I. الفضـاء في الخطاب النقدي
العربي
لعله اتضح لنا الآن، نسبيا بالأقل، معنى الفضاء. إنه ليس معادلا
للمكان. وإذا كنا هنا بصدد الحديث عن الفضاء الروائي، فإننا نقول بأن الأمر يتعلق
بفضاء مطلق. ذلك الفضاء الذي قال عنه هنري لوفيفر بأنه «لا يوجد في أي مكان. لا
مكان له، ذلك لأنه يجمع كل الأمكنة ولا يملك إلا وجودا رمزيا»[ 1]،
بل إن هذا «الفضاء المطلق ليس له إلا وجود ذهني، وإذن «متخيل»..»[2] سواء أثناء كتابته من طرف
الكاتب (الروائي) أو تمثله من طرف القارئ (المتلقي).
لقد ظل الخطاب النقدي العربي، بسبب من تبعيته وذيليته للخطاب
النقدي الغربي، مترددا في مقاربة حقيقية للفضاء الروائي. وربما كان للنقد العربي
(والفرنسي) في المغرب فضل تدشين جدي في هذا المنحى، سواء من خلال ما تراكم من
اجتهادات متفرقة في النقد الفرنسي (هنري ميتران، بورنوف - ويلي، جيرار جونيت، جوليا
كريستيفا، دُونِي بِرْتْران...) أو بوحي مما استشعره النقاد المغاربة من فراغ أو
ضعف في بعض الدراسات النقدية العربية. تفكير لا يزال في بداياته ولم يرق إلى مستوى
صياغة نظرية متكاملة بالرغم من الإحساس بضرورتها وأهميتها[ 3].
ربما كان من المتعين على باحث في هذا الباب أن يقوم بمراجعة لمجمل
مقاربة النقاد العرب لهذا المفهوم، أو في اقصى الحالات أن ينجز نوعا من «الببليوغرافيا
المعلق عليها»[4]. لكن أمرا كهذا غير ممكن لأن ما أنجز عربيا يبقى محدودا جدا. ومن
ثم، سنحاول أن نرصد هذا المنجز في مستوياته المتباينة عبر تطوره الزمني أساسا.
ومن الواضح جدا أن النقاش الحاد الذي دار بين النقاد العرب في
ندوة «الرواية العربية» سنة 1979 بفاس، وخاصة الحوار الذي جرى بين الأستاذ محمد
برادة والمرحـوم غالب هلسا، كان بداية جدية لنقـاش حـول هـذا الموضوع لم يتوقف حتى
الآن. فإلى جانب «الفوضوية المنهجية»، و«التحايل بحثا عن نوع من البراءة» عبر
التذرع بالانطباعية التي تطبع مداخلة غالب هلسا، امتعض محمد برادة بهشاشة منظور
هلسا للأمكنة التي حاول تقسيمها إلى: مكان مجازي، مكان هندسي، مكان يمثل التجربة
المعاشة، ثم المكان المعادي: «لا يمكن تقسيم الأمكنة - يقول برادة - أو الفضاءات في
هذه الحال إلى مجازية، لأنها كلها مجازية، أي لا تساوي الواقع، والمكان داخل أي نص
أدبي يصبح في النهاية نوعا من السعة في المجازية. كما لا يمكن أن نقول: مكان هندسي
أو مكان معاش، لأن جميع الأمكنة لها أبعاد هندسية قد يصفها الكاتب وقد لا يصفها،
وقد يستبطنها من خلال إحساساته الداخلية. والمكان المعادي يظل بدوره فضاء، وهذا
الفضاء إما أنه بالإمكان التأكد من وجوده، وإرجاعه بالتالي إلى مرجع معين، وإما هو
فضاءات متخيلة تماما مثل فضاءات كافكا بالخصوص التي لا يمكن أن تعود بها إلى خارج
النص أو إلى مرجع»[5]. وآخذ برادة، في نفس السياق، على هلسا كون تصنيفاته لا تساعد
على تمثل جيد، بل «هي في الحقيقة تعوم إدراكنا لأهمية الفضاء». إلا أن غالب هلسا
سيؤكد محدودية اختياره: «إن ما أعنيه هنا هو المكان البسيط ذو الأبعاد الثلاثة، وقد
اضطررت، لأسباب منهجية، إلى عزله عن الزمان وعن الحركة، رغم استحالة العزل فعليا.
وهذا من شأنه أن يؤدي إلى مفارقة، إذ في حين أننا ننطلق من فكر يؤمن بأن الزمان
والمكان والحركة تشكل وحدة لا تنفصل أراني هنا أعود إلى فكر علماء الطبيعة في
القرنين الثامـن والتاسع عشر الذي كان يعتبر المكان والزمان منفصلين...» (نفسـه، ص.
400).
كما تنبغي الإشارة إلى الجهد الكبير الذي بذله الناقد العراقي
ياسين النصير في دراسة هذا الموضوع، بكثير من العناء وبقليل من العمق. لقد حاول هذا
الباحث في كتابين له[6] الانتصار للفضاء الروائي (الأدبي) مبقيا على نفسه في أبسط
مستويات فهم الظاهرة وتحليل الظاهرة الفضائية في الكتابة الأدبية، سردية وشعرية،
نظرا لحداثة تداول الموضوع في الخطاب النقدي، من جهة، ولعدم امتلاكه الآليات
المنهجية والمفاهيمية لمقاربة مبحث في غاية التعقيد كمبحث الفضاء. إن ياسين النصير
يختزل الفضاء الروائي ويبسطه كثيرا، وحتى وهو يبقي عليه كمعادل للمكان، تظل رؤيته
لهذا المكان تقليدية: «فالمكان دون سواه يثير إحساسا ما بالمواطنة، وإحساسا آخر
بالزمن وبالمحلية، حتى لنحسبه الكيان الذي لا يحدث شئ بدونه، فقد حمله بعض
الروائيين تاريخ بلادهم، ومطامح شخوصهم فكان وكان: واقعا ورمزا، شرائح وقطاعات،
مدنا وقرى، كيانا نتلمسه ونراه أو كيانا مبنيا في المخيلة...»[7].
أما سيزا قاسم في «بناء الرواية»[8] فقد كانت أكثر فهما للفضاء
باعتباره «مكانا خياليا له مقوماته وأبعاده المميزة» تخلقه الكلمات، وليس هو بأية
حال من الأحوال - حتى وهي تسميه المكان - «المكان الطبيعي»، بل مكان الرواية». وإذ
تسترشد في مقاربتها للفضاء الروائي في ثلاثية نجيب محفوظ بمرجعيات هامة جدا (ميشيل
بوتور، ميرسيا إلياد، جلبير ديران، يوري لوتمان...)، فإنها مع ذلك تقود المفهوم في
مأزق كبير. ذلك أنها تربطه بالوصف ليصبح بالنسبة إليها في النهاية «يمثل الخلفية
التي تقع فيها أحداث الرواية. أما الزمن فيتمثل في هذه الأحداث نفسها وتطورها. وإذا
كان الزمن يمثل الخط الذي تسير عليه الأحداث فإن المكان يظهر على هذا الخط ويصاحبه
ويحتويه. فالمكان هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث»[9].
نفس الفهم تقريبا نجده لدى ناقدة مصرية أخرى هي اعتدال عثمان في
كتابها «إضاءة النص»[10]، حيث مأزقية القراءة النقدية غيـر المنطلقة من استراتيجية
نظرية مدركة لأبعاد الفضاء الأدبي. إن خطأ غالب هلسا يكرر نفسه من جديد. تدرس
الباحثة «جماليات المكان» في الشعر العربي الحديث، لكنها وهي تحاول الإمساك بالفضاء
من حيث هو «مكان تشكله اللغة» و«العلائق المعتمدة على التجريد الذهني» تعود لتختزله
إلى مجرد مكان في بعده الهندسي والطوبوغرافي.
وتكرس مجلة «ألــف» المصرية عددا خاصا لما أسمته بدورها بـ«جماليات
المكان»[11]. لكن رغم عدم دقة العنوان العام لمجمل الدراسات المنشورة في هذا العدد
الخاص (عربية وأجنبية مترجمة)، فإن الفهم الذي ساد على العموم توجه المجلة كان
متقدما، على الأقل كما بلورته هيأة تحرير المجلة أو كما ظهر في اختيار النصوص
النظرية المترجمة:
«لاشك أن المكان يمثل محورا
أساسيا من المحاور التي تدور حولها نظرية الأدب، غير أن المكان - في الآونة
الأخيرة - لم يعد يعتبر مجرد خلفية تقع فيها الأحداث الدرامية، كما لا يعتبر معادلا كنائيا للشخصية الروائية فقط، ولكن أصبح ينظر إليه على أنه عنصر شكلي وتشكيلي من
عناصر العمل الفني. وأصبح تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكلان بعدا جماليا من
أبعاد النص الأدبي.
