كان - ولا يزال - من عادة بعض أهل الأدب أن يطمحوا
الى الوصول الى مقاعد السياسيين وليس العكس. فالسياسيون مهما بلغت بهم
"قريحتهم" الأدبية ما كانوا ليطمعوا في احتلال مقاعد الأدباء. بعض
"الزعماء" جاؤوا من الأدب الى السياسة وظلّوا أدباء وصالحوا بين الأدب
والسياسة من غير ادّعاء. لكنّ معظم الذين جاؤوا من "الزعامة" السياسية
الى الأدب ظلّوا بمثابة الـ"متأدّبين" الذين اكتشفوا متأخرين مواهبهم
الأدبية. سنغور وفاكلاف هافل وجورج بومبيدو وسواهم - وربما فارغاس يوسا
الذي سقط في انتخابات الرئاسة في البيرو - جاؤوا السياسة من الأدب، لكنهم
لم يستغلّوا مناصبهم "الرئاسية" ليفرضوا أدبهم على مواطنيهم - ولا على
الطلاب والبرامج المدرسية والجامعية.
الديكتاتور المخلوع صدام حسين نجح في "كسر"
القاعدة ودخل عالم الأدب من الباب الواسع ونال من التقريظ النقدي ما لم
ينله أديب عراقي وأجبر الجامعات والمدارس على إدراج أدبه المسروق
والمنحول في البرامج بغية نشر أفكاره المثلى ومبادئه في أوساط الطلاب
والناشئين. وبلغت به صلافته شاؤها عبر تحقيره الأدباء وجعلهم خدّاماً
ورعاعاً لا يأنفون من مدحه وهو يرتقي المسرح فيما هم تحت قدميه.
الزعيم الليبي المعمّر القذافي شاء قبل سنوات ان
يكون قصاصاً فأصدر مجموعة قصصية ما برحت يتيمة وبدا عنوانها غريباً:
"القرية القرية، الأرض الأرض وانتحار رجل الفضاء". لكنّه - على ما يبدو -
أراد من الأدب ان يكون "في خدمة النظرية" كما يشير أحد "النقدة" فأصدر
بعد المجموعة القصصية كتاباً سياسياً عنوانه أغرب من العنوان السابق وهو
"دولة الحقراء"، وجاء في سلسلة "منشورات ضدّ القانون". وطبعاً لا يمكن
نسيان أو تناسي "الكتاب الأخضر" الذي بات بمثابة الكتاب الشعبيّ والرسمي،
الرائج والمعتمد في الجماهيرية الليبية.
ليس المهمّ أن يكون القذافي هو صاحب القصص أو ألاّ
يكون صاحبها، هذه مسألة أخرى. المهمّ أنّ القذافي أصبح بين ليلة وضحاها
أكبر كاتب ليبي وواحداً من كبار القاصين العرب بحسب ما أفادت الأبحاث
الجديدة التي تناولت كتابيه: المجموعة القصصية اليتيمة و"دولة الحقراء".
والأبحاث كتبها 32 ناقداً وكاتباً من ليبيا وبعض الدول العربية. ولو لم
يرفض عدد - لا بأس به - من الكتّاب والنقاد العرب الآخرين المشاركة في
الأبحاث لكان بلغ عددها المئة.
قدّمت الأبحاث في ندوة عنوانها "القذافي كاتباً
ومبدعاً" وعقدت على هامش الاحتفال بالدورة الأخيرة لـ"جائزة القذافي
الدولية لحقوق الإنسان" وكان فاز بها كتّاب غربيون وعرب من أمثال: روجيه
غارودي، جون زيغلر، نديم البيطار، أحمد الفقيه، ابراهيم الكوني، محمد
الفيتوري وسواهم.
قد يكون الفوز بجائزة القذافي أقل عبئاً من
المشاركة في ندوة حول أدبه الإبداعي، فالفائز ليس مضطراً لمديح أدب
القذافي بل قد يكتفي بمدح سياسته أو شخصه. ومديح زعيم مثل القذافي أسهل
كثيراً من مديح أدبه، ولعل القذافي - كما يقال - يعلم ذلك تمام العلم.
فالتراث العربي أصلاً حافل بما لا يحصى من المدائح التي كالها الشعراء
للحكام والسلاطين، ونادراً ما خلا ديوان قديم من المديح الذي كان يعتبر
"نوعاً" من الأنواع الأدبية الفريدة.
