استوى أبو المكارم في جلسته، قبل الشاهدة من غير أن يشعر.
في لحظة، اختلط بكاؤه بضحك هستيري، حسبها خاتمة عهد البكاء
عنده، شرب دمعة لما جف حلقه فارتوى ثم شرع يلامس الشاهدة.
«أتذكر يا كابر لما طالبت كل الكلاب بتوحيد النباح في
المرحلة الأولى، والامتناع عنه قبيل مغادرتنا المدينة...؟
أتذكر لما نعقت السيارة البيضاء ذات الوشم ونحن على مشارف الخروج من
المدينة، حينها توقفت عن المشي ونظرت الي كأن أزعجك نعيقها ثم تابعت
المشي دون أن تبالي...؟ حان لك أن
تستريح ولتفقد كل الكلاب أملها في الخلاص...
نم يا كابر وستتحول مع مرور الأيام إلى كنز أو مدرسة، أما أنا
فإذا تعبت فإنني سأختار موتا مشروعا...
جميل جدا أنني لم أمت قبلك، كنت تركتك لمتاهاتك ودواهيك الجائعة
تحت وابل الرجم والرمي... بموتك
يا كابر قبلي يهنأ قلبي ويرتاح لأنه يعز علي أن أتركك وأحمل مصابك بين
جوانحي إلى متواي... لن أرتاح في
قبري... إني أتصورك تصارع الإغماء...
حان لك أن تستريح في موتك الأصلي، وتتركني في وجه عاتيات
الصدمات و الهموم القاسيات... حتى
أنت يا كابر تركتني، تركت أبا المكارم...
لكن لا يهم!...»
في لحظة، جمع أبوالمكارم قواه جمعا، لامس صفحة وجهه بتفاحة يده ومسح
ما تبقى من الدمع على خديه ودقنه ثم لحسه، استعذب ملوحته فتحول لسانه
إلى قطعة ملح. آمن أن من الملح ما
يغذي الجسد ومنه ما يعذبه. تذكر
وسائل التعذيب التي مورست على الوطنيين...
كان أولاد الحرام يمزقون ويجرحون أجساد الأبرياء بشفرات ويملؤون
مواقع الجروح والشقوق بالملح. رفع
عينيه إلى السماء، استفزه منظر السحابة، لم تكن عابرة هذه المرة، شكلها
يبعث على المباغثة وكثافتها السوداء حقودة.
سحابة في شكل سندان، محملة بالمطر الكثير تزحف في الأفق.
فرح أبو المكارم وتمنى لو أن كابر على قيد الحياة ليفرح، هو من
ينتشي كلما تبلل. لف سلهامه ثم
نظر إلى الأفق من جديد، تأكد له أن السحابة في شكل سندان ثقيل فاستدار
لجهة الشاهدة في حزن أسود.
«تكلم يا كابر ولا تنبح...
قل أرجوك من أية جهة سيسقط المطر...
ذكرني بالقاعدة حتى لا أرحل عنك فلا تنجرف جثتك في ليلة دفنك...؟
ذكرني بكل القواعد فلا أرجع إلى المدينة...؟
أنسيت أننا أقسمنا قبيل مغادرتنا المدينة الخضراء
- زيتون أن لا نستقر إلا في القصر
الذي يتحاشاه المطر والرعد ولا يعرف الربيع والمروج...
حرك ذيلك جهة سقوط المطر...
يحلو لي أن أشاهد غضب الطبيعة على موتك وأخشى أن يلحقك بعضه...
عمياء هذه الطبيعة لما تغضب وتزمجر وعندما تزلزل أرضها...
نم يا كابر فقط ولا تمت...
قلبك لن يتوقف عن نبضه في وهلة واحدة كما تتوقف قلوب البشر...
كل الكلاب تموت بالاحتضار من كثرة الرجم يا كابر...
أنت لاشك تسمعني، المطر، إن سقط فهو شرف لك في هذه الجرداء
القرعاء... على هذه الجبال
العالية و هذا المدى الأسود...
