؤلفة الكتاب المشار إليه «الكلمات والنساء» تحفظها من هذه المقاربة، إذ تعتبر أن من الصعب بالنسبة لكتابة شخصية خاضعة للإشكالات المعقدة للتواصل والتعبير والكتابة أن تزعم أنها تنكتب بمنطق «المرأة» أو منطق «الرجل». وعندما تزعم امرأة أنها ستكتب باعتبارها امرأة أو يزعم رجل أنه سيكتب باعتباره رجلا معناه انتفاء الكتابة. وعندما يتعلق الأمر على الخصوص بالنسبة للمرأة، يصعب الوضع أكثر لأن الثقافة الأنثوية لا تزال جد هشة، ويحتاج الأمر إلى بناء نماذج وأنماط ثقافية نسائية في المجتمع، على أرضية الواقع»، المرجع السابق، الصفحة نفسها.

[39] - كما مر معنا في عرض وجهة نظر الناقدة العربية خالدة سعيد، ضمن قراءتها لسحر خليفة: المرأة، التحرر، الإبداع، مرجع سابق، ص. 102.

[40] - التعبير استعمله نيقولا برديائف في كتابه رؤية دوستويفسكي للعالم، ترجمة فؤاد كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، الطبعة الأولى، 1986، ص. 7.

[41] - جاك ديريدا، الكتابة والاختلاف، مرجع مذكـور، ص. 154.

[42]  - Jean Weisgerber, L’espace romanesque, op. cit., p. 227.

[43] - بيير زيما، النقد الاجتماعــي، مرجـع مذكــور، ص. 103.

[44] - خالدة سعيـد، المرأة، التحرر، الإبـداع، مرجع مذكـور، ص. 103.

[45] - Charles Mauron, Des métaphores obsédantes au mythe personnel», in Gérard Genette, Figures I, op. cit., p. 136.

[46] - انظر ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة محمـد برادة، مرجع مذكور، ص. 130. وبخصوص مفهوم الانكسار الذي بلوره باختين يمكننا أن نقرأ عنه في معجم المصطلحات الذي هيأه الأستاذ برادة: «يرى باختين أن من السمات الأساسية للكاتب الروائي، التحدث عن نفسه في لغة الآخرين، والتحدث عن الآخرين من خلال لغته الخاصة به. ومن ثم، فإن الروائي يلجأ إلى عدة وسائل لتكسير لغته وحرفِهَا حتى لا تبدو مباشرة أو أحادية...»، المرجع السابق، ص. 29.

[47] - انظر الفصل الخاص بالنقد النسائي (الفصل السادس) في كتاب رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة وتقديم جابر عصفور، دار الفكر للدراسات والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991، ص. 234.

[48] - خالدة سعيــد، المرأة، التحرر، الإبـداع، مرجع مذكـور، ص. 99.

[49] - انظـر:

- Claude Rةgy, Espaces perdus, Ed. Plon (Carnet), Paris, 1991, p. 162.

[50] - Henri Lefebvre, La production de l’espace, op. cit., p. 188.

[51] - Jean Claude Mathieu, «Les cinq sensations de J. P. Richard», in Territoires de l’imaginaire, op. cit., p. 241.

[52] - انظر رامان سلدن، النظرية الأدبية االمعاصرة، مرجع سابق، ص. 222.

[53] - لم نعد جواري لكم، مصدر سابق، ص. 93. وللإشارة، فإن سَحَر تبرع في التقاط لحظتين في نفس الآن، وهما الزوج خارج المطبخ، وإيفيت والعشيق داخل المطبخ، وهو مشهد يذكر ببعض اللحظات القوية في رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير.

[54] - محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف، مرجع مذكور، ص. 41.

[55] - حول هذا النموذج النسائي يمكن العودة إلى:

Luce Irigary, Je, tu, elle, Ed. Privat, Paris, 1990, p. 133.

[56]  - Henri Lefebvre, La production de l’espace, op. cit., p. 339.

[57] - رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، مرجع سابق، ص. 215.

[58]  - Cité par Henri Lefebvre, in La production de l’espace, op. cit., p. 296.

[59] - ج. مويو، الرواية والواقع، ترجة رشيد بنحدو، منشورات عيون، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1988، ص. 76.

[60] - جورج لوكاش، نظرية الرواية، ترجمة الحسين سَحْبَان، منشورات التل، الرباط، الطبعة الأولى، 1988، ص. 86.

 

 

موارد نصيـة

حسن نجمـي

شعرية الفضاء الروائـي

المحتــوى

 مقدمـــة

الباب الأول:

 الفصل الأول: الفضـاء. أية استراتيجية؟

الفصل الثاني: السيرورة الحكائية ومشكلة الفضـاء

الفصل الثالث: الفضـاء المفتـوح

الباب الثاني:

تمهيـــد

الفصل الخامـس: سحر خليفة وأمكنتها

الفصل السادس: فضاء الهويـةِ

الفصل السابع: الفضـاء الأنثـوي

الفصل الثامن: «فضاء المحتمل؟!»

على سبيل الخاتمـة

 

 

 

 

 

جماليـــات إضــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.