موقع محمد أسليــم
Le site de Mohamed ASLIM
جماليـــات صالـون الكتابـة حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع


7


آذنت العتمة بالانتشار، واقتربت السحابة السندان من الأرض ومن أفق العين، وكذلك اشتد البرد، أخد أبو المكارم سلهامه ونفض عنه ما تبقى من الرمل، ثم لفه من حوله، شملت رأسه قشعريرة حادة أيقظت فيه ذكرى يوم وصول كابر إلى بيته، وطريقة الإعلان عن عبقريته. ضرب على يديه من شدة الحسرة على غيابه... تذكر الشاي الذي هيأت زينب بالمناسبة، لحس شاربه وأحس بعذوبة ما، جاءه طيفها وهو أمامها يرشف الشاي العذب. كانت زينب جميلة وكان أبو المكارم يموت في عشقها.

رفع عينيه إلى السماء وقد انهمرت دمعة شاردة وانحدرت على الخد لتسقط مباشرة على القبر.

«إني أنتظر سقوط المطر وأنت مثلي تفعل مقنعا في قبرك!... تعاندني أحيانا يا كابر، والليلة تعاندني من داخل قبرك، يا عجبا !.. العتمة وعنادك...لم أعد أستحملهما...لماذا تخليت عني ورفضت أن تعين جهة سقوط المطر؟... كل عبقري يسكنه خلل عظيم... عبقريتك يا كابر يسكنها خلل عظيم جدا... لا تعتبر هذا تمجيدا... لو بقيت في ملك المسيو غوني لكبرت خنزيرا تأكل روثك وبرازك من كثرة السداجة... أنت تبدلت جوهريا من يوم أعلنت عن عبقريتك لزينب زوجتي... ليتك تعلم ما قالته لي في ذلك اليوم المعلوم... لأول مرة طرحت وفاءك موضوع سؤال... لكم ندمت لما خرجت على عجل من غيرك، وجدتها فرصة سانحة لتغري زينب بعبقريتك...لازلت أذكر،وجدت زينب في انتظاري وقد جعلت من باب الدار متكئا بعد أن لبست ملابس العيد وتعطرت وغمرتها سعادة عارمة...قالت رحمة الله عليها: «ماذا لو سجلنا كابرا في دفترالحالة المدنية!؟» هكذا قالت وتسللت نحو فناء الدار...كنت يا كابر على مشارف الإنهاء من الإعلان عن عبقريتك... رأيتك بأم عيني تمحو حروفا وأرقاما كنت قد كتبتها على سبورة ابني الطاهر... حروف لم أعد أحتملها وأرقام آه لو تدري كم أمقتها...! أنا يا كابر أعترف لك بإتقانك لنفس الحروف وأقر لك بمقاومتك لها بعد مغادرتك لدار المسيو غوني إلى غير رجعة...لازلت أذكر كلام ذلك البغيض لا رحمه الله ولكن حرقه وشرد ذريته، قال: «أنت ترى هذا الكلب يا أبا المكارم، أنت من قاومت مع أبائنا وبرفقة جيوشنا، إنه أفضل من مئات البشر». أحسست بالإهانة العظمى... فكرت بتشويه قسمات وجهه كما كنت أفعل لأجداده في عقر دارهم وفي ساحة الهديم... لم أفعل يا كابر، قلت فقط إني سأسميك كابرا بدل ميغو ولتتحرر الكلاب على الأقل وتشعر بكيانها...

رفع أبو المكارم رأسه من جديد إلى السماء، إستشعر السحابة السندان قرب أنفه، شرع على الفور في جمع الحجارات وهو يتحدث إلى كابر. تارة يأتيه من جهة الشاهدة، ومن جهة قدم القبر تارة أخرى.

«كنت يا كابر على مشارف الإفراغ من الإعلان عن عبقريتك... هرولت جهتي في فرحة مفتعلة... إني لا أعاتبك الآن يا كابر لأني أعلم أنك ذهبت ولن تعود أبدا ومن مات لا يعتذر... أنا فقط أذكرك ببعض خدلانك... لم تتبعني ولم تسترسل جهة الباب ولو أنك شاهدتني أتهيأ للخروج... التويت في بقعتك كسلانا، وبمجرد أن غادرت البيت هرولت لجهة العتبة لتتأكد من ذهابي، ثم رجعت لتمارس نزقك على زينب متباهيا بعبقريتك... كل هذا وأنا لا أعاتبك... سترى إذا ما تفجرت السحابة السندان كيف سأضم قبرك... سأحملك كما تفعل الأم بابنها وسط ركام الزلزال فتمنحه دما بدل حليب حتى يحيا ويعيش... يكفيك فخرا، فإني مستعد لأجعل من نفسي قربانا لك...»

