د. عبير سلامـة

النداهة([1])

 

«إلى جوار مدار الساقية، كان "مكاوى" ممددا فى العين الكبيرة ب- "الطوالة". وإلى جواره فى العين الأخرى الصغيرة، كانت بهيمة الغيار تلوك بفكيها حفنات من التبن المخلوط بالفول. وعلى رأس "مكاوى" تماما سقطت دودة سنط صغيرة من أعلى الشجرة، وراحت تتضاغط بجسدها الأملس، على عنق "مكاوى" وخده. كان "مكاوى" راقدا فى سكون، ولكن رأسه كانت تغلى بسخونة مرتفعة. كان عقله صاحيا، وكانت حواسه أكثر صحوا. كان يريد أن يفيق، أن يجلس، أن يخنق الآلام الفظيعة فى رأسه بيديه. ولكنه لم يقدر مطلقا. لم يقدر أن يرفع يده، ليقتل هذه الدودة.

وفتح "مكاوى" عينيه بجهد، فتجهما للحظة خاطفة. كانت البهيمة ما تزال تواصل خطواتها الرتيبة فى المدار، ومعنى ذلك، أن أحواض الأرز تتدفق فيها مياه الساقية، وكان الظلام مشوبا بضوء رمادى، ضوء الفجر الكاذب. وأغمض "مكاوى" عينيه بسرعة، وراح يحاول جاهدا، أن يبعد الصور المخيفة من رأسه. ولكنها راحت تتوالى برغمه، بسرعة خارقة، واحدة بعد الأخرى.. كانت دواليب الساقية الصفيحية تمتليء بمياه سوداء، عطنة الرائحة، ثم تتدفق فى الإسمنتى الصغير، وتنحدر إلى قناة إسمنتية، تحت مدار الساقية، لتخرج من الناحية الأخرى، صاخبة، فتصطدم بجدار الإسمنت، ويردها الحاجز الطينى على القناة الكبيرة، فتجرى إلى أحواض الأرز مع مجرى القناة.. وكان أنين الساقية الرتيب يدوى، وينسكب كالدموع فوق المزارع كلها، فوق أحواض الأرز الفسيحة، وأشجار السنط، والتوت، والسدر والأعشاب الشيطانية على خفافى القنوات.. وبين الأسلاك الشائكة التى تحيط بالحدائق المتناثرة هنا وهناك، كانت تومض أوراق عش الغراب ومضات فوسفورية خاطفة، وكان يجرى نمس، وآخر من حقل إلى سواه.. وعلى البعد، قريبا من القرية، كانت المقابر راكدة مخيفة، تحول فيها الأجداد والآباء والأمهات، إلى أشباح مرعبة، تبعث الرعدة فى القلب.

ولم يع "مكاوى" شيئا بعد. غرق فى غيبوبة كالكابوس. فقط، رأى نفسه مكان البهيمة فى المدار، ورأى طاحونة صخرية مكان الساقية، ورأى نفسه يدور بالطاحونة الصخرية الضخمة. وكان ثمة كائن مجهول، عملاق، يحمل سوطا ذا ألف شعبة. ويقف فوق حجر الطاحونة، وراح العملاق يدور معها ويهوى بالسوط على جسده. وراح هو يرتعد تحت ضربات السوط، ويجرى ويجرى على مدار الطاحونة، دون توقف , ثم اخذ يناضل بكل قواه، ليفتح عينيه ن وأذنيه، ليهرب من الطاحونة. وأخذ العملاق ينكمش، ويتضاءل. وراحت الطاحونة تختفى. ووقف هو على المدار، وفتح عينيه.. كانت الدودة تسرى أمامه على حافة "الطوالة". مد يده آنئذ، وقذفها بعيدا بقسوة. وعندئذ رأى البهيمة واقفة على المدار، وليس حوله من صوت، أى صوت.