هذا بالإضافة إلى أن المكان كان، ومازال، يلعب دورا هاما في تكوين
هوية الكيان الجماعي، وفي التعبير عن المقومات الثقافية. وقد أثرت العوامل البيئية
على المفاهيم الأخلاقية والجمالية التي تحرك الشعوب في جميع أرجاء العالم. ويصبح
المكان إشكالية إنسانية إذا ما اغتصب، أو إذا حرمت منه الجماعة، ولذا فإنه يكتسب
قيمة خاصة ودلالة مأساوية بالنسبة للمستعمرين واللاجئين. ترجو ألف - إذ خصصت هذا العدد لجماليات المكان - أن تكون قد
وفقت في الكشف عن الأبعاد النقدية والإيديولوجية للمكان»[12].
أما حسن بحراوي - في «بنية الشكل الروائي: الفضاء - الزمن -
الشخصية»[13] - الباحث المغربي المسلح بترسانة نظرية في مواجهة تعقيدات وصعوبة
«الشكل الروائي، خصوصا في مكونات ثلاثة من مكوناته المتعددة، فقد وقع اختياره على
«المكان أو الفضاء الروائي» (كذا - ص. 20) «بوصفه عنصرا شكليا فاعلا في الرواية لما
يتوفر عليه من أهمية كبرى في تأطير المادة الحكائية وتنظيم الأحداث والحوافز. وكذلك
بفضل بنيته الخاصة والعلائق التي يقيمها مع الشخصيات والأزمنة والرؤيات»[14]. ويسمي
بحراوي الباب الأول المخصص لدراسة الفضاء الروائي بـ«بنية المكان في الرواية
المغربية» بالرغم من أنه سيواصل الحديث مترددا بين المصطلحين (المكان - الفضاء) كما
لو كانا شيئا واحدا، بل إنه لن يتردد في ترجمة عنوان كتاب باشلار «شعرية الفضاء» بـ«شعرية
المكان»[15].
وبالرغم من تجميع بحراوي لركام من التعريفات الأكاديمية، النظرية
والنقدية، التي تحدد مفهوم الفضاء الروائي بكثير من العمق، فإنه - فيما يبدو - لم
يتمثل هو نفسه هذا الأفق النظري الرحب، فواصل تسكعه وحيرته بين استعمال الفضاء
واستعمال المكان بنفس الفهم ونفس الاستثمار. ربما كان ذلك نابعا من إيمان لديه بكون
«الزمن، زمن الخطاب وزمن القراءة هو العامل الأساسي لوجود العالم التخيلي
نفسه»[16]. وربما لكونه اختار أبسط السبل الممكنة، منهجيا وإجرائيا، للعبور إلى
ضالته في المتن الروائي المغربي، حيث يتبدى عموما نوع من هشاشة الوعي الجمالي
والفكري بالفضاء في كتابتنا الروائية، اختار طريقة «التقاطبات المكانية»[17] ليظل
مشدودا إلى «الثنائيات الضدية» التي يجد لها مسوغا في كونها «تنسجم مع المنطق
والأخلاق السائدة مثلما تتوافق مع الآراء السياسية التي نعتنقها»[18].
وإذا كان حسن بحراوي قد ارتضى منحى التقاطب في تحليله لنماذج
روائية مغربية ليظل بذلك قارئا للمكان الروائي وليس للفضاء الروائي، بالرغم من
المقدمات النظرية التي راكمها في مدخل الباب الأول حول مفهوم الفضاء، فإنه ضيع
البوصلة في المسافة بين الاختيار النظري وإمكانيات التنفيذ. شئ ما حدث له، عطب
قراءته للفضاء الروائي. شئ شبيه بما حدث لرئيس الشرطة في قصة «الرسالة المسروقة»
لإدغار ألان بو، حيث لم يعثر على الرسالة - هو بالذات - مع أنها كانت ملقاة هناك
فوق المكتب تحت بصره.
هكذا تشتغل المسبقات والاقتناع الجاهز في إفساد الرؤية، وتنتهي
القراءة عند حسن بحراوي «بالعثور عما تبحث عنه». لكن باحثا مغربيا آخر هو حميد
لحميداني في مبحثه حول «الفضاء الحكائي»[19] يبدو أكثر تقدما في انشغاله بهذا
الموضوع وأكثر جدية في مقاربته، ليس فقط بسوقه لعناصر التفكير في النقد الفرنسي
وغيره، حول مفهوم الفضاء الروائي، وإنما أيضا لكونه يقدم مجهودا شخصيا وتأملات خاصة
حول «حقيقة مفهوم الفضاء وعلاقته بمفهوم المكان»[20].
ينجح الدكتور لحميداني في تجميع أهم مكونات الفضاء الروائي مع
حرصه على إبداء رأيه فيها والمضي ببعضها إلى حد التماس مع حقول أخرى، فهو يدرك تعدد
الاجتهادات النظرية الغربية بخصوص مفهوم الفضاء والتي «لا تقدم مفهوما واحدا
للفضاء»[21]. وبعد أن يحصر المكونات في أربعة:
1 - الفضاء كمعادل للمكان (الفضاء الجغرافي).
2 - الفضاء النصي.
3 - الفضاء الدلالي.
4 - الفضاء كمنظور أو رؤية.
يعتبر «المفهومين» الأول والثاني «مبحثين حقيقيين في فضاء الحكي»
في حين أنه يعتبر المبحث الثالث مبحثا يعود «إلى موضوع الصورة في الحكي» والمبحث
الرابع يعود «إلى موضوع زاوية النظر عند الراوي»[22]، والحال أن التماس مع مباحث
أخرى لا يعني انضغام الفضاء كمفهوم بهذه المباحث، بل أن الأمر يتعلق فعلا بمكونات
حقيقية للفضاء الروائي تمكن لحميداني من ضبطها وحصرها بدون أن يتمكن من تسميتها
باسمها الحقيقي كمكونات فضائية.
والأهم في الجهد النظري لهذا الناقد المغربي تمكنه من التمييز
والتدقيق بخصوص الفواصل القائمة بين كل من مفهوم الفضاء ومفهوم المكان. إذ يذكر
«بأن ضوابط المكان في الروايات متصلة عادة بلحظات الوصف، وهي لحظات متقطعة أيضا
تتناوب في الظهور مع السرد أو مقاطع الحوار. ثم إن تغيير الأحداث وتطورها يفترض
تعددية الأمكنة واتساعها أو تقلصها، حسب طبيعة موضوع الرواية. (...) إن الرواية
مهما قلص الكاتب مكانها تفتح الطريق دائما لخلق أمكنة أخرى، ولو كان ذلك في المجال
الفكري لأبطالها. إن مجموع هذه الأمكنة هو ما يبدو منطقيا أن نطلق عليه إسم: فضاء
الرواية، لأن الفضاء أشمل، وأوسع من معنى المكان. والمكان بهذا المعنى هو مكون
الفضاء. وما دامت الأمكنة في الروايات غالبا ما تكون متعددة، ومتفاوتة، فإن فضاء
الرواية هو الذي يلفها جميعا. إنه العالم الواسع الذي يشمل مجموع الأحداث الروائية.
(...) إن الفضاء - وفق هذا التحديد - شمولي. إنه يشير إلى «المسرح» الروائي بكامله.
والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقا بمجال جزئي من مجالات الفضاء الروائي»[23].
إن قراءة نقدية تتغيا إحاطة جدية بحضورات الفضاء الروائي لن تنهض
إلا من منطلق نظري يمنح الفضاء طابعه الشمولي. أما السقوط في مطب كمطب حسن بحراوي (التقاطبات)
فلن يتيح الإمساك بجوهر الثقافة الأدبية في النص المحكي. ولعل عطب التقاطبات
الثنائية يأتي من كونها خيارا أنثروبولوجيا وليست أداة للتحليل الأدبي الناجح، فهي
تصور لا يتحدث إلا عن شخص واحد له وضعية معينة: إن تقاطب (التحت/الفوق) مثلا يترجم
- كما هو معروف - نظرة شخص جالس وتقاطب (الضوء/الظلمة) يحيل على شخص سليم البصر...
وهكذا. كما أن هذه التقاطبات في حد ذاتها ليست إلا ترتيبا للاشياء الأدبية التي
يبقى جوهرها أعمق من مجرد ترتيب وتقابل. وهذا شئ ينتبه إليه، على نحو ما، «جان
ويسجربيرْ» على الرغم من كونه أخذ في تحليله لروايات القرن الثامن عشر بهذه
التقاطبات[24].
وإذا كان الأستاذ محمد برادة قد سجل التطور الملموس للتوجهات
النقدية العربية، بعد الستينات، في التجاوب مع المناهج النقدية الحديثة، فإنه انتبه
في نفس الوقت إلى ضعف هذه التوجهات في تمثل هذه المناهج مما كان يجعلها تسقط كثيرا
في نوع من «تمرينات تطبيقية لمصطلحات ومنظومات قلما تيسر النفاذ إلى عمق النصوص
لتجليتها والكشف عن فعاليتها ضمن السياق الذي أنتجها»[25]. وسنرى أن خطابنا النقدي
أصيب بعثرات الخطاب النقدي الغربي على الأقل بخصوص موضوع الفضاء.