ليس القذافي هو الذي دعا النقاد والكتّاب العرب
الى المشاركة في الندوة، فهو على الأرجح لم يحضر الاحتفال ولا الندوة كما
ورد في المجلة الليبية "الفصول الأربعة" التي خصصت ملفاً لأدب القذافي،
إذ رفع المشاركون في الختام "برقية للأخ قائد الثورة". فالقذافي يملك من
الهموم ما يجعله غير قادر على ملاحقة "الآثار" الإبداعية التي تركها
أدبه. انها طبعاً "رابطة الأدباء الليبيّين" التي تولّت المهمّة رغبة
منها في ترسيخ صورة القذافي الأديب والمبدع. وهذا ما يعني أنّ ما من كاتب
أو ناقد عربي كان مجبراً أو مضطراً للمشاركة في ندوة "المديح"، وقد يعني
أيضاً أنّ الكتّاب والنقاد العرب لبّوا الدعوة نزولاً عند رغباتهم
الشخصية وطمعاً بما تعني هذه المشاركة من ومن.... على أن السؤال الأليم
الذي يطرحه أي مثقف عربي على نفسه هو: ما الذي يضطر هؤلاء الأدباء
والنقاد لمديح أدب هم على قناعة تامة أنّه لا يستحقّ - أو يحتمل - مثل
هذه الندوات الكبيرة التي يفترض بها أن تدور حول نتاج الأدباء الكبار
الذين كانوا بمثابة المنائر في العالم العربي؟ ياسين رفاعية، كوليت خوري،
عبد الله أبو هيف من سورية، عز الدين ميهوبي رئيس اتحاد الكتّاب
الجزائريين، واسيني الأعرج الروائي الجزائري الطليعي، الروائي العراقي
شاكر نوري، الناقد المغربي بشير القمري، القاص المغربي إدريس الخوري،
الروائية المصرية الشابة ميرال الطحاوي، الكاتب السوداني طلحة جبريل
وسواهم من أمثال: حسن حميد، رجب أبو دبوس، عبد القادر الحصيني، محمد
الخالدي، لطفية القبائلي، فؤاد قنديل، عبد الرسول عريبي، شكري البكري
وسواهم وسواهم...
هل تستحق المجموعة القصصية اليتيمة التي نشرها
القذافي أن يُدعى الى "مائدتها" مثل هؤلاء الكتّاب والنقاد وأن يقدموا
عنها دراسات و"يحبّروا" لها أوراقاً كثيرة؟ ترى، ألا يعلم القذافي أنّ في
الأمر مبالغة فاضحة ونيّات غير أدبية ونقدية؟ يخبر أحد الذين شاركوا
سابقاً في ندوة عن أدب القذافي كيف التقاهم في خيمته وكيف جعلهم يدركون
أنّه على علم بما يضمرون وهو ما يختلف تماماً عمّا يكتبونه في دراساتهم
ومقالاتهم. ويروي هذا الناقد كيف أنّه شعر بما يشبه الذلّ حين فضح
القذافي بنفسه تلك الأكاذيب النقدية.
الشاعر محمد الفيتوري ألقى قصيدة عصماء في
الاحتفال مدح فيها القذافي ولم يمدح أدبه. وحاولت الروائية ميرال الطحاوي
- التي تُرجمت رواياتها الى لغات أجنبية - أن تتحايل في ورقتها على
الموضوع، متطرّقة الى أدب الصحراء، لكنها اضطرت في الختام أن تتحدث عن
"الإيماءات المشبعة بالحنين" وعن "أوجه اليوتوبيا" في قصص القذافي.
الناقدة فاطمة سالم الحاجي كتبت دراسة بنيوية عن إحدى قصص القذافي
واستعانت أيضاً بالمنهج "الثاناتولوجي" بغية "دراسة الموت في أدب القذافي
وهو مجال علمي جديد". واكتشفت لدى الزعيم الليبي "رؤية فنية مركّبة للموت
ومخالفة لمنظورنا الاعتيادي". وتحدث الكاتب هاني العمر عن خطب القذافي
التي أحدثت "تحولاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً سواء في ليبيا
أو في العالمين العربي والغربي".
دخل نتاج القذافي "معترك" الأدب العربي من أحد
أبوابه الكبيرة التي شرّعها عدد من النقاد والكتّاب العرب، وبات هو
واحداً من القاصّين العرب الذين ما عادوا يحتاجون الى أي شهادة أو
اعتراف. وأدبه الذي كان ولج سابقاً الجامعة الليبية، أصبح الآن في حكم
الأدب الراسخ والثابت وغير القابل للشك والمساءلة.
ترى، هل كان يظنّ الأدباء والنقاد العرب الذين
شاركوا في الندوة أن خبر الندوة سيظل محصوراً في العاصمة الليبية ولن
يتخطى جدرانها الى الخارج؟ إنّها مجلة "الفصول الأربعة" فضحت أعمال
الندوة ظناً منها انها تؤدّي لهم خدمة جليلة. ويا لها من خدمة جليلة
حقاً.