«كنت من الطلبة الذين أتاح لهم الحظ الالتحاق بكلية الطب.. لقد تخيلت عندما ارتديت المعطف الأبيض وأمسكت بمبضع التشريح الخاص
بالضفادع والحشرات فى السنة الإعدادية أننى أعبث بمبضعى فى جثث الآدميين
وأن مهارتى فى عملية بطن الضفدعة بالمقص لا تقل عن مهارة الدكتور نجيب
مقار فى استئصال كلية أحد الآدميين، وكنت أزهو بلقب دكتور الذى يخلعه على
الناس مجاملة ابتداء من بواب العمارة إلى بنت الجيران التى كنت أختال
أمامها بالبالطو الناصع البياض والحقيبة الجلدية الأنيقة..تشبها
بكبار الأطباء والسيجارة مثبتة فى ركن من فمى لكى تكتمل كل معالم "الدكترة".. فكانت النتيجة أن تعلمت التدخين وما زلت أدخن بإدمان وإن كنت أنصح
الناس بالإقلاع عن هذه العادة الضارة!
وبعد انتهاء السنة الإعدادية بدأنا الدراسة الطبية الحقيقية.. فكنا نشرح جثث الموتى المحفوظة فى الفورمالين، وكنت أتوهم أننى
سأقوم باكتشافات هامة فى علم التشريح.. فكلما شرحت جثة توقعت أننى سأجد شيئا جديدا لم يعرفه الأوائل، كأن
أكتشف أن للإنسان قلبين لا قلبا واحدا كما هو مبين فى الكتب!
وكم كان سرورى عندما أعفر يدى بالبودرة استعدادا للبس "الجوانتى" الخاص بالعمليات الذى كان يستعمله بعضنا حرصا على أيدينا الرقيقة
من التلوث، ولكننى امتنعت عن لبس القفاز بعدما وجدت زميلة لى - وهى طبيبة الآن - فى منتهى الأناقة والرقة تستعمل
يديها المجردتين فى التشريح ولا تستنكف من أن تأكل بعدها "ساندويتش" فى المشرحة بدلا من ضياع الوقت فى الذهاب إلى الخارج.. بينما كان لى زميل آخر يحتفظ فى جيبه بزجاجة "بارفان" يقربها من أنفه من آن لآخر حينما لا يتحمل رائحة المشرحة النفاذة.
أما الفرحة الكبرى ففى السنة الثالثة.. عندما اشتريت سماعة حرصت على أن أضعها فى الجيب الداخلى للجاكتة
بطريقة خاصة تظهر منها جزءا، فيعرف من لا يعرف أننى طالب فى الطب!
ولا أنسى يوم كشفت على مريض فى المستشفى طلب منى فحصه أمام أستاذنا
الطبيب الكبير وزملائى الطلبة فقد تصنعت الرزانة وحرصت على أن أبدو فى
مظهر جاد، وأشعلت سيجارة وأخذت فى فحصه الذى استغرق منى وقتا طويلا وأنا
أريد أن أعرف بالضبط علته وأخذت السيجارة تتراقص بين شفتى، وأخيرا فشلت
فشلا ذريعا فى تشخيص الحالة فلم أسلم من تريقة الأستاذ وزملائى الأشقياء
الذى قال لى أحدهم "عظيم قوى يا
دكتور، إيه ده كله، ما تكونشى شفت الحالة دى قبل كده".
وعند ركوبنا فى الترام كنا نتباهى بالحديث عن المرضى الذين فحصناهم
هذا اليوم ونكثر متعمدين من استعمال الألفاظ اللاتينية الخاصة بأسماء
الأمراض وخاصة إذا كان من بين ركاب الترام حسناء لم تلاحظ وجود السماعات
فى جيوبنا فنجذب انتباهها بهذا الحديث، لعل وعسى!
وفى السنة الرابعة هبط زهونا وغرورنا عندما وجدنا زملاءنا فى المدرسة
الثانوية ممن التحقوا بكليات الحقوق أو الآداب أو غيرها تخرجوا وأصبحوا
محامين ومدرسين ومآمير ضرائب ومدرسين وصحفيين.. ونحن ما زلنا فى مرحلة الدراسة نأخذ مصروفا من أهلنا!