إنني أرجح ضعف، ما تسميه سوزان سونتاغ، «شعرية الفكر» في نقدنا
العربي الحديث وهو يترك الفضاء الأدبي عموما «أرضا بدون مالك». لكن من المؤكد كذلك
أن عدم نضج المسار النقدي العربي، كما تقتضيه سيرورة التاريخ الثقافي وتطور
الممارسة الإبداعية والفكرية العربية[26]، ساهم في تعقيد مهام إنجاز «طوبوغرافية»
لهذه «الأرض» السديمية في الكتابة العربية، السردية والشعرية على السواء. ومن ثم،
عجز النقاد العرب عن التخلص من كثير من الأسئلة التي يطرحها الواقع التاريخي
والحضاري والفكري الغربي على خطابه النقدي وضرورة السعي نحو استنبات أسئلة في ظل
اشتراطات الواقع العربي وانشغالاته.
II. الفضاء هوية من هويات
الخطاب الروائي
وإذا كان النقد العربي قد قصر في طرح سؤال الفضاء الأدبي
لاعتبارات كثيرة أشرنا إلى بعضها ومنها بالأساس ذيليته للنقد الغربي في توجهاته
المتعددة التي تكاد تتفق، رغم اختلاف مقاصدها وأدواتها وآلياتها، على تهميش هذا
السؤال ذاته، فلست أول من انتبه إلى كون الناقد الأدبي في الغرب لم يقم أي اعتبار
للدينامية الفضائية «بالطريقة التي يتحول بها الفضاء ويتغير على المستويين التناصي
( Intertextuel) والضمنصي
(Intratextuel)»[27].
وإذا كان الناقد لا يريد أكثر من «توضيح الدلالة التي اكتشفها» بالرغم من انشداده
أولا إلى حالته الذاتية - على نحو ما يعبر عنه ف. أيزر - «أي صيغ تلقيه، وملاحظته
وحكمه»[28] فإن ميكائيل إيساشاروف في «الفضاء والقصة القصيرة» يذهب إلى الإقرار بأن
«النقد عموما، في دراسة الأشكال الروائية أقام الحجة على إصابته بقصر نظر تجاه
الفضائية (La spatialité).
وهذا أكثر إثارة للاستغراب، والحال أنه سبق أن لفتنا الانتباه إلى الدور الجوهري
للفضاء في حساسيتنا المعاصرة»[29].
إننا نعرف - بتعبير فرانسواز فان روسوم غيون - بأن «كل قراءة
موجهة وكل نقد يجد على الخصوص ما يبحث عنه»[30]، ولذلك لم يجب النقد عن سؤال
الفضاء، لم ينشغل به عموما لأن الناقد نفسه مشدود إلى «الدلالة» التي يمنحها له
واقعه التاريخي والاجتماعي والفكري.
ولست أفهم معنى المغامرة المزدوجة التي تشير إليها نفس الباحثة في
نفس المصدر: «إذا كان النقد قراءة لمغامرة فإنه أيضا مغامرة قراءة»[31]، إلا من حيث
تكون القراءة النقدية تعالقات أسئلة وأجوبة. يطرح النقد أسئلته ويتولى النص المقروء
الإجابة من داخل فضائه (من داخل بنيته، اشتغاله، معناه). ولأن العملية النقدية -
المغامرة هذه تنطلق من رحم نظري معين يقودها ويؤطر مساراتها فإن لهذا الرحم بالذات
يعود سبب انحسار النظر لدى النقاد في أوروبا (ومن سار مسارهم) في معاملة سؤال
الفضاء معاملة يصح أن نسميها معاملة «تاكتيكية» من حيث عدم إدراك الوضع الاستراتيجي
للفضاء في الخطاب الروائي. وضع له تنظيمه الاستراتيجي. له «ضروراته
الاستراتيجية»[32]، بمعنى هذا النسق الاستراتيجي للكتابة الروائية الذي يمنح لفعل
الشخصيات، للزمن وللمكونات الفضائية المتعددة ذاتها أوضاعا استراتيجية.
وفي الحقيقة، فإن أي إلغاء أو إقصاء لمفهوم الفضاء في النظرية
الأدبية إنما هو قمع معين لهوية من هويات الخطاب الأدبي، وضمنه الخطاب الروائي.
معناه أيضا، أن تدفق مثل هذا المرق النظري يفرغ العمل الأدبي من عمقه الشعري
والجمالي. ولعل محاولات تجاوزه وإبراز هشاشته النظرية والفكرية هي مما سيطبع مقولة
الفضاء بطابعها الإشكالي ( Problématique)
في نظرية الأدب وفي الخطابات النقدية.
إن الفضاء الروائي ليس مجرد تقنية أو تيمة أو إطار للفعل الروائي،
بل هو المادة الجوهرية للكتابة الروائية، ولكل كتابة أدبية. فقط تحتاج هذه المادة
لكي تدرك إلى توجه مختلف، إلى منظور متفهم ورؤية عاشقة. ومن ثم، يتعين أن نرتقي في
قراءاتنا الأدبية بالفضاء من مستوى ابتذاله الشائع لدى عموم القراء (كصفحات زائدة
لا يهم إن ألغيناها؛ المهم هو الحكاية!!) إلى مستوى التثمين الجمالي الضروري.
لقد أبرز عبد الله المدغري العلوي ( وهو ناقد مغربي يكتب باللغة
الفرنسية) أن «مفهوم الفضاء مفهوم نظري واصف ( Métathéorique)
يسمح، من أجل تماسك المقولات السردية، ببناء نموذج خطابي للمحكي أكثر تجانسا وأكثر نسقية من المفاهيم التي غالبا ما تقترح علينا، ومن هنا ملاءمته وفعاليته في تحليل
المحكي»[33]. وبعد أن يؤكد هذا الباحث على أن دقة مفهومنا لا تكمن فحسب في مقدرته
على لحْمِ مجموع المقولات السردية، يرى أن له مقدرة على بناء عقلاني وتعالقي (Interdépendant)
لثلاثة معايير: معيار التوجيه الذي يقتضي معيار المسافة الذي يستلزم بدوره معيار
العمـق. ويستخلص «أنه، في هذا التفضيل الميتالغوي، يكون للفضاء استعمال استعاري، إذ
مثل كل استعارة، يصلح للإمساك بظاهرة عبر اصطلاحات ظاهرة أخرى (هنا يصلح الفضاء
لتحديد وضعية موضوعات السرد وعلائقها اللغوية، الإدراكية والفضائية -
الزمنية).»[34].
لقد تطور الوعي بالفضاء في الكتابة الروائية، على الأقل منذ
فلوبير وبروست وصولا إلى الرواية الجديدة في فرنسا (ألان روب غريي، كلود أولييه،
ميشيـل بوتـور، جـورج بيريـك، إلخ). تطور بالمعنى الذي لم يعد معه مجرد عنصر تكميلي
مقحم، بل أضحى حضورا كاملا في النص الروائي على نحو ما يوضح ذلك ميشيل ريمون[35].
وذلك إلى الحد الذي يجعلنا نقول بأن الفضاء هو إحدى العلامات المميزة للكتابة
الروائية الجديدة، أية كتابة روائية تريد لنفسها أن تكون جديدة.
ولعل ذلك طبيعي إذا ما انتبهنا على المستوى العلمي إلى التطور
الحاصل في الرؤية للعالم والوجود ولقضايا الفضاء والزمن، وكذا للاقتناعات
الفينومينولوجية المتنامية في الفكر المعاصر ومستويات تأثيرها في الإدراك عموما،
وفي الإدراك الجمالي والأدبي على الخصوص. هذا بدون أن ننسى التبدلات التي أظهرت
صناعة السينما، والتبدلات الجغرافية الطارئة في نهايات القرن بسبب انعكاساتها على
الأرض والخرائـط والذاكرة والتفكير.
لذلك، أنا لا أفهم كيف يتمسك منظر أدبي أو ناقد معاصر بمنظور
كلاسيكي للشكل الأدبي تعود جذوره إلى المنجز النظري للفيلسوف ليسينغ
Lessing
(1729 - 1781) في كتابه
الشهير «اللاوكون» Laocoone،
وذلك بدون الانتباه لا إلى أهم ما في الخصوصيات والمميزات الأساسية للرواية ذاتها
ولا إلى ما طرأ من تبدلات، كما أشرنا، على الحساسية المعاصرة ذاتها.
ثمة فكرة مركزية شكلت منطلق تنظيرات الفيلسوف الألماني ليسينغ[36]،
وهي أن الأدب والفنون التشكيلية (التصوير
La peinture
أساسا) تعبر عن «أفكارها» بأدوات مختلفة. فبينما يقدم النص الأدبي نفسه كنص زمني لا
يمكن تلقي علاماته إلا متسلسلة ومتتابعة زمنيا، فإن العمل التشكيلي يقدم نفسه دفعة
واحدة من حيث تكون علاماته متزامنة ومتجاورة: «إن علامات متتابعة لا يمكنها أن تعبر
إلا عن موضوعات متتابعة أو مكونة من عناصر متتابعة مثلما لا تستطيع علامات متجاورة
التعبير إلا عن موضوعات متجاورة أو مكونة من عناصر متجاورة».
