د. عبير سلامـة

3- تعديل أزمات الثعلب.

 

بدأ يوسف إدريس فى أوائل الخمسينيات تقريبا ينشر قصصه فى الدوريات الثقافية العامة، كمجلتىّ القصة وروز اليوسف، وبعد ثلاثة أعوام ظل فيها مجهولا تنبه لموهبته الأديب عبد الرحمن الخميسى، فتحمس لها، وفتح له صفحات جريدة المصرى، وكان مشرفا على القسم الثقافى فيها، فنشر فيها خلال عام 1953 كله بعضا من أفضل قصصه التى ضمها بعد ذلك لمجموعة (أرخص ليالى)([1]) ثم واصل الكتابة فى أشكال أدبية متنوعة على مدى أربعة عقود، تخللتها أزمة توقف اضطرارى عن الإبداع فى عقد السبعينيات كله تقريبا، ومما يلاحظ فى مجموعتين متميزتين نُشرتا قبل هذا التوقف، (لغة الآى آى 1965) و(بيت من لحم 1971) أنه كان حريصا على إلحاق القصص بتواريخ كتابتها، ثم توقف بداية من 1981، لأنه أخذ يعتمد على رصيده القديم، بإعادة الإنتاج أو إعادة التقديم.

تصاب أية قدرة إبداعية بالتراجع إذا بلغت ذراها التطورية، فبعد النضج عادة يبدأ الانهيار، ويأخذ فى الكتابة أشكالا عدة، أشهرها تكرار المنجز القديم، والدوران فى دائرة ضيقة من الأفكار والأساليب، لذلك يراجع المبدع الحصيف منجزه كل حين، ليفتح له نوافذ جديدة، تحرك هواء قدرته وتنقذها من الركود والموات. ولعل تأرجح أشكال الكتابة عند يوسف إدريس بين القصة والرواية والمسرحية والمقالة كان محاولة فى هذا الاتجاه، محاولة أشرفت على اليأس فى السنوات الأخيرة من عمره، نتيجة جزعه من ضعف قدرته على إضافة الجديد لمنجزه فى الأشكال الثلاثة الأولى، وعدم قدرته على الاكتفاء بشكل المقالة.

وقد دفعه العناد إلى الدخول فى كثير من الجدل حول قيمة مغامراته التجريبية فى القصة المقالة التى يكتبها، مع تكثيف هجومه على الكتاب الآخرين،([2]) وطعن الواقع الثقافى كل فترة بمدية جديدة.

كان هذا هو الجانب الظاهر من الأزمة العنيفة، أما الجانب الخفى، والمؤلم حقا، فهو اضطراره إلى إعادة نشر قصصه القديمة بعد تعديلها على نحو ما، ولو بتغيير العنوان، لإثبات الحضور فى دفتر القصة المصرية.

كانت مرحلة كتابة النص نفسه، وتقويمه بالتقييم الذاتى له - مرحلة مفقودة من إفادات يوسف إدريس الكثيرة عن تجربة الكتابة الإبداعية، وهى مرحلة مفقودة عادة فى أحاديث كثير من المبدعين، وينظر لها بعضهم باعتبارها من أسرار «المهنة» وشأنا شخصيا، خاصة إذا ارتبطت بطقوس غريبة ربما لا ينظر المتلقى لها بتقدير. لذلك يندر أن يحتفظ المبدعون بمسودات أعمالهم، والأكثر ندرة أن يقوموا بنشرها، إشفاقا على أنفسهم من نتائج الدراسة النفسية، والنقدية المقارنة بين أصول الأعمال وصورها النهائية.

يقوم الكاتب - أى كاتب - عادة بعد الانتهاء من تنفيذ أفكاره إلى صورة مادية محسوسة بعملية نقد ذاتى، وتقييم لما تحقق من تصوراته يرتبط غالبا بتعديل وتغيير، وتتعلق هذه العملية بمضمون أفكاره ذاتها من حيث قيمتها واكتمالها ومناسبتها للظرف البيئى والزمنى الذى تطرح فيه، وقد تتعلق بالشكل الفنى الذى اختاره الكاتب من حيث دقته فى التعبير عما يحتويه، واتساقه وجماله.