كان "مكاوى" يتصبب عرقا. وفكر أنه ينبغى للساقية ألا تكف عن الدوران، حتى الصباح. وتحامل "مكاوى" على نفسه، وغادر "الطوالة" على قدميه، وفك رباط البهيمة، وذهب إلى المدار. ينبغى للساقية أن تدور، حتى ولو كان ميتا. لابد أن تشرب الأرض، وأن يكبر الأرز ويكبر، ويصبح أصفر مثل الكردان الذهبى. وضرب "مكاوى" البهيمة بحبل من التيل، فراحت تدور بالساقية، وراحت الساقية ترسل انينها الرتيب. وآنئذ مرق نمس صغير مرتعبا. وهو يبحلق بدهشة فى أوراق عش الغراب البراقة. وعاد "مكاوى" بالبهيمة المجهدة، لتأكل، وتستريح. وراح يوثق قيودها فى الوتد الخشبى. وعندما كان منحنيا، تدفق الصداع إلى رأسه ثانية، وراح يرتعد. وعندما رفع رأسه منتصبا، انفتحت أذناه، وراح يسمع:

كان طنين جارف هدار، كموج البحر، يملأ أذنيه. وأخذ الطنين يتلاشى، ويختفى. وفى الوقت نفسه، انبعث صوت هاديء، راح يعلو رفيعا كالخيط، ثم راح يزداد حدة وصخبا. وعندما استوت نغماته، سمع "مكاوى" اسمه، سمعه يتردد فى فضاء الحقول، ويتدفق مع مياه الدواليب فى الساقية، ويخرج من كل مقبرة، ويسقط من حالق، من كل نجمة فى السماء. كان الصوت رفيعا أجوف، يردد: " يا مكاوى.. يا ميكااااوىى.. يا مكاوى.. "

كان جسد "مكاوى" ينتفض كله، تسرى فيه النار، والرعشة، والخوف. ورفع "مكاوى" يديه بسرعة، ليغلق أذنيه، لكيلا يسمع اسمه، واغلق عينيه أيضا , ولكنه راح يسمع اسمه يتردد فى داخله:

".. يا مكاوى.. يا ميكااااوىىى.. يا مكاوى..". وتراجع "مكاوى" إلى الوراء، خطوة، خطوة، خطوة. كانت ركبتاه متيبستين، ولكنه راح يتراجع للخلف. ويتراجع. وقال لنفسه: "يمكن هيه.. هيه تمام". وللفور، وقف، ومد عينيه بعيدا فى قلب الظلام. وفكر أن الصوت ياتى من هناك، من قلب المقابر، وأخذ يتراجع، ويتراجع، حتى أصبح على شاطيء الترعة، فى قلب الطريق العريض. وتوقف "مكاوى" فجأة، وراح يصرخ بأعلى صوته فى الفضاء:

- أنا عارفك.. أنا عارفك كويس.. مش انت النداهة.. أنا عارفك.. عارف انك بتنادينى علشان أموت.. انت موتى عمى قبل كده، وما قلناش حاجة.. بس سيبينى يا نداهة للصبح.. سيبينى لما ييجى ابن عمى.. الرز عطشان.. عاوز يشرب.. عشان النبى يا شيخة..

وصمت "مكاوى". وآنئذ ارتفع الصوت ثانية، وراح يتردد فى أذنيه كالصدى: ".. يا مكاوى.. يا ميكااااوىىى.. يا مكاوى.." وانتصب هو بكل استطالته فى الظلام، وهتف:

- يعنى مش عاوزه تبطلى.. طب تعالى لى هنا.. اطلعى من الترب وتعالى موتينى.. بلاش الرز يشرب.. تعالى هنا.. يا تموتينى يا موتك.. سامعه!

