موقع محمد أسليــم
Le site de Mohamed ASLIM
جماليـــات صالـون الكتابـة حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع


11


وقف أبو المكارم في قفزة واحدة، نفض سلهامه ثم رفع عينيه إلى السماء. عتمة بعدها سيأتي الفجر، ظلام دامس بلون الخشب المحروق والقطران وعصير الحبة السوداء. سكون رهيب أحس معه أبو المكارم بضيق يحفر قلبه، يحرثه ويزرعه مساميرا، شملت جسمه حرارة مفرطة، خفت نبضات قلبه من سرعتها، قبض على جبينه الساخن وبمجرد أن مسح عرقا تملكه دوار شديد. شيئا فشيئا استرجع قواه فأحس من جديد ببعض البرد يتسرب إلى خياشيمه. وفي تحدي المناضل وأنفة المحارب، رفع بصره ثانية إلى السماء الداكنة.

«إني وحق الذي خلقني لا أخشاك، وإني مستعد أن أتنازل عن حياتي لكي لا ينجرف قبر كابر... أنت السماء أعرفك... أنت ربة الشهوة... تقهرين بردا متى اشتد غضبك وتحرقين حرارة متى استيقظت شمسك من فجرها المغشوش... كابر كان حتى قبل أن ينام بدورات قمرية معدودة، يخبرني بأسرارك العاتية... أنا سأنتظر حتى تضرب السحابة المطرقة على السحابة السندان وأشاهد شرك وعنفك على المستضعفين في الأرض، من يسكنهم ورم التيه، من تهدمين أكواخهم وتحولينها إلى أكواخ لا ترمم... أنت تقتلين أطفال الهامش... نساءه... رجاله... شهوتك كشهوة البحر، خشنة تتحقق على حساب الآخر... لك الشمس بظفائرها الذهبية الخادعة، وللبحر الرمل والشطآن والأمواج... تبا لك أيتها المدينة الحقيرة التي يشتري أهلها الشمس، ويتحممون في وديان وشطآن موبوءة... تبا لك لما تشردين الأطفال وتحتقرين النساء... تبا لك أيتها الشمس الطالعة من زخم السماء... وتبا للذين يأخذون حمامك بإباحية في شواطئ اكادير وتطوان والمرافئ المجلية... شهوتك أيتها السماء شبقة حمقاء... تنزلين صاعقة بشرارة وشظايا على الصبايا وتميتينهم... على الدواب فتدبغين جلدها وتغلفين عيونها... على السهول فتحوليها إلى برك وجزر معزولة. ليت كابر يستفيق ليبدي بشهادته ويحصي لعناتك واحدة واحدة... كم من مرة دخل وركبتاه ترتعشان وأذناه ترتعدان من لسعك البارد... كان يشعر بهذا عند كل خريف، عندما يشتد نزقك... أنت أيتها السماء شرسة وقد أخذت كابر في عز عرسك الخريفي، وتتباهين أكثر بغضب لياليك ووحشتها... لقد أتى عنفك على كابر أيتها الطبيعة. هو من على علم وافر بزيغ سمائك، بكل طبقاتها الثلاث... قلما تجرفه مياهك التي ترسلينها زخات بعد الحر الشديد... كنت فقط تلحقين به زكاما...