وبينما يؤكد يوري إيزنزويغ على ضرورة الانتباه إلى الدلالة
الإيديولوجية الكامنة خلف الطرح القائل بكون خاصية التجاور هي خاصية طبيعية ملازمة
للفضائي ( Le spatial)
وخاصية التتابع ملازمة للحدثي (L'événementiel)،
يوضح لنا جوزيف فرانك بأن ليسينغ ليس هـو مـن ندين له بهذه الصياغة، حيث تعود
جذورها إلى تاريـخ سابـق عنـه، لكـن ليسينـغ كان هـو أول مـن جعل منها بطريقة نسقية
أداة تحليل نقدي.
هكذا يتضح أساس التمسك النظري لدى بعض الأوروبيين (الفرنسيين
بالخصوص لكي لا أتحدث إلا عمن أعرف) بزمنية الخطاب السردي كما لو كانت هي الإمكانية
الوحيدة التي تسمح بها قوانين الإدراك الإنساني. والحال أن الأمر يتعلق، فيما
نتصور، بسوء فهم لكتاب «اللاوكون» الذي كرسه ليسينغ كرد في سياق محاججة لمهاجمة
جنسين جماليين كانا أكثر استحسانا على عهده: الشعر الوصفي والتصوير الزمني. سوء فهم
آخر لتاريخ النظرية الاستتيقية ولتطور نظرية الأدب التي تستجد وتتطور لا استنادا
إلى عناصر خارجية، بل بالاعتماد المطرد على التطور العضوي للنص الأدبي في تخاطباته
وتجاوزاته وتناقضاته أيضا مع ما يستجد في الفكر والحياة. ولعل الرجوع إلى نماذج من
الأدب الإنساني المعاصـر (وجوزيف فرانك يحيلنا على شعـر إيليـوت، إيزرا بوند،
وروايات مارسيـل بروست وجيمس جويس، على سبيـل المثال) يفيدنـا فـي معـرفة الكيفية
التي يلتف فيها الأدب على نفسه في معنى الشكل الفضائي. «إن هؤلاء الكتاب يبحثون عن
أن يجعلوا عملهم يدرك، لا كتتابع في الزمن ولكن كوحدة في الفضاء»[37]. من ثم، يبدو
لنا - لي على الأقل - أنه أصبح من الضروري إعادة قراءة نقدية للمنجز النقدي الفرنسي
(هذه الجزيرة المرجعية لخطابنا النقدي في المغرب وفي اقطار عربية أخرى)، وذلك بما
يعيد الاعتبار حقا لكلية العمل السردي ولما لا يجعله عملا مقطع الأوصال.
إن مثال جيرار جونيت جدير بالتأمل في هذا الباب. ثمة أخذٌ
وَرَدٌّ، مد وجزر في خطابه النقدي والنظري حول مفهوم الفضاء. لنقل إن علاقته
بالفضاء الأدبي خضعت لتبدلات في المسافة ما بين كتابه النقدي الأول (Figures
I) وكتابه الثالث ( Figures
III)، ولنقل بدقة أكثر إن قراءاته لرواية بروست
«بحثا عن الزمن الضائع» قد غيرت من موقفه وصححته جزئيا. وسنرى أنه حتى وهو يلامس
وجود فضاء أدبي، «فضاء يشغل ويسكن الأدب»[38]، فهو لا يعتبره متصلا بجوهر الأدب
وبلغته الإبداعية الخالصة، كما يمكن أن يكون الأمر بالنسبة للتصوير مثلا الذي
يعتبره «فنا فضائيا» أو بالنسبة للمعمار «فن الفضاء بامتياز (...) الذي لا يتكلم عن
الفضاء، بل سيكون صحيحا لو قلنا بأنه يكلم الفضاء، بأن الفضاء يتكلم فيه»[39]. أما
ما يعترف به جونيت من ملامح فضاء أدبي فإنه يظل - في نظره - مجرد «فضائية هي بمعنى
ما أولية وبسيطة، هي فضائية اللغة ذاتها»[40].
ورغم مؤاخذة جونيت على جورج ماتوري في كتابه «الفضاء الإنساني»
كونه «في بعض تحليلاته المقارنة لم يتم السير بها إلى حد بناء حقل مفاهيمي
حقيقي»[41]، وإن كان يؤكد على كفاءاته العالية في تحديداته لجملة من مفردات اللغة
الفضائية ( Le langage spatial)
برغم منهجيته غير المعقلنة، كما استشعر ذلك ماتوري نفسه «بكل أمانة» (الوصف لجونيت)،
فإن جونيت لم يطرح مؤاخذاته على دراسة ماتوري، فيما يبدو لي، إلا لضيقه (ضيق نموذجه
النظري بالذات) من كون ماتوري لم يفعل في كتابه أكثر من إيثار الفضاء على الزمن.
والمهم في هذا التلاقي بين جيرار جونيت والجهد النظري لجورج ماتوري هو الإشارات
اللماعة في عمل هذا الأخير إلى الفضاء الجوهراني الذي عاشه وعاش به بروست، الفضاء
الحاضر في كل شئ داخل العمل العظيم «بحثا عن الزمن الضائع»، والذي ألهب حماس جونيت
للاتجاه نحو بروست بفضائه العميق. الفضاء الذي ليس فقط فضاء لغة أو فضاء ينسج
اللغة[42]. وينبغي ألا «يفاجأ» الباحث وهو يرى ناقدا مثل جونيت يسعى إلى بناء
نموذجه النظري على أسس وتحديدات معينة كي يلغي الفضاء ويحتفي بالزمن (!)، فالأصل في
هذه التحديدات والأسس التي ينهض على أكتافها النموذج النظري الذي تبلور في Figures III
أنها تحديدات وأسس
فضائية بالرغم من طابعها الزمني المزعج، على نحو ما أوضحه بذكاء عبد الله المدغري
العلوي[43]. إنه نموذج زمني يتأسس على قاعدة فضائية، والفضل بطبيعة الحال يعود إلى
النص الروائي المقروء لمارسيل بروست الذي أتاح لجونيت أن يدرك أولا بأن الفضاء ليس
هو المكان الذي لا قيمة له في التحليل إلا باعتباره شأنا وصفيا، وأن الوصف ليس
بالضرورة وقفا للمحكي أو بالمعنى التقليدي ليس قطعا «للفعل» الحكائي. ذلك أن كل
توقف للوصف لا يتم لمجرد رغبة الكاتب، بل يعود أساسا إلى تأمل يقتضيه موقف البطل
نفسه[44].
هنا مثال حي للنص الروائي الذي يحمل معه نصه النظري والنقدي. إن
رواية «بحثا عن الزمن الضائع» تمنح الناقد معطيات أساسية لإنجاز بنائه النظري، بل
لتصحيح مساره النظري. شئ كهذا يوجد في روايات عظيمة (جويس، ألبير كامي، الرواية
الجديدة الفرنسية، إلخ...) وأحيانا في تنظيرات الروائيين أنفسهم كما يشير إلى ذلك
محمد برادة في تقديمه للكتاب الذي ترجمه لباختين[45]. لكن الأهم في عملية الإسعاف
التي يقوم بها الإبداعي هنا للنظري هو أنه يقوم بتنسيبه. ذلك أن الزمن نفسه - مهما
تمسك به نموذج نظري معين - ليس مطلقا أدبيا وحتى فيزيائيا، لأن قياسه، كما هو
معلوم، يتأثر بالحركة النسبية في الفضاء.
لقد أخضع جونيت تحليله النقدي لسلطة النظرية. وأن يصبح النقد
شغالا في خدمة النظرية بدلا من أن تقوده النظرية وأن يسترشد بها في كشوفاته وأسفاره
داخل خصوصيات النصوص الأدبية المقروءة، معناه السقوط في بعض الإكراهات التي تقهر
النصوص لجعلها تلد ما قد لا يولد أو تئد ما ينبغي أن يظل حيا. ربما لم يفت مثل هذه
المخاطر جيرار جونيت، بل إنه يشير إلى حيرة استبدت به في هذا المنحى: هل يجعل موضوع
نقده في خدمة الاتجاه العام لنظريته أم يخضع نظريته للنقد؟ ليخلص في النهاية إلى
اختيار حاسم (بالرغم منه، كما يقول هو نفسه): أن يجعل النقد في خدمة النظرية[46].
وذلك جانب من جوانب معضلة كل قراءة تعطل الحواس وتهمل الأساس الدلالي للمحكي وتبقي
على قيمة ما هو تقني فقط.
