د. عبير سلامـة

طابور خامس([1])

 

«سبعة جنيهات ونصف كانت ترقد فى جيبه فى ذلك المساء أبية، شامخة، مترفعة وللمرة الألف، عاد يمد يده الفلقة المرتعشة يتحسس بها الورق اللامع المسحور، ثم تمتم هامساً: "حقاً يا لها من ثروة!".

وفى القاهرة الكبيرة، التى استذلت أدميته وأصرت على أن تتجاهله طوال هذه السنين العجاف، والتى تشمخ فيها أربعون مئذنة نحو السماء وكأنها تسخر من ذلة الجحور التى لا تكاد قممها تصافح أرض الطريق، والتى يعيش هو فى واحدة منها.. كان من المستحيل على كيانه كله أن يدع هذه الهمسة تضيع منه رخيصة، ككل شئ فى حياته مع ذرات الظلام التى كانت قد بدأت تنعقد فوق الطرقات.

لقد تلقفت كتفاه الهمسة وكانت الأيام قد أحنتهما فوق مكتب حقير ضال فى ركن شركة من هذه الشركات التى تتناثر فى أرجاء المدينة... تلقفتها فى حنين الغريب إلى أوطان قديمة ضائعة، فاستقامتها عندئذ فى تحد وثقة وكبرياء.. ثم أحست بها قدماه أيضاً نفس الأقدام التى اعتادت أن تطوف به فى ذلة المكدود المحروم على أبواب الحياة المغلقة فى وجهه دائماً، فمضت فى هذه اللحظة تقرع أرض الطريق فى قوة وعزم وتشف.. وكان على عينيه هى الأخرى أن تمسكها قبل أن تضيع إلى الأبد بعد ذلك، ففعلت وبها فرحة العارى بجلباب ممزق، ومضت تسكبها على كل ما حولها من موائد النور وولائم اللذة، وصفوف المنازل الشاهقة المنتصبة كأشباح الأساطير، فى نظرات تنبض بألف أمل، وتلتمع بألف لون وتتقاتل فى شعاعاتها أسراب من الجن الطائش الأرعن الذى اعتاد دائماً أن يسكن أحلام المحرومين.

شئ واحد هو الذى مضى فى وسط هذه العزة كلها يسدل على هنائه ستاراً داكناً دقيقاً.. كان يستطيع حقاً أن يكون فى جيبه فى تلك اللحظة عشرة جنيهات.. العشرة كلها التى جاد عليه بها السيد الكبير مدير الشركة فى هذا الصباح لا لشئ إلا أن ابنته الغالية المترفة قد تزوجت بالأمس من تافه بليد مترف مثلها، وكأنما كان هذا الزواج فى حاجة إلى أن تساق من أجله الدعوات إلى قمم السماء، فمضى الأب السمين المكتنز الذى اعتاد أن يشترى بذهبه كل شئ، يشتريها هى الأخرى رخيصة سهلة من الأفواه الجائعة المكدودة.. أفواه سبعة وعشرين محروماً يعملون عنده، وكان كل الذى دفعه هو العشرة جنيهات العريضة اللامعة لكل منهم!.

عشرة جنيهات!. أجل.. وكنه آثر أن يقتطع منها جنيهين ونصف إلى أمه التى تعيش فى القرية، والتى تمنت أن تنالها منه منذ ثلاث سنوات طوال.. وكان هو يعلم أنها تريدها لتصلح بها حائط القبر الذى يرقد فيه أبيه بعد أن هدمته الأمطار، ولكنه كان دائماً، وفى مطلع كل شهر يتعلل أمامها بأن الجنيهات التسعة التى تلقيها إليه الحياة مبللة بالعرق والدموع، لم تكن لتسمح له، وفى وسط هذه المدينة التى تمضى فيها الحياة كوحش جائع نهم، بأن يفكر طويلاً فى الموتى، والعظام البيضاء العارية، وجدار الطين التعس كحظه والذى ترجمه شياطين الأرض أو خرافه السماء.

