د. عبير سلامـة

لعنة الجبل([1])

 

«تململ "شعبان" فى فراشه ثم انتفض وهو يردد كالمخبول..يجب أن افعل شيئا..أى شئ، أية جريمة وهرشت زوجته فى رأسها بعد أن دبت الحياة فى جسدها الميت إلى جواره، وأحست وهى تزيح أطياف النوم عن جفونها، أن الذى انتفض هو زوجها وان الصوت المتقطع المرتجف الذى دوى فى سكون الليل هو صوته، فبادرته قائله بلهجة تحمل التأنيب فى ثناياها:مالك؟.. ماذا حدث يا شعبان؟

وكأن صوت زوجته كان النور ينبثق فجأة فى غياهب عقله، فيوقف تخبطه فى غياهب الظلام،ويعلن إليه فى قوة ووضوح الحافة التى يطل منها على الهوة السحيقة – إن كانت هناك هوة – فما أن ران صوتها فى أذنه ورجعته أغوار عقله حتى عاد إلى هدوئه وفطن إلى نفسه التى لعبت بها مؤامرات عقله فى غياب النور. حقا..ماذا به؟..وماذا حدث؟ إن الجريمة قد اقترفها، فما ذلك الفحيح الذى يتردد فى أعماق وجدانه ويدعوه إلى إثم جديد، لقد مات (الغرباوي) واحتوته ضلوع الجبل فى حنان أو ترحيب،مات..، انه لم يمت، بل قتل، وكان هو قاتله! كان هو المجرم الجانى الذى رفع بيد ثابتة بندقيته وأردى بها الغرباوى،فهوى من فوق الجبل كدمعه أثمه من دموع الزمن تنحدر على وجهه المتحجر، ولكن يده الثابتة ارتجفت حينذاك، وجندل الغرباوى، ورأى هذا الإصبع القصير – إصبعه –ينهى بضغطة منه حياة، ويقتل بحركة منه جسدا، بردت دماؤه، وسكنت ثورته وعادت إليه فلول إرادته لتحس بما جناه، ولتحملق فيما أتا.

......([2]) لقد انتهى الغرباوى فى ذلك اليوم القائظ من أيام الصيف، إنه ليشعر - فى وهج الضوء الذى يتسلط على غياهب عقله الآن – بتفاهة نفسه.. بتفاهة تفكيره.. بل يشعر بأنه ليس له عقل على الإطلاق، وأن ما يحتل رأسه هو قبضة من تراب قريته القارية فى أقصى الصعيد.

وآن لزوجته أن تنهى ذلك الشرود الذى انتاب زوجها، فمدت يدها تهزه برفق، فهى تخافه وتخشاه، تخاف منه هذه الغيرة التى تطفو فوق ملامحه فجأة وهم جالسون حول العشاء، وتخشى منه هذه النظرة العميقة يطالعها بها حين يعود من عمله وشعر بهزتها، واستطاع أن يدرك أخيرا أنه ليس الوحيد فى ظلام الليل، وأن انتفاضته لم تصهر المشاعر المتجمدة فى قلبه فقط بل أيقظت كذلك زوجته، فرمقها بنظرة من نظراته العميقة، تلك النظرة التى احتارت زوجته مرارا فى تأويلها، فلما استغلق عليها الأمر بدأ الشك يساورها فيما وراء النظرة، أهى زوجة أخرى تطالع شعبان فى الأفق الضيق الذى يعيشون فيه، ولكنها لمحت فى هذه المرة شيئا خيل إليها أنه نداء خافت واهن لها.. لشريكته فى وضح النهار وظلام الليل، وأنه فى حاجة إليها وهى نظرتها الحانية للأمور، فهتفت بصوت أودعته كل ما تملكه بنات الريف من أنوثة: شعبان.. بربك أخبرنى ماذا بك؟! ومدت يدها لتزيد من ضوء المصباح الغازى عله يبعثر الأشباح التى وجدت مرتعا خصبا فى عقله، وقد رأت زوجها وقد أطرق برأسه، ثم مد يده وأخرج علبه لفائفه وأشعل واحدة وجذب منها أنفاسا نهمة ثم رفع بصره قليلا وواجه زوجته.. وخيل إليها أيضا أنه إنسان هذه المرة.. شعبان نعم ولكن بلا نظرة ولا غبرة، وبلهجة ابنتها حين تعترف لها بذنب ارتكبته بعد طول مراوغة من الكذب البرئ قال..

