د. عبير سلامـة

1- بداية

 

قد يبدو الكلام فى تاريخ الأدب، فى ظل فكر نقدى غالب يكرس للعناية بأدبية النصوص مستقلة عن سياقها التاريخى، اختلافًا منهجيًا مثيرًا للتساؤل عن منطقه، لكن المنطق كامن فى النجاح الراهن لدراسات التكوين الأدبي، حيث المعرفة التاريخية بالأدب، والعوامل الظرفية التى أسهمت فى تكوينه، لا تصرف النظر عن حقيقته المستقرة فى نصوصه، بل تضيف إليها أبعادا جديدة تمنح - معها - معرفة أكبر بالظاهرة الأدبية وقوانين تغيرها وازدهارها.

تعيد دراسات التكوين الأدبي الحياة للمؤلف، تحديدا من زاوية قدرته الإبداعية، بالإجابة على سؤال: كيف تمكن من إنتاج عمله؟ يحتاج السؤال إلى أكثر من الطبعة النهائية للإجابة عليه، يحتاج "ما قبل" النص من: خطط أولية، مسودات، ملاحظات رسائل، وتصحيحات التجارب الطباعية. يحتاج كذلك "ما بعد" النص من طبعات لاحقة منقحة، وردود المؤلف على النقد.

ويفوق هدف هذه الدراسات معرفة كيف كتب مؤلف ما نصه، فالمعرفة مقدمة ضرورية لقراءة إبداعه كله وفهمه بمنهج مركب، منهج تاريخي/ اجتماعي/ نفسي/ بنيوي/ تفكيكي أكثر وعدا بالنتائج الجديدة عن الرموز النصية ومرجعياتها التي تصنع مجتمع النصوص، سواء كانت لكاتب واحد أو بضعة كتاب، إذ في الحالين يحرك الهدف فكر نقدى لا يقتل المؤلف، ولا يغيب وجوده ودوره - من ثمَ - فى العملية الإبداعية.

تبدو الحاجة إلى مثل هذه الدراسات مُلحةً عند اكتشاف نصوص مجهولة بالنسبة لكثير من قراء كاتب مشهور، إما لأنها مسودات لم تنشر، وإما لأنها نشرت فى دوريات مختلفة ولم يقيدها الكاتب فى كتاب قبل رحيله.

ولا شك فى أن اكتشافًا مثل هذا يعد فرصة نادرة أمام النقاد والباحثين لدراسة إبداع الكاتب دراسة أشمل، ولمراجعة كثير من الأحكام النقدية التى تأسست على ما كان يظن أنه أعماله الكاملة، إضافة إلى ما فى عملية إسقاط الكاتب بعض نتاجه - أو إخفائه - من دلالة كبيرة على مراحل تطوره الفنى، نقده لنفسه أو تقييمه لإبداعه، وخصائص العملية الإبداعية عنده بجميع أركانها.

تيسر لى الوقوع على اكتشاف من هذا النوع فى الإبداع القصصى ليوسف إدريس (1927-1991) إبان مشاركة فى احتفالية نقدية أقيمت على مدى شهر ونصف فى ورشة الزيتون الإبداعية بالقاهرة، وأهديت إلى روحه فى ذكرى مرور عشر سنوات على رحيله، وكان المشرف على الورشة الشاعر شعبان يوسف قد نشر مقالة فى أخبار الأدب جاءت فيها إشارة مقتضبة إلى وجود إحدى عشرة قصة مجهولة، واحتمال أن تكون هذه القصص فى مجلة البوليس([1]).

ورأيت أن العثور على هذه القصص وإعداد قراءة لها سيكون - فى الليلة الختامية للاحتفالية - مفاجأة نقدية تفوق الموازنة بين قصة (النداهة) لسليمان فياض ونداهة يوسف إدريس.