لم تكن الحياة حقاً لتسمح له بأن يقف ولو للحطة واحدة يقارن فيها حظوظ الأحياء بحظوظ الموتى.. أو ليدرك أنه تعس مستباح، أكثر تعاسة حتى من العظام المستباحة العارية.. وكان السعى وراء لقمة العيش قد أحال مجرد التفكير فى أى شئ إلى نوع من الترف الذى لا يقدر عليه.. ولكنه الليلة، وفى جيبه هذه الثروة كلها، أحس بالقدرة على أن يفكر كالسادة ويتفلسف كالآلهة ويقارن بين نفسه وبين حائط القبر المهدم وأن يتمنى أيضاً لو كان قد استطاع أن يستبقى لنفسه ما أرسله لأمه ليحيا به، ولو لليلة واحدة، آدمياً، سيداً فى المدينة الصاخبة المجنونة.

وأشرف فى النهاية على الميدان الكبير الذى اعتاد أن يذرعه كل مساء فى عودته إلى جحره البعيد المتهالك.. ووقف على حافته، وفى أعماقه السخط والثورة والوجيعة، ينتظر مرور رتل من السيارات اللامعة ليعبر الطريق، وعندئذ لم يدر لماذا امتدت يده فى حركة شامتة سريعة تتحسس جيبه المنتفخ.. ربما لأنه أحس للحظة خاطفة بأن الفرصة لم تفلت بعد وأنه، بهذه الجنيهات التى تضئ ظلام جيبه، ليس غريباً هذه المرة على إشراقة الدفء التى تسطع فى مصابيح الميدان القوية المتوهجة، أو هتاف الحياة وهو يبدو على الوجوه المرحة ويختلط بدفء السيقان الناعمة التى تمضى من حوله كالحلم، وأنه يستطيع حقاً أن يستحم فى كل هذا النور، وأن يعتصر كل هذه السيقان، وأن يعيش سيداً يشترى الدعوات هو الآخر لأبيه الميت تماماً كما يشتريها السادة من هذه النفايات الآدمية العائشة على جانب الطريق تتسول حياتها الرخيصة السوداء..

وأثقله هذا الإحساس فمضى يقطع الطريق متمايلاً كثمل عربيد..

وعبر الطريق..

وطالعه الشحاذ المسكين الذى يعرفه منذ سنوات واقفاً فى ركنه المعهود، فلم يتردد.. كان كأنما يريد أن ينتقم من عدو مجهول.. وأحس وهو يضع قرشاً فى يده، ويتلقى دعاءه الخافت، وكأنه قد استحال إلى عملاق ضخم يجلس مع مدير شركته إلى مائدة واحدة حول كؤوس الشراب، وأنه قد رفع كأسه ليقرعه بكأس السيد الكبير هامساً به وهما يبدأن الشراب: "هيا.. فى صحة العبيد".

ثلاث ساعات من الليل قد مضت بعد ذلك فى ضحكة طويلة ساخرة راثية، وهى ترقب الذليل المكدود – الحطام الذى أقبل من الظلام، من فوق مكتب ضائع فى ركن شركة ما – وقد بهره الضوء فأغفى ليفسح الطريق لمولد سيد جديد ثمل.. لمحروم موتور يمضى بفكرة واحدة حاقدة: أن يعيش سيداً، يشترى الدعوات ويغزو المدينة، وينسج من أعماق الآدميين، من كل صعلوك لا يملك ما يملكه هو... عرشاً يجلس عليه ويصيح من فوقه فقره وقدره وكل الظلام الذى ينتظره فى الغد عندما تذوب جنيهاته المعدودة ويعود من جديد إلى حظه القديم المكفهر..

أجل، ضحك الليل طويلاً بعد ذلك، وهو يرقب المتطفل على موائد السادة يشترى صفقة العز الأولى بخمسة قروش كاملة دفعها فى سخاء متعجرف للظهر الذليل الذى انحنى فوق حذائه القديم الباهت يمسح عنه الوحل والتراب.. ضحك الليل، وفغر فاه مساح الأحذية المسكين الذى تلقى القروش السخية فى دهشة وعجب، بينما مضى هو، من فوق المقعد الدائر المرتفع يطالع فى المرآة المعلقة أمامه وجهه القديم وبه يقف، المرآة، خاتماً مبهوراً يراجع نفسه قبل أن يخطو إلى المسرح للمرة الأولى.