أتذكرين غرباوى يا بهية؟ -

كيف لا أذكره؟. أليس هو صاحب الشارب المفتول؟ والجسم الضخم؟ والوجه الأحمر الممتلئ الذى كانت ترتعد له الفرائس حين يدب بخطوة الثقيل فى شوارع قريتنا؟

يا امرأة.. لا أريدك أن تذكرى غرباوى صاحب الشارب بل أريدك أن تذكريه.. قاتل الرجال وقاطع الطريق.. غرباوى الذى دوخ رجال الأمن ونصب نفسه حاكما آمراً ناهيا لإقليمنا فى يوم من الأيام.

نعم.. ذلك الوحش.. وهل أنا أخيف ابنتنا إلا به؟

أجل ياله من وحش..

وعاد إلى إطراقه ثانية ثم قال بعد هنيهة: بهية.. سأروى لك قصة:

كان ذلك قبل زواجى بك، وكنت فتى يافعا من فتيان القرية كما تذكرين، كانت الدنيا بأجمعها لا تتعدى فى ناظرى قبضتى القوية وعودى الممتلئ، وذات يوم كنت مارا فى الطريق إلى بيتكم وكنت أتبط حزمة من عيدان القصب اعتزمت أن أهديها إليك، وفجأة وجدته أمامى.. وجدت غرباوى، فتسمرت فى مكانى، وتسللت عيدان القصب من تحت إبطى تسلل شجاعتى من قبضتى القوية وعودى الفارغ فما كان منه إلا أن رمانى بنظرة لا تزال ذكراها تنهش رأسى ثم أهوى بيده على وجهى فى صفعة قوية وهو يتمتم: أأنت رجل؟!

ومضت الأيام وأنا أتحس الصفعة كل صباح ثم تثور نفسى، وتتجمع شجاعتى وتأخذ مكانها من قبضتى فأظل اضرب بيدى فى الهواء.. أضرب أشباح الوحش اللعين، ويطير عقلى وأنا اردد مع زئير الرياح. لماذا ضربنى؟ وكيف احتملت صفعته؟! ثم.. ماذا كان يفعل فى شارعكم، وهو صاحب الشارب المفتول والوجه الأحمر الممتلئ و؟ وهمت زوجته أن تقول شيئا ولكنه أسكتها بحركة آمرة من يده، وجذب نفسا أخير من لفافته ثم ألقى بها فى ثورة تزمجر، وحقد يغلى إلى أقصى الغرفة واستطرد: ثم كبرت.. وكبر معى حقدى.. وانتظمت فى سلك الجندية وتزوجت، واستقر بى المقام بعدها حارسا فى هذا السجن.. فى (ليمان) أبى زعبل.. والشهر الماضى فقط يابهية كان موعد "الوارد" الجديد من المساجين.. النوع الطازج من الضمائر الخربة والنفوس العفنة، وإذا بى أجده فى الموكب الحافل، أتعرفين من؟ إنه الوحش.. الأفعوان صاحب اللطمة.. غرباوى الهرم العجوز.

وشهقت زوجته وهى تردد: غرباوى

أجل وقع أخيرا فى يدى: يدى التى تسربت منها الشجاعة وساما لمرآة، وتسلك إليها القسوة حين رأته تحت رحمتها، تحت رحمة هذا الإصبع القصير الغليظ، وتحينت الفرصة بل عملت لها، واستطعت أن أتبادل حراسة المسجونين مع زميلى، فصرت سيد.. صرت أقوى منه ومن الرجال الذين يعدهم على أصابعه، ولم يعرفنى اللعين، ولم يذكر اللطمة بين جرادل الدماء التى سالت بين يديه، والتى استطاع ولا أدرى كيف – أن يمسحها على باب المحكمة وقبل أن يمثل بين يدى القضاء – ولكننى كنت أذكر صفعته على وجهى، وقبضتى التى تراخت فى خوف وذلة.