وتمثل عملية النقد والتقييم لبعض المبدعين هوسا دائما يرافقهم حتى يخرج النص من بين أيديهم إلى متلقيه، ولدى هؤلاء يكون النشر سبيل الخلاص الوحيد من القلق، لكن يندر أن نجد مبدعا يمارسها بعد نشر العمل، خاصة إذا لم تتضمن إضافة فنية ذات قيمة واضحة،([3]) أو كانت الإضافات مما يوجد عادة فى المسودات، وهنا لا مفر من التعامل مع أصول القصص المعدلة بوصفها مسودات منشورة، ثم دراسة التعديلات لاكتشاف آثارها على النص، ودلالتها على آلية العملية الإبداعية.

منذ وقت مبكر جدا كان يوسف إدريس يغير عناوين بعض قصصه، حين ينشرها للمرة الثانية فى مجموعة، وقد تكون قصة (فراق) أولى القصص المنشورة التى أجرى عليها تعديلا، لتصبح (المكنة) فى مجموعة (أرخص ليالي).، وتليها قصة (الحالة الرابعة)، لكن النص المعدل احتاج إلى تسع سنوات ليظهر بعنوان (الزحف) فى مجلة بناء الوطن. ثم توالت بعد ذلك القصص المعدلة، والمنشورة لأكثر من مرة فى أكثر من دورية، وأحيانا فى الدورية نفسها بعد أشهر
أو سنوات.

وفيما يلى جدول القصص المعدلة:

عنوان القصة فى دورية تاريخ النشر للمرة الأولى العنوان المعدل فى مجموعة تاريخ نشرها
الحالة الرابعة المصرى 8 مايو 1953 الزحف مجلة بناء الوطن مايو 1962
فراق المصرى 26 مايو 1953 المكنة أرخص ليالى 1954
إدمان المصرى 6 سبتمبر 1953 مظلوم أرخص ليالى 1954
الليل روزاليوسف 8 فبراير 1954 فى الليل أرخص ليالى 1954
لحن الغروب الهدف أغسطس 1956 مارش الغروب أليس كذلك 1957
وجه جديد الجمهورية 9فبراير 1957 الوجه الآخر أليس كذلك 1957
قبر السلطان الجمهورية 19، 20، 26 مارس 1958 سره البائع حادثة شرف 1958
المثلث الرمادى روزاليوسف 3نوفمبر 1958 الرأس العسكرى الأسود 1962
ما أبشع هذا الجمهورية 8 يناير 1958 اليد الكبيرة حادثة شرف 1958
آخر من يعلم الجمهورية 18نوفمبر1960 الستارة آخر الدنيا 1961
لعبة البيت م.آخر الدنيا 19961 الخناقة الأولى مجلة حواء 3 فبراير 1979
فوق حدود العقل الجمهورية 14 يناير 1961 الدم القاتل مجلة بناء الوطن يناير 1963
قصة منسية([4]) الهلال فبراير 1965 الورقة بعشرة لغة الآى أى 1965
عند تقاطع الطريق روزاليوسف 15فبراير1965 صاحب مصر لغة الآى أى 1965
بالذمة والأمانة الكاتب 1965 سورة البقرة بيت من لحم 1971
القديسة حنونة الجمهورية 4 يناير 1968 جيوكندا مصرية أنا سلطان قانون الوجود 1981
حلقات النحاس الناعمة الأهرام 23 مايو 1969 دستور يا سيدة النداهة 1969
العملية الأهرام 25يوليو 1969 العملية الكبرى النداهة 1969
الرجل والنملة الدوحة مايو 1980 عن الرجل والنملة أنا سلطان قانون الوجود 1981

نشر يوسف إدريس قصة (فوق حدود العقل) فى جريدة الجمهورية عدد 14 يناير 1961، ثم قام بتعديل نصها وتغيير عنوانها إلى (الدم القاتل) ونشرها فى مجلة بناء الوطن([5]) عدد يناير 1963، والتعديلات فيها بسيطة جدا لا تتجاوز إضافة تعبير «بحكم العادة» وإضافة الاستطراد التالى: «إنهم فى الخارج ينفقون ملايين الدولارات والروبلات ليقيموا عقلا صناعيا يؤدى وظيفة واحدة من عشرات آلاف الوظائف التى يؤديها أى عقل بشرى، ويعتبروه معجزة.. وكم من معجزات لدينا تضيع».