وفوق خشبة المسرح الصاخب الممتد، نسى سريعاً أمر الحذاء القديم الذى أضحى لامعاً مصقولاً، وذلك الأجر السخى الذى جاد به على رفيق مكدود لابد أنه قد جرب الجوع واكتوى به مثلما جربه هو تماماً واكتوى به لأيام طويلة، ولم يعد يذكر غير شئ واحد أحس معه بنشوة دافقة وإحساس طاغ عجيب: لقد أستذل بذهبه، ولعشرة دقائق مثلاً، وجود آدمى مثله.. رجلاً ما يمثل حياة بأكملها ودنيا صاخبة تعمر بالنبضات والعلائق والآمال وهى تتوقف عند أقدامه تنفض الأقذار عن حذائه، وكأنما لتحمل عنه سواد ذلته هو، وهو منحنى كل صباح، وبيده قطعة من قماش مبلل فوق نفس ذلك الحذاء الرخيص يحاول بها عبثاً أن يسكب على ظلامه ولو شعاعاً باهتاً من النور.

وكان إحساساً ساخناً ملتهباً.. تفتحت له نفسه وهى تخفق وتضطرب كخفاش جائع عرف لذة الدم على شفتيه لأول مرة فمضى بعد ذلك يستزيد من الضحايا، ويفتش عنها فى كل مكان، إحساساً مشى به بعد ذلك وكأنه فى خدر حلم عاصف إلى المطعم الفاخر الذى يغرق فى النور، وإلى المقعد المريح فى عربة سائق عجوز، وإلى المرقص الدافئ المعطر الذى تئن فيه موسيقى ناعمة مترفة هى الأخرى، بل وإلى كل سوق فى المدينة تعمر باللذة وبالعبيد.. وبالعزة التى يمكن أن تشترى بالثمن التافه القليل.. من هناك. من فوق المقاعد اللينة. وتحت نفس الضوء الذى يسطع على الوجوه وقد أثقلت الترف والدعة، يجلس إليها جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، وهو الذى اعتاد أن يرقبها من مكانه كل صباح فى خوف واستكانة وقد نسج العنكبوت المخيم على مكتبه الصغير بينه وبينها ستاراً أسوداً كئيباً.

ورويداً رويداً خيل إليه أنه فى كرنفال بهيج، وأنه يلبس ثياب الملوك، ونسى من جديد حذاءه القديم، ومعطفه البالى الرخيص، واستثاره العدو المجهول الرابض بين جوانحه، فمضى فى خدره يأم ويصيح فى وجه خادم المطعم العجوز، وسائق العربة المتعب المكدود، وساقى الحانة العابس الذليل، وهو ينثر عليهم جميعاً ذهبه فى سخاء حانق موتور، وكأنه يتحداهم به، ويهمس فى وجوههم بتيه مستفزاً وكأنه يقول: "سيد سليط متعجرف. ولكن ما الذى تستطيعونه؟ أن ترفضوا هذه القروش. لقمة العيش التى أجود بها عليكم.. وعلى أطفالكم المساكين.." وكان هو يعلم تماماً أنهم لن يستطيعوا شيئاً.

ومضت حافظة نقوده تضمر وتتخاذل وتنكمش، بينما راح إحساس القوة والبطش والعزة ينمو فى أعماقه مع كل خطوة، وينتفخ بين جنبيه مع كل صيحة يرسلها، ويتكور ضاغطاً على كل شئ فى جمجمته وكأنه كرة من مطاط رقيق تنفخ فيها أنفاس شيطان نزق مفتون.