بدوري سأؤجل مشي اليوم إلى الغد...
سأقضي الليلة بجانبك وستخبرني، عندما يستوي الظلام ويعم، عن سر
عبقريتك... سأعرف لوحدي ماهية
الكلاب... أعتذر يا كابر إذا كنت
أطالبك بأشياء مستحيلة... لقد
تعودت أن أمزح معك وأطالبك كلما حلت بنا نازلة مباغثة...
علمني إذن كيف أشم رائحة التراب عند أول لقائي به...
علمني كيف أصارع الإغماء إذا أنا لم أمت موتا مشروعا...
سأقضي الليلة برفقتك...
وقبل قليل فقط مشيت أمامي وعلى مزيد من التيه كنت مصمما...
هكذا حال الدنيا تسخر منا حين لا نكون ننتظر...!»
رفع أبوالمكارم رأسه صوب الأفق فأفزعته السحابة، استلقى متكئا على
الشاهدة، حملق بعينيه في مسافة المدى وتذكر السنوات العجاف التي
استأصلت عيون الماء، استدار لجهة الشاهدة:
» أتذكر يا كابر يوم بكيت بدورك؟...
لاشك تتذكر يوم انهمرت أولى الدموع على خديك...
كل بني الإنسان ينسون يوم سال على المحاجر دمع الأسى الأول...
يقولون إن الذي يبكي ينسى وإن القلب من كثرة البكاء يقسو...
أنا يا كابر أسخر منهم...
هم يتنازلون عن حقهم في الشقاء بسهولة...
نسوا أنه وجب عليهم أن يطالبوا به ليسعدوا سعادة متوازنة...
لا أفشي سرهم... وأنا الذي
يرجم مثلك بحجاراتهم أدرى بشقائهم الإضافي...
لا يهم يا كابر متى بكيت...
كان ذلك يوم رأيت الجمل لأول مرة...
جاء به الرحل إلى سوق المدينة وأبعدوه عن مملكته هروبا من غدر
القحط والجفاف ... يكفيك فخرا يا
كابر أنك شاهدته وبكيت مثلي على غربته...
أذكر كذلك أنهم طردوك من السوق بدعوى أن داء الكلب ينتشر مع
الجفاف في فصيلتك حتى لا تنعم أكثر برؤيته...
لحظتها ياكابر تمنيت لو كانت معي أوراق فأشتريه لك فيكون لعبتك...تبا
للأوراق وتبا للمدينة التي حرمتك من رؤية الجمل...
لا يهم... نحن على الأقل
شاهدنا الجمل، وقد شهدناه في سوق كاسدة، للأسف!...»
بدأ الليل يزحف حاملا معه بردا قاريا يتسلل إلى العظام.
لف أبو المكارم سلهامه ثم ابتسم في شماتة بعد أن أيقن أن لا
السحابة السندان ستقتله ولا وحشة الليل تضجره.
يا كم من وحشة اقصاها ولايزال يفعل!
ويا كم من عتمة اخترق ووصل!
«كابر سأرعاك حتى لا ينجرف قبرك...
إني قوي كما تعهدني...
طويت برفقتك جبال الثلج ومسافات الرمل وفلوات الصهد والشوم...
سأقف ضد الانجراف وأحول المجرى...
سأعمل تحت وابل المطر الغليظ لأجعل من قبرك مفترقا للسواقي
ولتشهد شجرة الشوك... ستصل
الأطيار إلى قبرك من كل حدب وصوب ويستريح عندك الرحل...
سأتركك الآن يا كابر ريثما أحمل أحجارا وأتهيأ لحصر السيل
والوحل... لن أغيب عنك يا مهجة
قلبي، يا كبدي...»
في شرود تام، سرح أبو المكارم بصره فتراءت له نخلة عند فج.
في لحظة، قرر أن يصل ويأخذ أحجارا من هناك.
رفع عينيه في يقظة إلى السماء، تمنى لو أنها تجود بعد أن يلملم
الحصي لكي يرصف بها القبر.