ولم يكن نشر القصة فى كتاب بمستطيع أن يبدد قلق إدريس بشأنها، ليكف عن تعديلها وإعادة استخدامها، فقد غير عنوان قصة (لعبة البيت) المنشورة فى مجموعة (آخر الدنيا) 1961، إلى (الخناقة الأولى) ونشرها فى مجلة حواء عدد 3فبراير 1979.

وتكرر هذا الشكل من التعديل، مع قصة (الحالة الرابعة) ونشرت للمرة الأولى فى جريدة المصرى عدد 8 مايو 1953، ثم نشرت فى مجموعة (أليس كذلك) فى سنة 1957، ثم قام إدريس بتهذيب النص المنشور فى الكتاب بتعديلات محدودة كتغيير تعبير «كله ماشى» إلى «كله سيان» وحذف اسم مطعم «الإكسلسيور» والاكتفاء باسم «جروبى»، أو كتابة اسم مجلة «المرأة» بحروف أجنبية، مع تغيير العنوان إلى (الزحف) ونشرها فى مجلة بناء الوطن عدد مايو 1962([6]).

لم يقتصر ولع إدريس بالتغيير على القصص المفردة، بل تعداها إلى المجموعات، حيث قام بتغيير عنوان مجموعة (النداهة) التى نشرت فى سلسلة روايات الهلال بالقاهرة فى سبتمبر 1969. إلى (مسحوق الهمس) ونشرها بدون قصة (ما خفى أعظم) فى دار الطليعة ببيروت، فبراير 1970.

وقام بتغيير عنوان مجموعة (أليس كذلك) التى نشرت عن طريق مركز كتب الشرق الأوسط بالقاهرة فى يوليو 1957، فجعله (قاع المدينة) ونشرها المركز نفسه بالعنوان الجديد، وكذلك دار الكاتب العربى فى القاهرة (بدون تاريخ).

تختلف مجموعة (أليس كذلك) التى نشرتها دار مصر للطباعة (تاريخ ايداع1985) عن مجموعة (قاع المدينة) المنشورة أيضا من الدار نفسها (تاريخ إيداع 1986) مما يعنى وجود عنوانين لمجموعة واحدة، وأربع مصفوفات مختلفة لمحتواها من القصص، على النحو التالى:

1 - مصفوفة (أليس كذلك 1957):

هى.. هى لعبة، الجرح، أليس كذلك، الحالة الرابعة، المحفظة، مارش الغروب، التمرين الأول، الناس، قاع المدينة.([7])

2 - مصفوفة (قاع المدينة - بدون تاريخ):

وهى المصفوفة المعدلة التى نشرها مركز كتب الشرق الأوسط، ويتفق بعض ما فيها من قصص مع ما فى المصفوفة الأولى، ومن المحتمل أن تكون فيها قصص أخرى مختلفة.

3 - مصفوفة ( أليس كذلك 1985):

الكنز، الحالة الرابعة، المحفظة، الناس، المستحيل، الوجه الآخر، داوود، مارش الغروب، ليلة صيف، أليس كذلك، التمرين الأول.

4 - مصفوفة (قاع المدينة 1986):

هى.. هى لعبة، أبو الهول، الجرح، قاع المدينة.

قد يبدو أن ذلك التعديل من حق الكاتب ما دام يمارسه على نصوصه، وما دام المجتمع الثقافى يطالبه دائما بالجديد، ويقبل ما يقدمه دون تدقيق، لكن النص إن نشر يصبح ملكا لقارئ استقبله فى هيئة معينة، وانفعل به سلبا أو إيجابا وفقا لهذه الهيئة، وحين يقوم الكاتب بتغييره وإعادة طرحه بوصفه نتاجا مختلفا يربك المتلقى، ويفرض عليه نتائج مشكلة شخصية مع الكتابة.