وتلقفته مركبة "الأتوبيس" فى النهاية، وقد فرغت حافظة نقوده تماماً إلا من ذلك القرش الواحد الذى أدخره من هوس الليلة الطويلة ليحمله إلى منزله البعيد المظلم سعيداً.. وراضياً وسيداً كبيراً!. ونظر حوله.. وجال بعينيه فى المركبة المزدحمة الصاخبة، وخيل إليه عندئذ أن جميع من حوله إنما ينظرون إليه فى تربص وتنمر، ويتآمرون عليه، ويسعون بمعنى وجودهم إلى جواره بعرقهم وتبغهم وصياحهم وأجسادهم المترنحة المتعبة، إلى الهبوط به من فوق القمة العالية التى أشرف عليها الليلة.. إلى سرقة كنزه الثمين الذى أنفق فى الحصول عليه سبعة جنيهات ونصف. فانكمش فى مكانه وكالنعامة المذعورة أغلق عينيه، ومضى يفر من واقعه الذى راح يتمايل كرقص الجن كلما اهتزت من تحته المركبة الصدئة القديمة، ومن رائحة العرق والتبغ التى تطوف حوله فى إصرار شعاع من الشمس يطرقان جفنه نائم يأبى أن يستجيب ليقظة الحياة من طرقعة "الكمسارى" وهو يضرب بقلمه القصير قطعة الخشب التى بيده ويخطو فى جهد ومشقة يطلب القروش، ويلعن معها حظه وقدره.

يفر من كل هذا إلى الأجواء المعذبة المشحونة التى عاشها منذ ساعات والتى كان عليه فى تلك اللحظة أن يدافع عنها ضد هؤلاء الغزاه، وأن يحنو عليها فى خوف ولهفة وكأنه بخيل يحنو على ثروة العمر كله.

وهكذا راح من جديد يستعرض أحداث الليلة كالقائد المنتصر ويجتر سويعات المتعة التى عاشها ويقف طويلاً عند كل مشهد حتى الأخير منها.

مشهد الساقى الذى تقدم إليه فى الحانة ليقبض الحساب فأسقط أمامه عمداً قطعة من الفضة وقد استبدت به رغبة شهية حمراء فى أن يرى الساقى وهو يركع عند أقدامه يفتش تحت المائدة عن الفضة.. فضته هو؟ ولذله أن يستعيد إحساسه فى تلك اللحظة وهو ينظر طويلاً بعد ذلك إلى الساقى وقد رفع إليه وجهه مكسواً بالعرق وفى يده القطعة الفضية يقدمها إليه بعد أن عثر عليها.. ثم هو يهمس به فى النهاية وفى صوته أنفة متسلطة آمرة: "خذها.. إنها لك" بالرغم من أنها كانت آخر ما فى جيبه من نقود.

ولكنه كان سعيداً.. راضياً.. وسيداً كبيراً.. وكان من الممكن أن تستطرد به الأفكار، وتوغل فى فراره لولا أن عادت الصدفة فردته إلى الزحام الغارق فيه عند ما وقع بصره فجأة على فتاة كانت قد صعدت إلى المركبة فى تلك اللحظة وقد مضت تندس فى الزحام وتحاول أن تجد مكاناً بين الجموع المتراصة.. كانت فتاة شاحبة جميلة ذابلة، وكان التعب والإرهاق يتنفس فى عينيها وينساب منهما فى نظرات متكسرة فاترة.. ولم يكن هو فى حاجة إلى وقت طويل ليدرك من تكون من ملابسها الرخيصة، وأظافرها التى غاب الطلاء عن أطرافها ومن حقيبة يدها القديمة الكالحة.

وعنفت به نفسه وكأنها تثب فى وحشية سريعة منقضة على فأر مستضعف مقهور... همست: "هيا.. إنها لن تكون غير عاملة فى إحدى المحال التجارية.. واحدة كخادم المطعم أو ساقى الحانة.. وصيد ثمين تستطيع أن تتوج به بضاعة العز الذى تفتش عنه فى جنون ولهفة.

