نتحدث
هكذا عن الفضاء الفلسطيني لأن سحر خليفة لا تدع القارئ على عطشه، فهي تراكم كل
الحركات والتفاصيل الطوبوغرافية والإشارات الكافية إلى الفضاء المذكور بكل مكوناته
دونما تعقيد مثل أي كاتب واقعي يقترح علينا فضاءه الأثير ويقنعنا به[10]. إنها تقدم
فضاءً تسميه حتى لا تغمرنا صوره وأخيلته واستذكاراته مثلما تغمرنا التجريدات. كأنها
تسعى سعيا كي تموضع فكرا في الفضاء الذي يليق به، في الفضاءات المتعددة التي تضيء
هذا الفكر وتوصله إلى حيث ينبغي أن يصل. وقد رأينا وسنرى أن الفضاء الفلسطيني يتحدد
كما هو، بخصائصه ومميزاته. ويتحدد أيضا بهوية الفاعلين فيه (مثلما هو فاعل فيهم) من
حيث الجنس، اللغة، الوضع الاعتباري، السن. كما يتحدد هذا الفضاء بما ليس هو، أي
بالفضاء الصهيوني، بنقيضه المطلق.
هكذا،
يمكن القول بأن فضاء سحر خليفة بكل أبعاده الجمالية والثقافيةوالرمزية والدلالية لا
يرفض أن تستعمله خيارات إيديولوجية معينة. استعمالٌ لا يأتي فقط من سلطة خارجة عنه،
سلطة المرجع بالذات، بل لأن هذا الفضاء نفسه كما صاغته الكتابة مهيأ لمثل هذا
الاستعمال. ولا ينبغي هنا أن ننسى أن النص بكل مكوناته، وضمنها الفضاء، لا يمكنه
ألا يكون في الوقت نفسه إيديولوجيا ونقديا - على نحو ما يوضح ذلك بيير ماشري[11]:
«في حين تبدو دائما الإيديولوجيا في حد ذاتها حافلة، سخية، إلا أنها عند تواجدها في
الرواية، تبدأ في إظهار نواقصها».
إن من
مظاهر السَخاء الإيديولوجي ما تلاحظه كل قراءة أولى لهذا المتن الروائي في سعي
الكتابة إلى التعبير عن مظاهر وتجليات هويتها. بل وفي جعل فضاء الهوية سَنَداً
ضروريا للاقتناع بالأطروحة المسبقة وتعيين مكانة لها في الفضاء الذهني للقراءة
والتلقـي.
وما
يجعل مقصدا إيديولوجيا مقروءا أو قابلا للابتلاع، على الأقل في هذا المتن، هو
استعمالات اللغة (شعرية، كلاسيكية، عامية، أو كرطانةٍ عبرية...)، ترتيب عناصر
المحكي، توظيف تقاطعات الواقع بالمتخيَّل، تأثيث الفضاء المحكي بالتفاصيل الواقعية:
«في الأرض المحتلة، حيث يكون الصراع محتدما على الأرض تحضر لغة التفاصيل وتصبح هي
المكون الأساسي لعمل روائي «وقائعي» يهتم بـ «الحدث» في حصوله وتحققه على أرض
الواقع، أي أن الرواية تعمد إلى رسم التفصيلات العينية «المطابقة» للواقع والدائرة
في فلكه»[12].
وتزداد
حدة البعد الإيديولوجي للفضاء عندما يتعلق الأمر بفضاء ليس إلا صورا لوطن يمكن
تحديده، أي أنه غير متعال، وله وجود في الخريطة وفي الذاكرة. وطن من خصوصيته تنغلق
خصوصيات متعددة للكتابة الروائية، خاصة ما يتعلق بالسند الأساس فيه: وهو الأرض.
إن
الشخصية الفلسطينية تدرك حدسيا، وبكيفية شبه غريزية، بأن الأرض هي الوجود ذاته، هي
البساط الذي يتحقق فيه الوعي والذات والتاريخ. ومن ثم، فالهواء الضروري للوجود لا
يمكنه أن «يشكل عنصر التاريخ أو وعاءه إذا لم يستقر أو يستريح على الأرض. الأرض
الثقيلة، الصارمة، والصلبة. الأرض التي نشغلها، ونخدشها، والتي عليها نكتب. والعنصر
الذي ليس بالأقل كونية، الذي ننقش عليه المعنى ليدوم»[13]. شخصية تدرك فضاء وجودها
تماما كما تدرك زمن وجودها، لكنه إدراك يتأثر في أكثر من موقع داخل المتن الروائي
بعثرات الانتماء المتعدد، بالتباسات وتناقضات صلة الفضاء بالزمن. ومن ثم هذا الترنح
الفكري الذي يميز عددا من شخصيات سحر خليفة، بين الأزمنة والفضاءات.