ثم كان اليوم المشهود.. كنا فى الجبل، ورأيته بعد أن قطع الأحجار ينتحى ركنا لقضاء حاجته، وهنا تسربت القسوة التى احتلت يدى فمضت إلى عقلى تصرخ فيه، هذه فرصتك، هذه حجتك فى قتله.. إنه يحاول الفرار. وانتصبت زوجته واقفة وحملقت فيه قائلة.

وقتلته..?!

نعم.. ونلت على قتله هذا (الشريط)!!

قالها فى لهجة هى خليط من الزهد والفخر والقوة التى تنساب من كلمات المساء.. ولكنك لا تفتح فيها أثرا لتأنيب الضمير. واقتربت منه، وكأنما تريد أن تصفعه هى الأخرى.. تود أن تصفع زوجها شعبان الذى لا تذكر يوما أنه استطاع فيه أن يذبح دجاجة، أو حتى أن يردى البومة التى تنتحب كل ليلة على الشجرة المقابلة لدارهم، فإذا به قد قتل رجلا، وأزهق روحا ولكنها عادت وتراجعت. جبنت حتى عن أن تجابهه.. أن تجابه فتاها الأول فى قربتهم.. ورجلها الأوحد فى دارهم التى لا يفصلها عن السجن إلا خطوات معدودة. وانخرطت فى البكاء.

وهز شعبان رأسه فى بطء وتثاقل وكأنما يحدث نفسه، إنها لا تفهم.إنهم جميعا لا يفهمون.. كلهم لا يدركون وكيف تستطيع الفهم وهو نفسه قد اختلط عليه الأمر ولم يعد يلمح إلا خيالات مبهمة غامضة تجوب فكره وتقض مضجعه؟

ماذا حدث بعد الضجة التى أثارها مقتل غرباوى، والتى انتهت بترقيته؟

أنه يوغل فى الأمر فلا يرى فيما حدث ما مكر صفو الهناء الذى كان يمنى به نفسه إذا ما تحققت العلامة واستطاع أن يرد الصفعة.. أن يرد الإهانة التى لم يغتفرها قط. أن الأحداث مرت بعدها فى تسلسلها الرهيب، وفى وقع كوقع حذائه الثقيل، وهو يجوب (عنابر) السجن. غمرت فرحة الظفر ونشوة الانتقام شعبان – فتى القرية القابعة فى أقصى الصعيد – وسرت لها القبضة القوية وابتهج بها العود الممتلئ ويزداد توغلا فى الأمر فيلمح نفسه مرة ثانية، الفتى القروى البرئ بين أهله وخلافه..وحزمة القصب التى تسربت من يده ى ساعة خوف وجبن ويقارن بين ماضيه وبين حاضره اليوم وقد اصبح الحارس الذى أجرم..

ذبذبات النفوس العفنة الذى ماتت روحه وخرب ضميره.كان يقف وراء الطابور الذى تخلف عن ركب الحياة ويلمح نظراتهم التى يختلط فيها الخوف بكثير من الجرم وهى تنصب عليه هو.. هو مبعث الخوف وحارس الإجرام، أو يشاهدهم وهم يرفعون أيديهم التى أنهكتها الأثقال،وهدها وزن ما يحملون ثم يهوون بفؤسهم على الصخر الجامد ويسمع خلال ذلك حديثهم الخائف الخافت عنه.. عن عزرائيل هذه الطغمة من الأشرار!

أو يرنو إليهم عند عودتهم إلى الحجر الذى خرجوا منه فى باكورة الصباح، وقد انحدرت الشمس خلف الصخر الشاهق وكأنهم نقمة الجبل يبصقها فى وجه الإنسانية.

كان يرى ويسمع ويفهم، وهم لا يرون ولا يسمعون ولايفهمون.. أنه واحد منهم.. واحد من الأشرار.. حشرة من حشرات الوجوه الذى يزخر بها السجن. أنه يسمع شيئا ما ى نفسه يهمس به: مكانك بين هؤلاء.. وقفتك بين هذا الطابور لأخلفه.. يدك لذلك القيد الثقيل وليست لهذا السلاح.