لكننى لم أعثر على القصص فى المجلدات الموجودة بدار الكتب من مجلة البوليس، فرجعت إلى الببليوجرافيا التى أعدها كربر شويك لأعمال إدريس([2])، والببليوجرافيا المنشورة فى مجلة أدب ونقد([3])، وبفضل الإشارات القيمة فيهما توصلت إلى إحدى عشرة قصة نشرت فى دوريات مختلفة، ولم يلحقها يوسف إدريس بأية مجموعة من مجموعاته القصصية.

وأسفرت هذه الرحلة البحثية عن اكتشاف نمط معقد من أنماط إدارة الموهبة الأدبية، نمط تبناه يوسف إدريس- وربما ابتدعه- بالتصرف فى قصصه وتعديلها بعد نشرها فى دوريات أو كتب. ويثير هذا الاكتشاف عدة تساؤلات، أهمها:

ما مدى أحقية الكاتب فى تغيير نص أدبى قدمه بإرادته للتلقى العام وأصبح بالفعل بين أيدى الناس؟! وماذا يفعل الناقد أمام نصين لقصة واحدة؟! هل يعتمد على الأول منهما باعتباره الأصل والأقرب بالتالى إلى الفنية العفوية؟! أم يكتفي بالنص المعدل باعتباره أكثر نضجًا وتعبيرًا عن اكتمال رؤية الكاتب؟! أم يعتبر النص الأول- مثلما اخترت فى هذا الكتاب- مسودة منشورة/ وثيقة لدراسة التكوين الأدبي؟!

يوجد امتداد تاريخى لقضية اختلاف النصوص الأدبية فيما يعرف بمدرسة عبيد الشعر أو حوليات الشعر، حيث كان الشاعر يعكف على قصيدته حولا كاملاً تعديلاً وتجويدًا، ولربما نشر التلاميذ الرواة إحدى الصور غير النهائية للنص، أو ألقاها الشاعر نفسه فى مجلس أدبى لاستكشاف ردود الأفعال بصددها.

غير أن هذه القضية لم تلق لدينا العناية النقدية الكافية فيما خارج إطار الشعر، وفى الشعر نفسه لا يعدو الأمر الإشارات الإلماحية أو التأملية لقيام بعض الشعراء – كالسياب وإبراهيم ناجى وأدونيس - بتعديل أبيات وقصائد عند نشرها للمرة الثانية فى ديوان.

أما فى القصة فالأشهر هو التعديلات النوعية التى يحول بها الكاتب القصة القصيرة إلى رواية، مثلما فعل إبراهيم أصلان بقصة (مالك الحزين)، وصنع الله إبراهيم بقصة (اللجنة) ويحيى الطاهر عبد الله بقصتى (الطوق والأسورة) و(تصاوير من الماء والتراب والشمس).

لكن تعديلات يوسف إدريس «نمط» وحدها، وتثير الحيرة حقًا إذا أردنا التماس مبرراتها، وما التعرض لكيفية ظهورها فى إبداعه الآن سوى محاولة لتأمل آلية التعديل فى العملية الإبداعية عنده، واستخلاص دوافعها ثم قيمتها بالنسبة لأدبية النصوص.

مرّ عقد كامل على رحيل يوسف إدريس، ومن المحتمل ألا تعرف دوافعه النهائية لهذا الأسلوب فى إدارة موهبته، لكنه بغير شك «حالة» إبداعية متفردة، بتأثيره العميق فى مجرى القصة المصرية والحياة الثقافية على مدى نصف قرن، وبما تثيره أعماله كلها من قضايا وتساؤلات، فلعل دراسة جانب من تكوينه الأدبي، في هذا الكتاب، خطوة على طريق تأمل إبداعه كله بوعى جديد.

 

(1) رسالة إلى يوسف إدريس، جريدة أخبار الأدب، 5 أغسطس 2001.

(2) الإبداع القصصى عند يوسف إدريس، ترجمة رفعت سلام، دار شهدى للنشر، القاهرة، 1987.

(3) عدد (34)، ديسمبر 1987.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.