والضرر الأكبر هو ما سيلحق الكاتب نفسه حين يهدد ثقة المتلقى بكتابته، ويثير لديه السؤال عما يضمن عدم اتجاه هذه الخفة إلى نتاج الآخرين، أليس من الجائز أن يعمد الكاتب إلى إعادة إنتاج الأفكار الجاهزة، اعتمادا على موهبته فى صقل المعانى وتطوير التشكيل؟!

السؤال محاولة للإحاطة بالاحتمالات، ومقدمة لفحص دافع لا يستهان به يرتبط بشكل العلاقة المتوترة بين إدريس والنقاد، إذ يبدو جانب من تعديلاته كأنه دفوع نفسية متعجلة ضد المقاربات النقدية التى كانت تفترض نضوب معين إبداعه، أو تعلن نهايته ووجوب توقفه عن الكتابة، وقد تأسى لحاله إلى حد الدعوة للصلاة من أجله.([8])

وأكثر هذه المقاربات تأثيرا على إدريس، كما أفترض، هو الإشارة إلى تشابه بعض قصصه مع قصص أجنبية بأسلوب لا يخلو من الإيحاء بعدم أصالة إبداعه، وتكذيب تصريحاته بأنه لم يقرأ القصص العالمى قبل ممارسة الكتابة.

التعديل فى هذه الحالة مراوغة لإخفاء التشابه، بعد أن اكتشفه ناقد أو نبهه صديق إليه، والمراوغة تتنوع، فقد يعدل النص نوعيا كتحويل القصة القصيرة إلى مسرحية (جمهورية فرحات)، أو يعيد كتابته مرة أخرى (أكبر الكبائر، وأكان لابد يا لى لى أن تضيئى النور)، وقد يكتفى بتغيير العنوان، مثلما فعل فى قصة مارش الغروب التى تشبه قصة (شقاء) لتشيخوف، أو قصة الرأس وتشبه قصة (بحر كورتز) لجون شتاينبك.([9])

ربما يدفعنا الخضوع لهذا التوجه فى النظر لقصص إدريس إلى مقارنة قصة (أرخص ليالي) بقصة (الطفل) لألبرتو مورافيا، حيث يولد الأطفال لأن الزوجين لا يملكان ما يذهبان به إلى السينما فى المساء، أو مقارنة قصة (بيت من لحم) بمسرحية لوركا (بيت برناردا ألبا) وتتبع الفرق بين ملامح شخصية القس الأسبانى والشيخ المصرى، أو فحص دلالة قتل برناردا للقس فى النهاية الغربية وتواطؤ الأم فى النهاية العربية.

المقارنة جائزة، بل مفيدة وشائقة، لكنها تحتاج لفروض منظمة وإجراءات تفوق الإشارات غير المحققة، ونتيجتها فى صف المبدع المتأثر بغيره، إذا تجاوز الأصل بإضافة تعيد ترتيب علاقاته الداخلية، فتفجر منه دلالات مختلفة.

سندرك جدارة هذا الدافع - للتعديل - بالاعتبار لو تذكرنا فكرة الطموح لكتابة «قصة مصرية»، طموح يحى حقى فى المرحلة الأولى من إبداعه، من قبل يوسف إدريس، وطموح يحى الطاهر عبد الله، من بعده، ونستطيع أن ندرك ما يعنيه إدريس بهذه «المصرية» إذا تأملنا جميع القصص التى سبقها تحديد «قصة مصرية» عند نشرها فى دوريات، مثل قصة (مجرد يوم) و(إدمان)، والقصص التى دخلت فى تركيب عنوانها كلمة مصرية، مثل (حكاية مصرية جدا، وقصة مصرية جدا).