وعاد الصوت يتدفق ثانية فى أذنيه، دون مبالاة: ".. يا مكاوى.. يا مكااااوىىى.. يا مكاوى.." وغاص الخوف فى قلب "مكاوى" إلى أقصاه. سيموت حتما. لن ينجو أبدا. لم تناد المكلوبة أحدا ونجا من الموت. سيظل عدة أيام يسمع نداءها. عندما نادت عمه لم ينم، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم يتكلم كلمة. راح يجف كالحطبة حتى مات. ربما مات هو الآن. اكتسحه الخوف تماما، فراح يعدو مذعورا وعند المنعطف، قذف بنفسه فى طريق القرية كالريح، وراح يجرى، يجرى، دون توقف. وسقطت رجله فى حفرة، فانكفأ على وجهه، واصطدمت رأسه بالأرض الترابية. ولكنه وقف ثانية، وراح يعدو بكل قواه. كان الصوت ما يزال يطارده، ويدوى فى أذنيه مترددا، هذه المرة، مع وقع قدميه، قادما من ألف ناحية. كانت آلاف الأيدى، أيدى أولاد النداهة الصغار تصفق، وتردد مع النداهة: ".. يا مكاوى.. يا مكاوى.. يا مكاوى". كان يحاول أن يبتعد عن أيديهم فى جوانب الطريق، ولكنهم كانوا يلمسون ظهره، فى كل مرة، بأيديهم الباردة، ويصفقون، ويرددون اسمه. اصطدمت قدم "مكاوى" بحجر، فوقع ثانية. خيل إليه هذه المرة، أن النداهة تجذبه من ساقه. فجذب ساقيه إليه مرتعبا. ورفع رأسه لينهض. كانت المقابر أمام عينيه، على حافة الطريق، بجواره تماما. سقط على وجهه مذعورا. لم تكن لديه قوة ما ليقف. لم يستطع أن يحرك ساقيه، لم يستطع أن يبكى، ولا أن يصرخ مستنجدا. راح يزحف. أخذ يغرس يديه فى التراب. كان الصوت يدوى فى أذنيه ما يزال. كان الصوت قد أصبح هادئا، وهامسا جدا، هذه المرة. أليس "مكاوى" قريبا منها، هنا، بجوار المقابر. إنها هناك تنتظره ليذهب. كانت تقول له بخلاعة: "يا مكاوى.. مكاوى.." كان صوتها هامسا جدا، ولكنه لن يذهب أبدا، أبدا. وعبر قنطرة المصرف، ودخل أول شارع. لم يكن بمقدوره أن يتكلم. ومع ذلك. صرخ بكل استطاعته طالبا الغوث. ولكن أحدا لم يسمعه. فكر أن القرية كلها قد ماتت. قتلتها النداهة. ولم يبق سواه. أولاده الأربعة أيضا ماتوا. وتحركت ساقاه آنئذ، ونهض منتصبا، وصوت النداهة يطارده، ساخرا ضاحكا، مدويا فى الفراغ. وراح يعدو. فليمت هو. ولكن أولاده ينبغى أن يعيشوا ليزرعوا الأرز فى كل عام. ووقف أمام الباب. ومد "مكاوى" يده إلى أعلى لاهثا، إلى الحلقة الحديدية فى الباب الضخم. ودق الباب. بعنف، بحدة، ليوقظ أولاده الذين ماتوا، وراح ينادى بصوت داو:

- آسما.. آسما..

وسمع الباب يزيق. سمع باب القاعة عاليا فوق صوت النداهة. ورأى الضوء من بين ألواح الباب السميكة، ضوء اللمبة أم شعلة، باهتا، مرتعشا. وفتحت "آسما" الباب. وفتح "مكاوى" فمه، وسألها بلهفة عن الأولاد. وتطلعت هى إليه برعب، وتمالكت نفسها. كان صوته يدوى فى نفسه مختلطا بنداء النداهة. سألته هى قائلة:

- سيبت البهايم والرز يا مكاوى؟

لم يجبها هو. وصرخ فى وجهها عندئذ:

- الأولاد.. آسما.. الأولاد..

فزعت هى. لم تسمعه قط. سحبته من يده، وأغلقت الباب، بينما كانت تصرخ فى قلب البيت:

- يا حاج.. مكاوى.. مكاوى يا حاج!

وسار "مكاوى" معها إلى القاعة، متكئا إلى ذراعها. وعندما رأى أولاده نياما، ألقى بنفسه إلى جوارهم على الحصير. وصرخ الحاج من قلب الظلمة خارج القاعة:

- ماله يا آسما.. ماله مكاوى..