سحائب كثيرة بدت في الأفق متخزلة، تابع سيره غير مكثرت بوعيدها إلى
أن وصل عند منحدر الفج. الفج
مفتوح على ردم. تملكه عشق المكان
وسكن أحشاءه حب الردم. التفت
يسارا فإذا بالواحة مختالة على آخر ما تبقى من ضوء النهار لتزيد المكان
سحرا وجمالا. نظر أبو المكارم جهة
مرقد كابر وصنع خطا خياليا يفصل القبر عن الواحة.
» هنا سأنزل وأحط التيه يا كابر، فلتعم السكينة!..»
سرح بصره مرة ثانية، فاشتعلت الأنوار في القصر جهة الواحة من الخلف.
فاجأه المنظر واندهش لروعته.
تراءت له أطياف تتحرك وكذلك العلم الأحمر يرفرف فوق بناية
مخزنية وينعكس قرمزيا على جدران طليت بلون وردي فاتح.
اختلطت الأفكار في دهنه.
«أنا حملت لك النور يا هذا القصر...
نودي علي فجئتك من بعيد...
من هناك، من حيث الغدر والحربائية ...
جئتك في وقت تنخرك فيه العزلة والتهميش وأنت تنتظر الماء
... بوصولي إليك سيسقط المطر
وتملأ الأبار وتحيا العيون...أنا
وصلتك من غير أن تشتهي فلوات الصهد ورياح الشوم...
وصلتك أحمل عطشي فارفق بي وليرفق أطفالك بقبر كابر إذا خرجوا
لاصطياد الورل والضب، وإذا حفروا على عكدات كل أنواع الزواحف، فافتح لي
جيوبك ويسر لي العيش في أحضانك...»
صاحب العقل من يبني السد قبل أن يجرفه السيل.
في لحظة غضب كبير، طفق أبو المكارم يحفر الأرض معتمدا كعبه،
وأصابعه وأظافره. وجه الحفرة صوب
المنحدر وسيجها بحجارة مدفونة على شكل حزام غير مكتمل.
ضرب على يده بمجرد أن أنهى أمره، ثم وضعهما في حنان على قبر
كابر وقد ولى نظره شطر النخلة الشامخة.
«... فقط، أريد أن تعلم يا كابر أنني لن أستقر بعيدا
عنك... بالقرب وبجوار قبرك يوجد
قصر جميل يشبه ذلك المنظر الذي احتضننا خلال تيه الشتاء...
قصر تازمامارت... سأتعلم
العيش في هذا القصر وسأتردد على زيارة قبرك بين الفينة والأخرى...
أنا لا أعلم اليوم الذي وجبت فيه زيارة قبور الكلاب
... أنت لم تخبرني بهذا قبل موتك...
سأفعل إذن كلما سقط المطر لأرمم قبرك وأنصب شاهدته إذا تهاوت،
وكلما كانت الليلة قمرية لأتذكر بقبرك وبرفقتك تلك الليالي البيضاء
التي قضيناها إثر مرضك، وأيام كنا نتمرن على التيه...
أنت تذكر طبعا، كنا لا نعود إلى المدينة إلا لنتوصل بمراسيل
الطاهر الله يرحمه... قضينا معا
أياما حلوة، استوت عندنا القرية بالمدينة والسهل بالجبل، خصوصا بعدما
انتصرت على كل الكلاب وتشفيت في مالكيها...
بجوارك قصر لست أدري ما سيفعله أهله وأولاده بقبرك...
سأزورك عند كل ليلة قمرية...
سأحمل لك ما تفتح من الورود الممكنة في الواحة...وإن
تعذر حملت إليك زهرة دفلى أو نوارة داتورة...سأدق
أوتادا لسلهامي وستكون القبر الوحيد الذي أزوره من بين القبور التي تضم
من هم من لحمي ودمي ... كل القبور
الآن بعيدة، حتى قبر المرحومة زينب التي ماتت على راحتي
... كنت يا كابر تتعقب دوما خطوها...
