«يوم ظهور النتيجة ليس مجرد يوم آخر فى حياة الكلية، فالكلية
لا يشملها فى العادة هدوء كهذا الهدوء، هدوء مريب جاثم على صدر الفناء،
هدوء تقطعه ضجات قليلة صغيرة تتصاعد هنا وهناك. وأحيانا تنبثق نافورات ضحك عصبى مكبوت لا يخلو من رعب، ومحمد
واقف، يزيح الشمس عن عينيه وهى تسطع بقوة ويتأمل الطلبة بقمصانهم
وبنطلوناتهم ويتحرك من جماعة لجماعة، ولكل جماعة أخبار عن النتيجة وتخمينات.. وكلها ترج القلب، يتحرك وهو يحس لكل شيء فى ذلك اليوم بالذات طعما
مغايرا، مبانى الكلية تبدو صارمة مدهشة، والجدران قد استطالت وراحت ترقب
الطلبة فى توجس وشك، والشجرات القليلة أوراقها مدلاة فى صمت خاشع كأنما
قد مسها هول اليوم.. وبوفيه الكلية
يبدو كالبيت الكبير المهمل المهجور، وجرسونه واقف ويده فى جيب الفوطة وكأنما
هو الآخر ينتظر نتيجة امتحان.
كل شيء يشمله الحذر والترقب والأدب، وكل طالب رغم الجماعة التى يحدثها
وتحادثه يحس أنه وحيد ضال فى صحراء خاصة به. إذا تكلم واحد لا يسمعه الآخرون ولا يسمع نفسه، ومحمد مثل الآخرين
وحيد، ومثلهم استيقظ من الصباح الباكر، ودللته أمه كثيرا وهى تربت على
كتفه وتمسح الغبار العالق بنطلونه، وتتوصى به وهى تعد له الإفطار. وقال له أبوه فى لهجة فيها كل مرح الأبوة. إن شاء الله ناجح يا أستاذ محمد. وأخته الصغيرة المريضة بالأنفلونزا هبت من الفراش كالمذعورة وجرت
إليه قبل أن يخرج ولفت أيديها حول عنقه وقالت له: إذا نجحت ح تجيبلى ايه؟ وهو ينصت لهم مثلما ينصت الآن لزملائه،
وكأن عقله قد انفصل عنه وراح يعمل لحسابه الخاص.
ومع اقتراب الظهر ارتفعت أهمية موظفى الكلية، وبدأوا يكسون وجوههم
بأقنعة ديبلوماسية وابتسامات مدروسة بعناية حتى لا تدل على شيء، والذى
يعرف موظفا انتحى به ركنا، ويهز الموظف رأسه، ويهز الطالب رأسه، ويترقب
الجميع نتيجة المحاولة التى يدركون مقدما أن لا فائدة منها، ويزداد توتر
الأعصاب وتنشأ تجمعات فجائية ليس لها داع، وتنصت الآذان إلى أدق
الهمهمات، وينفجر طالب بقهقهة لا معنى لها، ويتماسك اثنان ثم يسرعان
بتبادل كلمات الاعتذار، وطالبة من شدة الاضطراب تردد فى سرها: يا أمه القمر ع الباب. ثم
فجأة تظهر الكتلة البنية الضخمة ذات الطربوش الأحمر الفاقع، فجأة يفيق
الطلبة فيجدون حسن أفندى المكلف بالنتيجة بينهم يريد أن يصل إلى الحائط
ليعلقها، وفى الحال تحيطه كومة بشرية هائلة تبتلعه وتشل حركته مئات
الحناجر التى تهتف باسمه ومئات الأيدى التى تلوح وترعد طالبة منه أن
يقرأها ليعرفها الجميع فى وقت واحد، ثم لا يلبث حسن أفندى نفسه أن يرتفع
من وسط الكومة وكأنما يرفعه زمبرك خفى، وتطل ابتسامته واسعة عجوزة بنية
فيها حنان أب سمين ويقول: "كلكم
بإذن الله ناجحين" ويمسح الرجل
عرقه، ويمسح طربوشه، وببطء كثير يخرج نظارته، وبصوت واهن يقرأ الأسماء
الأولى، ويرتفع ضجيج صغير، فيبرز له ضجيج أكبر ويسكته، ويحل السكون التام. سكون لا تسمعه الآذان، فألف قلب قد تحولت إلى ألف طبلة، وألف طبلة
تقول ناجح ناجح لابد لابد، وألف تقول ساقط ساقط لابد لابد، وألف ريق جف،
وألف لسان تخشب على كلمة يارب يارب يارب، وكل شيء فى الأجساد قد تحول إلى
آذان، الأعين تسمع، وحبات العرق تسمع، والركب المصطكة تسمع، وحسن أفندى
العجوز يلهث ويقرأ، وتخرج الأسماء من حنجرته ملفوفة بلكنة صعيدية غريبة
وكأنها أسماء طلبة آخرين فى بلاد أخرى. ومحمد لم يعد محمد، تحول كله إلى حواس مطروقة مدببة، تلتقط
الأسماء من فم حسن أفندى حتى قبل أن تصبح الأسماء كلمات، وتلتقطها
وتسقطها فى عقله التائه، ويدور بها العقل كما تدور الدوامة، ثم يطفو
الاسم فى النهاية على سطح وعيه ليدرك محمد أنه جار كان فى المدرج ونجح،
أو أنه صديق هوى فى علم، أو لابد أنه زميل من الذين يركبون معه الترام.