إن النقد، على ما قد يتوفـر عليه من عمق وذكاء، يظل في النهاية
جهدا فكريا يقوم - في حقيقته - باستثمار وبتدبير معـرفة قائمة. ولذلك عليه أن
يسترشد بالنظرية، منهجيا، ويحتفظ بالسلطة الإجرائية لنفسه. يستدعي استشهادات بعيدة
كي يتنفس أكثر وكي يغذي «متنه المعرفي»[47]. لكنه أبدا لن يكرس نفسه ونشاطه خادما
ذيليا لبناء النموذج النظري. مثل هـذا النموذج يحتاج إلى بحث علمي لا ينهض به جنس
منفتح كالنقد الأدبي مهمته تدبيـر معرفة بالأساس. من ثم، فالعمل الوصفي للخطاب
النقدي هو دليل «هشاشته». شكل نقصه الخاص. ففيما هو يصف النصوص ويحللها لا يكون
منشغلا إلا بملء «عدم اكتمال أفكاره» - بتعبير لميشيل مافيزولي - ليضمن لنفسه
إمكانيات استيعاب ما هـو موجـود. علـي أن أقول بأن مثل هذا الطموح النقدي هو ما
يمنح القراءة لذتها، لذة الكشف والاكتشاف والتدبير والنسل. وفي أفق كهذا الأفق لن
تضيع مكونات أي خطاب أدبي ولا وحداته البنيوية غير الثابتة في مسارها عبر سيرورة
التحول والتحويل.
III. «المجـرى الثابت»: عـن
الفضـاء والزمــن
ينبغي إذن أن ندرك المزالق التي يقودنا إليها كل التباس في
التحليل أو ضعف في التصور، وخصوصا حينما يتعلق الأمر ببعض المفاهيم المركزية في
الخطاب الأدبي من قبيل تلك التي لا معنى لهذا الخطاب بدونها. ولعل ما يطرحه علينا
مفهوم الفضاء بالذات ليمس الجانب الجوهري في الكتابة الأدبية بما هي جنس جمالي
وفني. غير أن الرواية بشكل خاص تطرح - على هذا المستوى - نوعين من المشاكل: أولهما
علاقة الفضاء بالوصف، وهـو مشكـل أساسه الالتباس الحاصل في عدم الفرق بين الفضاء
والمكان. وذلك من حيث يبدو المكان في الغالب سببا في تأخير الأحداث الروائية.
وثانيهما ما يثيره تجابه الفضاء والزمن في الكتابة السردية بغير قليل من الأخطاء
وسوء الفهم في التعريف والتحديد والتحليل. والمشكلان معا في العمق يبقيان متصلين
بالإشكال الفكري للخطاب الروائي (هل هو خطاب زمني أم فضائي؟!) مع أن الفكر قد حل
المشكل من أساسه. وهنا نستحضر ما ذهب إليه الشاعر الكبير ميلوش Milosz من أن الفكر هو أساس
«تأكيد وحب الحركة»: ولا يتعلق الأمر بمعرفة الوجود، وإنما بتحديده، فالطبيعة،
الفضاء والزمن ليست وقائع معزولة كما يريد إقناعنا بذلك التحليل الجامد الذي يدير
الذكاء: إنها ليست إلا «مكونات للحركة»[48].
إن الحركة بهذا المعنى ليست في الكتابة الروائية نتاجا لمجرى
الزمن الحكائي والسردي فقط، بـل هي نتاج مشتـرك لهذين العنصرين السيامِيَّيْن:
الزمن والفضـاء، نتاج لتضافرهما، لتصارعهما، لتقاربهما، لتباعدهما ولكل حركتهما
الشاملة التي تجوس المساحة والمسافة الروائية. الحركة التي ليست شيئا آخر غير
العنصر الروائي (Le romanesque)
ذاته. ومن هنا ينبغي أن نفهم معنى أن يقال لنا بأن «الفضاء، سواء كان «واقعيا» أو
«متخيلا»، مرتبط، إن لم يكن مندمجا في الشخصيات، مثلما هو كذلك بالنسبة للفعل أو
لجريان الزمن»[49]. بمعنى أن الفضاء موجود على امتداد الخط السردي. إنه لا يغيب
مطلقا حتى ولو كانت الرواية بلا أمكنة. الفضاء حاضر في اللغة، في التركيب، في حركية
الشخصيات وفي الإيقاع الجمالي لبنية النص الروائي. وعندما يرفض أن نسميه، أن نحدده،
أن نمنحه هوية وأن نعبر عنه (لعجز في الإدراك أو رغبة في تحصين رغبة بناء نموذج
نظري معين)، فإنه لا يتغيب، بل يظل كامنا هناك في الظل بانتظار لحظة إدراك ملائمة
أو استجابة أكثر تعاطفا.
لقد منحنا جورج ماتوري في «الفضاء الإنساني» معطى أساسيا، وهو أن
«كل الصور متحركة»، وبما أنها كذلك فإن الاستعارات تعبر عن دينامية خاصة. ومن ثم -
وبما أن الخطاب الروائي هو نسيج من الصور والاستعارات ككل خطاب أدبي - فإن «الفضاء
بالأساس يكون مكانا لمجرى، وكل عنصر يتموقع فيه يبدي حركية هي بصورة ما باطنية:
عندما يظهر كما لو أن الموضوع الفضائي قد توقف، فإنما هو توقف مؤقت، إنه يوجد دائما
بين وصول وانطلاق»[50]. ويمكننا أن نضيف بأن الموضوع الفضائي لا يوجد عندئذ بين
الوصول والانطلاق، بل إنه كامن في الانطلاق ذاته، وفي الوصول ذاته، وإنه لا معنى
لمنطلق ولمنتهى كل مجرى روائي إن لم يكن الرحم الأشمل فضائيا.
وإذا كان ستانلي فيش يعارض في كتاباته النظرية والنقدية أي فصل «للتركيب
الفضائي عن الفعالية الزمنية»[51]، فإن جعل هذا الجانب أو ذاك المقولة المركزية
(كما يفعل باختين مثلا بالنسبة لتعددية اللسان) و«حجر الزاوية في تحديد بقية مكونات
الخطاب الروائي، لا بطريقة معيارية، بل من أفق تنظيري مرن..» بتعبير الأستاذ محمد
برادة[52]، يظل في النهاية مجرد اختيار إجرائي في ترتيب أولويات القراءة النقدية،
وذلك لأنني لا أفهم مشروع باختين الفذ مختزلا في تعددية اللسان أو مجردا من باقي
المفهومات المركزية وفي مقدمتها بنية الفضاء - الزمان ( Le chronotope) أو الحوارية والتهجين. أما إذا
أصبح الاختيار الإجرائي اختيارا استراتيجيا كأن يجعل الناقد من الفضاء مجرد معبر
للفعل الزمني باتجاه تراكمه من حيث لا يجد الفضاء ملاذا لنفسه إلا في الوصف، فهنا
يغدو الأمر خاطئا ومرفوضا.
إنني لا أعرف أفق مغامرة هذا الانتصار النظري الذي أقوم به هنا
والآن، للفضاء الروائي، ولكنني أعرف أن التمسك بزمنية الخطاب الروائي وبالسيرورة
السردية والحكائية أنهك إلى حد كبير مسارات التحول الروائي. ثم ألا ينبغي التساؤل
في هذا السياق: أليست السيرورة السردية غير مسافة؟ لنتذكر أن لوكاش يتحدث في «نظرية
الرواية» عن هذه السيرورة كـ «طريق مرسوم الحدود بوضوح»[53]، أي كفضاء ممتد ينطلق
من نقطة انطلاق باتجاه نقطة وصول (لكم يزعجني كل تقابل بين هاتين النقطتين كأن ليس
ثمة من إمكانية لتلقي عناصر بدون أن نتصورها بين بداية ونهاية!).
لقد أضحى الرهان على الديمومة (الزمنية) ( La
durée) في الكتابة السردية ينسينا بأن الديمومة
نفسها ليست، ماديا وسرديا، إلا مجموعة لحظات. ولذلك نتصور أنه إلى جانب الانشغال
بهم بناء النموذج النظري لدى عدد من نقاد الأدب ومنظريه، هناك افتقاد واضح للحس السيميائي ذاته. فماذا يعني الانتقال من حالة إلى حالة، من زمن إلى آخر، من حدث إلى
آخر، من فعل إلى آخر، من فصل إلى فصل غير ركام من الوقفات، أي تحولات في الفضاء
وبالفضاء بمعناه الجوهري. لكن الموضوع لا ينبغي النظر إليه دائما بهذه المعيارية
الجاهزة ولا حتى من مستوى منزع مرجعي معين. لنتذكر درس بارت في هذا المنحى. ذلك أن
الرجل يؤكد بأن «الزمنية ليست سوى مستوى بنيويا من مستويات السرد (أي الخطاب).
ومثلما هو الشأن في اللغة، فالزمن لا يوجد سوى في شكل نسق، وما نسميه من وجهة نظر
السرد بالزمن لا وجود له أو لا يوجد على الأقل إلا وظيفيا، أي باعتباره عنصرا من
عناصر نظام سيميائي: إن الزمن لا ينتمي إلى الخطاب بمفهومه الضيق،وإنما ينتمي إلى
المرجع. فالسرد واللغة لا يعرفان سوى زمن سيميولوجي، أما الزمن «الحقيقي» فهو وهم
مرجعي أو «واقعي» كما يوضح ذلك بروب»[54]. لنتخلص إذن من أوهامنا، من مسبقاتنا كي
نقيم توازنا ضروريا بين المكونات السردية.