وراحت "آسما" تدثره بالغطاء، وكان الحاج يتحسس الظلام بيديه، مع أن الحاجة تقوده من يديه. ودخلا القاعة. وراح الحاج يتحسس نور القاعة بيديه. باحثا فى الفراغ عن "مكاوى". وأجلسته الحاجة بجوار ابنه. وتطلع "مكاوى" إليهم جميعا. هذه هى البداية. حاول أن يحدثهم عن البهائم، والأرز، والصوت الذى ما يزال يسمعه.إن أحدهم لن يسمعه مطلقا، لا يسمع صوت النداهة سوى الشخص الذى تناديه. قال الحاج: - مالك يا مكاوى؟.. عيان؟.. سيبت البهايم..؟.. الرز شرب؟ الميه حاتروح بكره.. حاتروح بكره يا مكاوى!!

هز "مكاوى" رأسه موافقا. لم يره الحاج مطلقا. قالت الحاجة:

- بيقول لك أيوه يا حاج.. هو عيان، وساب البهايم.. مش قادر يتكلم يا حاج.. الواد اللى ايدنا ورجلنا يا حاج..

بحلقت عينا الحاج آنئذ، كعينى مومياء، زجاجيتين، فى الفراغ. وهتف مرتعبا فى وجه "مكاوى":

- مكاوى.. انت سمعتها.. سمعت المكلوبة..

لم يجرؤ الحاج على أن ينطق باسمها قط. وتحدرت الدموع من عينى "مكاوى" فى صمت. وراح ينشج بلا صوت. كان جسده يغلى، ينشر حوله صهدا كصهد النيران. ومدت الحاجة يديها وأغلقت له أذنيه. هز هو رأسه دلالة على الرفض. ما الفائدة. لقد نادته وانتهى الأمر. إنه وهو بين يدى أمه ما يزال يسمعها تناديه، ساخرة، بصوت خليع: "يا مكاوى.. يا ميكااااوىىى.. يا مكاوى..". تركته الحاجة، ووقف الحاج وهو يبكى، وهتف:

- آسما.. روحى صحى ولاد أخويا.. يشربوا البهايم والرز..

وتحركت "آسما" خائفة. خافت أن تقابلها "النداهة" فى البيت، أو فى الشارع، وكانت تعلم أنها لا تغادر المقابر قط. وخافت أن تناديها بدورها. كان ينبغى عليها أن تذهب، حتى ولو نادتها المكلوبة، وخرجت "آسما" من القاعة فى صمت. وضرب الحاج كفا على كف، وقال مخاطبا نفسه:

- العوض على الله.. راح الواد فى شربة ميه.. الواد حاينشف زى الحطبة.. مش حايتكلم.. مش حاياكل.. مش حاينام.. العوض على الله..

ومسح الحاج دموعه، ونظر إلى السقف قائلا لله بصوت عال:

- طب موته موتة تانية.. خده دلوقت.. بلاش موتة المكلوبة ديت.. بلاش تعذبه بدون أكل ولا شرب

.. سامعنى.. ولا نوم.. سامعنى..

وهتفت فيه الحاجة قائلة:

- قدر ولطف يا حاج.. وحد الله يا حاج.. مين عارف اللى فى علمه..

وسكت الحاج لحظة، كمن أشرقت فى رأسه فكرة. كان الأولاد قد التفوا حول أبيهم فى صمت. لم يجرؤ أحدهم حتى على البكاء. كان دخان اللمبة أم شعلة يملأ الحجرة ز وقال الحاج للحاجة:

- حاجة؟.. روحى خبطى على باب الدكتور.. هاتيه.. يمكن.مين عارف.. يمكن عنده دوا للمكلوبة..