وعلى حين بغتة يدق قلبه دقة واحدة ضخمة، ثم يتوقف عن الدق وكأنها آخر
دقة، فها هو الرجل قد وصل إلى حرف الميم. ويكف عن التنفس فى الحال، ويحبس الهواء فى صدره، ويخيل إليه أنه
ظل عاما لا يتنفس. ثم يعود يلهث،
فعم حسن كان قد انتقل من أسماء محمد إلى أسماء محمود، دون أن ينطق اسمه. سقطت؟! مش معقول؟! هكذا راح يتمتم بالكلمات، بوعى وبلا وعى، وبدم مندفع إلى الرأس فى
تيار أهوج يلهب عنقه ويظلم عينيه، ويضغط مخه وينفخه حتى ليكاد يتمزق.
وفى ذهول وضع يده فى جيبه ثم أخرج المنديل، وأعاده إلى الجيب مرة أخرى
دون أن يمسح قطرة واحدة من العرق الكثير الصغير المحبب الذى كساه حتى أحس
بنقاطه تسيل فى أخدود ظهره. وبذهول
أكثر راح يتلفت ويحدق فى حسن أفندى ليسمع، فلا يسمع ولا يفهم.
وأعجب شيء أنه لم يثر ولم يفاجأ بل أحس وكأن جزءا صغيرا من عقله قد
انفصل ووقف على حرف رأسه وراح يبتسم ويسخر وينخزه بمنقار طويل غريب ويقول: هه.. مش قلتلك، هه مش قلتلك
ح تسقط.. مش قلتلك.
وأبدا لم يكن فى حلم من الأحلام الكثيرة التى سمع فيها النتيجة بأذنيه
ورأى حسن أفندى وهو يقرأها رأى العين. وحين عاد إلى نفسه. كان لا
يزال فى الكلية لم يغادرها، وكانت رؤوس الطلبة الكثيرين المتزاحمين قد خف
سوادها، وتخلخلت، وتفرقت شللا، وتفرقت مصائر، وأصبح هناك حديث تتقاذفه
الشلل، عملت إيه يا فلان، فيخجل الناجح وفقط يقول: الحمد لله. وعملت إيه يا
فلان، ويفتعل الساقط ابتسامة بطل ويقول: طبينا. والناجح أكثر اضطرابا
من الساقط، والساقط غير مصدق، والناجح غير مصدق. والتوتر الذى ساد الأعصاب منذ الصباح قد تحول إلى رجفة. سجائر ترتجف من بعض الشفاه، وشفاه ترتجف بلا سجائر، ونظارات سوداء
قد وضعت فوق عيون محمرة، وعيون قد نزعت عنها نظاراتها البيضاء فبدت كبيرة
منتفخة واسعة كلها بكاء وليس فيها دمعة واحدة.. وبعد ساعة كان محمد يغادر الكلية وكان فى عجب من حالة المبالاة
التامة التى استولت عليه. قبل ظهور
النتيجة بأيام كان يخيل إليه أنه لو سقط، لا قدر الله، لهد الكلية، وشنق
نفسه، وأشعل النار فى القاهرة مثلا.