وسنخرج من هذا بأن الصلة بين إبداع إدريس والإبداع العالمى هى نفسها الصلة الغامضة بين حنونة والجيوكاندا، فى قصة (جيوكندا مصرية)، تجاور ظاهرى للإقرار بالشبه، ثم تجاوز رحب يجول فى أعماق الوعى المحلى للإمساك بالجوهر الإنسانى للمصرية، بفضائله وسلبياته معا.

لا يكفى دافع التمويه على التأثر إذن، ليفسر وحده عملية التعديل، ولا ينبغى إغفال الدافع المادى وراء التعديل وإعادة النشر، لكن التقدير العام - والشخصى - لقيمة إبداع يوسف إدريس يستوجب ألا نخوض فيه، خاصة مع كفاية الدوافع الفنية المعبرة عن خصائص جوهرية فى العملية الإبداعية عنده، وما وراء الدوافع من محركات نفسية ترتبط بقلق المبدع، وعدم اطمئنانه إلى استكمال عمله لمقوماته الفنية، وأخيرا خوفه على موهبته إلى حد أن يشبه فى سلوكه الثعلب، فيواجه المشكلة الواحدة بحلول متعددة، وأحيانا - من ريبته وحذره المبالغ فيه - يرتب مخارج حقيقية لأزمات وهمية، أو يضع حلولا عاجلة لمشاكل افتراضية لم تحدث بعد.

تتراوح التعديلات التى قام بها إدريس عند إعادة نشر إحدى قصصه بين تغيير العنوان وحده، كما فى قصة (عند تقاطع الطريق) التى أصبحت (صاحب مصر)، وتغيير العنوان والنص نفسه غالبا، كما فى قصص: لحن الغروب، بالذمة والأمانة، آخر من يعلم، الليل، إدمان، قصة منسية، حلقات النحاس الناعمة، القديسة حنونة.

التعديلات فى قصة (لحن الغروب) عدا تغيير العنوان إلى (مارش الغروب)طفيفة، وكلها من قبيل التغييرات اللغوية والأسلوبية، كاستبدال كلمة «لحية» بذقن، و«الأوزة المذعورة» بالأوز المذعور، أو تغيير جملة «شبحه يذوب فى الليل حتى يختفى تماما، وأصبح لا يسمع سوى همس النحاس إلى النحاس» لتصبح «يذوب شبحه فى الليل حتى يختفى تماما، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس».

وبالمثل تبدو التعديلات فى قصة (بالذمة والأمانة) التى أصبح عنوانها (سورة البقرة) - تصحيفا طباعيا، صححه إدريس عند إعادة نشر القصة فى كتاب، مثل استخدام كلمات: مدغوم، نقص، سخنة، فى نص (سورة البقرة) بدلا من كلمات: مضغوم، نقض، سخية، فى نص (بالذمة والأمانة).

وتكثر فى قصة (آخر من يعلم) - بعد تعديل عنوانها إلى «الستارة» - التعديلات الأسلوبية بالحذف والإضافة والتبديل، مثل تعديل جملة: «فتعرف بالضبط متى تضحك من نكته، وتعرف أيضا متى تضحك عليه» إلى: «فتعرف متى تضحكه ومتى تضحك عليه». أو جملة: «وكان لابد أن يجد الحل» إلى: «ورغم هذا كله فقد كان مصرا على أن يجد الحل».

ويبدو بعض المحذوف من نص (الستارة) تعديلا جيدا لغرض التكثيف مثل حذف ما بين القوسين فيما يلى:

- «أهمها بلا جدال (أنها أصبحت تستطيع النظر إلى الجيران ومتابعة) ما يدور فى شققهم»

- «النقاش الذى دار بينه وبين صاحبها (إلى درجة التعنت والشتائم، ورفعه) درجة أخرى»

- «ويلمح حرقة الصدق فى (كلام زوجته وهى تؤكد له إنها بريئة وأن شيئا مما دار بخلده لم يحدث،) كلام كان الزوج فى حاجة إليه».

وفى بعض الأحيان يبدو التعديل الخاص بجمل جريئة اضطراريا، فرضه تحرير الدورية على يوسف إدريس، لتناسب القصة حدود النشر العام، لذلك ربما يثبت النص الكامل عند النشر فى كتاب. ويتفق هذا الغرض نوعا ما مع طبيعة التعديلات فى قصتى (الليل) و(الإدمان).