وكانت همسة جريئة واضحة أحس معها بالدم يتدفق فى عروقه كلسان من لهب.. حقاً كيف نسى فى سعيه الطويل صفقة المرأة التى يمكن أن يشتريها لليلة كاملة.. الجسد الآدمى، بكل إنسانيته وكرامته وكبريائه، وهو يسترخى أمامه على الفراش مستسلماً، واهناً، منكسراً، وقد استحال فى يده إلى قبضة من تراب رخيص يبعثرها هو كما يشاء وعاد ينظر إلى الفتاه فى كبرياء جشع وهو يتخيل وجوده فوق نفس القمة التى يجلس عليها مدير الشركة الذى لم تخل ساعة واحدة من حياته من امرأة يشتريها ويلهو بها أو يساومها، وبدأ له الأمر سهلاً جداً، وأوغل به الخيال الشرس فراح يرسم للمسكينة اللاهثة صاحبة اليد الخشنة والحقيبة التى ذهب العرق بلونها، كل خطوة الصورة التى يشتهيها: أنها من ذلك الصنف الذى يخرج إلى الطرقات ساعياً وراء لقمة العيش تملأ بها فم أب متقاعد سكير، وأخت تبصق دماً من صدر أنهكته العلة وحطمه الجوع، وأخ متبطل عاطل يدور كالقدر المريض على أبواب الحياة المغلقة، وأنها فى وسط كل هذا الموج الصاخب الكافر فلن تستطيع أن ترفض دعوة سيد مثله – وابتسم فى ثقة وكبرياء فى مقابل القروش التى يمكن أن يدفعها لها لتحمل بها إلى السفينة الغارقة بعضاً من الخمر والقوت والحياة.

كانت الصورة داكنة سوداء وهتفت لها نفسه وهى تصفق مجنونة ثملة: أجل.. يجب أن تكون هى كل هذا، لتكون أنت السيد الذى يجلس فوق القمة يملك الناس ويهب الحياة بينما عزفت عنها، رانية مشفقة، الأحداث التى توالت بعد ذلك فى سرعة مضطرة وكأنما لتضع حداً ما لليلة المهووس الثمل..

لقد اهتزت المركبة فى تلك اللحظة فى عنف مفاجئ فصدمت يده بجبينه الخاوى وبالحقيقة الواحدة التى لم يستطع خياله أن يقهرها أبداً، وأغرقته من جديد فى طوفان من حقد ملتهب حقيقى هذه المرة على أمه التى حرمته من بعض جنيهاته، وعلى حائط القبر المتهدم والعظام البيضاء التى سلبته فى خسة وأنانية نفس المبلغ الذى كان يمكن أن يشترى به صفقة كهذه، وأيقظت اللعنات على أطراف أعصابه المتوترة للحظة قصيرة من قبل أن تعود فتضعه وجهاً للوجه أمام المعركة الأخرى التى أثارها فى نفس الوقت اهتزاز المركبة بين نفس الفتاة وبين رجل أخر كان يقف إلى جوارها.

كانت معركة قصيرة تافهة من تلك الآلاف التى تحدث كل يوم ولكنها مع هذا كله كانت كافية حقاً لأن ترسم نهاية الليلة.. كان الرجل قد اصطدم بالفتاة عندما اهتزت المركبة فصاحب به فى صوت أثقله الرق والإنهاك تلومه وترده، وكأنما إستثارته كلماتها فأجابها صائحاً هو الأخر ساخطاً متنمراً. ولم تلبث الألسنة التى أرهقها الصمت أن تقاسمت الأمر بعد ذلك، ومضت تلوكه معقبة ناقدة وكلها تسخر بالفتاة بإحتجاجها الواهن المتعب بينما صاح صوت ثاب رفيع من أقصى المركبة يتهكم قائلاً:

ماذا؟ وهل اضطرها أحد إلى هذا الزحام؟ لماذا لا تستأجر السيدة المترفة عربة خاصة مادامت تخاف على نفسها إلى هذا الحد!.