الوطن
هنا هو فضاء الهوية بامتياز.
هو
منطلق ومنتهى الكينونة، من أبسط مكان أو مشهد أو صورة أو علاقة فيه إلى امتداداته
كشذرات وصور استعادة وتذكر وكحاجة وفقدان في الشتات والمنافي وأوطان الغربة.
- «ولا
أدري كيف توصلت إلى معرفة أن فلسطين هي بلدي، وأن فلسطين ضاعت وأننا نمر بمأتم
كبير...» (مذكرات امرأة غير واقعية، ص. 142)
-
«طردوني من بغداد وبيروت وعمَّان وهنا وهناك، بكيتُ لا أنكر، لكني هنا لن أبكي. أنت
تعرف وأنا أعرف هذا بيتي» (عباد الشمس، ص. 225.)
-
«وقالت: «ألم تشتق لهذه البلاد؟». قال ساخرا: «كنتُ سأسألك نفس السؤال!». وتفادت هي
سخريته، وقالت بإيمان: «هذا مكاني». فقال مؤكدا: «ومكاني أنا أيضا، فما من شيء في
الوجود يهمني قدر ما أهتم بهذه الأرض وبمن عليها. وقد أُسْجَنُ قريبا بتهمة هذا
الاهتمام!» (لم نعد جواري لكـم، ص. 86).
-
«غوصي يا بلدي.. ولكن لا! لن تغوص البلد.سيظل فيها أناس يؤمنون بالمستحيل. إرادة
الإنسان أقوى من المستحيل. وفلسطين في القلب يا نيرودا. في بؤبؤ العين في لب
الحياة. وهؤلاء الناس. بجهلهم. بحزنهم. بخبزهم الموصوم بدمغة عبرية ما زالوا أهلي»
(الصبار، ص.63).
-
«ليقذف بي أي قاذف في هذي الأرض إلى ما شاءت له قريحته من مناطق مجهولة الموقع
والتاريخ. فأنا هنا. وقد عدتُ لهذي الصخرة. لهذي الحفرة..» (الصبار، ص. 137).
وبقدر
ما تنضج درجة الانتماء إلى فضاء الهوية تتحول إلى إدراك هذا الفضاء أساسا كعلائق
حية، حيث يتشابك الإنسان بفضائه: «كانت المرأة صورة، وما زالت، كرمز الأرض، أو أن
الأرض هي المرأة..» (باب الساحة، ص. 56) وبدون أناس، بدون علائق معهم لا معنى
للفضاء، للأمكنة وللأشياء: «لكن الناس هم المعبد، هم القِبْلَة، وهم اللازمة لكل
صلاة. فبدونهم ما طعم الأرض؟ ما طعم الروح وما معنى الوطن؟» (باب الساحـة، نفسـه).
وهو نفس الإحساس الذي نلتقطه في جانب آخر من نفس الرواية: «لا تقولْ لي الوطن ولا
التاريخْ، يعني مِينْ الوطن غير أنت وأنا؟ احنا يا ها الناس؟» (نفسه، ص. 174).
هذا
الإدراك العميق لمعنى الوطن هو الذي يُحَوِّلُ الأحاسيس إلى وعي، ويجعل من الوعي
بالفضاء مادة حياة للفعل والدينامية والانتماء للتاريخ، أي للزمن. ومن هنا هذا
الجنوح الفلسطيني في أفعال وخطاب الشخصيات الروائية إلى الذاكرة. ذلك لأن الذاكرة
ليست فحسب ماضيا تتم استعادته للسيطرة على الحاضر، بل الذاكرة كنظام من الاعتقاد
كذلك.
ما
معنى الوطن بدون ناس، أي بدون علاقة معهم؟ لذلك تتعلق الشخصية بالوطن مادام ممتلئا
بالآخرين الذين يزرعون الحياة في الأشياء والمعالم: «أحب البلد. لم يبق فيها إلا
الطبيعة والعشب البري وظلال الكينا. تموج وأموج معها فوق السطح وألتهم المعالم»
(مذكرات امرأة غير واقعية، ص. 72). أما حين يخلو الوطن من أهله فإنه يصبح مجرد
خريطة فارغة لا تبعث على الحلم، أي على الحياة والتجدد: «تصور الوضع حين تخلو البلد
من الناس، تصوَّر. لكن المطمئن أننا شعب مخصاب. هل قرأتَ الدراسة التي قام بها
أحدهم؟ يسميه الغزو العربي من الداخل» (عباد الشمــس، ص. 152).