وعادت "آسما" آنئذ، وهى ترتجف وحدها. لم تجرؤ امرأة على أن تغادر دارها معها. وخارج الدار، وقف بعض الشبان يتهامسون فى جرأة، وأيديهم ترتعد. وقالت "آسما" للحاج:

- أولاد أخوك راحوا يا حاج، وخدوا معاهم العصيان والبنادق..، كانوا عاوزين ييجوا، قلت لهم مفيش لزوم للصبح، ويروحوا للبهايم والرز.. طلعوا يجروا ربع على هناك..

أغمض "مكاوى" عينيه. كل شيء بخير الآن. أما هو فلا فائدة منه. لا فائدة مطلقا. لن ينجو أبدا. وفتح "مكاوى" عينيه، ونظر لأولاده بحنان. استبقى لهم الأرض، والبهائم، وأولاد العم. لن يموت أحدهم جوعا.. وقال الحاج لاسما:

- آسما.. روحى مع الحاجة للدكتور.. مين عارف ياولاد..

وخرجت المرأتان. كان الطبيب قريبا من البيت. وعندما سمع طرقات الباب، كان الفجر يفتح صدره الرحب لشقشقة العصافير فى باحة الدار. وترك الطبيب سريره، دون كلمة، ووضع المعطف الرمادى على كتفيه. وذهب معهما دون أن يقول شيئا ما. وفى الطريق سألهما عن الخبر، فمالت عليه الحاجة هامسة فى ارتعاب، بينما كانت عشرات الأعين، ترقب الموكب الصغير، من وراء النوافذ المغلقة. قالت الحاجة:

- المكلوبة يا خويا.. نادت ابنى.. مكاوى..

ابتسم الطبيب. وقال لنفسه: "النداهة.. مرة تانية". ومع ذلك فقد ارتجف. كانت النسوة يتجمعن فى الضوء الرمادى، بملابسهن السوداء، أمام أبوب البيوت فى الحارة. ونظر الطبيب إلى وجه "مكاوى". كان محتقنا جدا. سأله الطبيب قائلا:

- دماغك بتوجعك؟.. وبتحس ببرد؟

- سامع حد بينادى عليك؟.. وبتلف فى طاحونة؟

ومضت آنئذ عينا "مكاوى" الضيقتان، خلف غلالة العرق المتفصد من جبينه. وهز "مكاوى" رأسه موافقا. وآنئذ مد الطبيب يده إلى حقيبته، وأخرج منها زجاجة صغيرة، ومن الزجاجة أخرج حبتين، وهزهما فى يده وقال بثقة:

- حبتين الكينين دول.. مش حيخلوك تسمعها أبدا.. ومش حتقدر تقرب منك..

وجاءت "آسما" بكوبة ماء. وتجرع "مكاوى" الحبتين، وومضت عيناه بالأمل. ولمعت عينا الحاج، عيناه الزجاجيتان، وتحركتا للحظة خاطفة. وقال للطبيب بدهشة وفرح:

- دا شرب يا دكتور.. يعنى حايعيش.. ندر على يا شيخ، يا دكتور.. لو ما قدرتش المكلوبة تقرب له، لابنى لك مقام.. واعمل سبيل فى طريقك.. عشر تزيار للناس تشرب..

وضحك الطبيب برفق. وجلس ليشرب فنجال الشاى من يد "آسما". وراح يرقب "مكاوى". كان مدثرا بغطاء صوفى من وبر الغنم، وكان العرق يتفصد من كل وجهه، ويصنع مع التراب أخاديد من الوحل، ويتحدر فيها إلى عنقه، وصدره. وقال الحاج للطبيب:

- راح يعيش يا دكتور؟ حاكم أخويا مات بسبب المكلوبة.. رجع من الغيط ماتكلمش.. وماكلش.. ولا شربش.. ولا نامش.. وفضل ينشف زى الحطبة كام يوم لحد ما مات..

كان "مكاوى" ينام آنئذ، يغفو بهدوء، وأنفاسه تنتظم. لم يكن يسمع شيئا قط، لا النداهة. ولا الجالسين فى الحجرة الطينية. وقال الطبيب للحاج:

- اطمئن يا سيدى.. أهو شرب.. وأهو دلوقت نام.. ولما يصحى جهز له فرخة شمورت ياكلها..

