د. عبير سلامـة

أنشودة الغرباء([1])

 

"الليلة من ليالى الشتاء... ليلة عجوز شمطاء. البرد يكاد يمتص كل ما على وجه البسيطة، برد قارس كئيب تفوح منه رائحة الفناء، وتهب نسائمه فتلفح الوجوه التى أنهكها سعى النهار واحتواها ظلام الليل فتهرب منها الدماء مخلفة وراءها صفرة تقشعر لها الجلود المنهكة...

لم يسع (المعلم) عمر إلا أن يقفل باب (القهوة) ليمنع النسائم التى اعتصرها البرد والظلام أن تدلف إلى المكان ولكنه عاد ليفتحه قليلا عله يلتقط هاربا من جحيم البرودة. ثم تربع على أريكته ومضى يتأمل (زبائنه) بعينه نصف المغمضة وقد استقرت خلف إطار عتيق من الأهداب، وبوجهه الأسمر تلك السمرة التى لا يفصلها عن السواد إلا غلالة شفافة، وبملامحه التى يصبغها طابع من الغموض.. غموض قد تخف وطأته فتلمح فيه اشمئزازا من حياته.. وقد يزداد غموضا فلا يفصله عن سمرته إلا غلالة شفافة.. لم يكن يزيد عن الخمسين ولكن تجاعيد وجهه كانت تنطق بأن ثمة أحداثا هائلة قد عبثت بكيانه... عبثت (بجاويش) المطافيء الذى كانت أشرطته وسلطته مضرب الأمثال فجعلته يغتصب امرأة دخل عليها من نافذتها ذات يوم وقد اشتعلت النار فى دارها فوجدها تكاد تكون عارية.. ثم يستقر بعد سنين السجن العجاف فى هذا الجحر...

كنا نرهبه ونخشاه، فالحياة التى قضاها خلف القضبان كانت تضفى عليه هيبة وكأننا حين ننظر إليه نرى وراء طلعته المتهالكة السجن الرطيب.

وجلسنا نحن.. نحن الغرباء فى دنيا الناس.. نحن الهاربون من ضجة الحياة وصخب البشر، نحن الذين رأينا الناس يندفعون فى موكب الحياة المجنون وكأنهم قطرات الرذاذ قد تحولت إلى تيار ماجن دافق ينخر فى صلب الوجود.. آثرنا أن نركن إلى الشاطيء وأن نحتمى بمرفئنا الهاديء وكأننا قوقع نهر أشفق عليها الموج فدفعها فى حنان وتؤدة إلى شاطئه... أهو جبن منا..؟ أم عجز عن أن نتدافع بالمناكب سمه ما شئت، وسمنا ما شئت فنحن لا يهمنا رأى البشر المتخبط فى مجراه. يكفينا أننا اعتزلنا ما اصطلح الخلق على تسميته بالحياة، وما نسميه نحن تناحر النفوس وقد تحولت من فراشات ترفرف فى سمو إلى عش للزنابير أهاجها يوم قائظ فمضت تلدغ من تشاء ومن لا تشاء. وما نسميه تضارب العقول وقد عز عليها أن تسير إلى الأبد فى مجراها السليم فمضت تتصارع فى جشع، وتتلوى فى أنانية. وما نسميه تحجر القلوب وكأنها قبيلة من أكلة البشر، لم تجد ما يقيم أودها فراحت تتربص بنفسها.. الأخ يلعق دماء أخيه، والأم تتخير لنفسها غذاء دسما من بين أطفالها. نحن أهل الشاطئ.. اخترنا هذا الحصن - وما هو بحصن - واجتذبنا صاحب المكان فهو، وإن كان ليس منا إلا أنه كان يقف فى مكانه من تيار الحياة لا يريم، وإذا تحرك فلينقض على هذا أو يعرقل ذاك أو يتراجع فى خطى يائسة معاندا التيار. التيار الضخم الجبار. وكأنما كانت وقفته أو انقضاضه سكون وسط هذا الجو المشحون بالحركة والجنون، فلما تراكم الناس خلفه يدفعونه، ويرغمونه على المسير آثر أن ينزوى على الشاطيء، وأن ينفض يده من المعركة، وأن يحنى رأسه للعاصفة، لا عن فكرة تدفعه إلى التسليم ولا عن عقيدة تلح عليه فى الانطواء، وإنما عن جبن، وعن عجز.

