في فزع، شد أبو المكارم على ركبته اليسرى، أزاح عنه سلهامه باليد
اليمنى، وقف وكاد أن يسقط على الأرض إثر دوار عابر، على الفور أدرك
أنها عضة لحشرة، قصعها بغضب وتحسس سائلها في بقعة اللسعة.
أدخل يده من جهة حزامه بعد أن تكوم ثم أخرج الحشرة مدعوكة،
قربها إلى عينيه ليكشف عن هويتها، لم يتبين جناحيها من رجليها من
جدعها، تلمس رأسها الذي تفرقع فاحتار في ما تكون.
ألقى بجثتها على الأرض، بصق على البقعة الملسوعة وأخذ ترابا ثم
شتته عليها بكل رفق. هدأ الوجع ثم
شرع يفرك حتى انتهى الألم وأيقن أن الحشرة غير مسمومة.
في الحين، رفع عينيه إلى السماء.
«ما زلتما لم تنقشعا وترسلا الشظايا فتبوحا بشركما
وتحكيا ما تخبئانه من قيئ... لقد
لقنت من قساوة العيش كيف أنتقي كل تعابير لعنتك وشتم القبح فيك أيها
السحاب... لا تبقيا هكذا متفرقتين
في جحود وتربص... أفصحا عن
ذاتيكما وأزيحا عنكما قناعيكما الأسودين...
أسكبا نارا أو سوادا...
سفافيدا برماد أو مطر بطين... لن
يهم، لن يهم وسخ شبقكما فأنا تعودت أن أرد على قبح السحاب في لحظة
رعشتها الكبيرة، عند اختراقها قمم الأطلس...
تجاوزتها في تومللين...
أجعبو... العياشي....
اليوم سأتجاوزك وبوغافر ليس بعيدا...
أنا أعلم أن الليل يراودك على نفسك...
الليل يدعوك للتبجح وكذلك يحثك لمزيد من تربصك المقيت...
صحيح، أنا مرتبك... هذا
راجع فقط لسواد الليل البشع...
كابر - على العكس
- لا يخشى الليل الذي يستر قبحك
فقط لأنه عارف بكل محافل نزقك، وهو يعلم أن كل ليل ينتهي بصباح وأنه
لابد من المقاومة... لا البرد...
لا الجوع... لا المشي، كل
ذلك لم يعييه قبل أن يحتويه تراب هذه الأرض الرقعاء...
سأفعل بالمثل والديدان لم تسرح على جسدي والتراب لم يحتويني بعد...
الحشرة نسيت أمرها، ولم أبال بوخزها لأني أعرف أنها سترجع
والديدان معها في يوم من الأيام، في أجل لا هروب منه، حين لا تحق
مقاومة... لا أخشى النوائب لأن
الحياة كانت دوما من غير نظام...
من لم يفترش فيضاناتك ويلتحف حبات غمامك وقطع ثلجك أيها السحاب، لن
يحتمل انتظارك في وسط الظلام بنفس شموخي وأنفتي...
بالتحدي والمقاومة كان كابر يوصيني...
كان ينقصني الرجم لأكون مقاوما من الدرجة الأولى كما كابر...
الرجم أعلى درجات الإهانة...
من كثرة المقاومة انطفأت روح كابر كما انطفأت أنوار هذا القصر
الذي بني من تراب وتبن... أنا لا
أخشاكما أيتها السحابتان، أما ترياني أقيس المسافة بقمم الجبال بدل نقط
الأميال؟ أخبرهما يا كابر، يا بوصلة تيهي، يا من شاهدته قبلة الواحة،
قل لهما إنه مهما بلغتا لن تعاندا ولن تطالا عدي...
أنا لا أخشاك أيها السحاب كما لا يخشاك كابر...
«من مؤنسه عزيز على قلبه وجب أن يموت»،
هكذا تقولين مع نفسك... لا وألف
لا لظنك ووعيدك، إن المؤنس مثال العرض والشرف، من أجل هذا أنا أتحداك
وأعلن المقاومة على قبحك الذي يريد لكابر الشر والانجراف ويبتغي لي
الكدر والضجر... لن أكدر ولن أضجر
ما دام في هذا تحقيق لرعشتك ونشوتك...
وكابر لن ينجرف، لن ينجرف لأنه عاش دائنا معطاءا...»
رجع أبو المكارم جهة الشاهدة ثم فتح عينيه على العتمة التي تزيغ،
أدرك أن الليل تجاوز نصفه وأن كل العشوات انطفأت، أحس ببعض البرد ينحت
أنفه، تذكر زينب ووالدتها وبعض الأصحاب القدامى.
