 |
علي
عبيد |
|
ليس دفاعاً عن الغيطاني |
|
|
|
لا
أعرف إلى أين وصلت القضية التي أثارها موقع «الامبراطور» الالكتروني
موجهاً الاتهام إلى صديقنا الروائي المصري جمال الغيطاني بكتابة رواية
«زبيبة والملك» المنسوبة الى الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. وكان آخر
عهدي بأخبارها ما نشر عن اتجاه نية الأديب الغيطاني رفع دعوى ضد الموقع
الذي يديره الشاعر العراقي أسعد الجبوري في الدنمارك. ولا أعرف أيضاً إن
كان من المناسب العودة إلى هذا الموضوع بعد أن أخذ طريقة إلى موقعه الذي
يستحقه، وهو سراديب النسيان لتفاهته وعدم معقوليته. ولكنه موضوع شائق على
كل حال لأنه طرح غريب غرابة ما آلت إليه الحقبة البعثية العراقية نفسها
برمتها، ولأنه يتعرض لرموزنا الأدبية التي نعتز بها وينال من قناتها
بالغمز واللمز متهما إياها بدعم الطواغيت، كأنه لا يكفي هذه الأمة انهيار
القيادات السياسية حتى تسعى أطراف، غاياتها معروفة، إلى تحطيم الرموز
الأدبية وإدخالها معارك تصرفها عن الإبداع إلى الدفاع عن نفسها وتبييض
صفحتها التي تتعرض لمحاولات التلطيخ هذه. «زبيبة والملك» رواية لا تحمل
اسم كاتب محدد رغم نسبتها إلى صدام حسين (فعل ذلك بقصد الاستنكاف من أن
يوصف رئيس الجمهورية، وقائد الجيوش وبطل أم المعارك والحواسم، وأمين عام
القيادتين القطرية والقومية للحزب، بكاتب روائي، مثله مثل مئات الروائيين
العرب، ممن تضيق بهم مقاهي العالم العربي قمعاً وجوعاً وحرماناً
وتشرداً).. هكذا يبرر موجه الاتهام عدم وضع صدام حسين اسمه على الرواية
التي يشير غلافها إلى أنها (رواية لكاتبها). أما التمهيد الذي يتصدرها
فيقول: (بتاريخ 12/شباط/2000 التقى السيد الرئيس القائد صدام حسين «حفظه
الله ورعاه» بعدد من كتاب القصة والرواية في العراق.. وطلب منهم كتابة
روايات طويلة لكي يأخذوا كامل مداهم عندما يكتبون ويعالجون شئون الحياة
خلال أحداثها، أي أن يأتي الكاتب بمزيج من الصلة بين الحياة البيتية
العادية وأحداث الرواية حتى تصل إلى مستوى المقاومة خلف الرشاش الذي
يقاوم طائرات العدو.. وقال لهم: إنكم بحاجة إلى نفس أطول في كتابة
الرواية التي يجد فيها القارئ مزيجاً من معلومات جديدة لم يعرفها سابقاً
عن التاريخ أو الاجتماع أو علم النفس، سواء تعلق الأمر بالمرأة أم
بالرجل، بكبير السن أم بالشباب، بالمريض في ظرفه أو وصفه أم بالمتعافى،
بالمقاتل عندما يأتي مجازاً إلى بيته، وكيف تكون أحاسيسه عندما يعود إلى
الجبهة، أو يغادر بيته إليها.. وبذلك يكون القارئ قد اطّلع على رواية،
باستطاعتها أن يرويها بدوره، وعلى فكرة مركزية وسلسلة من الأفكار المتصلة
بها في كل شئون الحياة.. وقد تلقف نجيب غيور من أماجد العراق هذه الكلمات
البديعة، فكانت هذه القصة ـ الرواية التي بين يدي القراء الآن.. ولكنه لم
يشأ أن يكتب اسمه عليها تواضعاً، شأنه شأن أبناء العراق، الذين يبذلون
النفس والنفيس، ولا يتحدثون حتى عن جليل ما يفعلون.. وكانت الرواية بقلم
كاتبها). هذه هي إذن حكاية الرواية التي تحولت إلى عرض مسرحي وفيلم
سينمائي وأدرجت ضمن مناهج الأدب المدرسي والجامعي لتتفوق على روائع الأدب
العالمي خلال حكم البعث للعراق. ولا أحد يعرف ماذا كان ينتظرها لو لم يزل
ذلك الحكم من الوجود، إذ ربما كتبت بماء الذهب وعلقت هي ورواية صدام
الثانية «القلعة الحصينة» على أسوار بغداد التي لم ينتحر عليها أحد كما
وعدنا رأس النظام وقتها وردد خلفه أعوانه ووزراؤه الذين كان أشهرهم
وأكثرهم حماسة وزير إعلامه. من يقرأ الرواية يستطيع أن يدرك ببساطة أن
كاتبها لا يمكن أن يكون هو الروائي الأديب جمال الغيطاني لعدة أسباب