وينبغي
هنا أن نرصد صيرورة الوعي بالفضاء كسَنَدٍ للهوية لدى الشخصية الروائية الفلسطينية
في كتابة سحر. فليس ثمة فضاء ثابتاً لأن الوعي ليس ثابتا، لأن الذاكرة ليست ثابتة،
لأن وعي الذات الكاتبة ليس ساكنا أو جامدا. ولذلك فكل شيء في صيرورة. إن سَحَر
خليفة التي بدأت كتابتها بوعي شابة مشتعلة بالحماس قدمت لنا نوعا من رَمْنَطَقَة
الفضاء (
وأن
تتمسك فرح حاطوم بحجة ملكيتها للأرض بالرغم من فقدان الأرض نفسها، أن ترفض رفضا
مطلقا أية مساومة، وهو «منطق يستعصي فهمه على مستوى معين - كما لاحظ إدوارد سعيد -
ولكنه يرضيها تماما على مستوى أخر»[17].. كل ذلك معناه أن العلاقة بين الفلسطيني
والفضاء تظل قائمة على المستوى الرمزي حتى وإن غدت مستحيلة على مستوى الواقع، أي
علاقة ممكنة دائما طالما ظلت قوة الحجة قائمـة:
«والتجربة المحورية في الفيلم هي إبراز علاقة السيدة العجوز بالأرض. ويتم ذلك في
مشهدين مترابطين. نراها في نقاش مع أولادها البالغين، كلاهما يحاول إقناعها ببيع
أرض تملكها وإن كان الإسرائيليون «استعادوا ملكيتها». وحجة الملكية ما زالت معها،
برغم أنها تعرف تماما أنها مجرد قطعة من الورق. ويخبرها ولداها أن الاستشارة
القانونية أقنَعَتْهما بأنه في استطاعتها أن تبيع الأرض لمستأجريها الحاليين، برغم
أن الإسرائيليين انتزعوا ملكيتها. ومن الواضح أن هناك من يريد أن يضفي شرعية على
سلب أرضها بمنحها مبلغا من المال في مقابل حجة نهائية بالملكية.
أما هي
فترفض رفضا باتا. امرأة ضخمة، عريضة الوجه. تجلس كالصخر إلى مائدة المطبخ، غير
متأثرة بمنطق رغد العيش وراحة البال الذي يحاولون إقناعها به. فتقول: كلا وكلا
وكلا: أريد أن أحتفظ بالأرض. فيجيبان: ولكنك لا تملكينها بالفعل: خذي المال وعيشي
في بحبوحة، وتجيب هي ساهمة وبتأثر: الأرض ليست معي الآن، ولكن من يدري ما قد يحدث؟
نحن كنا هنا من قبل، ثم جاء اليهود، وسيأتي غيرهم من بعدهم. الأرض لي. أنا سأموت
يوما. أما الأرض فستبقى هنا بغض النظر عمن يأتي ومن يذهب»[18].
أما
المشهد الآخر، فتظهر فيه فرح حاطوم وهي تزور أرضها لأول مرة في حياتها، الأرض التي
ورثتها عن زوجها بينما كان الإسرائيليون يصادرونها. وهي زيارة لتجديد الذاكرة
وإعطاء نَفَس آخر للعلاقة الرمزية بين الفلسطيني وفضائه المفقود. بمعنى أن هذه
الانتظارية المستديمة التي تجسدها هذه المرأة الفلسطينية هي نفسها التي ميزت شخصيات
سحر خليفة في وعيها الأول بإشكالية الفضاء. الانتظارية التي استلزمتها ظروف العجز
العام والتناقض بين الواقع القائم والرغبة المفتوحة. وهي حالة استلاب قصوى تبدأ
بصورة هذا العجز وتنتهي إلى صور اللاَّمَعْنَى وهشاشة الانتماء[19]. لكن سَحَر ترصد
بين هذا وذاك أصواتا تعلو وتدعو إلى المقاومة: «هذه الأرض لكم. استرجعوها بقرار من
هيئة الأمم. استرجعوها بأبيات الشعر وأغاني العودة. وصلُّوا الله مليون ركعة بدون
مبرر. فلن ينصر الله إلا اليد المشدودة على الزناد» (الصبَّــار، ص. 150). ومن ثم
تتصاعد مع تصاعد الوعي في الكتابة مشاهد المجابهة والمقاومة والفداء (في ثنائية
الصبـار وعبـاد الشمـس، وفي باب الساحـة كذلك التي تتضمن في نفس الآن مظاهر
اللامعنـى).