وقال الحاج فى حيرة:

- لكن. أخويا؟ ازاى كان زيه، وماكلش، ولا شربش، ولا...؟

وأجاب الطبيب قائلا بسأم:

- ماكانش فيه دوا أيامها ضد النداهة يا حاج..

وتذكر الحاج أن البلدة لم يكن بها طبيب وحاد فى ذلك الحين. ولكنه هز رأسه بشك. وقال للدكتور:

- كلام إيه ده يا دكتور.. هو فيه دوا يقف ضد المكلوبة ديت.. دى جنية كافرة.. مابيردهاش حد، ولا شيء فى الدنيا كلها.. دى ربنا سايبها على الخلق، ليوم القيامة يقصف رقبتها..

وهز الطبيب رأسه دون أى انفعال. نفس الكلمات كان يسمعها دائما فى آخر الليل. وقال للحاج بتأكيد:

- ما هى النداهة يا حاج، ما بتناديش الواحد، إلا لما يكون عيان!

وهز الحاج رأسه دون أن يفهم شيئا. ودخلت "آسما" بالشاى. وشرب الطبيب كوبه بسرعة، ثم وضع يده على جبهة "مكاوى". كانت حرارته قد هبطت. ووضع الطبيب معطفه الرمادى فوق بيجامته. وحمل حقيبته الصغيرة فى يمناه. وقال للحاج:

- حايصبح رايق إن شاء الله.. أما يصحى خليه يفوت عليه فى العيادة أو البيت، علشان أديله دوا..

وسارت معه "آسما" تودعه إلى الباب. كان ضوء الفجر قد انتشر. وتسلق الطبيب كومة من السباخ فى الحارة، وانحدر هابطا من فوقها. وعند الجدار الخرب، الذى يجلس تحته مبيض النحاس، شاهد الأطفال يلتفون حول أحدهم. كان هو بعينه ابن "مكاوى". وسمعه الطبيب يقول لمن حوله:

- انتو عارفين سيدى الحاج.. دا أصله مخاوى واحدة من الجن. انتو عارفين الساقية بتاعتنا. دا مرة جدى نزلها، طلعت له جنية، بيطق من عينيها النار، نادته، وخدته معاها تحت الأرض. وعاش معاها هناك.

ووقف عندئذ قريبا من الأطفال فى الضوء المتكثف. وسمع أحدهم يقول لابن "مكاوى":

- طيب، كان بيتنفس ازاى تحت الأرض..

كان هو نفس السؤال الذى دار بخاطر الطبيب. وقال ابن "مكاوى" ديت تقدر تعمل قطة، وتقدر تعمل حمار، وتقدر.. دا جدى خلف منها أربعة، عايشين هناك تحت الأرض.. وفين وفين على ما رضيت الجنية تسيب سيدى الحاج يرجع لنا، بعد ما خدت عليه شرط..

وسأله الأطفال دفعة واحدة:

- إيه هو الشرط؟

رفع ابن "مكاوى" رأسه فى تعال، وقال بثقة:

- إنه مايقلش لحد عنها، ولا يجيب سيرتها.. وكمان هو ما خلفش حد بعدها.. دى خدت أم أولاده..

وضحك الطبيب، ضحك من أعماقه، دون صوت، ودلى رأسه بين كتفيه، وراح يهز الحقيبة فى يمناه وهو يمر بجانب الأطفال، وواصل سيره فى ارض النداهة. أرض خرافية. وبين حين وآخر، كان الطبيب يذب بكفه بعوضة صغيرة كانت تحط باستمرار، على أذنه اليسرى!».

العالم الرئيسى فى القصتين هو عالم القرية، وفى حين جاء سليمان فياض بالمدينة ممثلة فى الطبيب إلى القرية، أخذ إدريس شخصياته إليها، ولأنهم غير مؤهلين لاحتمال تناقضاتها وقسوتها - عادوا منها فى النهاية مهزومين.

