نشرت قصة (المثلث
الرمادي) للمرة الأولى فى مجلة روز
اليوسف عدد 3 نوفمبر 1958، ثم غير يوسف إدريس عنوانها
إلى (الرأس) وأخضع نصها لتعديلات كثيرة، لينشرها فى مجموعة (حادثة شرف) الصادرة فى بيروت 1958، ثم
أعاد نشرها فى مجموعة (العسكرى
الأسود) التى صدرت فى القاهرة 1962([1])،
وأهم تعديل فى القصة هو ما لحق نهايتها، إذ ينتهى نص (المثلث الرمادي) بما يلى:
"وتملكنى العجب وأخذت أراقب القافلة من مكانى لعل شيئاً
يحدث ولكن لم يحدث شئ. كل ما حدث أن
خاطراً واتانى وجعلنى أخوض فى ماء المصرف وأنقذ بقية الرغيف من الغرق ومن
أفواه الأسماك، وما لبثت أن لحقت بالقافلة ورحت أكرر المحاولة مع السمكة
الجديدة التى أصبحت فى المقدمة..
وبعد محاولات ومحاولات حدث نفس ما حدث للأولى، فتخلت السمكة عن مكانها
ودارت حول لقمة الخبز تقضم منها هى ومن اتبعها من أسماك الصفوف الأخيرة،
واضطربت القافلة مرة أخرى، ولكن سمكة جديدة لم تلبث أن اندفعت وأصبحت فى
المقدمة ولم تلبث بقية الصفوف أن تبعتها وظلت تتبعها والقافلة قد عادت
إلى سيرها وراحت تمضى بحماس إلى غايتها التى لا يعرفها أحد بنفس سرعتها
المنتظمة التى لا تزيد ولا تنقص.
ولم ألبث أنا الآخر أن نقضت يدى من المحاولات وعدت أهيم فى الحقول
الواسعة الساكنة من جديد بحثاً عن عش غراب أو بيض يمام".([2])
* * *
وينتهى نص (الرأس) بما يلى:
"وتملكنى العجب، ومن مكانى أخذت أراقب القافلة عل شيئاً
يحدث، ولكن أبداً ما حدث شئ، كل ما فى الأمر أن السمكة بعد أن شبعت نهشاً
من الرغيف استدارت مسرعة وكأنما تنبهت لتخلفها، وبكل قواها اندفعت ناحية
القافلة حتى وصلت إلى الصف الأول، ولكن السمكة الأخرى كانت هناك،
وبانتفاضة من زعانفها جزعت السمكة المتخمة وعادت تحاول أن تجد لها مكاناً
فى الصف الثانى ولكن الثانى طردها إلى الثالث، والثالث إلى الرابع وهكذا
إلى أن وصلت إلى حيث السمك المتلكئ فى نهاية الصفوف، ذلك الذى يسير، وبين
الحين والحين ينتهز الفرصة ليقضم قضمة من النبات النامى على الجانبين
ويعود إلى مكانه فى المؤخرة.
وواتانى خاطر جديد، ووجدت نفسى أخوض ماء المصرف اللاسع، وأنقذ بقية
الرغيف من الغرق ومن أفواه أسماك الصفوف الخلفية، وما لبثت أن لحقت
بالقافلة ورحت أكرر المحاولة مع السمكة الجديدة التى أصبحت فى المقدمة.
وبعد محاولات ومحاولات حدث نفس ما حدث للأولى، فتخلت السمكة عن مكانها
ودارت حول لقمة الخبز تقضم منها، وأيضاً اضطربت القافلة، ولكن سمكة جديدة
لم تلبث أن اندفعت وأصبحت فى المقدمة ولم تلبث بقية الصفوف أن تبعتها
وظلت تتبعها، والقافلة قد عادت إلى سيرها وراحت تمضى بحماس إلى غايتها
التى لا يعرفها أحد بنفس سرعتها المنتظمة التى لا تزيد ولا تنقص.
ولم ألبث أنا الآخر أن نفضت يدى من المحاولات، ومن جديد عدت أهيم فى
الحقول الواسعة الساكنة بحثاً عن عش غراب أو بيض يمام.