وأعقب الصوت ضحكة طويلة ساخرة.. ضحكة لم تنسكب فحسب على ملابسها الرخيصة وحقيبتها الباهتة ويدها الخشنة التى غاب الطلاء عن أطراف أظافرها، بل ومضت أيضاً تتلوى كالخنجر المسموم لتصل إلى أحشاء الثمل الذى كان يحيا فوق القمة منذ لحظات، ولتهبط به إلى القاع إلى الظلام الذى جاء منه.. إلى صورة المكتب الحقير الضال الذى خيل إليه عبثاً أنه يستطيع أن يفر منه ولو لليلة واحدة.

كانت الكلمات المتهكمة والضحكة الساخرة الطويلة هما نفس الكلمات ونفس الضحكة اللتان اعتاد أن يسمعهما كلما وجد فى نفسه من الشجاعة ما يسمح له بأن يتذمر من عمله الشاق الطويل فى ذلة واستجداء لمدير شركته طالباً منه أن يزيد أجره ولو قروشاً قليلة.. نعم كأن السمين المكتنز يقول له عندئذ وهو يضحك نفس الضحكة الملعونة: "وما الذى يضطرك إلى هذا العمل. لماذا لا تغادرنا، إذا لم يعجبك، إلى مزرعتك الواسعة الخصيبة حيث تستطيع أن تستريح تماماً؟".

وكان هو يسكت.. تماماً كما سكتت الفتاة فى تلك اللحظة وأحس بنفسه عندئذ تتضاءل وتدق.. وبكرة المطاط الرقيقة التى كانت قد انتفخت بالبطش والعزة منذ ساعات قلائل وهى تنفجر وتتبدد وتستحيل إلى مزق من كبرياء تافه رخيص.. وبروحه وهى تهوى إلى أعماق الظلام كفراشة محتضرة.. ورفع وجهه.

وفى عينيه رجاء واستغفار وابتهال إلى وجه الفتاة الذى كان القهر والخجل قد كساه طابعاً مرتعشاً باهتاً، وقد أدرك أنهما هو وهى من نبات شقاء واحد.. من نفس قافلة الأفواه الجائعة التى تسعى فوق الشوك لتلتقط لقمة العيش من على أطراف حراب مسمومة حاقدة.. لا.. ليس هو وهى فحسب وإنما هو وهى وخادم المطعم أيضاً، وماسح الأحذية وسائق العربة، وساقى الحانة الكل حبات تافهة ينتظمها نفس الخيط الأسود، والكل دمى صماء يلهو بها نفس الوحش المجنون: الجوع... وهو. ما الذى صنعه فى تلك الليلة؟ العزة القوة، السيارة لشد ما خدعته نفسه وأوهامه أنه لم يكن فى وسط هذا الهوس أكثر من فرد فى طابور خامس ملعون.. خائن أغراه السيد الكبير بحفنة من القروش ليعود إلى قبيلته.. إلى نفس عشيرته الوادعة المسالمة. وقد لبس جلد النمر الحاقد ومضى يفتك ويشرب الدم!

وعاد يتصور السبعة والعشرين جائعاً الذين انطلقوا الليلة فى المدينة مثلما انطلق وفى محافظهم نفس الجنيهات العشرة التى جاد بها عليهم السمين المكتنز.. والخراب الذى يمكن أن يكونوا قد أشاعوه بين أكواخ القبيلة الصابرة.. وباقى الطابور الملعون الآلاف من أمثاله وأمثالهم وهم يفتكون بأخوتهم.. بمثل هذه الفتاة وبمثل هذه الظهور الراكعة المستجدية التى التقى بها فى كل مكان فأحس بالضيق والأسى والإشفاق.. وود لو لم، ينل هذه الجنيهات أبداً، أو يلتقى بهذه الفتاة التى هبطت به فى أخر الليل من القمم إلى السفح لتريه الخراب الذى صنعه، والدم الذى سفكه.. وأحس بالحقد عليها، وعلى نفسه، وعلى الدنيا كلها. ووقفت المركبة لتهبط منها الفتاة ثم استأنفت سيرها من جديد.