إن هذا
المسار المعقد في كتابة سحر وفي وعيها: من الالتزام إلى مساءلة الالتزام، من
المجابهة من أجل فلسطين إلى المجابهة الذاتية، من حقل الانتماء الجماعي إلى حقل
الانتماء للذات... يفرضه ضعف التجربة وتضخم الإيديولوجي حيث «تغيب، إذن، الممارسة
لتحل محلها الإيديولوجيا، وتنمَحي التجربة لتتيح المجال لتعملُق الكتابة النظرية
وافتراشها لمساحة الفعل الروائي في زمن تحققه»[20].ومن ثمَّ سنرى كيف أن سحر ستركز
أكثر على سلطة القمع الجنسي التي تقهر المرأة الفلسطينية. وذلك على حساب الإمساك
بباقي عناصر التركيب الاجتماعي والسياسي المعقد للمجتمع الفلسطيني.
سيادة
الإيديولوجي في هذا المتن لا تجعل جملة من العلائق تتجذَّر في المجرى الروائي، لكن
في نفس الوقت قد لا يمكن فهم مستويات الفضاء كما تشيدها كتابة سحَر إلا في سياق
نظام إيديولوجي واضح المعالم. ذلك لأن الكاتبة اختارت منذ البداية أن تفتح نصوصها
الروائية على بعض المُطْلَقَات الخارجية. ومن ثم، لا ينبغي أن نقسو على الكاتبة
لأنها اختارت هذا المنحى أو هذا المضمون، بل ينبغي أن يتجه النقد إلى مستوى البناء
السردي الذي لا يتأمل نفسه في لحظات انبنائه.
إن
الكتابة السردية التي لا تنتبه لسيرورتها، لا تسْخَرُ، لا تَنْكَتِبُ بالفضاء وهي
تكتبه (التَّفْضِيَة)، لا تكسر خطِّيَتَها الزمنية، لا يمكنها أن تتخلص من السطوة
الإيديولوجية. ولذلك توجد دائما عناصر سردية (وأحيانا حكائية) على أهبة عرقلة أي
تشييد دلالي. ثمة باستمرار ما ينفلت ليشكل عقبات سيميائية أمام كل قراءة تتغيَّا
الإحاطة بمكونات النص، وهي عقبات لن نعثر عليها ولا تصادفنا عندما نمسك بالنص من
جانب ثراء التفاصيل. لعل التفاصيل وحدها في كتابة سحر خليفة ما ظل خارج المنزع
التحكمي للكاتبة.
ويبدو
لي أن سطوة الإيديولوجي التي انتبه إليها نقاد سحر في أكثر من مناسبة وسياق تغدو
مكونا من مكونات هذه الكتابة ذاتها حتى لَيَصْعُبُ تصور روايات سَحَر بدون هذا
المكون المتَّقد.
أريد
أن أقول إن هذه السطوة لا ينبغي أن تجعلنا نقلل من أهمية باقي العناصر الفنية
والجمالية لهذه التجربة الروائية. إن الإيديولوجيا كمكون من مكونات هذه الكتابة،
نتلقاها ونقرؤها كمعطى ليس بإمكاننا إلا أن نضَعَهُ في الاعتبار. ولمَ لا ندفع
بفرضية في هذا الإطار تحتاج إلى اختبار ليس هذا سياقه، وهي أن ما يبدو لنا
إيديولوجيا - من وجهة نظر القراءة النقدية - قد يكون التقاطا لحقيقة مقموعة أو
مرفوضة؟
لكن
المشكل الذي يظل مطروحا، بغض النظر عن مدى تحقق أية فرضية من هذا القبيل هو ضعف
احتمالية ابعاد ومستويات أساسية من المتن الروائي. ذلك لأن سحر خليفة في نظرنا لم
تعثر بعد على صيغة لتجاوز الحجاب الإيديولوجي الذي يضبب كل تمثيل ذهني للواقع
الاجتماعي، مما يجعل من قيادة النص قيادة تحكمية سواء في توجيه الأحداث أو تحديد
سلوك الشخصيات أو إدراك الأشياء.