في لحظة، سمع أبوالمكارم حبات مطر مدوية تسقط هنا وهناك، غليظة كالحجارة، كحبات البرد حين تسقط على قطع الحديد أو القصدير. بكل حيوية، خلع عنه سلهامه وعلقه على جدع شجرة الشوك ثم رجع مباشرة جهة القبر. في الحين، هدأت الأجواء وفاحت رائحة التراب، رائحة لها عطور عرباننا القدامى ونفحة عبير الخزامى.

من جديد، فاجأه منظر السحابة التي تبددت قتامتها وانتشرت لتفقد شكل السندان، ومع تبدد سوادها زحفت العتمة كسفود سحري يضم كل شيء، حتى شجرة الشوك اختفت. أحس بوحشة ووحدة قاتلتين وبضيق واختناق رهيبين. انحنى في دروشة جهة الشاهدة بعد أن ايقن أن السحابة قد اضمحلت. شمله سكون قارب معه الغيبوبة ثم استرجع رزانته فقط ليتذكر كابرا.

«قالت زينب إنك بقيت تتسلق أهدابها ثم تذهب إلى الدولاب وترجع كأن تدعوها للباس قفطانها... لاشك أردت منها أن ترقص وتدعو الناس لوليمة بالمناسبة... لم تفعل لأنها أقسمت ألا تفعل إلا على شرفي وأنا أرشف الشاي... لقد شهدت لآخر شظايا إشراقك... هرولت إلى الدولاب وأخرجت أوراقا نقدية ثم غادرنا معا البيت... لم تكن تدرك سبب خروجي الطارئ... ربما كنت تظن انني سأطوف بك في أرجاء المدينة عبثا... لا يا كابر، تذكر فقط ما قلته لك عندما وقفنا عند دكان الرحماني الخضار، قلت لك: «إنني لم أر قط مخلوقا يخرج إلى الشارع في يوم مولده...» بالنسبة لي لا أقيس عمرك بعدد السنوات بل بمدة جهلك للأشياء... ولقد اعتبرتك كلبا حيا يرزق من يوم طلع إشراقك... هل تذكر كذلك ما أخبرتك به عندما وقفنا ننتظر دورنا بدكان الحميدي الجزار، قلت لك إني سأشتري أربعة قلوب ولحم بعظام، القلوب واللحم للشواء، والعظام للتبجح، كل هذا مصحوب بشاي من نعنع مكناسي وخبز أسود... قلت لك إننا لن نختلف في الوجبات بعد اليوم وسنأكل معا على مائدة واحدة...أذكر كذلك أنه بمجرد أن وصلنا دكان الهادي الفاكهاني أدركت أن اليوم يوم سعدك... سبقتني إلى داخل الدكان ونزقت حتى أقلقت الزبائن... الهادي الفاكهاني يعجبه طبعك ولهذا لم يقلق... والحق يا كابر أن لا الخضار ، ولا الجزار، ولا الفاكهاني أساؤوا إليك يوما أو ردوك خائبا... كلهم كرموك ودللوك واحتملوك... لست لئيما لكي لا تتذكر كل هذا... لقد وعدتك بحفل كبير كلما وصل علينا يوم مولدك... كذلك أخبرتك قبيل ركوب تيهنا، أننا سنحتفل بالعيد حيث ومتى صادفتنا الذكرى... تذكر فقط عيد ميلادك السابق... أتيت بالذبيحة: أرنب أسود أكلناه عند ظل شجرة لوز مزهرة، ولكم سررنا ومعا تعلمنا معنى الوجود والموجود... كم فرحنا وتحدثنا إلى بعضنا... لم لا نفعل اللحظة بالمثل؟ سأتكلم معك وإليك وسيسجل هذا الفراغ كلامي ويحتفظ الليل بسري ولا يحكيه للمجدومين في المدينة وكل المدن عند الفجر... أخبرني أرجوك أين سيسقط المطر، لقد يئست !..»

الفصل الموالي

     

الفصل السابق

 

منشورات الموقع

عبد النبي كـوارة، ورم التيه (رواية)

المحتــوى

2

1

4 3
6 5
8 7
10 9
12 11
14 13
16 15
18 17
19

 

 

 

جماليـــات صالـون الكتابـة حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.