ولم يقبل بعضنا هذا الوضع فاشتغل البعض كمخبرين والبعض الآخر فى أقسام
الدعاية ببعض شركات الأدوية بمرتبات بسيطة رمزية.. تغطى مصاريفنا الخاصة على الأقل.
وقد حدث فصل طريف فى هذه السنة، ذهبت مع الحكيمة وممرضة إلى حالة
ولادة عندما كنا نتمرن على هذا فى منزل رجل متواضع. ولما انتهت السيدة من الوضع بالسلامة فوجئت بهذا الرجل يضع فى يدى
ورقة مالية من فئة العشرة قروش، فلما رفضت قال لى لا والله ده حق الدخان
وأصررت على الرفض، فما كان منه إلا أن حلف على بالطلاق، وكادت تحدث مشادة
لولا أننى تذرعت بالحيلة فأخذتها منه ثم أعطيتها لأحد أطفاله وأنا نازل،
ونزلت مسرعا حتى لا يلحقنى ويحدث ما لا تحمد عقباه.
واقترب ميعاد الامتحان النهائى، وظفر السعداء منا بالنجاح.. وفجأة تحطمت الآمال الكبار التى كانت تراودنا عند بدء التحاقنا
بالكلية.. فقد كنا نحلم بأن يفتح كل
منا عيادة خاصة تدر عليه الذهب..
وفى ظرف سنة لابد أن يكون صاحب عزبة وعربة كاديلاك على الأقل! ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه وانحصرت الآمال الآن بعد التخرج
فى العمل كأطباء امتياز فى مستشفى قصر العينى بمرتب لا يتجاوز عشرة
جنيهات.. مع العمل ليل نهار.. ولكنها فرصة العمر للتمرين فى هذا المستشفى الكبير تحت إشراف
الأساتذة الكبار.
وعندما كنت طالبا كنت أنقم على النظم الموجودة والروتين البالى العتيق
الذى يشل حركة الطبيب ويضعه فى إطار محكم يمنعه من تأدية واجبه الإنسانى
المفروض عليه.. وعندما تحققت أمنيتى
وعينت كطبيب امتياز حاولت تنفيذ الإصلاحات التى كانت تملأ رأسى
والمشروعات الكبيرة التى كنت أفكر فيها.. ولكننى فشلت فى تحطيم العراقيل والأغلال.. وكدت أقدم إلى مجلس تأديب جزاء لى على المناداة بآرائى بصراحة
أمام رؤسائى!
كنت مكلفا بالكشف على مائتى مريض فى ظرف
3 ساعات أو 4 ساعات على
الأكثر، وبعملية حساب بسيطة تجد أن مدة الكشف على المريض وكتابة الدواء
له لا تتجاوز الدقيقة الواحدة، فلو أن عينى أوتيتا قوة أشعة اكس لمعرفة
موطن الداء لما تمكنت من علاج هذا العدد الكبير..! وصيدلية المستشفى دائما عاجزة عن صرف الأدوية اللازمة لعلاج
المرضى - خاصة مرضى العيادة
الخارجية - ولا يوجد فيها بكثرة إلا
أمزجة الحديد والزرنيخ والرواند والصودا!
وعلى باب المستشفى أرى بعينى باعة الزجاجات الفارغة الذين يبيعونها
لمن ليس معهم زجاجة لصرف دواء مركب، هذه الزجاجات مزرعة للميكروبات
والجراثيم، وكل من يأخذ دواء مقويا من الصيدلية ويضعه فى هذه الزجاجة
يأخذ معه دوسنتاريا فوق البيعة!