ومن النافذة الضيقة راح يرقبها وهى تخطو فى الشارع المظلم الطويل وقد بدأ شئ من الهدوء والسكينة يتسلل إلى أعماقه.. فقد كان يعلم أنه فى أخر هذا الشارع سوف يضئ حتماً مصباح كبير ينثر الضوء والفرحة.. والعزة التى لن تشترى بالثمن التافه القليل».

*** *** ***

يتعلق مفتاح كتابة يوسف إدريس فى رأييّ بكيفية تناوله للإنسان، ويبدو فى ساحة عريضة من عالمه القصصى يائسا من المجتمع القديم، فارا منه إلى "يوتوبيات" تستعصى على التحقيق، لأنها تتطلب بشرا كاملين بلا سيئات، والفرد عنده ناقص، بإرادته أحيانا، ورغما عنه فى أكثر الأحيان. إنه ناقم، ساخط على عالمه، مختلف معه على الدوام، حالم يؤمن بإمكانية التغيير، لكنه لا يثور، ينتظر الأقدار والمصادفات كى تتولى الفعل نيابة عنه، وقد يعجز عن الانتظار، فيقبع مستسلما ببلادة عجيبة لعذاب ليس له نظير.

إنسان إدريس يتخلى عن رداء البطل ليرتدى ذاته، إنه لا يكافح من أجل الأشياء، من أجل أن يوجد نظاما بديلا لنظام، بل يكافح ليفر من فلك الطاعة وموت الشهداء إلى نفسه محاولا استنقاذها من فراغ الكون، غير أن محاولة الفرار تورطه أكثر فى النظام. ويعنى هذا أن إدريس حرص على تتبع تفرد الإنسان وخصوصية وجوده، لكن حرصه آل إلى غاية تذويب الفرد فى الجماعة، وهذه هى القيمة التى يكشف البحث فى أكثر إبداع يوسف إدريس عن بروزها بنحو دال على التباس فكره الواقعى ووعيه الاجتماعى بحس رومانتيكى متوهج.

نستطيع لإجراء هذا البحث أن نعتمد على قراءة رائعته (النداهة)، إذ فيها من العمق والكفاية الأدبية ما يبرر هذا الاعتماد، وهى أبلغ دليل على أن ما يخلد الكاتب ليس فكره، إنما قدرته على استحضار روح إنسان ورائحته، مع الموازنة بينها وبين قصة (النداهة) لسليمان فياض.

برغم ازدحام العالم القصصى عند يوسف إدريس بعشرات الشخصيات المتميزة إلى حد كونها نماذج أدبية وإنسانية متفردة، وبرغم عشرات المواقف والأحداث - نجد المعطيات الفكرية والدلالية فى هذا العالم محدودة، ويمكن حصر أهمها فى لحظة معرفية تتضمن استيقاظا مفاجئا للوعى، استيقاظا يستدعى تغييرا ما، قد يحدث فى الحال، وقد يحدث بعد سنوات، لكنه فى كل الحالات يحدث ليكون ما بعده مغايرا تماما لما قبله، والإنسان غير الإنسان، لذلك ينهض قانون هذه اللحظة دائما على المقابلة بين عناصر متباعدة، مختلفة أو متنافرة، ونتيجة التفاعل الصاخب بينها هى بروز التماثل الجوهرى الذى يضم الشتات المختلف.

يتمثل هذا المعطى فى قصة النداهة التى تبدأ بمفتتح - مثل كثير من مفتتحات قصص يوسف إدريس - شديد البساطة والقيادة للموضوع بلا إرباك للمتلقى، برغم الابتداء من ذروة الموقف القصصى.

القصة محكية بضمير الغائب، مما يفترض رؤية خارجية للشخصيات ومنظور موضوعى، لكن الداخل الباطن ليس محجوبا عنا، وواقعيته عميقة تتسع لما لا يحس.

لا يقود المنطق السببي رغبات "فتحية"، ولا يبعد الوصف الخارجى لمجال حركتها عن أعماق اللحظة المحورية التى ستغير اتجاه حياتها. وفى الوقت نفسه تبدو الجزئيات والتفاصيل وحدات ضرورية فى صورة كلية لحياة غير فردية، نموذج مقتطع من حياة جمعية تعارض قيمها الريفية قيم المجتمع الحضرى الذى ترغب فى مظاهره، وترفض فى الوقت نفسه جوهره المحرك لتلك المظاهر.