وعلى العكس مما ذهب إليه جيرار جونيت (وأعود إلى جونيت بالذات لكي
لا أستحضر إلا تجربة جديرة بالانتباه)، لم يعد «يبدو مفارقا الحديث عن فضاء بخصوص
الأدب»[55]، ذلك لأن للأدب، للنص الأدبي فضاءه بالفعل، وهو بالتأكيد ليس «ما يتكلم
عنه الأدب ضمن «موضوعات» أخرى (وصف الأمكنة، الإقامات، المشاهد الطبيعية..)»، كما
يتصور جونيت في نفس السياق[56]، بل «إنها لإحدى مظاهر الحداثة بالذات أن نفتت،
أحيانا وبصورة جذرية، زمنية اللغة»[57]، زمنية الوقائع والأحداث بما هي زمنية
مرجعية. أي بما هي زمنية إيديولوجية. تفتيت هو بشكل ما بناء لفضائية الأدب،
لجوهرانية الكتابة الأدبية. نقصد إذن، وبالذات، ألا تبقى زمنية الكتابة الروائية
قدَراً أو مطلقا أدبيا، وفتح الأفق أمام إمكانية أخرى: أن يصبح الفضاء بما هو تجاوز
في العلامات، أثناء عملية التلقي، مطلقا آخر. ولذلك أكثر من شرط: ألا يصبح التجاوز
مضادا للحركة، ألا يلغي أية حركة ممكنة. التجاور ( La
juxtaposition) الذي ترضى فيه الأفعال والأشياء
والشخصيات... «بمواصلة وجودها بعضها قريب من البعض الآخر، بدون تداخل مثلما بدون
إبعاد»[58] في أفق صياغة المعنى الروائي. وأن يظل هذا الفضاء المطلق كائنا - إن صح
التعبير - في اللامكان حيث «لا يوجد في أي مكان. لا مكان له، ذلك لأنه يجمع كل
الأمكنة ولا يملك إلا وجودا رمزيا»، بتعبير هنري لوفيفر في كتابه الهام «إنتاج
الفضـاء»[59]، أي «وجود ذهني، وإذن متخيل»[60].
لذلك، أضحت الرؤية الزمنية للخطاب السردي تختزل جوهر هذا الخطاب
في مجرد خطية معينة، في السرد وفي المحكي. والحال أن المحكي إذا ظل «ثابتا» فإن
السرد عمل متحرك، بحيث يمكن للمرء أن يسرد حكاية واحدة بألف طريقة وطريقة. فما بالك
بالحكاية الواحدة التي قد تصبح أكثر من حكاية إذا اقتيدت إلى ذاكرة الجدات، حيث
تنقص تفاصيل وتنضاف تفاصيل أخرى. إن «على الروائي ألا يقول أبدا إن البطل يمشي، بل
عليه بالأحرى أن يثابر على إظهار ما يتتالى على يسار وعلى يمين الماشي»، بتعبير
كلود أولييه[61]. يفعل مثل ذلك الروائي، فكيف لا يفعله الناقد أو المنظر!
لقد أظهر باشلار وجورج بولي وآخرون أن الفضاء الأدبي يستدعي «هندسات
مختلفة»، ويتحكم في التقنيات والتمثلات. وهو - حسب المعجم الفرنسي للآداب - «منظور
ووجهة نظر، تقطيعٌ ( découpage)
وتوليف (montage). إنه
ينضوي في بلاغة اجتماعية، في سنن شاسع للأمكنة، يعارض بين المدينة والقرية، بين
الإقليم والعاصمة، بين المركز والهامش. إنه يؤكد الاختلاف والنظام المتضامن
للعلامات، ويدخل في لعبة مقارنة مع الزمن (تثمين وتبخيس متلازمان ومتعاكسان الواحد
مع الآخر)...»[62].
لنقل إن المحكي لا يتاح له أي تحقق استتيقي إلا بهذا السند ( Support)
الأساس للعمل السردي: الفضـاء. هنا حيث تتحول الأشياء من هندسة التقاطب البسيطة
الأولية إلى مستوى التعقيد والتشابك والمتاهة، مستوى «التحول المسخي» (Métamorphique)[63]...
الذي لا يدركه إلا قارئ ذي إيقاع روحي خاص وتجربة داخلية عميقة. وفي هذا المستوى
بالذات تتعثر بعض القراءات النقدية، وخصوصا حين يلحقها نوع من أعطاب المعرفة: كأن
يقرأ الفضاء مثلا بوصفه ظاهرة خارجية فقط، ولا يتم الارتقاء إلى مستوى جعل التجربة
الخارجية - على نحو ما أوضح كانط - ضرورية للتجربة الداخلية ما دامت هذه الأخيرة
عصية على الوصف «وترفض أن تتكلم»[64].
هنا، ينتفي منطق التقابلات والتعارضات، وبالخصوص بين الفضاء
والزمن. ويصبح الحديث عن انقطاع السيرورة الحكائية أو توقيفها شيئا آخر غير الحديث
عن وظائف الفضاء الروائي. وهنا أيضا، في حضرة الفضاء، لا شئ يتوقف عن العمل، بل تظل
كل مكونات النص الروائي يقظة، «لا تنام كساعة الحائط»، بتعبير شارل كريفل Ch. Crivel، وليس هناك من مكون
يسهر أو يكون في حالة شلل أو انتظار. مسار منذ أن ينطلق لا يتوقف إلى أن يصل. وقد
يصل ويظل يمشي.
IV. الفضـاء ومشكلـة الوصــف
لاتزال مشكلات الفضاء الروائي بحاجة إلى وضوح أكبر، وإلى تحديد
لأصولها ولفروعها. ولعل استمرارية إحالة هذه المشكلات على المرجعية (الواقع
الخارجي) والوصف هو أحد هذه المشكلات المطروحة في ركام من «اللغط» النظري والنقدي.
لكن المشكلة التي يثيرها الوصف في الخطاب الروائي هي أكثر تعقيدا مما قد يتصور باحث
متعجل. ذلك أنها مشكلة تتصل من جهة بعلاقة الالتباس القائمة بين الفضاء والزمن
(التلازم والتعاكس)، وضمنها بالالتباس الضمني بين الفضاء والمكان؛ ومن جهة أخرى
تتصل بحدود التشخيص في كل من السرد والوصف.
إن السرد - كما يوضح ذلك بنجاح جيرار جونيت - هو تشخيص لوقائع
وأفعال وأحداث في حين أن الوصف هو تشخيص لأشياء ولأشخاص[65]. لكن هذا التمييز
الدقيق بين نوعين من التشخيص، أي نوعين من الوصف في الخطاب الروائي لا ينبغي أن
يجعلنا ننسى المشكلة التي ألصقت بالوصف باعتباره شكلا من أشكال فرملة السيرورة
الحكائية. ذلك أن المنظور التقني لدينامية الخطاب الروائي فرض على المتلقي، ولفترة
طويلة هي فترة البنيوية، وضع العنصر الوصفي في درجة ذيلية، وبالتالي ذهب الفضاء
(منظورا إليه بوصفه مكانا) ضحية لهذا الوضع الاعتباري المجحف. وذلك من حيث لم يكن
ممكنا تصور «الفضاء» خارج المقاطع الوصفية في كل نص روائي. وفات العديد من الدراسات
ذات المنزع البنيوي الانتباه إلى إمكانية توفر نصوص روائية وصفية بكاملها، فضلا عما
فاتها من تمايزات بين كل من مفهوم الفضاء ومفهوم المكان (كما سبق التوضيح
والتفصيل).
ربما كان من الضروري مرة أخرى التأكيد على أن الموقف الوصفي ليس
توقيفا للمحكي، ففضلا عن أنه تشكيل إضافي للمعنى هو إضاءة أخرى للفعل الحكائي. ولقد
أبرز لوي ماران إمكانيات تحقق محكي مزدوج فيما يبدو لنا أنه محكي واحد، وتحقق نص
داخل نص آخر فيما يتبدى أنه نص واحد فيما «يعزز مستوى معينا للمعنى وللتنظيم النصي
للنسيج الوصفي للمحكي الذي لا نقرأ أبدا إلا آثاره»[66].
وبعد أن يطرح هذا الباحث الفرنسي السؤال: ماهو معنى، ما هي وظيفة
هذا المحكي الكبير المندس تحت اللوحة الوصفية؟ يجيب قائلا بأن المحكي المندس تحت
اللوحة هو أثر للإبقاء على مسافة معينة عند الاتصال (لكي لا يحدث أي مظهر للانقطاع
أو التوقف أو الفراغ الحكائي). مسافة نصية لنص مزدوج (الصورة والوصف، السرد
والحكاية) يبتكر اللعبة المرجعية التي بواسطتها تجد اليوطوبيا بالذات مرجعيتها
الخاصة، وتتشكل كمرجعية مستقلة. ومن هنا يتحقق معنى المحكي الذي تخفيه «أحادية»
اللوحة الوصفية. وهو المعنى الذي يرمز إلى «التركيب الغائب»، وإلى اشتغال سلبي على
الحكاية، حيث يصبح التوتر والتناقض محركا[67].