ونقلت إلى مستشفى بأحد مراكز الوجه القبلى.. وللمرة الأولى فى حياتى أترك القاهرة حيث قضيت أغلب سنى عمرى إلى
الريف. وكانت مفاجأة غير سارة
بالنسبة لى إن شئت الصدق، فقد انتقلت إلى جو غريب عنى.. لا أصدقاء ولا أقارب ولا زملاء قدامى، وكنت متهيبا باديء الأمر
هذه الحياة فلا أماكن للتسلية، ودار السينما الوحيدة تعرض أفلاما مصرية
مضت عليها عدة سنوات، فكان لابد لى من مجابهة الأمر الواقع والتسليم بلا
قيد ولا شرط أمام أفلامنا المصرية والإنصات مرغما إلى برامج الإذاعة
العتيدة. ولا يفوتنى أن أذكر أن
أواصر الصداقة فى الريف أقوى منها فى المدن، الناس هناك أكثر إخلاصا وأقل
طمعا، وكنا نحن الموظفين فى هذا المركز نكون شبه عائلة كبيرة مما خفف عنى
بعض الشيء ألم فراق القاهرة.
وكانت كل معلوماتى عن مراكز الصعيد قبل سفرى إليها نقلا عن الصحف
والمجلات.. فوجدت أن ما قرأته ما هو
إلا صورة مصغرة لما يلاقيه ريفنا المسكين من إهمال جعله على هذه الصورة
المزرية من الفقر والجهل والمرض، ليس هناك ساحة رياضية يجتمع فيها
الأطفال أو الشبان، أو ناد رياضى يذهب إليه الموظفون والتجار وأهل
البلدة، فالناس فى الريف فريقان:
فريق يقتل وقته فى لعب "البوكر" و"الكونكان".. وكم من مآسى تحدث على هذه الموائد الخضراء.. فموظف يخسر مرتبه أول الشهر، وفريق يجتمع فى منزل أحدهم أو فى بار
متواضع لاحتساء الخمر الرخيصة وتبادل النكات المبتذلة، وفريق ثالث يذهب
لتدخين الحشيش! وفى هذا الجو
المملوء بالدخان الأزرق المعطر يحاولون التهرب من الواقع والعيش فى دنيا
الأوهام، وفريق رابع - وهو أقلهم
اندفاعا فى التيار الآثم - يجتمع فى
المقاهى للعب الطاولة.
وذهبت للمستشفى فوجدت الحكيمباشى - طبيب أول - فى أجازة مرضية
ولم يكن هناك طبيب امتياز أو أخصائى أمراض باطنة، فكان على طبيب ثانى
المستشفى وعلى شخصى الضعيف القيام بالعمل وتحمل العبء وحدنا ما دامت
وزارة الصحة لم تكلف نفسها انتداب طبيب للعمل معنا. وكم من أيام قضيتها فى المستشفى أعمل ليل نهار!.. وأقسى يوم مر بى هو ثانى يوم استلامى العمل فقد نشبت معركة من
معارك الصعيد المعروفة التى تحدث لأتفه سبب، وكانت نتيجتها إصابة ثلاثين
رجلا بإصابات خطرة.. فقضيت الليل
بأكمله فى عمل "تربنة" للمصابين بارتجاج فى المخ وقمت بتفصيل جاكتات وبنطلونات جبس
للمصابين بكسور أو شروخ فى العظام، حتى فكرت فى منافسة "مسيو ديليا" الترزى المعروف وفتح محل ترزى لتفصيل الشاش بدلا من الصوف بعد هذا
الحادث!
وفى الصباح كان على أن أقوم بعملى المعتاد فى المستشفى وأنا شبه نائم
وفى حالة شديدة من الإرهاق والتعب -
ولقد لاقيت الأمرين من المرضى -
ومعذرة لأهل الصعيد الكرام - فإنك
تبذل مجهودا كبيرا قبل إقناع المريض بحقيقة حاله وبوجوب الاستماع إلى
الإرشادات وخاصة عدم تناول الأغذية التى تضره!..