فلماذا لم يعد يبالى الآن؟ لماذا هو بارد كلوح الثلج،، كالفيل البليد
المستسلم لمروضه ولمصيره بلا أى احتجاج ولسان حاله يقول: خلاص، سقطت سقطت، واللى يحصل يحصل. ومع هذا لم يفته أن يلحظ ما يدور حوله، ولم تفته أبدا مشاهد
الناجحين.. يلتقى الناجح بالناجح
فيندفع الاثنان فى عناق صاخب مبالغ فيه، وتنطلق منهما ضحكات هستيرية تصل
إلى عنان السماء، ويتضاربان ويتقافزان فى الهواء، وكلمة (نجحنا) تندفع من فيهما لها ألف شكل ولون وطريقة تطن كالصواريخ الملونة
التى تطلق فى الكرنفال.
وكلما رأى محمد هذا تمنى لو كان فى استطاعته أن يصغر ويصغر حتى يختفى
من الوجود. وباحتراس كثير مضى يسرع
ليغادر منطقة الكلية حتى لا يلتقى بأحد، وحتى لا يسأله واحد عما فعله،
كان يريد أن يدعه العالم لنفسه، ليحاسبها الحساب العسير ولا يستطيع أن
يلم نفسه ويحاسبها، فقد تشتت إلى نفوس: أحيانا كنت تلعب، ولكن هناك كثيرين لعبوا ونجحوا، أحيانا كنت
تهمل، ولكن لم يسقط كل من أهمل، لابد أنك غبى، ولكنك كنت دائما تنجح،
يمكن سوء الحظ، ولكن سوء الحظ هو حجة البليد، يمكن الأستاذ كان قاسى،
ولماذا يقسو عليه الأستاذ وحده، أنت تستأهل السقوط، أبدا أنت أحق واحد
بالنجاح، فكيف ينجح حافظ وتسقط أنت، وكيف تتساوى مع عبد الفتاح الأسمر.
وبصعوبة شديدة أسكت هواجسه وأصر على إسكاتها حتى أحس بالسكون التام
يستتب داخل نفسه، سكون كالذى يستتب فى بيت الميت بعد أن ينتهى المأتم. ولا يدرى بالضبط هل ركب الترام أم الأتوبيس أم سار على قدميه، كل
ما يدريه أن إحساسا جديدا قد بدأ يطرق نفسه، الخجل، خجل لا يدرى مصدره
ولا الداعى إليه فالناس السائرون فى الشارع لا يعرفون، ولكنه هو يعرف.. ويخجل، وكأنما الإنسان جزءان، جزء يحيا وجزء آخر يتفرج على الأول
ويراقبه ويفرح له إذا فاز ويخجل منه إذا فشل. والخجل الذى اعتراه كان عميقا عنيدا إلى الدرجة التى أصبح فيها
يخجل من كل الناس. من سائق الأتوبيس
الذى يأخذ (الملف) بحنكة، من بائع الجرائد الذى ينطلق صوته عاليا مليئا بالانتصار،
حتى من الطفل السائر بجوار أمه يجرى ويضحك، ضحكة صافية لم يسقط صاحبها فى
امتحان، ولم يفشل. كل شيء فى الدنيا
يتحرك، وكل شيء ناجح. الترام ناجح،
والطيار الذى تدوى طائرته فى السماء ناجح، والناس الجالسون على المقاهى
يضحكون ويشربون السجائر فى نهم ويخرجون دخانها فى تلذذ، كل هؤلاء ناجحون
وهو وحده الفاشل، هو وحده الساقط.
ويحاول أن يقول لنفسه إن كثيرين غيره سقطوا، ولكن نفسه لا تهضم قوله أبدا
ولا تحسه، وكأن الإنسان إذا نجح أحس أنه مجرد ناجح من ناجحين، ولكنه إذا
فشل أحس أنه الساقط وحده.