إن الدور المتزايد للوصف في بنية الخطاب الروائي لم يبدأ إلا مع
القرن الثامن عشر، وأنه لم يبدأ «يتحول إلى هدف في حد ذاته ويصبح مستقلا عن السرد»،
كما يؤكد ذلك بيير زيما[68]، إلا في القرن التاسع عشر، خصوصا مع فلوبير وزولا. ومن
ثم، يبدو من الصعب الحكم على أن كل عمل وصفي هو بالضرورة مفصول عن السيرورة
الحكائية، نظريا وتاريخيا. ذلك أنه من السهل الحصول على نماذج عديدة في تاريخ
الرواية لا يكون فيها الوصف سلبيا من وجهة النظر الزمنية. بل قد نجد الوصف في كثير
من الروايات يعوض المحكي، يصبح هو نفسه محكيا: ثمة مثال واضح في روايات أندري بروتن،
على نحو ما يوضح ذلك جان إيف تاديي، حيث يتحرر السرد من إكراهات الحبكة والحكاية
لكي تنتقل مغامرة الوصف «لتقيم في اللقاء بالمكان»[69] و«لكي لا يُوقِفُ إنتاج
الصور الفضائية إلا مزاج الكاتب»[70].
نقصد أن تنسيب الرؤية الزمنية للوصف عموما، ولوصف الأمكنة على
الخصوص، مطلب أساس في بناء نظرية إيجابية للكتابة الروائية. ذلك أن الوصف لا يشكل،
مرة واحدة وإلى الأبد، وقفة سردية وحكائية لمجرد أن الكاتب الواقعي في مرحلة من
المراحل كان يستوقف حكايته كي يفتح «كوة للفرجة» ويموضع بالوصف «الإطار الفارغ الذي
يحمله معه دائما»، بتعبير رولان بارت[71]. كما أن الوصف ليس وقفة، لسبب بسيط هو أن
الوصف بمعناه الحقيقي (وصف للأشياء ووصف للأفعال) موزع على امتداد النص السردي كله،
اي نص كان. إذ أن وجوه (صور) الخطاب الروائي تكاد تكون كلها «أوصافا متنكرة، فكل
مجاز، كل استعارة حتى، هي وصف موجز. ومن لا يجيد الوصف لا يجيد الكتابة. إن التخيل
الشاعري يظهر بتعدد الصور؛ أن تصف، هو أن تصور ( décrire
c'est peindre)، هو أن تشكل صورا»[72]. وبهذا
المعنى، وفي هذا السياق، يجدر التأكيد مرة أخرى على أن الفضاء الروائي لا يمكن حصره
في مشهد وصفي تقليدي إلا كمكان. فهو لا موضع له (Atopique)
مبثوث في كل مناطق النص، محايث لبنية الكتابة ذاتها وليس كامنا فقط في معجم الكلمات
والعلامات الفضائية أو في الأمكنة التي تعبرها الحكاية أو تشغلها طرائق السرد
المختلفة.
وكما يلاحظ ميشيل ريمون
M. Raimond،
من خلال قراءات لنماذج في الرواية الأوروبية، فإن «الأوصاف التي لها رؤية للفضاء...
لا تؤخر الفعل، بل تحتويه، تكون عنه الصورة الملموسة»[73]. وبالرغم من أن ميشيل زيرافا - في المرجع نفسه - لا يؤكد على الفضاء كمكون مركزي في العنصر الروائي (Le
romanesque)، فإنه مع ذلك يركز على أن هذا
«العنصر»، وضمن تحديد أولي، يعني مجموع الأدوات المضمنة في العمل الروائي خلال قرون
من طرف الروائيين، وأساسا بالنسبة إليه: الحكاية والشخصية، «لكن أيضا الوصف،
الحوار، المقتضيات المختلفة للتعبير الزمني أو اللازمني، بدون أن ننسى الحيل التي
بفضلها تتشكل عقدة معينة»[74]. وسنجد زيرافا يعود، بعد صفحتين، ليقبل - في حالة
الرواية الجديدة - بأن يكون الفضاء أساسا للرواية شريطة الإبقاء على نوع من
التقاطعات والعناصر والأشكال كأدوات، كموضوعات على أن يخضعها الكاتب في نفس الوقت
للمساءلة، بحيث تصبح الشخصية التي كانت ذات شأن في عصور سابقة «علامة
إجرائـية»[75].
وواضح أن مثل هذا التزحزح في المنظور التقليدي باتجاه شرعنة
العناصر والمكونات «اللازمنية» وجعلها من أسس العنصر الروائي ليس سهلا في تاريخ
تطور النظرية السَّردية. ويتعين بالتالي النظر إلى الفضاء وإلى الوصف بالخصوص لا
بوصفهما عنصرين للاستراحة الحكائية، وإنما كأساسين من أسس بناء عملية تحول المعنى
في النص الروائي.
وما دمنا بصدد الحديث عن الوصف، نرى - مع فيليب هامون - أن الوصف
ليس أبدا هو وصف الواقعي، بل أساسا هو «ممارسة نصية»[76]. ولعل ما طرأ على مفهوم
الفضاء في تاريخ الخطاب الروائي وعلى نظرية الأدب هو نفسه، تقريبا، ما طرأ على
مفهوم الوصف من أسئلة ووظائف، وما جعله يتبدل ويتطور تقنيا ودلاليا[77]، ودائما في
أفق بناء المعنى. لكن، أي معنى بالذات؟ بطبيعة الحال، لا نتكلم هنا إلا عن المعنى
الخلاق الذي ينسجه وصف خلاق، فضاء خلاق ولغة خلاقة.
لقد عدد فيليب هامون أنواعا عدة للوصف: كرونولوجيا (وصف الزمن)،
طوبوغرافيا (وصف أمكنة ومشاهد)، بروزوغرافيا ( Prosographie)
(وصف المظهر الخارجي للشخصيات)، إيطوبيا (éthopée)
(وصف كائنات متخيلة مجازية)، إلخ...[78]، لكن جان ريكاردو يحصر الوصف في أربعة
أنواع استنادا إلى نوعية صلاتها بالمعنى:
«أيؤذن المعنى المسبق بالوصف؟
إن الوصف يغدو، إذن، توضيحا كاملا أو قابلا للجدل، ويترجح بين الحشو والعبث. أو
يسبق الوصف معنى لا سبيل إلى دفعه؟ حينئذ يشكل الوصف مجرد نحو معنى. وهو يوجز كأشد
ما يكون الإيجاز ويضرب صفحا عنه فور أدائه المعنى المقصود.
أم هل يجري الوصف انطلاقا من معنى يظل نفسه مكتوما إلى الحد
الذي يتجاوز فيه وضع الفرضية؟ الوصف، حينئذ، في تماسكه وعبوديته، وصف مبدع. أم أن الوصف ينمو انطلاقا من التوجيهات الشكلية؟ الوصف حينئذ، وصف
خلاق. إنه يخترع عالما بكل ما في العالم من تماسك، وينزع إلى ابتعاث معنى يدخل معه
في صراع...»[79].
لكن ريكاردو، وهو يميل إلى قيمة وأهمية ما يسميه بالوصف الخلاق في
ابتعاث المعنى وتشكيله، لا يعتبر المعنى مع ذلك «المعيار الأوحد الاصطفائي
الممكن»[80]. ذلك لأنه ينطلق من نموذج الرواية الجديدة في فرنسا في صياغة تصوره،
حيث تلعب توجيهات بناء الشكل الروائي دورا حاسما في تشغيل وتوظيف الوصف، وحيث «كل
حضور دقيق للمعنى إنما هو حضور ناب»[81]. لنقل إن الأمر يتعلق في الحقيقة بوصف
مفتوح، تماما كما تحدثنا عن نوع من الفضاء المفتوح. نقصد هذا الوصف الذي يكون لا
زمنيا بالقدر نفسه الذي يكون فيه زمنيا، إذا فهمنا الزمن بالمعنى الذي تعطيه له
كريستيفا: «زمن المتعة»[82]، حيث يمنحنا النص الروائي نصا آخر: صمت المعنى. الصمت
اللانهائي الذي يصبح فيه أي كلام عن سيرورة حكائية متوقفة أو عن نتوء أو غياب للوصف
أمرا صغيرا للغاية.
اللانهائي؟ نعم، اللانهائي بما هو «الفعل الأصلي»، بتعبير نيتشه،
ذلك لأنه «في الزمن اللانهائي والفضاء اللانهائي، ليس هناك من نهايات»[83].
[1] - La production de l'espace, op. cit., p. 273.
[2] - Ibid., p. 290.
[3] - انظر نموذجا لهذا الإحساس في:
- د. حميد لحميداني، بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي)،
الدار البيضاء - بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1991، ص. 53.
- عبد الله المدغري العلوي في دراسته حول الفضاء: Imaginaire de l'espace. Espaces imaginaires, op. cit., pp. 63 -
65.
[4] - Umberto ECO, La structure absente, op. cit., p. 13.
[5] - أشغال ندوة الرواية العربية: واقع وآفــاق، بيروت، دار ابن
رشد، الطبعة الأولى، 1981، ص. 395 وما بعدها.
[6] - ياسيـن النصيـر، الرواية والمكـــان، بغداد، منشورات وزارة
الثقافة والإعلام (الموسوعة الصغيرة)، شبـاط 1980.
