الغبار يحجب الفلق ويصادر روعته وجلاله.
لست سليل هذه البراري ولا ليلى نبتة هذه القواحل، كما المنفي عندما
يرجع من منفاه يظل يحدق من شرفته ويخشى النزول ودخول الغاب.
يا للأفكار التي بدأت تخترق ذهني...
لم أكن بهذا الطبع فيما سبق...
كنت إذا كمدت شددت الرحال إلى غرباتي فأذكر كل واحدة على حدة...
تارة أتمثلني أركب زورقا على مجرى نهر التيمز أو لاسين، تارة
أخرى أجدني أبحر إلى جزر كورسيكا، مالطا، أو قبرص...كنت
أنفصل عن الأنا الجمعي، أنعزل عنه كما الوحش الذي يهين الفرائس ويعاف
شرب دمها، يتحاشاها فلاتحسب على عنقه، وحش أليف تجرع سموم الغربة ولم
يلحقه الإدمان أبدا.
لا يحق لي أن أغوص في السواد...
السراديب إذا دخلتها مكرها، أخرج منها ممخور العينين فلا أشفع
أبدا بالتمتع في الجمال الماثل أمامي:
ليلى وجه دائري أوسع من وجه الأرض وأعمق منه، أكبر وأقوى من
الشمس حين تشتعل وتأمر بالحمى والتيفوس ووجع الهذيان...
صحيح لا أشجع ليلى على العيش، أنغص عليها الحياة...
لكن هي التي رأت ذات يوم فارسا مغوارا نازحا يراوغ الأوطان
ويخترق كل نقط الكيد حتى اختلط عنده البر بالبحر وعلم سر تقاطعات
الدوختين اللتين قد تأتيان من المشي على البر أو ركوب البحر، فقبلته
عند الوصول وبكت فرحا للعودة. ظلت
تنتظرني وقد قالت جهرا للبنات: «إنه
فارس أحلامي، فليهاجر ويسافر ليحط في مطار قلبي مجبرا، إني حقيبة قلبه
السوداء.»
في المساء حين ابتلع الغبار الشفق، والليل الغبار وعم الخواء والضجر
ركنت إلى حضنها وأخبرتها:
- صحيح ليلى، لقد أناخ علينا الدهر ،سيوفه تفتك بنا
بدون هوادة، وصحراؤه تشتهينا بلهفة.
- نعم... لكن
دعك من هذا الكلام حتى لا تصاب بالإغماء مرة ثانية.
نامت وتركتها ملقاة من غير أن أنغص عليها نومها، ثم انزويت إلى
مكتبي. عادة ما تصيح في وجهي إذا
نامت مفترشة الملاءة أرضا وسرعان ما تعتذر وتشكرني لأني لم أكسر زمن
نومها. تقول لي دوما عندما تكون
منتشية:
- تظل تلامسني وتهمس على مسامعي حكايات وطرائف حتى
إذا نمت انسللت إلى سريرك الثاني...
أقصد مكتبك !
أخبرتها عندما انتشت ذات ليلة عزيزة على قلبي:
- والآن جاء دورك يا ليلى لتحكي حكايات للمولود
المرتقب حتى ينام.
أجابت والفرح يأكل عينيها:
- وحده النوم الذي تسبقه مداعبة حلال وجميل وطويل يا
حسن!
عندما تناولنا وجبة المرق الرخيص، هيأت ليلى شايا، أغلقت الباب حتى
لا يتسرب نور القيلولة المشتعلة وأشعلت قنديل الغاز.
- يا ليلى، إن الغاز أشرف على الانتهاء فاقتصدي
!
كما البالون الذي يتفرقع كانت ضحكتها، وكلما حاولت أن تشرح لي سبب
ضحكها، تجددت نشوتها وأتت عليها ضحكة ثانية أعنف من سابقتها حتى سعلت
وسال ماء عينيها.
بالتقسيط قالت لي:
- أنت معلم وقد أدمتك شوكة الاقتصاد يا حسن، فعاود
نفسك وحاسبها وعد بها إلى زمن سخائها ولا تقمع فيها حبا ولا نداوة بنان.
- يا عزيزتي افهمي فقط، إنني لا أنتمي إلى سلالة
معلمينا القدامى ولا يهمني ثمن الآجر وأكياس الإسمنت، أنت تعلمين هذا،
لم يكن قصدي الغاز وإنما صدري يضيق كلما اغتلت النهار وافتعلت ظلاما ما
بعد الظلام الذي نجثم فيه، يكفينا ظلام الليل الذي يأتينا من السماء
ومن وراء الجبال، أو ليس من حقنا أن نتمتع ببصيص من النهار والفرح يا
ليلى؟...
- معناه أنك لا تريد أن تسمع أخبار كابر!
أجبتها وبعض السذاجة على وجهي:
- أعذريني إن كنت سأحرمك من طقوس التذكر، هاك صدري
فأخبريه، إن به قلبا يلمع، يلمع ويبدد ظلام الكون وأشجانه.
بإحساس الانكسار والغبن، انزويت إلى ركن الغرفة، أغمضت عيني حتى لا
أرى ليلى على حالة تذكرها، ولم أستفق إلا في الصباح عندما بدأ خيط نور
يتسرب إلى كوخنا.
كانت ليلى ملقاة وشعرها شعث ولهان، واجمة يجثم عليها العياء.
إنها أنهكت الجنين في بطنها...
تأسفت لحالها وكذلك لحالي، أنا الذي بقيت أجرجر حبل نومي تحت
ركل الكوابيس ووخز كومة الحلفاء من تحتي.
انسللت خارج كوخنا لتنعشني ريح الصباح وأسترجع ما أخبرتني به ليلى
بالأمس. لم أتذكر شيئا بالمرة.
جرني شرودي إلى غربة لم أكن أتوقع أنني سأتذكرها...
يمر العام من غير أن تراود ذهني أو تشاغب عاطفتي وعطفي على ليلى.
كانت سكرانة وجميلة... رأتني
فاشتهتني.
كانت غريبة وكنت أنا الغريب.
كنت على صحوي المعهود. رأيتها
فقلت إنها لي.
كنت متشردا وقتئذ، ورأيت في عينيها الكسوة، المأكل، المبيت وكل
المستقبل الزاهر.
قالت لي باربرا عندما غادرتها في محطة القطار:
«إن أبي وزير اقتصاد...
برفقتك تعلمت معنى الحب والحرية ومعنى الإنسان، وإني عائدة
لأتمرد على أبي فانتظرني.»
لم أنتظرها لأن الوطن كان ينتظرني بدوري.
عادة ما أستنجد بغربة كهذه لأنفتح من بعدها على تذكر أخبار كابر.
لم يكن قصدي إغراؤك، ولا تعتقد أن برحيلك ستلتقي بنت وزير
الثقافة أو الصناعة... إياك أن
تتوهم!...
|