وفي
تجربة روائية فلسطينية من الصعب أن نتصور أن الانتقال من الواقع إلى تمثل الواقع،
ومن المعيش إلى الفكرة هو مجرد مقتضى من مقتضيات الكتابة الأدبية. فأن تكون
الكاتبةُ فلسطينيةً أو الشخصيةُ فلسطينيةً يصبح هذا الانتقال قابلا للتعبير عن فضاء
هوية مأزومة. ذلك لأن «لفقدان فلسطين، كما لفلسطين نفسها، بعدين: بعد مجاله الواقع،
والآخر مجاله الإيديولوجيا والخيال والإسقاط والفن والدين. في البعد الأول فلسطين
أرض كان يعيش فيها الفلسطينيون العرب، أرض فقدوها، أرض يحكمها الآن آخرون، أرض
سُلِبَت من الفلسطينيين ويعيشون فيها الآن حالة من استعمروا من الداخل. أما في
البعد الثاني، ففلسطين هي مكان يكتب عنه، يحلم به ويخطط من أجله. وهو إذن كمجال عام
ملك لكل من يدعي به حقا. وإن كان لفلسطين بالنسبة للفلسطينين وجود داخلي راسخ، فذلك
بسبب شعورهم منذ مولدهم بمولد تاريخهم فيها. أما فلسطين الأخرى فلها وجود تاريخي
كحقيقة خارجية (...) قليل هي الأمكنة التي تتمتع بتشابك هذين البعدين الذي يفرض
نفسه»[21]. ومن ثمَّ لا يمكننا إلا أن نقدر هذه الحالة لكاتبة تعيش وتكتب في فضاء
هو لها و«ليس لها» في نفس الوقت. هذا فضلا عن كونها امرأة في مجتمع شرقي. فكيف
يمكنها أن توفر لشخصيات رواياتها نظاما من الفعل وعمليات التكيف مع فضاء مُصَادَر،
أي كيف تحتفظ لهذه الكائنات الروائية بهوية غير معطوبة؟
إن سحر
خليفة تجعل من هويتها الفردية نواة هوية (
- «أخ
تفو عليك يا فلسطين. أنا بدي أخوي ومش فلسطين» (ص. 210).
-
«يلعن أبوك يا فلسطين. يلعن اللي نفضك يا فلسطين، يلعن ترابك وأرضك وسماك ويلعن كل
من قال أنا مِن فلسطين. أخذتِ الأم وأخذتِ الأب وأخذتِ الأخ والأرض والعِرض وما
خلَّيْت حاجة يا فلسطين. إش اللي باقي يا فلسطين؟ لا باقي حي ولا باقي حبيب، ولا
باقي صاحب ولا باقي قريب، كله رايح، كله مدعوس، كله شقيان ومتشلوح، كله مشلح..» (صص.
210-211).
-
«التفتت نزهة، ونظرت بعينيها الوارمتين مباشرة:
- قولي
له، قولي له، فلسطينك زي الغولة، وبتأكل وبتبلع وما بتشبَعْ» (ص. 219).
- «مشْ
عشان الغولة، عشان أحمـد» (ص. 222)
إن
نزهة بهذا الوعي الذي يكشف عن هشاشة الهوية الجماعية تخرج عن هيمنة الخطاب السائد
في الساحة الفلسطينية والذي يلقي بظلاله على كتابة سحر، لكنه وعي يمتص أساسا خيارا
إيديولوجيا للذات الكاتبة يتم تصريفه عبر هذه الشخصية التي هيأت لها سيرورة المحكي
كل المقدمات الضرورية لإعلان هذا الوعي الشقي. ففي غمرة هذا البوح المعلن نكتشف عمق
الاهتزاز الذي يمكن أن يصيب هوية شعب من خلال الأعطاب التي يمكن أن تلحق بهويات
أفراده.
هذا
يطرح عدة عناصر للفهم، أولها أن الكاتبة تود أن تؤكد أن الهويات ليست ثابتة. ومن ثم
يمكن أن نسجل كيف تهتز هوية المعنى، هوية اللغة... وكل هوية يؤطرها السائد والجاهز.
كما يمكن اعتبار سحر خليفة في رؤيتها لإشكالية الهوية الفلسطينية مشدودة إلى نوع من
الهوية لا يتحدد بخصائصه الذاتية، بل الهوية هي ما لا تتحدد إلا من خلال علائقها مع
غيرها ومع تبدلات الواقع: «ما يميز الهوية بهذا المعنى هو التفتح وليس الانغلاق،
الخروج وليس الدخول. الهوية نتيجة ونهاية. وليست مبدأ وأصلاً. إنها ليست شجرة
أنساب، وسلسلة توالدات وإنما بناء وتركيب»[24].