كان لنا نعم الملجأ، وحين عثرنا عليه ونحن تائهون بين رمال الشاطيء تلقفناه تلقف الملهوف، واتخذنا تلك القهوة المتداعية مركزا لنا ومقرا، فهى بصاحبها و(صبيه) أحمد الفتى الذى لم يتجاوز العشرين بوجهه الصبوح وشعره المشعث فى فوضى محببة، ولذعاته عن طربوش (المعلم) عمر هو يهمس بها لنا فترتفع قهقهتنا فى ضحك صاف حبيب. كانت هاته جميعا ما حبب إلينا المكان وربطنا إليه برباط لا تنفصم عراه.

ومضيت أتطلع إلى الباقين من الرفقاء - إلى الغرباء المتظللين بهدوء الشاطيء وسكونه. كان الجالس على يمينى (الأسطى) حنفى بجثته الضخمة وشاربه المفتول فهو محدثنا اللبق خاصة حين يداعب شاربه وهو يروى لنا مغامراته التى يعتز بها فى قيادة السيارات والتى انتهت بساق من ساقيه ذهبت مع تيار الحياة الدافق وكانت حنجرته الجوفاء البارزة من عنقه تضفى رنة جيبة تمده بسلاح قوى للتأثير على سامعيه. كنت أعرف أنه كثيرا ما يخلط الواقع بما يتمتع به من خيال خصب ولكن ذلك لم يمنعنا من الإعجاب بخياله قدر إعجابنا بحقيقة أفعاله.

وهذا إبراهيم.. أو أبو خليل كما كنا نناديه دائما حتى اندثر لفظ إبراهيم فأصبح ينافس الحذاء القديم الذى يرتديه وجلبابه الذى تناثرت فيه الرقع، ومعطفه الأصفر العتيق، وعمامته التى حال لونها من كثرة ما حملت من أقذار.. ومع ذلك فقد كان قريبا إلى نفوسنا جميعا. كان يتكلم فنصمت مصيخين، ففى صوته رنة حزينة عميقة تأمرك بالإنصات. كان كلامه كنغمات ناى قديم تنساب فى ليلة ظلماء... أو كانبثاق دمعة من دموعه يذرفها على (أمينة) التى أضاع من أجلها عشرة فدادين ثم أفاق من غفوته ليجد نفسه فقاعة دفع بها الموج إلى الشاطىء حيث لا أمينة ولا فدادين..

أما حسن بك فقد كان مكتئبا هذا المساء. أهو جيبه قد عمر مرة أخرى بالنقود... هذه عادته كلما انتفخت حافظته. إنه ذو ثروة يسيل لها اللعاب، ولكنه يحاول دائما أن يهرب من ماله ومن الطرق التى يحاول بها البشر أن يستدرجوه بها لاستثمار أمواله فيأتى إلينا.. ضاربا عرض الحائط بطرقهم وبماله وبالتيار وما يزخر به من متدافعين.

والتفت إلى الشيخ شبراوى فوجدته يلوك فى فمه شيئا وأمامه قدح القهوة (السادة) فابتسمت. كان إماما وخطيبا فى أحد المساجد غير أن نفسه التى تسعى وراء المجهول أبت أن تتلقفها عيون المصلين الخاشعين باحترام قد يرتفع إلى مرتبة التقديس.. أبت أن يكون رائدا للجموع وهو أدرى بما فى قلوبهم من ظلمات وبما فى قلبه هو من ظلمات قد تكون أشد حلكة، فلاذ بنا فرارا من نفسه ومن الجموع...

أما أنا.. حقا من أنا.. أنا غريب حتى عن نفسى فلا تسلنى من أنا، يكفيك أنى واحد من الغرباء.

* * *

كنا جلوسا فى تلك الليلة وقد اكتمل جمعنا ومضينا ننهل من الدخان الأزرق.. يدخل صدورنا ويتصاعد مختلطا بدمائنا إلى عقولنا فننسى.. ننسى أننا عشنا يوما فى هذا التيار وأننا كنا يوما بين المتدافعين. إننا ننظر إلى حلقات الدخان وقد تصاعدت من جوفنا وملأت المكان فنلمح خلالها بقايا ما يوم كان يحتوينا الخضم الهائل.. بقايا البغض والحقد الذى يترسب فى أعماق مواكب النمل التى ما كان يهمها من دنياها غير لقمة العيش وجرعة الماء. إننا ننظر من شاطئنا إلى معركة الوجود كما نظر (نيرون) يوما إلى حريقه فتهمس الغبطة فى نفوسنا: دعوهم فى صراعهم.. دعوا الذئاب تعوى، والقطيع يصرخ، والأفاعى تلدغ، والكلاب تنبح، والبوم ينعق، والصقور تنهش. دعوهم فى حياتهم يعمهون.