ولا يدرى محمد إلى أين قادته قدماه، كل ما يدريه أنه يريد أن يختفى،
يريد أن يذهب بعيدا بعيدا إلى أبعد ما يستطيع، يركب القطار مثلا ويظل
راكبا إلى أن تنتهى نقوده ثم يواصل الاختفاء سيرا على الأقدام، أو يلقى
بنفسه فى النيل لا لينتحر، ولكن فقط ليختفى عن أعين الناس وحتى النيل حين
وقف على شاطئه بدا وكأنه يسخر منه، فقد كان كبيرا واسعا تتدفق مياهه فى
قوة وثقة والمراكب يحملها فوق صدره بلا أى عناء، والكبارى تعبره دون أن
تجرؤ على ملامسته لأنها تخشاه، حتى النيل كان هو الآخر ناجحا مجرد
التحديق فى مياهه يملؤه بالخجل.
وأيضا لا يدرى كيف أخذ التذكرة ودخل السينما، كل ما أحس أنه يستعذب
الظلام، الظلام الحنون الرقيق الذى لا يجعله يرى ما حوله ولا يرى نفسه،
ولا يخجل، وليس مهما حتى أن يرى الفيلم، فالفيلم مهما طال لابد له نهاية
ماذا يصنع بعدها، قد يظل تائها من شارع إلى شارع، وقد يصادفه صديق، وقد
يجلس على قهوة وقد يفكر فى الانتحار وقد يؤنب نفسه ويسخر من فكرته قد
يفعل هذا كله ولكنه لابد سيعود فى النهاية إلى بيتهم. يعود ليواجه أباه جالسا كعادته يدخن وذراعاه تهتزان من الضغط وهو
ينقب فى جريدة المساء وينظر إلى الساعة قلقا عليه وعلى تأخيره وعلى
النتيجة، يعود ليواجه أمه جالسة تدعو له، أمه التى كانت فخورة وهى تدلله
فى الصباح وكلها ثقة فى ابنها النابغة، وأخوته الصغار الذين يرون فيه
بطلا يمكن هزيمته ومثلا أعلى يحتذى ماذا تراهم يقولون وماذا هو قائل لهم
والعائلة كلها ترقب الباب الآن وتستعجل اللحظة التى يعود فيها، اللحظة
التى تتطلع إليه فيها عيون حبيبته عزيزة ملؤها اللهفة والأمل، اللحظة
التى تنسى أباه كل ما لاقاه ويلاقيه من هزائم وتقطع أمه فيها حزنها الذى
لا ينقطع وتكاد تزغرد، لحظة النجاح للأسرة المدشدشة بالغم والهزائم. هل يكذب هل يقول إنه نجح. هل
يلعنهم جميعا ويهرب. هل يبكى،
ينكفيء على صدر أمه ويظل يبكى ويبكى كالولايا حتى يموت. كيف تواتيه الشجاعة لاطفاء أمل الأسرة الغلبانة فيه، أملهم الذى
يضيء وجوههم منذ أن غادرهم فى الصباح. هل يطفئه بزفرة بليدة خافتة يقول فيها: أنا سقطت. لماذا سقطت؟! لقد ذاكرت وتعبت وسهرت الليل وكل خلية من جسدى اعتصرت نفسها معى
وهى تجيب وتمتحن فلماذا سقطت لماذا؟ لماذا لا أنجح. لماذا لا تحدث معجزة وأنجح.
يكتشف الأستاذ مثلا أنه سها وأعطانى نمر غيره، ويكتشف السهو وأنجح أو
يعرف رئيس الجمهورية مثلا بكارثتى فيصدر مرسوما بتعديل النتيجة وإنجاحى،
أو تقابلنى ابنة العميد وتحبنى ويعقد أبوها مجلس الكلية للنظر فى أمرى. لماذا لا يحدث شيء خارق للعادة ينجحنى وأقضى الصيف أجرى وأضحك
وأحب وأعوم ومن أول يوم من العام القادم أقف مع شلة الناجحين المنقولين
نتحدث وكأننا كبرنا أعواما عن علوم السنة القادمة ونتبادل الإشاعات عن
طبائع أساتذتنا وأخلاقهم.
ولكن الفيلم ينتهى والصالة تخرج ويخرج هو أيضا دون أن تحدث المعجزة
ودون أن ينجح يخرج يديه من جيوب بنطلونه ورأسه مائل على صدره ولولا الناس
الذين يتبعونه ما تحرك يخرج فإذا اليوم يوم النتيجة لا يزال موجودا لم
ينته ولا يريد أن ينتهى ويبدو أنه لن ينتهى أبدا.
