إني أحب ليلى وأحب هذا الوطن...
رميت بكل الفرص عرض الدنيا ووجوه الوصولين الصفراء من أجل أن
أعيش في حضنهما... تنقلت كثيرا
وركبت كل الأفراس الهوائية لأنسى كل الفرص وكل المحن...
أنتم تتمنون الفرص دائما من غير أن تفكروا بمحنها...
الأولى مقرونة بالثانية، لكنكم تتناسونها، فقط، لأنكم تدركون
أنها مريرة وأنها قدر حزين في آخر المطاف، طالما أتيحت الفرصة وامتدت
صلاحيتها فهي مقرونة بالغربة وأدران الذات...
فرصة واحدة اغتنمتها وسرت على دربها...
يقولون إن محنتها عذاب أليم، لكني أدرك جيدا وقد مر علي زمن
وأنا أستجديها، أنها تحمل في أحشائها فرصة ثانية تقصي العذاب وتفتح على
النشوة واللذة في وجهها المتعدد.
قلت في ذلك اليوم المعلوم الجميل:
«دعني لحبي الأول أكتب رسالة
!»
لم أدر كيف أحضرت الورق والقلم، ولم أذكر كيف انهمر السطر تلو السطر
لتكون أول رسالة غرام طويلة. في
لحظة مازلت أذكرها، قلت لنفسي:
«يا حسن، إنك لست بصدد كتابة رسالة، راجع نفسك، إنها
شيء آخر إلا رسالة.»
منذ ئد، أيقنت أن فعل الكتابة فرصة تتجدد، ومع المدة تأكد لي من
زيارتي المتعددة للطبيب أن عذابها يحرق الكبد تارة ويقرح المعدة تارة
أخرى.وذات مرة قالت لي ليلى:
- يا حسن، إنك إذا سرت على متن الكتابة بهذه الطريقة
المدمنة، فإن العذاب سيبحث عن مواطن أخرى في ذاتك وجسدك.
- وأي المواطن يا ليلى؟
- القلب، لا قدر الرحيم
!
- لكنه موطنك وأنت مالكته
!
- وإني نصبت متراسا للذود والحفاظ عليه.
لو أن ليلى لعنت الشيطان كان أحسن...
هي تشارككم بعض رغبتكم لكونها تطالبني بالغربة...
الغربة أحلى ما تتمنون وتشتهون...
حياة الغرب تغريكم وإنها تخدعكم فقط...
تمنحكم أشياء وسيارات كما تمنح للأطفال لعبا وحلويات...
تغريكم فتركبون قوارب...
قوارب الموت تلفظكم قبل الوصول إلى أرض الحلم.
هرولت بداخل كوخنا لما اشتد يأسي، تذكرت الأصحاب والضحك المغتال.
قلت لليلى في انخطاف:
- أنت يا ليلى تفتعلين معاداتي فلا تفعلي، للقبلة
والمصالحة هيا بنا يا عزيزتي، إني لم أفرغ بعد من الرواية فساعديني إن
قلبي معي لم يختر سواك ولم يرتض واحدة أخرى فلا تعذبيني.
أجابت وحمرة الندم تنتشر على وجهها الوضيئ
:
- كنت فقط أنتظر وصول يوم الجمعة لأدعوك لهذا
!
- اليوم يوم جمعة يا ليلى فدعينا نحتفل بالعيدين؛ عيد
الروح وعيد الحب.
- لقد مرت بي أيام عسيرة، كرهتك خلالها لدرجة لا
تتصور، فاعذرني، تمنيت أن أذهب و أقولها جهرا في التلال وفي الجبال،
وأرددها في الفجاج وفي عبث المتاهات، لكني أدركت أنك قدري وأنه الوعد
الذي أعطيتني إياه ذات يوم جميل.
- لا تدعيني للغربة مرة ثانية، إني أسامحك فسامحيني.
- إني لك فاكتب، وإني سأنهمر وأمنحك كابرا شفافا
وكأنه حي يرزق.
أنتم ترون، ليلى تعدني بأخبار كثيرة، ستمنحني سيل لاوعيها وتهديني
غدير خيالها، وسنعمل كلنا على إنجاز هذه الرواية ونضعها بين يديك أيها
القارئ لتتدبر أمرك. تذكر فقط
أنني لم أضيع الفرصة حين ألفيتني أكتب رسالة كم تمنيت لو بعثتها
بالبريد السريع، لو لمم يصلني ذلك الصوت.