وطبعا
ليست «نزهـة»، كوعي وكصوت، نشازا في هذا الخطاب، بل يكاد هذا النشاز يصبح قاعدة في
المسار الروائي لسحر خليفة. ففي رواية «لم نعد جواري لكـم» تحتد درجة الاغتراب، حيث
«يصبح الشاب الثوري مائعا! كيف؟ ولماذا؟ ما الذي حدث؟ ما رأى هناك؟ ما الذي غير
اتجاهاته؟ وتلك النقمة على البورجوازية المدللة ضاعت، فقد أصبح هو نفسه مدللا.
وذكريات السجن والمعتقل، كل ذلك ضَاعَ. ضاع!» (ص. 160). هذا التحليل في قيم
الانتماء الجماعي يأتي من إحساس بالحاجة إلى واقع بديل لا يستطيع تحقيقه إلا عبر
الانسلاخ عن «ثوابت الهوية» والمضي إلى أقصى درجات الاغتراب: «والحقيقة أنه بات يحس
أنه في مكان غير مكانه، وفي بلد غير بلده، وأنه غريب في جو قاحل كئيب» (ص. 129).
كما
تقدم رواية «الصبـار» على هذا المستوى نموذجا واضحا لهذا التصدع في جدار الهوية،
وبدءا من مظاهر التدجين التي طرأت على مستوى الوعي والسلوك، وصولا إلى الشك في كل
شيء، وبالطبع مرورا بهشاشة الفهم والتحليل والتآكل الذاتي وانهيار قيم الصمود أمام
زحف آليات التدجين الصهيونية:
«هز
أبو محمد رقبته الغليظة موافقا وعقب:
- وأنا
حاليا أدخن «العــال».
تساءل
أسامة بفـزع:
-
سجائر إسرائيلية؟!
- وآكل
أرزا إسرائيليا وطحينا إسرائيليا وسكَّراً إسرائيليا. البضائع تفقد جنسيتها بمجرد
وصولها إيلات. ونحن ندفع ثمن البضائع مرتين. مرة للجنسية الأصلية ومرة للجنسية
الجديدة.
-
وتدفعـون؟!!
ضرب
السائق المقود بانفعال:
- ندفع
الملعونة وأختها.
حملق
أسامة في المرآة الصغيرة المعلقة أمام السائق. أخذ يتملَّى في عيني الرجل البليدتين
بحنق... ماذا حدث لهؤلاء الناس؟ أهذا ما فعله بهم الاحتلال؟ اين روح المقاومة؟ أين
الصمود؟
وصاح
فجأة كمن يتقيَّأ:
- وأين
الصمـود؟
قهقه
السائق بسخرية:
-
للذين قبضوا ثمنـه.» (ص. 22).
في هذه
الرواية ينخرط الفلسطيني في دواليب الاحتلال، وتبدأ طاحونة المحو وتفتيت عناصر
الهوية الجماعية. «ولكن لا بأس. الليرة الإسرائيلية خير من الجـوع» (ص. 50). تتقلص
مساحة الوعي العام وينتشر التدبير الذاتي. تصبح سلطة الأمر الواقع هي التي تشيع صيغ
الهوية القابلة للتكيف. تتورَّط هوية الفرد في جدل علاقة غير متوازنة مع معطيات
الواقع. يمتثل الفلسطيني لعجزه ومخاوفه فيتخلى عن صموده ويستسلم لأوامر حياته
الداخلية وحدها ولإكراهات علائق اجتماعية متعارضة مع ذاكرته ورغباته وتكوينه النفسي
والثقافي والاجتماعي. «في الصباح رأس الواحد منا يزم قنطارين. والصحة كالأجر. كل
يوم بيومه. والخوف كل الخوف ليس من اليهود. الخوف من المرض والعاهات والبطالة. سكان
المدينة لا يعرفون معنى هذه الكلمة. «فلان هبط». كلمة هبط تطن في الأذن كالطبل.
وتعني ما هو أكثر من الموت. أكثر من الاحتلال. هبط... يا خوفي لاَهْبِطْ وياكلني
الدود ولاَمِينْ يسألْ عني ولا عن الأولاد. قطاطيم لحم مينْ يربيهم» (ص. 76). وهكذا
تتكاثف صور هذا التعارض بين الفرد والانتساب الجماعي في الرواية. يعمُّ الشك فضاء
التواصل الفلسطيني. ولا تعثر على شخصية متحمسة «للثوابت» حتى تسوق إليها المحكياتُ
الصغيرة الطارئة شخصياتٍ تسخَر أو تنقد أو تقدم حجج الارتياب: «بس يا ابني وآخرتها؟
والكلام ماذا يفيد؟ 25 سنة واحنا نتاجر بالكلام. تجارة خاسرة ميَّة في الميَّة.