فى نص (الليل) وتحول العنوان فى مجموعة (أرخص ليالى) إلى (فى الليل) نجد عدا التصحيحات اللغوية والتغيرات الأسلوبية المعتادة حذفا لكلمة «أفيون» وحذفا آخر لخطاب «عوف» لله بقوله: «يارب لا اعتراض ولا مانع.. إنما أدنته شايف»

أما قصة (إدمان) وأصبح عنوانها (مظلوم) فحذف منها ما بعد قول الممرض «عبد السلام»: «الحته اهه يابيه.. الراجل نزلها.. دى تطلع قرشين»، وهو ما يلى:

«فرد الأومباشى:

- قرشين إيه؟! أقطع دراعى إن مازادت عن ربع وقية خروبتين

وهز العسكرى رأسه هزة خبير وقال:

- لا.. وحته حلوه.. باين عليها غباره يابوى».

قد يكون الحذف هنا مناسبا لنص فى دورية عامة، لها حساباتها الأخلاقية، وتوازناتها مع القوى المختلفة فى المجتمع، لكنه غير مناسب لأدبية القصة نفسها فقد خفف من سطوع الدلالة التى أرادها «إدريس» بعنوان (مظلوم) فالقصة تبدأ بالربط بين ذكر الطبيب «عبد المجيد» وذكر «الحشيش» مع الإشارة إلى ريادته فى مجال إدمانه وتاريخه الحافل معه.

الضابط يقول للطبيب:

«يا أخى حاجة تعكنن بصحيح.. وإحنا كنا قاعدين حتة قعدة فى روف واحد نعرفه فى مصر الجديدة. والليلادى كان لنا صاحب لسه جاى معمر من فلسطين.. وحليت القعدة.. وأم كلثوم كانت بتغنى هلت ليالى القمر.. ولسه يدوبك بنبدى والواحد بدا ينتعش ويحس (انه صح تماما)([10]) إلا والمخبر جاينى ومعاه أمر التفتيش.. اعمل إيه؟.. رحت قاطع القعدة وقايم معاه.. الله يلعن أبو دى عيشه!.. بذمتك مش حاجة تعكنن؟»

والرجل القصير ذو الخدود الغائرة يصيح بين الطرفين: «مظلوم يا ناس.. والله مظلوم». وهو مظلوم بالفعل مادام «عبد المجيد» المدمن طبيبا، ومادام الضابط المدمن المستهتر فى موقعه، أى ما دامت المناصب تحمى الجانحين، وما دام الفقير مقدورا عليه.

يشير هذا النمط من التعديل الاضطرارى إلى أن استجابة إدريس للنقد الخارجى كانت كبيرة جدا فى بداياته، ثم بدأت تتقلص مع علو مكانته وشهرته، حتى أوشكت أن تنعدم فى السنوات الأخيرة من عمره، كما يفهم من حكاية د. جابر عصفور فى الاحتفال الذى أقامه المجلس الأعلى للثقافة (1999) بيوسف إدريس، عن كونه وجد مشقة شديدة - هو والدكتور عبدالقادر القط رئيس تحرير مجلة إبداع - لإقناع إدريس بحذف الأوصاف الجنسية الفجة فى قصة (العتب على النظر).

كتب يوسف إدريس فى سنة 1957 قصة قصيرة ونسيها، ثم تذكرها فى سنة 1965 ونشرها بعنوان (قصة منسية) فى مجلة الهلال عدد فبراير 1965، وأعاد نشرها فى الهلال أيضا عدد يوليو 1977 بعنوان (من المخلصة جدا) وقد قام إضافة إلى تغيير العنوان بحذف كلمات وجمل وفقرات كاملة، بلغت صفحة فى نص (من المخلصة جدا) ثم نشر النص المعدل فى مجموعة (لغة الآى آى 1965) بعنوان (الورقة بعشرة) مع الحاقة بتاريخ كتابته فى يناير 1957، وأخيرا استقرت القصة بالعنوان الأخير فى مجموعة (العتب على النظر 1987).