والقبضة القوية والعود الفارع يزأران به.. يا جبان.. أنت تحرس هذه الطغمة؟ هذه الأجساد التى حقت عليها اللعنة ومع ذلك فهم أسمى منك.. هم أجل شأنا، لنهم اقترفوا ما اقترفوا ثم تقبلوا ما كان ينتظرهم، وضمهم هذا المكان – هذا الحصن الضخم، يكفرون فيه، وينظرون إليك كأنك السيد الجبار.. أنت الجبان الهارب.

ولكن شتان بينهم وبينه.. وهو ينزع جسده انتزاعا من (الليمان) ليذهب إلى بيته.. إلى امرأته وابنته فيشعر بوحشة كئيبة وكيف لا وهو ينظر إليهما بقلب لم يعد قلب زوج أو أب.. بل قلب ذاق حلاوة الدماء..

هو عالق فى الفضاء الكبير – بعد أن اندفع يهوى من السماء التى كان يعيش فيها، وبعد أن أصبح غير شعبان الذى لا يستطيع أن يذبح دجاجة أو يردى بومة - ويلمح الوادى العميق من عليائه وقد اكتظ بلعنات الجبل ونقماته ويرى البسمة، والهمسة، والذئاب الجائعة حين تبتسم. ويرتد إلى نفسه فيجد شعبان الذى يعوى وحده، والحارس الذى يكفر فى صومعة عن جبنه. ويكتشف عقله فجأة الحقيقة التى لا تحتاج إلى دليل: أنهم أسعد منه!..هذه الأجساد التى حق عليها القصاص هذه الطغمة من الأشرار..اهنأ بالحياة منه!.. لأنه نبذ السماء وأبى أن يدخل القفص مع الداخلين.. فلا هو بالذى هوى إلى الحضيض ولا هو بالذى يستطيع أن يحلق مرة أخرى فى السماء!..

تسللت أشعه الفجر الباهتة إلى الغرفة فبدأ ضوء المصباح الغازى كصفرة الجبل وقد انعكست على وجه شعبان وصبغت نظرته القاسية العميقة بطابع حائر مجنون. وبدت على ضوء الشعاع الباهت (بهية)امرأته وقد انتحت ركنا واسترسلت فى نحيب مكتوم، وخيل إليه أنه يلمح شبحا يشبه (غرباوي) إلى حد بعيد يكفكف دموعها ثم ينثنى ليطبع قبلة على وجهها وقد رقدت فى براءة الأطهار. غرباوى يكفكف دموع امرأته؟ غرباوى الذى وصفته بالجسد الضخم والوجه الأحمر والشارب المفتول؟ غرباوى الذى قابله فى شارعهم، وانتحبت لمقتله!؟

نعم هو يكفكف دموع امرأته الكومة الراقدة فى ركن الغرفة تنتحب وكأنها البومة القابعة هناك على الشجرة لقد صرع عملاقا بإصبعه – هذا العقير الغليظ – أولا يستطيع أن يحطم البومة بيديه!؟

وارتفعت فى سكون الليل أصوات ثاقبة تنعق مع بشائر الصبح. كانت أصوات حراس السجن وهم يتبادلون النداء، وقفزت إلى ذهنه أصوات الذئاب حين تعوى وقد جذبتها رائحة الدماء، وشعر بجسده يتسرب بين ناظريه لينضم إلى الأجساد المشدودة بعضها إلى بعض بالقيد الأصم الأبكم، وبروحه تهوى لتستقر مع غيرها من أرواح الزنادقة فى الوادى العميق. وشدد الضغط على شفتيه، تقلصت قبضته وطاف بخياله (غرباوي) وقد خر من فوق الجبل كدمعة آثمة من دموع الزمان.. ثم مضى بخطى ثابتة مصرة إلى الركن الذى لونه ضوء الفجر الشاحب بلون الفناء.. حيث الكومة الراقدة تنتحب فى سكون!!».([3])

 

(229) مجلة روز اليوسف، 4 أبريل 1950.

(230) محو فى الأصل.

(231) وقع إدريس هذه القصة باسمه الثلاثى: يوسف إدريس على.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.