وكم كان يؤلمنى أن أفحص مريضا بالمستشفى تبدو معالم الفقر واضحة جلية
عليه فأكتب له دواء أنا أعلم أنه لا يسبب له الشفاء الكامل لأن الدواء
اللازم له غير موجود بصيدلية المستشفى فماذا أفعل؟ وأنا أعلم أنه عاجز عن
شرائه من الخارج، بل أحيانا أصف له نظاما غذائيا خاصا - إذا كان مصابا بأنيميا (ضعف عام) وأنا واثق تمام الثقة أنه لا يكاد يجد ما يسد رمقه - وأحيانا يلجأ الطبيب إلى إعطاء
أمثال هؤلاء المرضى ممن يلمس عدم قدرتهم على شراء الدواء اللازم لهم.. يلجأ إلى إعطائهم بعض العينات المجانية التى تقدمها شركات الأدوية
للأطباء، وأحيانا إذا كان الطبيب ذا قلب كبير وتسمح له إمكانيته فإنه
يدفع له من جيبه ثمن الدواء -
واعترف أن هذا نادرا ما يحدث ليس فقط لأن الأطباء ليسوا جميعا من أصحاب
القلوب الرحيمة كما قد يظن البعض، ولكن لأكثر من سبب أهمها ضيق ذات اليد.. فالطبيب لا يمكنه أن يعطى ثمن الدواء للمائة مريض الذين يحضرون له
يوميا فى المستشفى وكلهم فقراء..
فإن من يحضر للمستشفى الحكومى غالبا فقير وإلا لذهب لعيادة الطبيب
الخاصة، ولذلك فلا يجد الطبيب ما يفعله إلا أن يعطى للمريض دواء يخفف عنه
المرض ويطلب له الشفاء من الله!..
وقد لمست فى هذا المستشفى كافة الأخطاء التى وجدتها بقصر العينى،
ولكننى وجدت أنه من السهل على أن أعمل على تلافيها، ولكن هناك عيوب لا يد
للطبيب فيها ولا يمكن إلا أن يقف مكتوف الأيدى أمامها ويطلب من الوزارة
أن تسد هذا النقص، وهو عدم توفر المعدات الطبية فى هذا المستشفى، فلا
توجد به أجهزة أشعة ولا معامل تحليل فنية كاملة مما لا يساعد الطبيب على
القيام بواجبه على أتم وجه ويضع أمامه الصعوبات والعراقيل وكل الغرم يقع
دائما على المريض المسكين، ومن الأمثلة الصارخة على قلة الاستعدادات
انقطاع التيار الكهربائى أثناء إجراء عملية جراحية عاجلة ليلا وعدم وجود
دينامو (مولد كهربائى) لكى يمد المستشفى بالتيار فى هذه الظروف الخاصة مما قد يسبب وفاة
المريض، وتخيل عملية جراحية تجرى لمريض على ضوء الشموع الشاعرى الجميل أو
على ضوء "كلوب" تستغرق إضاءته خمسة دقائق على الأقل،
وأدعو...([2]) للمريض بالرحمة ولآله بالصبر والسلوان.
وهناك فى الريف حلاقو الصحة!
الذين يزاولون مهنة الطب بدون ترخيص وهم فئة أنادى بقوة بالقضاء عليها
ومنعها من هذا العمل (لا لأنها
تنافسنا!) ولكن لأنها السبب فى عدد
كبير من الوفيات.
فقد أضحكنى أثناء وجودى بعد الظهر فى صيدلية بالبلدة أن تقدم رجل فقير
بورقة كتب عليها دواء مركب باللغة العربية وبصورة تثير الضحك والغيظ فى
نفس الوقت.. فالخط لا يكاد يقرأ
لرداءته ويكشف عن جهل صاحبه والمقادير غير مناسبة والجرعات خاطئة فسألت
الصيدلى عما إذا كان يعرف كاتب هذه الروشتة، فقال لى إنه فلان حلاق الصحة
فى قرية تبع المركز، فطلبت منه عدم صرف هذا الدواء لأن هذه التذكرة غير
قانونية، ولكنه احتج بأنه سيفقد بهذا زبونا دسما، فهو يأخذ منه كل شهر
أدوية وحقنا بمبلغ كبير يعالج بها مرضاه الخصوصيين غير المرضى الذين
يرسلهم له بهذه الروشتات!..
وقال لى: إنه إذا لم يصرف الدواء
لهذا المريض فستصرفها له الصيدلية الأخرى.. وأضع هذه القصة أمام السيد المحترم نقيب الصيادلة!!..».([3])
(229) مجلة روز اليوسف، 15 مارس 1954.
(230) محو فى الأصل.
(231) وقع يوسف إدريس على هذا النص - فى نهايته - بالحروف الأولى من اسمه.
|