عنصر الهاتف الغامض أو الصوت الآمر أبرز ما يميز القصتين، وهو تجسيد لفكرة الجبر أو القهر القدرى الذى تقع الشخصيات البائسة هدفا له. وتتضمن النهاية فى القصتين خلاصا من الهاتف، وتطورا فى الوعى بفضل المعرفة الجديدة، ويأتى الخلاص دائما على يد ابن المدينة.

الشخصية الرئيسية فى القصتين أضعف من عالمها، يعاندها القدر ويسير حركتها دون أن يمنحها شيئا من سُبل مواجهته والتماسك أمام قسوة اختياراته. والصراع لا وجود له، لعدم التكافؤ بين الطرفين.

يتضح عنصر التقابل: بين الجهل والمعرفة فى نداهة سليمان، وبين البراءة والشر فى نداهة يوسف. ويوجد فى القصتين عنصر التهرب من مواجهة الأزمة الحقيقية أو المشكلة، من قبل الطبيب فى نداهة سليمان، وحامد فى نداهة يوسف.

الموقف الفكرى فى القصتين هو مواجهة مجتمع يندفع للمدنية راغبا فيها، ويتشبث فى الوقت نفسه بروابطه التى تربطه بمجتمع زراعى متخلف فكرا ومادة، ويعنى التفكير الخرافى فى القصتين عجز الإنسان عن التحكم فى مصيره وفى الظروف المحيطة به، وكان الحل الذى طرحه فياض يقترح وجوب مساعدة المجتمع فى عملية التغيير بإلقاء المسؤولية عليه، أما إدريس فالحل عنده يعتمد على المصادفة، ويعول كثيرا على تغير الوعى فى لحظة مفاجئة قد لا تحدث أبدا، وهذا ما لا يتفق مع أيديولوجيته، ومع توجهات العصر الذى صنعه.

الإلحاح على فحص ارتباط الكتابة بالعصر والواقع إلحاح فاسد، فقوة الكتابة ليست فى استجابتها لمقاييس عصرها فحسب، بل فى استجابتها لمقاييس مستقبلية تجعلها صالحة لإثارة خيال من يتلقونها فى أى عصر، ونحن إذ نطلب من الكاتب أن يعبر عن كذا ويصور كذا من القضايا والأفكار، فإننا فى الحقيقة نطلب منه تكرار ما هو موجود، نطلب منه المألوف الذى لا يكلفنا مجهودا ذهنيا لفهمه، ونفسيا للتوافق معه، وخياليا لإدراكه، فى حين أن وظيفة الكتابة الأهم، من وجهة نظرى، أن تجعل المتلقى يستعين برؤيته الخاصة للحقيقة كما تتجلى فى التجربة المتخيلة، لإدراك الوجوه المتعددة للحقيقة فى الواقع واختيار أحد هذه الوجوه مع ثقته بكونها ليست نهائية.

وتبرز عبقرية الكاتب حين يجعل المتلقى يستغرق بكليته فى عالم آخر، متحررا من قيود العقل والزمان وضرورات عالمه، ثم يقيم تجربته بالنسبة للتجربة المتخيلة، ولن يستطيع ذلك إلا إذا قام هو نفسه - الكاتب - بتقييم الحياة فى فنه بالنسبة إلى قيم كبرى خالدة فى كل عصر.

لا يمكن القول إن إدريس فى قصة النداهة كان معنيا بإقناع المتلقى بأمر ما، أو تعليمه سلوكا اجتماعيا خاصا، فجل عنايته كان موجها - كما يُنتظر من أى فنان حقيقى - إلى إخصاب الخيال، والوصول بقارئه إلى حالة الاتصال بالشخصيات لمعايشة عذابها، ثم الانفصال عنها لمعاينة عذابه الشخصى.

وآية ذلك أن الحس القدرى فى القصة يناقض الرؤية الاجتماعية التى سادت فى وقت كتابتها، والتى آمن بها إدريس نفسه، فكيف يتفق هذا الاستسلام أو الاستلاب المروع من الشخصية مع الرؤية التى تنادى بامتلاك الإنسان / الشعب لعوامل قيادة مصيره، وقدرته التى لا تحدها حدود على التغيير الخلاق لأسباب سقوطه؟!