منطقية وموضوعية، أولها أن من يعرف الغيطاني يعلم أن أخلاقه لا تسمح له
بأن يكتب رواية ويضع عليها اسم مؤلف آخر حتى لو كان هذا الآخر حاكماً،
فإحساس الكاتب بأنه الحاكم المطلق والملك المتوج على ما كتب إحساس لا يقل
عن شعور الجالس على كرسي الحكم وتمسكه به. وأعتقد جازماً أن الصديق
الغيطاني لا يمكن أن يتنازل عن نتاج من نتاجات فكره وعقله لكائن من كان
حتى لو كان هذا الكائن حاكماً. أما اولئك الذين يمكن ان يتبادر لأذهانهم
أن لبريق المال تأثيراً على الأديب الغيطاني فهم لا يعرفونه حتماً. ولست
مضطراً لتوضيح ذلك لمن لا يعرفه لأن معادن الناس لا تعرف إلاّ بالتجربة
والمواقف النبيلة، وقد شهدت للصديق الغيطاني موقفاً نبيلاً لست في حل من
ذكره، لكنه يضع الرجل في مكانة لا تسمح له بتقديم تنازل من هذا النوع، أو
أي نوع، من أجل حفنة من المال مآلها إلى الزوال كما زال من قيل إنه قد
استكتب الغيطاني وحذف اسمه لينسب الرواية لكاتبها المعروف المجهول. ثم
يدفع عن الغيطاني التهمة أيضاً فكرة الرواية الأقرب للسذاجة وبناؤها غير
المحكم اللذان يبعدان بها عن موهبة الغيطاني المعروفة في البناء القصصي
وأسلوبه المميز عبر رواياته العديدة التي ترجم الكثير منها إلى لغات عدة
منحته شهرة عالمية تجاوزت به حدود العالم العربي، مما يشكل مبعث فخر
للأدب العربي المعاصر، كما يشكل في الوقت نفسه مبعثاً للحسد الذي ربما
كان هو الدافع الرئيسي لاتهام من هذا النوع إذا ما استبعدنا فكرة
المؤامرة التي تطل برأسها علينا في مثل هذه المواقف وغيرها. وتأتي بعد
ذلك الرواية غير المنطقية التي وُجِّه من خلالها الاتهام على الموقع
الالكتروني. وهي رواية مفككة بعيدة عن المنطق، يزيد من الإثارة فيها أنّ
زعم كتابة الغيطاني للرواية ونسبتها إلى صدام حسين قد أثار غيرة الابن
عديّ الذي كان يحلم أن يصبح هو الآخر روائياً، ولذلك فقد بادر إلى إرسال
شاعر النظام الملقب بـ «شاعر أم المعارك» رعد بندر في مهمة سرية إلى
القاهرة مع مبلغ من المال ورسالة إلى الغيطاني للطلب منه أن يكتب رواية
أخرى أهم من رواية أبيه «زبيبة والملك» لينشرها عديّ باسمه. ولكن المهمة
السرية انكشفت عندما زوّد عديّ مبعوثه بجواز سفر مزور آمراً إياه بالسفر
إلى الأردن ومنها إلى القاهرة بالطائرة، إذ يفضح السائق المكلف بنقل رعد
بندر إلى الأردن المهمة عن غير قصد، فيضع صدام يده على الموضوع، ويمنع
ابنه عديّ من تحقيق حلمه الروائي عبر قلم جمال الغيطاني. فالوالد أو
الديكتاتور الكبير لا يريد لابنه الديكتاتور الصغير أن ينافسه روائياً من
خلال قلم الغيطاني أيضاً (هكذا تقول الرواية الملفقة). وبهذه اللمسات
البوليسية التي لا تخلو من الإثارة والتشويق تكتمل قصة اتهام صديقنا
الروائي جمال الغيطاني بكتابة رواية «زبيبة والملك» التي ستظل «رواية
لكاتبها» أو «رواية غاب كاتبها» بعد أن أثار كل هذه الزوابع في حياة
الناس، ولم يسلم الأدب وعالم الرواية من زوابعه حاضراً وغائباً. هل يحتاج
الأديب الغيطاني دفاعاً منا؟ الجواب: لا بالتأكيد، لأن أعماله وتاريخه
هما اللذان يدافعان عنه. ولكنها كلمة حق يجب أن تقال عن أديب أثرى
المكتبة العربية، وعن زميل مازال يطل علينا من خلال هذه الصحيفة بالممتع
من كتاباته المتنوعة.. فتحية له منا.. أما «زبيبة والملك» التي تحولت إلى
لغز يبحث الجميع عن صاحبه فقد أصابت لعنتها من نُسبت إليه كما يبدو فتحول
هو الآخر إلى لغز أكبر يبحث الجميع عن جواب له. أما هذا الجدل الدائر حول
«زبيبة» و«الملك» فسيظل دائراً حتى تقطع «زبيبة» قول كل خطيب.. وما أظن
ذلك قريبا.
|
علي
عبيد - جريدة البيان - 15/6/2003 |
|
|