تقدمت عزيزتي وعانقتني، أغمضت عينيها، بللت شفتيها في رقة ثم
استرسلت:
« غمامة وقد اضمحلت...
سديم وقد انقشع... لعنة كم
تحاشيتها، أغمتني وأعمتني عن معبودي، حبيببي الذي أتنفس به مند أعوام
وأعوام... تحولت إلى غول غرائبي
بتسع رؤوس وبطن يخبئ مولودا مرتقبا يصارع بركان دمي الذي يفور ويفور...
مولود سيولد حتما... سيولد
متعبا كحسن والده... غربة تثور
وتجور... صحراء تلدغ بسعف الجريد
وسموم الزواحف ونضوب الماء... هي
ذي الغياهب التي تمنيت أن أصل إليها بجانبك يا حسن...
حتى نقطة آخر ميل أنا مستعدة أن أبقى بجانبك بعدما تخلصت من كل
الرؤوس الشريرة التي تملكتني من جمعة إلى جمعة...
آه لو أدركت يا حسن ما شر وعنف رأس واحد من الرؤوس التسع...
لقد حملني رأس جلاد بالضرب المبرح والركل الخبيث...رأس
آخر كان يزرع طريقي بالورد والياسمين...
بقيت أعيش مع هذه الرؤوس والأمل في التزامي طريق الورد
والياسمين، ينغل في قلبي الذي يشتعل من رماده علّه المولود المرتقب
يحيا بجرحه، وعلني أخرج من حياتي شبه النباتية على عشق لا يتزحزح
وأمومة لا ينضب حليبها... عز علي
أن أرى حسن ينفث دخان سيجارته كقاطرة، يتمزق على وجع قرحته والقلم يشق
سطوره... نجوت بأعجوبة وإني
سأستأنف واجبي... سأروي لحسن
أخبارا كثيرة عن كابر... كان رأسه
واحدا من بين الرؤوس التسع التي كانت تجذبني...
أغراني بالورد والياسمين وبحاسته السادسة إن أنا بقيت معه...
غريب حزين في قبره... شكا
لي عزلته وبكى كثيرا من ألم الفراق بأبي المكارم...
رأس كابر لم يكن يفارقني...
ظل ينزق من حولي و يلاحق الرؤوس التي تريد الظفر بي...
يناورها ويباغثها بشغبه المعتاد...
كلما احتواني رأسه شعرت بالألفة والأمان...
كانت ذاكرته تنغل في قلبي وحاسته تحكي لي آلام وأوجاع ورمه
وعناء تيهه بجانب أبي المكارم...
سعيدة ومتوحدة كنت مع كابر إذا ظفر بي رأسه وطارد عني تلك الرؤوس
الخشنة... تعيسة كنت وكاد يقتلني
الحزن كلما تناوب علي رأس الغربة ورأس الحزن...
رأسان ظلا يتجاذباني وينهشاني...
إذا ظفر بي رأس الغربة فتحني على شوق وحنين ينزفان وتناهيد لا
تنتهي... إذا ظفر بي رأس النحس
أدخلني دهاليز الحزن وسلمني للبكاء على سعدي المشؤوم...
لم أحك شيئا من هذا لك يا حسن...
أعرفك مرهف الحس متأجج العاطفة...
يكفي العذاب الذي ينهشه من جراء الرواية والقراءة...
لن أقول إن رأسك قطع مبكرا ليكون الغول الذي تملكني معوقا بحقد
دفين... لم يكن كابوسا ما عشته...
لست أغازلك مغازلة الشمس للقمر يا حسن...
الحب رأس بعث ليلة الجمعة ليفك أغلالي ويرجعني إلى صواب قلبي،
إليك معبودي حسن... أعذرني إذا
كانت آثار الجفاء تجثم على عيني...
إنه العياء أنهكني وأنهك ذريتك في أحشائي...
أدع له بالحياة ليحفظ اسمك ويعتز به...
بدوري، سأتحدى قاسيات الأيام اللاحقات...
سأطوي مسافات العطش برفقتك...
إن قلبي بين راحتيك فاجعل منه عين إلهام لا تنضب ونعمة أدب لا
ينقطع... اليوم فقط اقتنعت أنك
تقترف الرعب وتعتمد إحراق نفسك، وإنك في حاجة إلى مزيد من الرعاية
والحنان... أنا ضالة قلبك وأنت
هدايتي... دعني أخرج من كوخنا
لأقولها في مدى الصحراء وغوايتها...