ولكنى رحت أفعل هذا وقد ذهب عنى إنطلاقى الأول، بنفس ملولة، وحزن خفى
لا أعرف سببه يقبض روحى".([3])
* * *
تفيد النهاية الأولى توحد أفراد جماعة السمك، وفهمهم لاختلاف الترتيب
فى الصفوف، باعتبار الاختلاف ضرورة لوجود نظام الجماعة وتمايزه عن غيره
من النظم، فلا فرق من ثم بين مقدمة الصفوف وأى صف وراءها، لذلك اندفعت
سمكة جديدة لتكمل النقص بتلقائية، وذابت السمكة الأولى بهدوء فى الجماعة
واستسلام، مثلما يدل على ذلك اختفاء ذكرها فى النص، وبروز ذكر القافلة
التى مضت إلى غايتها بسرعة منتظمة وحماسة.
أما النهاية الثانية فتفيد تغير فهم اختلاف الترتيب، باعتباره علامة
على القيمة والمكانة فى الجماعة، ومن هنا لم تستسلم السمكة التى قادها
طمعها إلى فقد مكانتها، وحاولت العودة، لكن السمكة الجديدة قاومتها بعنف،
كما قاومها أفراد الصفوف التالية، فظلت تطرد وتتراجع حتى وجدت موقعاً فى
مؤخرة تسع أمثالها من المتلكئين.
ستمضى الجماعة هنا أيضاً بسرعة منتظمة وحماسة إلى الغاية المجهولة،
لكن فترات التوقف والفوضى سوف تتكرر والحرب بين أفراد الصفوف ستزداد،
طمعا فى المكاسب الفردية المحدودة، مما يجعل الجماعة كلها مهددة دائماً
من الداخل والخارج معاً.
وهذا هو سبب فتور انطلاق السارد وحزنه الخفى فى الجملة البارعة التى
أضافها إدريس عند كتابة القصة للمرة الثانية.كان
السارد - بحلم العثور على قافلة
السمك - يبحث عن مكانة اجتماعية،
وفى النهاية أصابه الملل واليأس، غير أن السبب يختلف فى النصين.
فى (المثلث الرمادي) عرف أن الجميع متساوون، وأن اختلاف الموقع فى النظام العام لا
قيمة له، لأن دور الكل حفظ وجود الجماعة، ودفع حركة تقدمها. لكنه فى (الرأس) عرف أن الجماعة مفككة، وأن الأدوار متعددة، لتعلقها بمصالح
الأفراد. عرف أنه إذا أراد مكانة ما
فعليه ألا يصدق الأساطير الساذجة، وألا ينتظر الحظ والمصادفة، بل يستعد
بقوة مادية، وقوة نفسية تصمد للحرب الشرسة التى سيخوضها بالتأكيد، حتى
يصل إلى المقدمة، وحتى يدافع عن بقائه فيها.
ما العلاقة بين حلم الصبى وقافلة السمك؟! قبل أن يكتب يوسف إدريس نص (المثلث
الرمادى) لم تكن هناك أية علاقة بين
هذين الطرفين، وما الجمع بينهما فى لحظة بعينها سوى سر من أهم أسرار
موهبته النادرة، وقدرته العجيبة على تقريب المتباعدات والربط بينها. أما اختلاف نص القصة، فيتعلق بإحدى خصائص العملية الإبداعية لديه،
حيث تكتب القصة فى جلسة واحدة، سواء طالت أم قصرت، فإذا راجعها أو "بّيضها" جاءت قصة مختلفة.
(221) لم أعثر على هذه المجموعة، ونص قصة (الرأس) المنشور فيما يلى مأخوذ من مجموعة (العسكرى
الأسود، السيدة فيينا، رجال وثيران)
دار الوطن العربى، بيروت، د.ت.
(222) انظر: روز اليوسف، 3 نوفمبر 1958.
(223) مجموعة العسكرى الأسود، السيدة فيينا، رجال وثيران، ص 129،
130.
|