كانت تحبك بالرغم من أنها كانت ترميك أحيانا بالمكنسة أو بفردة
الحداء...أنت تحبها كذلك، ولما
كبرت وتعقلت، استبدلت نزقك بحب واحترام...
طفولتك يا كابر كانت نزقا لا يطاق ونباحا لا يحترم...
كانت عبقريتك لم تتفتق بعد...
لن أرحل عنك يا كابر...
لقد نسيت أن أخبرك بما رأيته عندما تركتك للحظات...
رأيت واحة بها آبار وأحواض...
رأيت أطيافا تتحرك وأنوارا تشتعل...
رأيت بناية تشبه بناية جماعتنا التي كان حارسها يرفض دخولك
إليها... قد يكون في القصر جمل،
لكن لا تخشى شيئا... لن أستبدل
حبك بحب جمل... أنا لم أستبدل حب
زوجتي بحب امرأة ثأنية... أنت
تسمعني يا كابر... الموت لم يتسرب
بعد إلى أذنيك... لاشك ستظل
تسمعني من قبرك حتى انقضاء هذه الليلة على الأقل، ولو كما يسمع السجين
أخبار عائلته من خلف الشبابيك والقضبان عند انتهاء فترة الزيارة...
أنا طبعا لا أريد أن أنهي حديثي إليك كما ينهيه السجين تحت وط ء
ركل الحارس الغليظ بالإشارة الجريحة والنظرة الأليمة قبل أن يعود قافلا
إلى زنزانته... اسمعني مادام دمك
يفور ولم يتجمد بعد في عروقك...
أفق وقف ثم عين الجهة التي سيسقط فيها الغيث، أرجوك يا كابر...
الله يرحمك....«
وقف أبو المكارم بعد أن أحس بعياء يشل ركبتيه.
في الحين انتبه لزحف الظلام، رفع بصره إلى وجه السماء، كانت
السحابة السندان قاتمة. التفت
يمينا ليتأكد أن كومة الحجارة تكفيه لتغيير المجرى وصد الانجراف، وكذلك
لبناء القبر وتحصينه. التفت يسارا
جهة كومة الرمل، إنه كاف لينشره بين الملقات.
جمع الملقات وفرشها حتى لا تبلل الرمل إذا سقط المطر.
وبمجرد ما تأكد أنه أخد كل الاحتياطات استدار جهة القبر.
«هكذا اعتدنا أن نفعل دائما...
دوما كنا نرفع رأسينا إلى السماء ونقرأ سر السحب ونكشف عنه...
أقر لك بالمناسبة يا كابر أنك أقوى مني...
أنت تتحسس الزلازل والبراكين وسقوط المطر؟!.
لقد وعدت القصر وكل الواحة بالغيث...
لا تدعني من فضلك ولا تخيب أملي...
لقد أخبرت الواحة من أعلى الجبل أنني أتيتها أحمل ما تبقى من
طيبوبة في المدينة وكل المدن بعد أن تركتها كلها على جنون مرير ومميت...
قل لي من فضلك، إني أريد أن يقترن وصولي إلى الواحة بنزول قطرات
الربيع والنماء والخير... إني
أتمنى فقط يا كابر أن يطلع النهار على سيول مباركة وفرحة عارمة...
لعلي بك تخفي عني سرا يا كابر!
أن أنتظر سقوط المطر وتتفرج علي كالعادة قبل أن تلبي طلبي،
سبحان الله!..»
غير أبو المكارم نبرة صوته من غير أن يشعر، نزلت دمعة شاردة، ساخنة
على خده، تحسسها تحفر على ذات الخد كما لو أنها ستصب في محيط لا يوجد،
أحس بملوحتها تتسرب عبر المسام وتعري كومة لحم الخد في ألم دفين.
تذكر ابنه الطاهر وتذكر الدمعة التي انهمرت لما فتحت السلطات
تابوت ابنه المغدور. أحس بدوار
شديد فقبض على رأسه.
|