لا يدين إدريس شخصياته، وموقفه منها هو الدليل على رومانتيكيته، فالمادى يرى الناس أطهارا أو ملعونين، أما الرومانتيكى فلا يجعل قارئه يفقد تعاطفه مع الشخصيات بل يتسامح مع أخطائها مقدرا ما فى بشريتها من ضعف فطرى. إن الحياة التى وصفت ليست شقاء كلها، ففيها لحظات فرح وجمال، بل لذة حتى فى أحلك المواقف، وهذا ما يجعلها حياة "حية" إن جاز التعبير، لا حياة مصنوعة بخيال سقيم.

لم ترفض فتحية الحتمية الميتافيزيقية، وما كان ذلك بمقدورها لو أرادته، لكنها مارست إنسانيتها، وتمردت على قدرها الاجتماعى بالفرار مما ينتظرها على يد حامد - أو الجماعة فى القرية - إلى قدر آخر قد يكون أشد سوءا، إذ يوحى انخراطها فى الزحام، فى نهاية القصة، بأنها فضلت أن تكون واحدة من القطيع، لا أن تكون نفسها، وفى ذلك الاختيار تشويه لروحها، لأنه سيجعلها تستسلم لاتساع المسافة بين حالها وآمالها، ويفقدها الرغبة فى الخلاص.

النداهة كلمة سحرية تحيل بمجرد ذكرها إلى يوسف إدريس وعالمه القصصى المتفرد بعبقرية الدلالة، سواء فى الرؤية أوالتشكيل. ربما لذلك لم يجرؤ أديب على استعارة هذه الكلمة لاستخدامها مفردة عنوانا لنص إبداعى، لأنها من المسكوكات اللغوية البارعة التى انتقلت من المحكى الشفاهى، الغرائبى الشعبى، إلى المحكى الكتابى، وتنتمى أدبيا إلى إدريس، بالرغم من أنه ليس الناقل ولم يكتشفها ابتداء، إنما سبقه إليها سليمان فياض. فقد نشر إدريس قصة (النداهة) فى مجلة روز اليوسف فى
15 يناير 1968، ثم أعاد نشرها فى مجموعة النداهة فى سنة 1969، أى بعد عشر سنوات من نشر سليمان فياض قصة بعنوان النداهة فى مجلة البوليس.([2]
)

بدأ سليمان فياض كيوسف إدريس ينشر قصصه فى الخمسينيات، وليس الأخير بالذى يجهل المتميزين فى مجاله، إضافة إلى أن إدريس كان يعرف مجلة البوليس، إن لم يكن لأنها مجلة اجتماعية وثقافية متميزة فى ذلك الوقت، فلأنها كانت تتابع أخباره ونشاطه الثقافى. ومع ذلك لم يُشر إدريس إلى نداهة سليمان فياض، ولم يبرر استعارته للعنوان.

إذا تجاوزنا احتمال أن المجتمع الثقافى فى ذلك الوقت لم يكن يعترض على استعارات من هذا النوع، فيمكن اقتراح سبب فحواه أن إدريس قرأ قصة فياض، وتأثر بفكرتها المختزلة فى عنوانها، فألهمته فى التو قصته، ولأنه ليس السابق استطاع تنمية الفكرة وإخضاعها لرؤيته الفكرية والفنية، فجاءت قطعة أصلية تذكر بتقدير عظيم فى تاريخ يوسف إدريس وتاريخ القصة المصرية.

أيا كان الحال فالثابت أن لدينا قصتين متشابهتين فى كثير من العناصر، أولاهما لسليمان فياض والأخرى ليوسف إدريس، وقد يكون مجديا أكثر أن ننظر كيف تطورت فكرة سليمان بين يدى يوسف.

 

(257) مجلة القصة، 5 مايو 1950، ص 56-63.

(258) عدد 2 نوفمبر 1958.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.