« كلهم ماتوا...»
« كلهم رحلوا...»
« أجمل المنافي التيه...»
« مغلوب على أمري أنا ماش...»
مر أسبوع لم تضمحل خلاله السحب ولم تتوقف السماء عن إرسال وابل
أحشائها، رعدها وبرقها .
وخلال نفس الأسبوع الذي امتد من جمعة إلى جمعة، تعود الناس الدخول إلى
بيوتهم والركون إلى مخابئهم قبل أو بعد أذان المغرب مباشرة، حيث يحلو
السمر عند المرقد على نغمات سقوط المطر التي تحدث ثقبا في السقوف وتضجر
الدماغ في نشوة.
سماء سوداء ملبدة، ريح باردة مسمومة وأمطار غليظة اضطر معها كل
الناس لمراجعة ما حفظت صواوينهم وما سلم من شر التونيا.
وحده أبو المكارم كان يخرج مبكرا ويتيه في أرجاء قر البرد وانسلال
داء السل وقد أيقن أن فكرة الرحيل والاختفاء تناوره.
كابر، بدوره، لم يكن على طبعه المعهود، حيوية ما تغمره، تكاد تراه
العين وهو في أعلى درجات نشوته فلا تجد غير أن تعشقه وتخص كل الفصيلة
بالرفق والعطف . أحيانا،
كان يسبق أبا المكارم فيركب زنقة لوحده عله يسمع بعض نباح الكلاب
المجاورة، ويمتطي أبو المكارم زنقة ثانية عله هو الآخر يصادف حمدان أو
حمودة، ثم يلتقيان معا عند زاوية ما ويتيهان في دروب الحي والمدينة تحت
نشوة زخات المطر.
وهذا الصباح، ظهر أبو المكارم في حالة فوق عادية، سلهامه الأحمر هذا
لا يظهر إلا إذا آذن بالاختفاء عن الحي أو المدينة .
إنه استفاق على فكرة الرحيل، متأهب بتجعيدة منقبضة عند الجبين، لا يهمه
ما سيلاقيه، وغير عابئ بما ترك وراءه. لقد نودي عليه، لكنه لا يعلم من
أين، أما كابر فيعلم ...
هكذا طبعه يظهر أياما ويختفي شهورا وفصولا .
يشتاق إليه الناس عندما يخضر الربيع وتطلع شمس الصيف، ينتظره الشباب
على شغف كلما حدث ما يثير غضب الفقراء وكلما ألمت نازلة بالحي، أو
المدينة، أو الوطن.
هذا الصباح إذن، استوقف أبو المكارم كابرا عند العتبة، لامسه وقبل
ناصيته ثم مسح عنه العمش الذي يرتكن زاويتي عينيه.
«كل أحبتي ماتوا يا كابر، وسكان المدينة يسكنهم جنون رهيب وتغمرهم غصة
سوداء، فمن أي جهة نبدأ تيهنا؟ لقد نودي علينا يا كابر!»
نبح كابر ثلاثا وتشبت بسلهام أبي المكارم ثم تقدمه، شعر بدوره أنه
يترك المدينة إلى الأبد، زحف وزحف معه أبو المكارم.
لم يكن الدرب قد استعاد ح ركيته
بعد. عرج على درب للاعيشة العدوية، سرح بصره على طول درب الزموري. كان
اليزيد يشطب باب دكانه على عادته قبل أن يصفف سلعته ويتوكل على الله
بطبعه السوسي الطيب. وما كاد يغادر الدرب حتى وصله نعيق أولى حافلات
الصباح وضجيج عربات بائعي الخضر وهي تجتاز منحدر دار السمن في طريقها
إلى السوق المركزي.
العقبة خالية موحشة الآن إلا من
إنارة تهوي على إسفلت أسود مبلل ومحفور فتحدث فقاعات من ضوء ينكسر إثر
اصطدامه لينعكس كئيبا على سرايا وحيطان المنازل وكذلك على زجاج واجهات
المحلات التجارية.
كذلك شارع روامزيل، بنور باهت على
امتداده، حزينا يتألم من شدة اللغط والحركة البشرية الدائبة خلال
النهار. لم يرمم و قد لا يرمم...! اخترقه أبو المكارم غير مبال بحارس
الليل النائم و بحفنة المجانين اللذين تكوموا هنا وهناك.
وعندما وصل مشارف الخروج من المدينة، التفت إلى الوراء:
« دعيني لتيه ميمون يا مكناس، فإني ما عدت أستحمل
كدحك
وكوابحك يا أيتها المدينة التي أفارقك اللحظة طوعا ومكرها، لقد نودي
علي وإن الزمن بالتيه يرميني.»
|