مرت أيام و ليال وحط أبوالمكارم عند مفترق طرق ثلاث.
اضطر للاستقرار بالمكان لأيام معدودة ريثما تعود لكابر حيويته
وتلتئم آثار جروحه التي كثرت بسبب تسلق الجبال والمشي فوق الصخر والحجر.
وليلة أحس أن كابرا إسترجع بعض قواه، لامسه في حنان على صفحة وجهه،
قبله بحرارة ثم مسح عنه عمشا بسبابته ثم بتفاحة يده وهمس له:
«بإمكانك الآن أن تكابر يا كابر.
أي تيه نركب؟ ينقصني إحساسك يا كابر ولهذا أهتدي بكل الطرق التي
تختارها لتيهنا، فتوكل على الله يا بوصلة تيهي»
انتشى كابر إلى درجة أصبح معها أبوالمكارم نشيطا، استرجع سيره
ونظرته تسبقه إلى هناك.
مشى أياما وليال ولم يسترح إلا ضيفا عند رحل.
شرب لبنا وشرب كابر ما كتب له من لبن حامض مخلوط بنخالة حتى ملأ
هزال خاصرتيه ونزق مع كلاب الخيمة.
مكث لنهار وليلة ثم أقلع ولم يتوقف إلا إذا وصل شجرة شوك عند غروب
الشمس، عندما بدأ كابر يرسل أنينا رهيبا.
«أ تريد التخلي عني ؟ مرافقتك ضرورية بالنسبة لي، هي
كالماء يا كابر في حياة كل كائن حي.»
تكوم كابر بعد أن اغمض عينيه وسقط.
جثة هامدة من غير روح ولا نبضة.
في الحين ركض به أبوالمكارم وأخده بين دراعيه ثم قصد شجرة الشوك
المجاورة ورفع عينيه إلى السماء:
«يا للهول!
وماذا بعد طريق الجنوب ياكابر؟...أتتركني
وتستبدلني بقبر مجهول بعدما تركنا المدينة وكل المدن التي مررنا بها،
وكذلك تركنا كل المجذومين... هل
تريد أن أبني كوخا بجانب قبرك وأحط الرحال بالمرة؟...
لا يا كابر.. سأرحل وسأحمل
جرحك في صدري كما أحمل جرح زوجتي وفلذات كبدي...
لن أستقر هنا يا كابر...
وإذا كتب وتهت بمقربة من قبرك مرة ثانية، سأزورك وأترحم عليك...
سأبني لك - لربما
- قبة...
أنت آخر من أفقد من أقربائي...الأول
مات في الغربة والثاني في الجبهة، وأنت يا كابر، أفتقدك في غربتك
وغربتي... أنت تعلم أن أشد الألم
وأوجعه في القلب والذاكرة عندما يفقد الإنسان أحد فلذات كبده...
عمر، الطاهر، وكابر، فراقكم يضنيني ويبكيني على السواء...
أنت تتساءل لربما لماذا أبكيك، لقد تعودت أن أبكي فقط في
الجنازات وكل بكاء آخر يا كابركبيرة لا تجدي...»
في لحظة غضب كبير، بصق أبوالمكارم على تفاحة يديه استعدادا للمعركة
ثم أخد يحفر الأرض معتمدا أصابعه، وأظافره، وكعبه، وبين الفينة والاخرى
كان يقيس جثة كابر بحفرة القبر حتى أنهى أمره.
جمع التراب على اليمين والأحجار على اليسار ثم صفف الحجارات
الصغيرة ليضع حاجزا ضد ملاقات الجثة بالتراب مباشرة.
وارى كابرا وقد تحلب الدمع في عينيه بما يملك من رشفات حنان ثم
درف دمعة دفينة.
«نم يا كابر نومك الأبدي، أما أنا فتذكر أني تركت
المدينة تسبح في مستنقع الويل والكمد والفقر، ولست أدري ما يحمله الغد
وطريق الجنوب... لن أنساك يا كابر
ولن أنسى حسن صنيعك... جنة الكلاب
مثواك وإنا لله وإنا إلى الارض راجعون...»
في رقة رهيبة، أهال أبوالمكارم التراب على القبر.
لم يكن معه ماء فيرشه عليه ولا وردة يضعها على شاهدته.
رفع عينيه ليشاهد سحابة قيد التكون والاختمار ولم يوليها أي
اهتمام، خالها عابرة عرضية. أخفض
بصره فإذا بقبر صغير كقبر رضيع احبه الله فحشره في زمرة الملائكة يوم
مولده.
«مكتوبك يا كابر أن تلفحك السموم وتنحت قبرك رياح
الشوم، ستسكن قبرك ثعابين وأفاع وفئران، ولهذا حصنت قبرك وجعلت له
حاجزا حتى لا تتسرب إليه جحافل أنواع الزواحف فلا تحولك إلى أشلاء...»
اقترب أبوالمكارم من جهة الشاهدة، تذكر أن عليه أن يقبله قبل توديعه
ففعل. تقدم بخطوتين فقط، ومن غير
أن يشعر التفت إلى الخلف بحثا عن كابر.
لقد نسي أنه ثوى. استرجع
وعيه كاملا وتأسف على حاله وقد أضحى وحيدا.
من جديد اقترب من القبر وجثا على ركبتيه،امتلأت عيناه دمعا
فغمرته سعادة مفرطة، لم يتعود على البكاء في حياته ولم يبك إلا في
جنازات معدودة. بكاؤه كان قويا
وعنيفا وزاد من عنفه حضور امرأة من كروان الشمالية أتقنت تعداد مناقب
المرحومة زوجته التي منحته ذرية صالحة ومصاهرة محمودة.
بكاؤه على الطاهر وعمر كان مفعما بمعاني الجلد رغم تأسيه كما
يشهد غسال الجثتين وحفار القبرين وفقيه المقبرة.
أكثر من هذا، فقد ساعد حفار القبرين خلال مراسيم الدفن لتشهد كل
الوفود التي حضرت قوة صبره وإيمانه.
«أهكذا يا كابر!
أن أسعد لما أبكي لآخر مرة وأشقى ما تبقى من عمري من جراء حرماني من
البكاء... سأنساك يا كابر...
أنت تعلم أنني لن أنتظر جنازة أخرى...
كل أقربائي ماتوا للمرة الثانية بعد موتك...
بكيتكم ورثيتكم جميعكم وعلي أن أنتظر نحبي...
بعده فقط يا كابر قد يتجدد لقاؤنا في دارة الخلد...
صبور أنا يا كابر... تحملت
معك الرجم بالحجارات الطائشة...
تذكر فقط عندما كنا نجلس في عزلتنا ونتذكر الرجم وما يثيره الأطفال من
حولنا فنضحك، نضحك على جنون المدينة بملائكتها المغشوشة ونباح كلابها
التي كنت تكرهها... أنت قوي يا
كابر... حياتك كانت مقاومة على
مقاومة... قاومت وكنت تهزم كلاب
الدارات الكبيرة والكلاب التي تلقحت وهذبت حواسها وربما تخرجت من
المعاهد وأقصت كل الرتب... أنت يا
كابر لما أبكيك فإني أختم عهدي بالبكاء...
أنت عبقري في فصيلة الكلاب يا كابر فاسكن جنانك.»
|