وتأخذ النشوة الشيخ شبراوى مما اجتذبه فى صدره ولاكه فى فمه فينطلق فى الغناء.. ولم يكن صوته حلوا ولم يكن كذلك قبيحا، وإنما كان قويا وأحسسنا أنه يغنى لنا.. بأنه يستمد ألحانه من دقات قلوبنا ومن أطياف الهدوء والسكون التى تحلق فوق رؤوسنا يدفعنا الإعجاب به بل ويدفع بأبى خليل الهاديء الرزين إلى أن يفك عمامته ويحيط بها وسطه ويرقص ونصفق نحن، ثم يستخفنا الطرب فنردد مع الشيخ شبراوى أغانيه الذى يسره ما بعثه فينا من نشوة، وما أثاره فينا من مرح فيمسك بعمامته ويقذف بها فى الهواء ثم.. ثم حدث شيء مفاجيء غادر بعثر الغرباء.. التأم جمعنا.. الجمع الغريب مرة أخرى ولكن.. فى فناء السجن هذه المرة.

ما للجمع يسوده غموض حائر متطفل؟ وما لأهل الشاطيء قد استكنت ألسنتهم فى أفواههم؟ وما لنبع الهدوء الساحر الذى كان يسيل من وجوههم ينقلب غبرة يشع منها الوجوم؟

لم يكن السر عميقا فى خفائه، بل كان واضحا وضوح أشعة الشمس الغاربة الحمراء وكأنها أنفاسها اللاهثة حين تحتضر وهى تطل عليهم من بين القضبان.

كأن مواكب النمل قد ضاقت بهم وعز عليهم ما ينعمون به وحدهم، فأخذت القواقع من سلام الشاطيء وأثقلتها بالقيود ثم أرسلتها إلى الأعماق... إلى ما خلف معركة الوجود.. إلى حيث لا يشعرون بدبيب المواكب وهى تمضى فوقهم. وكان دخانهم الزرق هو السبب!

لم يجرؤ واحد منا على أن يلوث قدسية ما نحن فيه من سكون. إنه الانتقال المفاجيء من الشاطيء الساكن إلى ضيق الأعماق... إنه الليل حين يقبل - أول ما يقبل - على الإنسان الأول، وقد قضى يومه فى نور بهيج. إنها الأشجان حين لا يحلو لها أن تداعب خيالنا إلا فى ظلمة الليل.

أهناك رباط ما بين الأشجان والظلام؟ أم أن الإنسان حين يضيع بصره فى حلكة المساء يرتد إلى نفسه باحثا منقبا، فلا يجد إلا أشجانه التى تلوذ بأعماقه، ولا يلمح بارقة لأفراحه، فهى كالعطر الثمين تنعشه ساعة ما، ثم تمضى ولا تخلف وراءها أثرا..؟

إنه الليل والظلام والأشجان هى ما تثير فينا الوجوم، وتدفعنا إلى السكون. غير أن ثمة شيئا ما جعلنا ننسى أنفسنا ونصيخ السمع إليه. كان أبو خليل ينقر على (عكاز) "الأسطى" حنفى، ووجهه هاديء لا ينم عن شيء. هى الأحداث ترتفع وكأنها الجبال الشامخات وتنخفض وكأنها أعمق الوديان. ووجهه لا يتبدل فالابتسامة التى يخيل إليك أنها سوف تحتل وجهه ومع ذلك لا تفشيها ملامحه هى هى غير أن لحيته قد طالت وزاد سوادها وكأنها طلاء فنان عربيد قد أحاط بوجهه. كان ينقر وكأن نقراته رعدة تمر بيده فيخفيها بتحريك أنامله، ولكنها ما لبثت أن اتخذت طابعا نعرفه جميعا. طابعا يعرف الطريق إلى قلوبنا فيسلكه حينما يشاء ليجدها تنتظره وترحب به...

وانفجر الجمع الغريب.. رقص الشيخ شبراوى وصفق حسن بك وقهقه المعلم عمر، وتمايل (الأسطى) حنفى وانطلقنا فى غناء مرح صاخب.

إنها الأعماق حقا... ولكننا غرباء بعيدون عن صراع القطيع وحريق الرغبات...!

* * *

نحن الهاربون من الحياة نحيا الحياة التى وإن كان يمجها المتزاحمون، ويحتقرها المتصارعون النهمون.. وإنما هى حياتنا.. نحن أحرار فيها نحياها فى الشاطيء الهاديء الساكن أو فى القاع المظلم الرطيب".

 

(229) مجلة القصة، 5 مارس 1950.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.