- إشكالية المكـان في النص الأدبي، بغداد، وزارة الشؤون الثقافية
العامة، الطبعة الأولى، 1986.
[7] - انظر إشكالية المكــان، مرجع سـابق، ص. 5.
[8] - سيـزا قاســم، بنـاء الروايــة، دراسة مقارنة في «ثلاثية»
نجيب محفوظ، بيروت، دار التنوير، الطبعة الأولى، 1985.
[9] - المرجـع الســابق، ص. 102.
[10] - اعتدال عثمــان، إضاءة النـص، بيروت، دار الحداثة، الطبعة
الأولى، 1988، صص. 5 - 72.
[11] - مجلــة «ألـــف» المصريــة، الدار البيضـاء، عيون
المقالات، الطبعة الثانية، 1988.
[12] المرجـع الســابق، ص. 102.
[13] - حســن بحـراوي، بنية الشكل الروائي (الفضاء - الزمـن -
الشخصيـة)، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضـاء، الطبعة الأولى، 1990.
[14] - نفــس المرجـع، ص. 20.
[15] - نفســـه، ص. 25.
[16] - نفســه، الصفحة نفسها.
[17] - نفـس المرجـع، ص. 33.
[18] - نفـس المرجـع، نفـس الصفحـة.
[19] - د. حميـد لحميـداني، بنية النص السردي، مرجـع مذكـور، صص.
53 - 73.
[20] - نفســه، ص. 62.
[21] - نفســه، ص. 53.
[22] - نفســه، ص. 62.
[23] - نفســه، صص. 62 - 63.
[24] - Jean WEISGERBER, op. cit., p. 74.
[25] - محمـد برادة، الرواية المغربية المعاصرة: استشراف لآفاق
التطور المستقبلي، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 191، 30 غشت
1987.
[26] - د. صلاح فضــل، إنتاج الدلالة الأدبية، القاهرة، مؤسسة
مختار للنشر، الطبعة الأولى 1987.
يرى فضل في مدخل هذا الكتاب أن «من أبرز مظاهر النقد المعاصر،
وأشدها خطرا في سن إشكاليته، تجاوز اتجاهاته، فهي لا تنتظم في نسق تاريخي يعتمد على
نموذج التطور والتعاقب الزمني، كما كان شأن المذاهب الأدبية إلى حد ما في القرون
الثلاثة الماضية، إذ تنبثق من واقع حضاري بطئ الصيرورة، وتتلاحم أطرافها في الأقطار
المختلفة، وتتداخل دوائرها - جزئيا - في بعض، لكن نقطة ارتكازها سرعان ما تتمحور في
بؤرة زمنية تشهد مولودها، وأخرى تمثل ذروة ازدهارها وتوهجها، وثالثة تشير إلى
غروبها عن مركز الأفق التاريخي». (ص. 298).
[27] - Michael ISSACHAROFF, L'espace et la nouvelle, op. cit.,
p. 17.
- [28]Wolfgang ISER, L'acte de lecture; théorie de l'effet
esthétique, Bruxelles, Ed. Pierre Mardaga, 1985, p. 24.
[29] - M. ISSACHARAFF, op. cit., p. 10.
- [30]Françoise VAN ROSSUM - GUYOM, Critique du roman, op.
cit., p. 23.
[31] - Ibid., p. 23.
[32] - ديريدا، مـواقع (حــوارات)، ترجمة وتقديـم: فريد الزاهـي،
الدار البيضاء، دار توبقال، الطبعة الأولى، 1992، ص. 68.
[33] - Abdallah MDARHRI ALAOUI, op. cit., p. 64.
[34] - Ibid., p. 64.
- [35]Michel RAIMOND, L'expression de l'espace dans le nouveau
roman, op. cit., p. 183.
[36] - نسترشد في إبراز أفكار ليسينغ على مرجعين اثنين هما:
- Joseph FRANK, «La forme spatiale dans la littérature
moderne», in Poétique, N° 10/1972, pp. 244 - 266.
- Uri ESENZWEIG, L'espace imaginaire du texte et l'idéologie,
op. cit., pp. 183 - 187.
[37] - Joseph FRANK, Ibid., p. 247.
[38] - Gérard GENETTE, Figures II, Paris, Ed. Seuil (Points),
1969, p. 44.
- [39]Ibid., p. 44.
- [40]Ibid., p. 44.
[41] - Gérard GENETTE, Figures I, op. cit., p. 106.
[42] - Ibid., pp. 107 - 108.
[43] - Abdallah MDARHRI ALAOUI, op. cit., p. 106.
[44] - Gérard GENETTE, Figures III, Paris, Ed. Seuil
(Poétique), 1972, pp. 133 - 134.
[45] - ميخائيـل باختيـن، الخطاب الروائـي، مرجـع مذكـور، صص. 21
- 26.
- [46]Gérard GENETTE, Figures III, op. cit., p. 68.
[47] - Roland BARTHES, S/Z, Paris, Ed. Seuil (Points), 1970, p.
211.
[48] - Milosz, in Georges MATORE, L'espace humain, op. cit., p.
207.
[49] - L'univers du roman, op. cit., p. 107.
[50] - Georges MATORE, L'espace humain, op. cit., p. 207.
[51] - انظر تحليلا لطرح
ستانلي فيش في: وليم راي، المعنــى الأدبــي، مرجـع مذكـور، ص. 171.
[52] - محمد برادة، «الرواية العربيـة المعاصرة...»، مرجـع
ســابق، ص. 4.
[53] - جورج لوكـاش، نظـرية الرواية،الحسين سحبـان، الرباط،
منشورات التل، الطبعة الأولى، 1988، ص. 77.
[54] - انظر رولان بارت، التحليل البنيوي للسرد» ترجمة: حسن
بحراوي، بشير القمري، عبد الحميد عقـار، مجلـة آفـــاق (الصادرة عن اتحاد كتاب
المغرب)، عدد 8 - 9، صص. 7 - 29.
[55] - Gérard GENETTE, Figures II, op. cit., p. 43.
يقول جونيت: «ربما يبدو مفارقا الحديث عن فضاء بخصوص الأدب: ذلك
أن صيغة وجود عمل أدبي، ظاهريا في الواقع، هي أساسا زمنية، على اعتبار أن فعل
القراءة هو الذي نحقق به الكيان المفترض لنص مكتوب، هذا الفعل الذي يشبه إنجاز
توليفة موسيقية، من حيث هو عبارة عن متتالية من اللحظات التي تكتمل في الديمومة، في
ديمومتنا».
[56] - Ibid., p. 43.
[57] - Victor BROMBERT, in L'espace et la nouvelle, op. cit.,
(préface).
[58] - Georges POULET, L'espace proustien, op. cit., p. 119.
[59] - Henri LEFEBVRE, La production de l'espace, op. cit., p.
273.
[60] - Ibid., p. 290.
[61] - Claude OLLIER, in Michel RAIMOND, L'expression de
l'espace dans le nouveau roman, op. cit., p. 187.
[62] - Dictionnaire historique, thématique et technique des
littératures françaises, op. cit., p. 524.
[63] - Ibid., p. 524.
[64] - MERLEAU - PONTY, La phénoménologie de la perception, op.
cit., p. 139.
[65] - Gérard GENETTE, Figures II, op. cit., p. 56.
انظر أيضا: د. حميد لحميداني، بنية النص السردي، مرجع مذكـور، ص.
78.
[66] - Louis MARIN, Utopiques: Jeux d'espaces, Paris, Ed.
Minuit, 1973, p. 82.
[67] - Ibid., pp. 83 - 85.
[68] - بييـر زيمـا، النقد الاجتماعـي، ترجمة عايدة لطفي، مرجع
مذكـور، ص. 131.
[69] - Jean Yves TADIE, Le récit poétique, Paris, Ed. PUF,
1978, p. 54.
[70] - Ibid., p. 55.
[71] - Roland BARTHES, S/Z, Op. cit., p. 61.
[72] - Francis WEY, in Phillipe HAMON, Introduction à l'analyse
du descriptif, Paris, Ed. Hachette, 1981, p. 25.
[73] - Michel RAIMOND, «L'expression de l'espace dans le
nouveau roman», in Postions et oppositions sur le roman contemporain, op. cit.,
p. 182.
[74] - Cité par Michel ZERAFA, Après le roman, le romanesque,
op. cit., p. 199.
[75] - Ibid., p. 201.
[76] - Philippe HAMON, Introduction...., op. cit., p. 12.
[77] - Ibid., p. 24, 40.
[78] - Ibid., p. 9 - 10.
[79] - جان ريكـاردو، قضايا الروايـة الحديثــة، ترجمة وتعليق:
صياح الجيهـم، دمشـق، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1977، ص. 166.
[80] - نفســه، ص. 144.
[81] - نفســه، ص. 143.
[82] - انظر مقدمـة المترجميـن في كتاب: رولان بارت، لـذة النـص،
ترجمة فؤاد الصفا والحسين سحبـان، الدار البيضاء، منشورات دار توبقـال، الطبعة
الأولى، 1988، ص. 6.
[83] - Voir: Henri LEFEBVRE, La production de l'espace, op.
cit., p. 211. |