تجارة الفسيخ أحسن منها» (ص.65)، وبورجوازية الثورة التي تمتص دم الأشقاء وعرق
جبينهم تصلح كبؤرة للغضب وكذريعة لانهيار القيم الجماعية: «عمارة خمس طوابق لواحد
من الناس اللي فوق. ولما طلبت منه أجرة مثل باقي الخلق قال لي: عيب. قال ايش الشغل
عنده بنص القيمة خدمة وطنية. قلت له الدنيا غلا والمصروف كثير. قال خدمة وطنية. قلت
له الإيد اللي في الميَّه مشْ مثل الإيد اللي في النار. قال خدمة وطنية. قلت له طيب
ليش الخدمة الوطنية عليَّ وبس؟ قال: ولازم على غيرك كمانْ. قلت له: وأنت؟ قال لي
عيب ها لْحِكِي» (ص. 76).
وهكذا
تترك التجربة الانفعالية الوجودية آثارها السلبية على الفرد الفلسطيني وبنيته
النفسية. ومن ثم تتدخل في نمط وعيه وشكلِ تلقيه للعالم والعلائق. وكما راينا من قبل
قيمة التفاصيل المرئية في تكون معرفة معينة بالفضاء الوجودي، يمكننا أيضا أن نسجل
هنا كيف تلعب اللحظات والجزئيات الاجتماعية دورا في تشييد نموذج آخر للهوية قائم
على التنافر الإيديولوجي بين الفرد وفضاء تواصله الجماعي، وأساسا بين الفرد وثقافته
السياسية والاجتماعية.
«هز
أسامة رأسه وتمتم:
-
الكلام مع السكارى عبث! أنت سكران. ادخل البوابة واصعد إلى غرفتك فورا ونَمْ. أنتَ
سكـران.
وقف
عادل وواصل هذيانه:
- أينا
ليس كذلك؟ بعضنا بنشوة الصمود. وبعضنا بأمجاد القتال. ونحن بمَغْص الكلاوي. مغص
الكلاوي مزعج. أصعب من آلام المخاض. لكن آلام المخاض تعقبها ولادة» (ص. 60).
أما
«عباد الشمس» فتأتي لتضع جملة من طقوس الهوية موضع مساءلة. تتراجع السلطة الرمزية
للطقوس[25]، وتفقد أية قدرة على تعيين المواصفات اللائقة بالانتماء إلى الجماعة، بل
وتفقد رقابتها على جل العلامات التي ينبغي أن تكون مرافقة للخطاب الطقوسي السائد أو
متجاوبة معه. ومن ثم، فإن صورة الشهيد لن تظهر إلا بمظهر شاحب في ظل شحوب كل شيء،
وسيفقد الموت السياسي طابع التقديس والرَّوْحَنَة (
[1] -
يرى هولاند أن «العمل الأدبي الجامد، ليس عملا بحد ذاته، بل فرصة لشخص ما كي يقوم
بعمل»، و«العمل» الذي تقدم له النصوص الفرصة إنما هو قيام القارئ بإعادة خلق الهوية
الخاصة به: «نحن نستخدم العمل الأدبي لنرمز إلى أنفسنا وأخيرا نعيد استنساخها،
فنأخذ النتاج إلى داخلنا ونجعله جزءا من ثرواتنا النفسية الخاصة - فالهوية تعيد
خلقها». انظر: وليم راي، المعنى الأدبي، مرجع سابق، ص. 78.
[2] -
انظر أفنيز زيس Avenir Ziss
في دراسته «الصورة الفنية»، ترجمة عبد الكريم الأمراني، ضمن الملحق الثقافي لجريدة
الاتحاد الاشتراكي، ليوم 13 اكتوبر 1985، العدد 99.
[3] -
بيير زيمـا، النقد الاجتماعـي، ترجمة عايدة لطفي، مرجع مذكـور، ص. 277.
[4] -
نشر هذا الحوار بمجلة الجديـد، العدد الرابع، خريف 1994 (بيروت - عمـان).
[5] -
فخــري صالح، في الرواية الفلسطينية، دار الكتاب الحديث، بيروت، الطبعة الأولى،
1985، ص. 79.
[6] - المرجع السـابق، نفس الصفحـة.
[7] - وليم راي، المعنــى الأدبــي، مرجع مذكـور، ص. 103.
[8] - Denis Bertrand, L'espace et le sens, op. cit., p.
16.
[9] - انظر عرض ابراهيم الخطيب لكتاب «القارئ المفترَض»
لأيزر، ضمن الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، ليوم 23 فبراير 1986، مرجـع
مذكـور.