وفى البيت حدث كل شيء كما توقعه تماما. وكما يتوقع وجد نفسه يقول لهم النتيجة فى قحة وجرأة وبلا مبالاة
وكأنه يقولها لأغراب وكأنه يقولها ليغيظهم أو لينتقم منهم أو ليسلطهم على
نفسه وأسخف ما حدث أن أحدا لم يهنه لم يشتمه أبوه ولا دقت أمه على صدرها
ولعنته وأسخف من هذا أنهم تقبلوا الأمر فى برود ودون أن ينقلب البيت إلى
مأتم.
لماذا لم يرنه أبوه قلما لماذا لم يطردوه خارج البيت، لماذا لم يجرؤ
أحد على إهانته حتى يجد مبررا على الأقل للإشفاق على نفسه، وحتى يستطيع
أن يقول: أنا مظلوم. ولماذا لم يدعه أبوه فى حاله وما فائدة أن يقول:
- معلهشى يابنى، عملت اللى عليك ولا يهمك إن شاء الله السنة
الجاية تنجح قوم، قوم خدلك دش وروق دمك.
دش! أبدا. إنهم لا يعرفون ما بنفسه، ولا يستطيعون أبدا أن يدركوا معنى أن
ينجح الطالب ولا معنى أن يسقط. وهو
لا يريد المواساة ولا يريد الشفقة ولكنه يريد أن ينتهى اليوم، اليوم الذى
لا يريد أن ينتهى. وكل العائلة سلمت
بسقوطه إلا أخته الصغيرة قالت له:
جبت لى إيه عشان نجحت.
ولم يرد عليها، وحين أعادت السؤال قال لها: أنا سقطت.
وحاولت أن تطوقه بذراعيها القصيرتين وهى تقول أبدا. أنت نجحت بس بتضحك على. وحين
قال لها بفروغ بال: وحياتك يا
حبيبتى سقطت. ازدرت عنه وكادت تبكى
وهى تقول: يبقى سقطت عشان ما
تجيبليش حاجة. ونامت غاضبة ولم تصفح
عنه.
وظل يتأملها طويلا ثم غادر الغرفة وخلع ملابسه وأوى إلى فراشه. وحين أراح جسده المنهك فوق الفراش أحس بكل شيء وكأنما يحس به لأول
مرة أحس بالحقيقة كئيبة وواضحة ومجردة، الامتحان انتهى فالنتيجة التى
ترقبها طويلا ظهرت وسقط.. كل شيء قد
انتهى. ولم ينم.
ظل جنب أيمن يسلمه إلى جنب أيسر وصدغ يتعب وصدغ يستريح وعشرات الآلاف
من أحداث العام الذى مضى تتجسد له ويعيشها ويحادث أشخاصها وثمة غصة، غصة
حقيقية يحسها مطبقة على زوره لا تريد أن تغادره. ووجد نفسه يترك الفراش أخيرا فى شبه ثورة وعلى أطراف أصابعه دخل
الحجرة التى ترقد فيها أخته وبيد مرتعشة بالاتصال أمسك يدها، كانت
الحرارة قد غادرتها والحمى انتهت وكل ما أحست قطرات عرق صغيرة تغمر جسدها
كله.
وبصدر مفتوح غادر الحجرة إلى الشرفة. الشرفة التى طالما تفنن وهو يضع فيها طرابيزة المذاكرة ويفرض
السكون المطبق على أمه وأخوته والتى كان يغازل منها أحيانا البت سميحة.
كانت شعشعة الفجر تملأ الأفق وكان يوم النتيجة قد انتهى، والليلة كذلك
قد تضاءلت وانكمشت وتحولت إلى قطرات ندى هى آخر آثار ذلك اليوم.
وبدا كل شيء لناظريه طازجا ومريحا وحين هبت عليه ضجة الصباح الباكر
الهادرة التى تتصاعد من جوف المدينة لحظتها فقط أحس بشيء قليل من الراحة
أجل. كل شيء قد انتهى ولكن هاهو يوم
آخر يجيء وهاهم الناس يستيقظون من جديد ويبدأون من جديد ويحاولون من جديد
وحتما لن يسقط أبدا بعد هذه المرة».
(229) جريدة الجمهورية، 30 أغسطس
1957.
|