حدث له هذا ثلاث مرات، وهو لا شك يتذكر حمأة ومرارة كل زكام على حدة... في كل مرة كنا نضبط الأعراض ونصنع التداوي... المرة الأولى، في أيام البرد والمطر وفسحة شمس، كنا خرجنا، كابر وأنا، لنأخذ خبزة بشحم وبصل أحمر من فرن المعلم أحمد،كانت زينب قد هيأتها بكل عطف وحنان ... المرة الثانية، لما تسلق السطوح ليلحق بكلبة الجيران لويزة... ليلتها، اشتد البرد وتساقط مطر كثير... لم أرتح في نومي وطلعت السطوح لأطمأن عليه وأمنحه غطاءا... اندهشت لما لم أجده... بقيت أجمع المطر على رأسي وظهري في انتظار وصوله إلى أن فعل... كان منتشيا من غير أن تنال منه التساقطات ولسع البرد وحبات البرد... في الغد، للأسف، استفاق على نباح به بحة وعينين تدمعان... المرة الثالثة، كنت جد خشنة... كنا على سفر عندما باغثنا ثلجك الكثيف... عدنا إلى مكناس ولازمت الفراش شهرا بأكمله، خلاله لم ينبح كابر... أنا أحاسبك أيتها السماء على غضبك لكني أشكرك على نعمك... شأن البحر، أعاتبه وأشكره على أنواع غذائه... أوصلي إذن المطرقة بالسندان وضعي عنقك بينهما يا ذي السماء التي تجلب الطوفان، تهدم صرح أكواخ عجائز وصبية سقاهم الزمن حزنا وكدرا... يا من تسعدين من يبيعون بناتهم ويتبادلون زوجاتهم تحت وطأة مسكرات أسكتلنديا ولعبة المفاتيح... لا أيتها السماء التي تغري عيون الثكالى بالقمر والنجوم... قالها لي كابر، قال لي ذات ليلة عندما زرنا الأطلس، بمجرد أن جلس على صخرة وتقابل مع فج، إنك تورطين الناس في عشقك، وإنك تأمرين بالنجوم، وعندما تتأكدين من سقوط الناس في الوله بك، تبللينهم... تهدمين أكواخهم... تفرقينهم عن أهلهم وذويهم... تحولينهم إلى غرباء يرقدون في كل الأبواب... قال لي كذلك، عندما كان يأكل أرنبا، أنك تحيلين الأرض وتزهرينها عندما تأمرين ببعض المطر وبعض الشمس، فقط ليعيث العباد فسادا وتهتك البكارات بين خمائل الربيع وشقائق النعمان... هكذا أنت أيتها السماء... أنت كالمنجنيق... تختالين وبسمتك سوداء نكراء...يكفيك أن تضعي عنقك بين السحابتين... أن تموتي من داخلك وتعلني اندحارك... كابر لن يصحو من جديد... إنه نائم... تراجعي واعتبري أن أهل القصر المجاور لا يعلمون ثوب زيغك ولون خذلانك... اخترقت الجبال وتجاوزتها بحلتك الجميلة العاتية... شمس باردة في النهار... لوحات شمسية بلون الطوب والطين عند القيلولة... غبش أحمق قبيل المغيب... ليل دكن بلون الفحم والرصاص... تجاوزت الجبال المنتفخة بالأسرار العظيمة والخير العميم... دست على طهارتها... أنت الآن أيتها السماء لا تساوين سوى سحابتين تتغازلان لتغدر الواحدة الأخرى... هكذا أنت وإني لا أخشاك... واعلمي أن كابرا بدوره لن يتنازل عن قبره مهما كانت شهبك وشظايا غضبك...»