أرددها في وحشة الليل وعتمته...
لقد انتظرتك بكل غيرتي وبغزيرة تملكك والظفر بك...
ظفرت بك وإني لا أتنفس إلا بك، فاطلب ما تشاء عن كابر...
قد توحدت بكابر لكي لا أتركك في كآبة الرواية ولأشاركك فرحتك
السرية... انتظرتك طويلا يا حسن...
من كثرة الحنين كرهت الحنين وفقدت الأشواق...
وصلت حين أصبح شبر واحد فقط يفرقني عن العنس...
اجعل يدك على قلبي فقد ضعفت قواه وسقاه الزمن ضعفا وكدرا...
اعذرني عزيزي إذا استعرت منك التعبير، وإن كنت ألقيت عليك
مقاليد أمري كما ألقيت علي مقاليد قلبك...
أنت النبضة وقرة العين...
أنت كل شيء في حياتي... اكتب فأنا
أدرك أنني المرأة التي تستلهمك، ومن أجلي عدت إلى الدار وما عدت تستدر
لجوءا عاطفيا، ولا بقيت بك حرقة التعطش للوطن...
راضية بك على سنة الله ورسوله...
وقد أقسمت أن أشاركك طعم اللوزة المرة وطعم اللوزة الحلوة، وأن
أطيعك... وفية للقسم وإني لن
أعفنه ولن أثقبه... حتى في أقسى
الغربات سأطيق خدمتك... سأظل
أشاركك عزلتك... سأنسى العذاب
الذي أودعته عندي حين كنت شابا خفيفا كالفراشة تعيش على الفرحة
المحمومة... تتراقص على تقاطعات
العبير... لاترتاح إلا إذا علا
الزبد شرب البراميل... ظلمتني ما
فيه الكفاية... تركتني أجتر ذيول
شجوني ولا أحد يخففها عني... أعيش
على انتظار يوم عودتك حتى استنفدت الأمل وجف الدمع...
يا لهول انشطاري وقتئذ...
وحده الغول الذي سكنني ذكرني بحالكات الأيام التي قضيتها أصنع من خيالي
عاشقا مغوارا زاده العودة وفرسه مطهم يشق الطريق بتؤدة إلى مربضه الأصل...
موطن عشقه... فارس مغوار
حبيبي... سيد الرجال وأنا مولاتك...
آمرك إذا ابتسمت... تأمرني
إذا أخذت القلم وغصت في بحر صفحتك البيضاء...
تأمرني إن أنت عدت إلى طفولتك وحفرت فيها...
تأمرني إذا بكيت على طفولة العالم وتشردها...
تأمرني، نعم كلما اشتهيتني وطمحت إلى ذرية من ترائبي...
لا تحسبوا أني سأتخلى عنه...
احذروا من أن تتبلدوا أو تتغفلوا...
انه كما لو قلتم إن الله غير موجود، أو إن صباغة الرحمان التي
شملت شعره إنما هي من كثرة العطور...
خشن، خشن وليس بلطيف...
يمنحني أنوثتي وينميها... يفتحني
على الجمال في دهاليز القبح... في
الصحراء... احذروا فهو فرزة قلبي...
إيماني المغلظة هو...
الغول الذي تملكني سلمني إليه...
كل رأس غواية وكل غواية عذاب...
احترقت تسع مرات وبعثت من رمادي كالعنقاء على عشق حسن الأبدي...
حبه لا مفر منه... الفرار
منه هو رجوعي إلى حياتي شبه النباتية...
إلى اندحاري... أنا ميتة
في عشقك، وما عسى يقول الميت لغاسله؟..
لن أقول بعد اليوم شيئا يعكر صفو مزاجه ويعيق سيل روايته...
فقط سأناوله أخبار كابر...
بإمكانكم مشاركتي في هذا لنجعل من كابر رمز التفافنا من أجل انجاز هذه
الرواية... ان تكونوا قراءا
فاعلين... مكملين لما يعتريها من
نقص... حسن يعول على هذا...
قالها لي بالأمس... هو
مستعد لا قتراف أجمل الطرق وأطهرها للتحايل عليكم...
التحايل على القراء في باب الأدب فضيلة ما بعدها فضيلة...
إنها فقط غمامة وقد اضمحلت...
سديم وقد انقشع...»
|