لكن المغزى وراء هذا التناقض يكمن فى إيمان إدريس بضرورة التغيير، وفى الإشارة بضياع "فتحية" - بعد تحقق الهاجس الذى راودها طويلا - إلى أن السقوط من حتميات هذا التغيير المنشود للوصول إليه بإرادة واعية. وقد ندرك ما أراده يوسف إدريس إذا تأملنا دلالة تاريخ نشرها فى 15 يناير 1968، أى بعد ستة أشهر فقط من هزيمة يونيو 1967.

إن مغادرة شكل الحياة التقليدية السهلة فى المجتمع القديم (القرية) إلى شكل آخر معقد وزاخر بإمكانات الرخاء المادى والارتقاء الاجتماعى فى المجتمع الجديد (المدينة) يستلزم نوعا من التضحية والتنازل لقبول القواعد المنظمة لهذا الشكل الجديد، يستلزم قبول السقوط مؤقتا حتى يتمالك المجتمع نفسه، ويواصل الصعود لطموحه المشروع.

ليس الوعى الاجتماعى معيارا للفن، ويستطيع الكاتب أن يعبر عن آرائه الاجتماعية والسياسية إذا كان موضوعها هو ما حرك انفعالاته الفنية عند الكتابة، لكن روح الفن تأبى عليه أن يكون داعية، يصنع للمجتمع منهجا تعليميا يقوده للصلاح من وجهة نظره، فدوره هو فتح شرفات متعددة على عوالم مختلفة، أو إمكانات أخرى للحياة وتمكين الناس من رؤيتها باصطحاب أرواحهم إليها فى رحلة سحرية، سيزول السحر قطعا بانتهاء زمن القراءة أو بعده بقليل، لكن الروح التى راحت ليست هى التى تعود، فلو أعانهم الكاتب على أن يجدوا أنفسهم سيصبح بإمكانهم أن يجدوا المجتمع الذى يريدون العيش فيه، وهذا هو المغزى العبقرى فى نداهة إدريس، والمحرك الرائد لجميع العلامات البارزة فى رحلة إبداعه القصصى.

يقول يوسف إدريس على لسان السارد فى قصة (عند تقاطع الطريق) أو (صاحب مصر)– كما فى العنوان المعدل-: "كل نفس كالمحارة مهما انغلقت فهى لا تكف عن إحالة التجربة بالإضافة والإعادة والتعديل الى لؤلؤة، الى ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المركزة والمكثفة والمصنوعة داخل تلافيف الحياة"([1])

نستطيع بوضع كلمة (الكتابة) محل كلمة (نفس) أن نقول إن الكتابة كانت بالنسبة الى إدريس كالمحارة النداهة، لا تنغلق أبدا، لا يتوقف نداؤها، ولا تكف عن إحالة التجربة، بالإضافة والإعادة والتعديل، الى لؤلؤة أو ماسة ثمينة من ماسات الخبرة الإنسانية المكثفة فى الإبداع.

نداهة يوسف إدريس إذن هى الكتابة، وقصة النداهة – إن لم نتعسف فى التأويل – هى قصة الوجود الخاص للمبدع ذاته، فى انتظاره المضنى لفتوحات "الجميلة" القصة العفوية الأصيلة، "المصرية" التى يراود بكارة روحها، فتستعصم بتقاليدها، أو حصانتها بعصمة غيره من المبدعين، فإذا باغتها مغتصبا نفرت منه إلى الأبد، حتى لو توهم للحظات امتلاكه جسدها، أو خدع نفسه بأنها – للحظة خاطفة – فتحت له بوابات سحرها.

 

 

 

(257) سليمان فياض، مجلة البوليس، الأحد 2 نوفمبر 1958، ثم نشرت فى مجموعة عطشان يا صبايا، مختارات فصول (52)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986.

(257) مجموعة لغة الآى آى، دار مصر للطباعة، القاهرة، د.ت ص 141.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.