تراجع أبو المكارم إثرسماعه لخشخشة. لف سلهامه من حوله، مرة أخرى سمع صوتا فأدرك على الفور أنه لوطواط تائه في الظلام. من غير أن يشعر جلس إلى جانب الشاهدة، أحس بعياء يسكن ركبتيه سرح رجليه حتى تكلمت مفاصلها. تكوم من جديد وقد نشر سلهامه ليغطي قدميه، ثم أغمض عينيه.

هدوء وسكينة إلا من تنفس أبي المكارم، وحشة رهيبة وغربة كبيرة تأكل كل أحشائه. انقبض قلبه فتذكر المدينة وبعض أصحابه وجيرانه.

« تركت باب داري مفتوحا فليدخلها من لا مأوى له من الأطفال المشردين والنساء المطلقات... غادرتها بعد أن تركت كل أسراري ووثائقي وحتى بطاقتي الوطنية... داري الآن نقطة للسطو وللفضيحة... تركتها في وجه التفتيش والمصادرة والكيد... رسم الدار بقي بالدار... ذهب زينب في الدولاب بما فيه العقد الذي أهداه إياها الطاهر لما بلغ مناه... قفطانها ذو اللون القرمزي الذي لبسته في فجر عرسها، يوم أعلنت أمومتها... تركت كل شيء... كل شيء معرض للنهب والسرقة... كل ما أملك قابل للمزايدات... جيراني، طبعا، سيقولون إني خرجت لنزهة كما عهدوني أفعل ولن يترددوا في حراسة داري بعد الليلة الأولى من غيابي... القاسمية لن يهدأ خاطرها ولن يرتاح بالها إذا لم تجد حفنة الطحين على النافدة... زينب أوصتها قبيل موتها بأن تمدني بالخبز على الأقل إذا ثقلت عليها خدمتي... ألا تتركني أتخبط في مطبخي... القاسمية إذن لن تجد رزمة الطحين ولن تشد على الجرح... كذلك لن تتردد في إخبار الغزواني الذي يدق باب داري كل صباح حتى يتأكد أني ربحت يوما إضافيا من عمري... كان يعلم أني فقدت كل الذين يحبهم قلبي، وأني أعيش حياة إضافية فقط... سيتأكد له بعد ليلتين من غيابي أنني لن أعود... سيحرس الدار في انتظاري... قال لي ذات يوم: «غيابك يلحق بي قنوطا كبيرا»... لاشك انه ينتظرني كما أنتظر بدوري هاتين السحابتين ويحصل الذي يحصل... الغزواني يعيب علي أشياء كثيرة... يعيب علي مخالطة الشباب... يرفض أن أقبض على الجمر في مواقع صمودهم ونضالهم... يشك في حركاتهم وفي محاولات التغيير التي ينشدونها... لازلت أذكر لما وصلت القاسمية إلى بيت الغزواني، عروسة صغيرة لا تعرف العجين ولا العصير... قالت لي زينب إن في جعبة القاسمية نزق الطفولة، وإنها لن تتردد في تلقينها معنى الأمومة... كانت رحمة الله عليها عالمة بكل أهوائها... و كانت تتحدث إليها بين الفينة والأخرى، تخبرها بطرائق العجين وأنواع الأرغفة وأشكال الإدام... علمتها كيف تهيئ فولا يطحن ولحما يقدد وزيتونا يحمض... الله يحفظها من عين الحساد ويحفظ لها فاطمة، تلك العذراء الفاتنة التي رفضت الزواج وتعنست وفاءا لابني الطاهر... علمها الطاهر الرياضيات وعلمها الأدب وكذلك أحبها... كان سيختارها أما لأولاده لولا الموت... فاطمة قد تقتحم داري وتأخذ كتب أولادي... ليتها تفعل... إرثها الحقيقي وستفرح له... هي اعتادت أن تزورني عند نهاية كل أسبوع لأنها منشغلة بالتدريس في الجامعة... اشتقت إلى أنغام نايك القصبي يا حمدان... مشتاق الآن لسماع ترتيل حمودة على نغمات الناي في ليالي رمضان... كوني يا حليمة قابلا لكل ولادة جديدة... وكوني يا فاطمة حافظة لشرف الدرب والمدينة والوطن... كوني الجدة التي لا تنبض حكايتها يا أم عائشة... أصدقائي، أنتم ورثتي... أحن إليكم بينما أنتم تنتظرون طلعتي... أحن إليكما يا حمدان ويا حمودة، لكن الله غالب، التيه يجلبني إليه ولا مفر... ومن يركب التيه لا يخشى ظلام الدواهي وعذاب الأشواق وحرقة الحنين...»

الفصل الموالي

     

الفصل السابق

 

منشورات الموقع

عبد النبي كـوارة، ورم التيه (رواية)

المحتــوى

2

1

4 3
6 5
8 7
10 9
12 11
14 13
16 15
18 17
19

 

 

 

جماليـــات صالـون الكتابـة حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.