د. عبير سلامـة

قصة مصرية جدا([229])

 

«صعدت راكبة جديدة إلى عربة الأتوبيس من باب الدرجة الأولى ولم تكن الصاعدة من راكبات الدرجة الأولى. فكانت ترتدى جلبابا أسود طويلا، وتلفع طفلا على كتفيها بينما طفلها الاخر مستميت على ذيلها استماتة من لو تركه لمات فى الحال. صعدت المرأة، وظلت تزق وتنزق، وتندفع وتدفع، بينما طفلها راكب الكتف يصرخ، وطفلها ماسك الثوب يسبها ويلعنها ويبكى حتى بلغت منتصف الدرجة الأولى ثم لم تستطع بعد هذا حراكا. والعادة جرت أن ركاب الدرجة الأولى لا يكادون يضبطون واقعة كهذه حتى تتنبه فيهم غريزة الكمسارية الطبقية فيتطوع أكثر من واحد منهم بقوله: دى درجة أولى يا ست. خشى جوه. وقد تكون غريزة كهذه قد تنبهت عند أكثر من واحد منهم، ولكن الحق يقال لم ينطق أحد بشيء مما دار بخاطره. وطبعا لم يكن هذا لأن الراكبة الصاعدة جميلة أو ذات سمنة ومؤهلات أخرى، لا شيء من هذا أبدا. كل ما كان يميزها عن غيرها من مرتديات السواد ولافعات الأطفال أن أنفها - دونا عن بقية وجهها - كان أحمر شديد الحمرة، هكذا لله فى لله، وكأنها ولدت به. لم تكن جميلة ليصرفوا النظر عن تنبيهها، ولكن ربما صرفوا النظر لأنهم عذروها حين وجدوها حائرة بولديها، وربما أحسوا أنها ليست فى حاجة إلى تنبيه وأدركوا من تلقاء أنفسهم أنها مضطربة وشاعرة بالذنب لوجودها فى درجة غير درجتها. أو لعل السبب أنهم تركوا تنبيهها إلى الكمسارى الحقيقى حين يجيء. وجاء الكمسارى. أو بالأصح نفد الكمسارى فجأة من بين أجساد الركاب المتلاحمة وكأنه السهم الموجه، مع أنه كان سمينا وأصلع ويرتدى بيريه. ربما خفة دمه هى التى سهلت عليه مأمورية اختراقه كتل الركاب، إذ كان واضحا أنه من الصنف اللى واحدة والتانية ويدخل معك فى قافية لا أول لها ولا آخر. ولكن ملامحه كانت تنطق بأنه فى تلك اللحظة ليس على استعداد للدخول فى أى هزل، كان فى منتهى القرف وروحه بلغت، أو حالا ستبلغ، الحلقوم. وما كاد الرجل - بعد رحلة الدرجة الثانية الخطرة - يلتقط أنفاسه ويلم نفسه ويدق على لوحته الخشبية بقلمه ويبدأ فى مهمته حتى تنبه إلى وجود المرأة..

والعجيب أنه لم يفتح لها كالعادة محضرا ويأمرها قبل أى شيء بمغادرة الدرجة الأولى فى الحال. لم يفعل شيئا من هذا. دق على اللوحة مرة أخرى وقال: تذاكر. وتوجه بالكلمة إلى المرأة دون غيرها من الركاب، بل قبل أى من الركاب. وكأنما هى الأخرى كانت تتوقع هذا، إذ قبل أن يكرر النداء كانت قد فردت كفها اليمنى ومدتها إليه. ودون أن يلتقط الكمسارى ما فى يدها أو يتفحصه عرف أنه نصف قرش، وعرف أنها تريد تذكرة درجة ثانية، وعرف أيضا أن لابد من قرش كامل لقطع التذكرة. عرف كل هذا فى لمحة عبقرية خاطفة وكذلك عرفه ركاب الدرجة الأولى. بل المرأة هى الأخرى عرفته. وقبل أن يتكلم أحد قالت بلهجة صادقة ليس فيها شائبة كذب واحدة: والنبى يا خويا ما معايا غيره. ولوى ركاب الدرجة الأولى جميعا أعناقهم ضيقا، واستعدوا لجدل عنيف سخيف آخر سوف يبدأ حالا، وضجة أخرى لن تلبث أن تتصاعد، ولابد أن الأمر لن ينتهى إلا فى قسم شرطة.

ولوى الكمسارى رقبته اشمئناطا كالمحاضر الذى فلق رأسه طوال اليوم، بل طوال العمر، يعيد نفس الدرس، وقال بهدوء ما قبل العاصفة: يا ستى عايزين تعريفة كمان.

وقال هذا ورفع الصفارة فى اتجاه فمه استعدادا لوقف العربة.. وحسما لأى نقاش قد ينشب. أما المرأة فلم تلو عنقها ولم تجادل ولم تحاور، بل حتى لم تنظر هنا وهناك أو استعرضت ركاب الدرجة الأولى الأفندية وانتقت أحدهم. ببساطة جدا مدت كفها المفتوحة بالنصف قرش إلى الأفندى الواقف بجوارها، من سكات، ودون أن تتكلم أو تطلب، وفى ملامحها ثقة ما بعدها ثقة، أنه لن يخذلها وكأنها تعرفه من سنين، وكأنها ركبت العربة معه. ثقة لا يفترض الإنسان وجودها إلا فى قريب أو صديق. ثقة لا يدرى أحد كيف تنشأ ولا من أين تجيء. ومن سكات أيضا، وبلا أى استنكار، وكأنه فعلا قريب أو صديق مد الرجل أصابعه فى جيب سترته البيضاء "الشاركسكين" وأخرج نصف قرش، ووضعه بكل أدب فى الكف المفتوحة الممدودة. وبكل ثبات انتقلت الكف من قرب الأفندى إلى قرب الكمسارى. وخفض الكمسارى الصفارة وتناول القرش ولم تقف العربة».([230])

 

(229) مجلة الهلال، يوليو 1965.

(230) فى ببليوجرافيا مجلة (أدب ونقد) أن هذه القصة نشرت فى مجموعة (أنا سلطان قانون الوجود) لكن ما فى المجموعة قصة مختلفة بعنوان (حكاية مصرية جدا).

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.