د. عبير سلامـة

7- بداية أخرى

 

أن نضبط العبقرى - بتعبير يوسف إدريس نفسه - فى موقف لا يقفه إلا الأغبياء - أو غير المخلصين - مسألة لا تدفع للاعتقاد بأنه أخطأ كما يخطئ غيره من الناس، ولكنها تفسر على أنه يفعل هذا عن عمد، وأن وراء الظاهر هدفا ذكيا خبيثا.([257]) وهذا ما يؤكد أن وراء هذه الارتباكات المتعددة فى النشر سببا يفوق الأسباب السياسية والاجتماعية الدينية أو الاقتصادية، إنه سبب يتعلق بقيمة وجوده الفنى والإنسانى كما تصورها، وكما حاول الدفاع عنها والإبقاء عليها حتى النهاية، من جانب، وبخصائص العملية الإبداعية لديه من جانب آخر.

حصر يوسف إدريس قيمة وجوده فى كونه كاتبا، وكاتبا للقصة بالتحديد، فالقصة عنده.. "بُعد من أبعاد الأشياء والكائنات" مثلها مثل الحجم والكتلة والمسافة والزمن، وغياب بعد من هذه الأبعاد لا يؤدى إلى نقص معرفتنا بالشىء فحسب "إنما يلغى الشىء كله من الوجود"([258])

إنها فى تصور إدريس البعد الخامس للإنسان، البعد الذى لا يكون الإنسان إنسانا إلا به، ومن هنا كان اكتشاف الكاتب - أى كاتب - القانون القصصى الخاص به معادلا لاكتشاف قانون الوجود.

نستطيع أن نقدر - مع هذه القيمة الحيوية للقصة والكتابة - حجم الأزمة التى عانى يوسف إدريس منها فى شيخوخته، ونستطيع أن نفهم سر هذا التعلق الدائم بقصصه والاشتغال المتواصل عليها، فقد كان حريصا على أن يثبت للآخرين، المتربصين به خاصة، أنه لم ينته، وأنه مازال يوسف إدريس، الخامس من أعلام القصة فى العالم، بعد بوكاشيو، جى دى موباسان، أدجار آلان بو، وتشيكوف.([259])

كان يدافع - بطريقته المبتكرة - عن وجوده، ويمنع عنه ما تصور أنه خطر الفناء، ربما لذلك كان يحلم باليوم الذى لا تكون الكتابة فيه طلبا لخلود الكاتب، بل سعيا لخلود القيم والإنسان.. "إنى أتمنى أن استمر فى امتلاك القدرة على أن أحلم، فلقد قضيت الحياة منذ طفولتى ومتعتى ليس أن أحياها، إنما أن أحلم بحياة أمتع، وربما كتبت لكى أحرك فى الآخرين القدرة على أن يحلموا هم أيضا أحلامهم الخاصة، فالإنسان بلا أحلام فى رأى كائن أعمى، الحلم هو الأمل المبصر المستشرف، هو قدرته على أن يرى إلى الأمام وأن يجمع الماضى والحاضر والمستقبل، فى نقطة لقاء وهمى، هى الفن.. هى الجزء الثمين المتمرد فى كل البشر، إن بعضنا يكتب لأنه يريد أن يكون كاتبا كسارتر وهيمنجواى، وبعضنا يفضل أن يكتب للمسرح ليكون كشكسبير.. إنى أحلم أن نصل إلى اليوم الذى نكتب فيه لأننا نحب شعبنا، ونحبه أن يكون أكثر الشعوب أدبا وذوقا وأخصبها إنسانية، نكتب بدافع من واجب ملح نحسه إزاء مواطنينا ولا نملك إلا أداءه، نكتب لا لأننا نريد الخلود لأنفسنا، إنما لأننا نريد الخلود لإنساننا وقيمنا، لأننا نريد أن نصنع فى بلادنا حضارة ليست انعكاسا للحضارة الأوروبية، ولكن حضارة نابعة منا، حضارة من خلقنا وفكرنا، نثرى بها حضارة عالمنا ونضيف إليها".([260])

إبداع يوسف إدريس شديد الارتباط بخصائص المجتمع المصرى فى النصف الأخير من القرن الماضى من جانب، وبخصائصه النفسية الذهنية من جانب آخر، ويمكن بتأمل تاريخ المجتمع والتاريخ الشخصى للمبدع تفسير كثير من فنية هذا الإبداع وفلسفته، لكن ذلك ليس مبررا لتقييم إنجاز إدريس وفقا لسلوكه الفردى، فتقديرنا للكاتب مختلف عن تقديرنا للإنسان.

ربما يشعر كثيرون الآن بالاستياء من تناول التكوين الأدبي للمبدعين، هذا الحقل المرشح لأن يشغل النقاد لسنوات قادمة، بمظنة أن جوانبه- ما دام الكاتب قد أخفاها- شخصية، لكن نمط الاستجابة التي قوبلت بها دراسات "ما قبل" نصوص فلوبير، زولا، ستيندال، بروست، جويس، وبالمثل انتشار المؤتمرات والمطبوعات ذات العلاقة، منذ سبعينيات القرن الماضي في أوروبا- يؤكد أن العمل على المخطوطات الأدبية الحديثة جدير باهتمام القراء وفضاء جذاب للبحث النقدي.

لقد رحل يوسف إدريس الإنسان، وبقى منجزه الثقافى لمتلقيه ونقاده، ولتاريخ الأدب الذى يعيد تنظيم الماضى ويعلله، ويصل رحم النص بمبدعه، وبالسياقات المختلفة التى أثرت فى كليهما.

 

(257) انظر: رواية البيضاء، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص 263.

(258) القصة وأنا أو قصتى أنا، مقال بمجلة الآداب 1973، نقلا عن د. ناجى نجيب، الحلم والحياة فى صحبة يوسف إدريس، سابق، ص 36 وما بعدها.

(259) قال يوسف إدريس فى حديثه مع رشاد كامل، سابق، إن أحد الباحثين الروس قدم رسالة دكتوراه إلى جامعة ليننجراد يؤكد فيها هذا المعنى.

(260) مجلة حوار، نقلا عن د. ناجى نجيب، سابق، ص 140.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.