[10] - Jean Weisgerber, L’espace romanesque, op. cit., p.
73.
[11] - عن بيير زيمــا، النقد الاجتماعــي، م. م.، ص. 142.
[12] - فخـري صالح، في الرواية الفلسطينيـة، م. م.، ص.
77-78.
[13] - جاك دريدا، الكتابـة والاختلاف، م. م، ص. 140.
[14] - محمد علال سيناصـر، في تقديمـه لكتاب ديريدا
بالعربية، الكتابة والاختلاف، م. س.، ص. 20.
[15] - الذاكـرة الخصبـة، سيناريو وإخراج: ميشال خليفي،
إنتاج سنة 1981، تلعب فيه سحر خليفة دورا تسجيليا تمثل فيه وعي المرأة الفلسطينية
الحاد تجاه نفسها وتجاه الرجـل.
[16] - انظر تحليلا لهذا الشريط الجميل في دراسة بعنوان «جدل
الإنسان والوطـن»، ضن كتاب محمد نور الدين أفاية، الخطاب السينمائي بين الكتابة
والتأويل، منشورات عكاظ، الطبعة الأولى، 1988، صص. 119-129. وانظر أيضا دراسة
إدوارد سعيـد،« تجربة الاستلاب»، ضمن مجلة الكرمـل، العدد 8 - 1983، صص. 14-32.
[17] - إدوارد سعيـد، م. س.، ص. 15.
[18] - إدوارد سعيــد، المرجع السابـق، نفس الصفحة.
-
لمزيد من توضيح هذا الاستلاب، انظر أيضا: الدكتور بسام خليل فرنجية، الاغتراب في
الرواية الفلسطينية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، (بدون تاريخ، بدون رقم الطبعة).
[19] -
فخــري صالـح، في الرواية الفلسطينية، م. م، ص. 105.
[20] -
انظر إدوارد سعيــد، المرجـع السابـق، ص. 17.
[21] -
إدوار سعيـد، المرجـع السـابق، الصفحة نفسها.
[22] -
محمد نور الديـن أفايـة، الهوية والاختلاف، دار إفرايقيا الشرق، الدار البيضاء،
طبعة 1988، ص. 41.
[23] -
المرجــع السابــق، ص. 36.
[24] -
عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة العين وثقافة الأذن، دار توبقال للنشر، الدار
البيضاء، الطبعة الأولى 1994، ص. 118.
[25] -
انظر حديث ميشيل فوكو في كتابه نظام الخطاب، م. م.، ص. 27، حيث يقول: «الطقوس تعين
المواصفات التي يجب أن يمتلكها الأفراد الذين يتكلمون (والذين يمكن أن يحتلوا هذا
الموقع أو ذاك، ويمكن أن يصوغوا هذا النوع أو ذاك من المنطوقات، ضمن لعبة الحوار
والتساؤل والسرد)، إن الطقوس تعين الحركات والسلوكات والظروف، ومجموع العلامات التي
يجب أن ترافق الخطاب. إنها تعين أخيرا الفعالية المفترضة أو المفروضة للأقوال،
ومفعولها على أولئك الذين تتوجه إليهم، وحدود قيمتها الإرغامية».
[26] -أليكس
ميكْشُيلِّلي، الهويـة، ترجمة د. علي وصفة، دار الوسيـم، دمشق، الطبعةالأولى، 1993،
ص. 71.
[27] -
انظر المرجـع السابق، ص. 83، حيث يتم التأكيد على أن «الهوية السلبية» هي «عندما
يعي الفرد هويته التي تشتمل على وحدته، وانتماءاته، وتبايناته، وقيمه، يكون قد
كوَّنَ تصورا، أكثر أو أقل وضوحا، عن هوية أخرى سلبية. وذلك بناء على سمات ومواصفات
نوعية يرفضها ويتجنبها. وتقتضي مثل هذه الهوية السلبية بالضرورة وجود هوية إيجابية
مرافقة لها. وهي بدورها تسهم، كما هو حال التعارضات الأخرى الخاصة بالهويات الفردية
الأخرى، في بناء الوعي الخاص بالهوية. فالوجود الخاص، كما لاحظنا ذلك في واقع
الأمر، يولد على أساس التعارض مع كيانات وجودية أخرى. ومن هنا بالذات يترك الشعور
بالتباين أثره على الشعور بالوجود».
[28] -
إدوارد سعيـد، تجربة الاستلاب، م. م.، ص. 16.
[29] -
انظر: أليكس ميكْشُيلِّلي، الهويـة، م. م ، ص. 70.