«الله يرحمكم ويرحم الأم فضيلة...
كانت تنصب النول في أول يوم من وصولنا إلى القرية...
كنا لا نعود إلى المدينة إلا إذا أخذنا زربية وقمحا...
ها هو سلهامك يشهد آخر أيامه وأيامي...
أذكر أنك قلت لي : " هذه
القطعة، اصنع منها سلهاما، لن تجد مثله في فجيج ولا طرابلس.
"... الله يرحمك يا زينب...
كنا غرسنا شجرة زيتون عند أول لقائنا...
زينت رأسك بعقد من شقائق النعمان...
تحولت ظفائرك إلى وديان وناصيتك إلى بحر للمصب...
غرسنا معا شجرة زيتون ليضرب حبنا في الجذور وفي السنين...
أذكر أنني زرعت الغصن وعهدت إليك سقيه ورعايته...
كانت عند كل تلاقينا، عند الثنية، بعيدا عن البئر، تخبرني أنها
نسيت بالأمس شقيقة نعمان على ظفائرها وأن الأم فضيلة عاتبتها، وكنا
نضحك ونتداعب وننسى سباب الأم فضيلة...
الله يرحمها، كانت الصهرة التي تدللني، وحتى عندما غادرت زينب،
وذهبت إلى الحرب، كان خاطري هادئا ومزاجي مرتاحا على النطفة التي
بترائبها... كنت عندما أحاصر، أو
أمنع من التجول، أو أقع جريحا، يأتيني طيفها يسرحني ويداويني...
كان طيفها يصلني طفلة تجري وراء العجل أو تقطف شقائق النعمان،
تغرس الوتد بلطف وترتع إلى الصخرة على المنحنى بالقرب من الواد...
هناك كنا نتذاكر من غير أن أعرف ماذا يخفي حزامها وكيف ملوحة
شفتيها... وحده حمدان كان يعلم
مرتعنا عند الصخرة، وكان يجلس غير بعيد يرسل أنغام العاشقين تارة ويطلع
بمواويله وترتيله المبحوح تارة أخرى...
أبقاك الله يا حمدان...
أنت لم تفارق نايك القصبي، وحتى عندما رحلت إلى المدينة وعدت، وجدتك
على وفائك المعهود...أذكر أنك
نصحتني بالعودة إلى القرية وأخبرتني أن زينب لم تتخلف عن جمع حزمات
شقائق النعمان والانزواء إلى الصخرة...
قلت لي إن نايك تكسر لما طردك الحاج عبد الله من ضيعته واتهمك
بملاحقة زينب جهة أشجار الليمون، فقط لأن زينب رفضت ان تنهار لنزوته
ومساومته... أنا أقدر مروءتك يا
حمدان، ولهذا أخذتك إلى المدينة لتبدأ حياتك من جديد...
لم أخطئ عندما نصبتك وزيرا ليلة زفافي، يوم أشرقت زينب بجمالها
واشتعلت ظفائرها نورا... زينب،
الله يرحمك، علمتني كيف بالأمل والعمل يحقق الإنسان المستحيل...
لازلت أذكر أن حمدان جاءني وأخبرني بوجودك في الواد، جهة شجر
الصفصاف، لحظتها أقسمت إنك لي...
نزعت دملجك من معصمك وجعلت وسطه قصبتين صغيرتين وواريت الكل في التراب
عهدا ووفاء... أحن الآن وهنا أن
أسند رأسي على ركبتيك... إني
أتوسد شاهدة كابر... آه لو تدرين
أن طيف والدتك وصلني في هذا الخلاء...
سبق وتوسدت ركبتيها يوم مماتك، يوم بكيت ومسحت، رحمة الله
عليها، الدموع المنهمرة على خدي، ولامست الشيب على رأسي بكل حنان ثم
دعتني لمزيد من البكاء... قالت لي
: "إبك مزيدا لتتهيأ لأزمنة الضيم
اللاحقة والوحدة القاتلة." رحمة
الله عليك يا أم فضيلة، لقد صدقت...
كنت كريمة، تكرمين المغني العابر للقرية، وتصرين على العطار أن
يحط رحاله ويستريح ليتناول وجبة ولتختار زينب ما طاب لها من كحل وسواك
وكل ما يصلح لزينتها في الأفراح ويوم نزولها إلى السوق الأسبوعي...»
|