وفيما يلى آخر نص للقصة مع الإشارة فى الهامش إلى ما فيه من تعديل بالنسبة إلى النص الأصلى فى (قصة منسية) وهو نموذج لتعديل غير تام، يقتطع من نسيج القصة ولا يضيف إليها سوى بعض الضبط اللغوى والأسلوبى.

 

(1) إضافة إلى خمس قصص نشرها فى روز اليوسف، هى: المرجيحة، الحادث، فى الليل، ع الماشى، وأم الدنيا، وقصة 5 ساعات التى نشرها فى مجلة التحرير، وقصة صداقة التى نشرها فى مجلة القصة.

(2) يتخذ هذا الهجوم غالبا شكلا معبرا عن حقيقة أزمته، كأن يستنكر قدرتهم المنظمة على الكتابة.. "إنى لأكاد أحسد إلى درجة البكاء هؤلاء الزملاء الكتاب الذين يكتبون كل يوم كل يوم وعن كل وأى قضية من السياسة إلى القصة إلى العلم إلى المذكرات إلى الحب إلى الأمومة إلى..إلى.. إلى أى شيء. كيف بالله يكتبون؟ ولماذا أجد القلم فى يدهم سهلا ودرجة الانفعال 37 لا تنخفض ولا تزيد، وضغط الدم لا يعلو ولا ينخفض... إلخ"

نص يموت الزمار، الأهرام، 17، 18 أبريل 1981. ونشر أيضا فى مجموعة (اقتلها)، 1982، وانظر أيضا حديثه فى مجلة صباح الخير.

(3) انظر: د. شاكر عبد الحميد شاكر، سيكولوجية الإبداع الفنى فى القصة القصيرة، دار غريب، القاهرة، 2001، ص 177 وما بعدها.

(4) نشرت (قصة منسية) بعد تعديلها إلى (من المخلصة جدا) فى مجلة الهلال يوليو 1977، ونشرت أيضا معدلة بعنوان (الورقة بعشرة) فى مجموعة (العتب على النظر) 1988.

(5) وهى المجلة التى كان الرئيس جمال عبد الناصر صاحب ترخيصها، ومع ذلك فهى غير موجودة فى دار الكتب المصرية ولا فى دار الهلال التى كانت تطبع فيها.

(6) جاء فى ببليوجرافيا مجلة أدب ونقد أن قصة (الحالة الرابعة) قد أعيد نشرها فى مجموعة (أرخص ليالى) وليس ذلك صحيحا، على الأقل فى طبعة دار مصر، هذا وغيره مما لا يمكن خلوص أى عمل معلوماتى منه يشير إلى حاجة أعمال يوسف إدريس إلى ببليوجرافيا أخرى تستكمل المجهود الكبير الذى تم فى الببليوجرافيتين السابقتين، ولعل الببليوجرافيا الملحقة بهذا الكتاب تكون أكثر دقة ودلالة على حركة قصصه بين الكتب والدوريات.

(7) لم أر هذه المجموعة. لكن الأستاذ محمود أمين العالم ذكر ما فيها من قصص فى معرض التذكير بنقده لها فى مجلة الرسالة الجديدة سبتمبر 1957. انظر: عالم يوسف إدريس القصص، مجلة إيداع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ع9 سبتمبر 1991، ص 36-37.

(8) د. لويس عوض، ماذا يجرى فى المسرح المصرى، عالم مجنون مجنون فى المهزلة الأرضية، الأهرام 6 مايو 1966.

(9) إبراهيم فتحى، عشر سنوات على رحيل رائد القصة المصرية الحديثة، جريدة الحياة، 17 أغسطس 2001، ص 12، وفيه كذلك يلمس التشابه بين قصة (الشيخ شيخة) وقصة (جونى بير) لجون شتاينبك، وبطلة قصة (أكبر الكبائر) وإحدى شخصيات قصة (الكأس الذهبية) لشتاينبك أيضا.

(10) فى نص (إدمان): "ويحس أنه عايش بصحيح".

 

 

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

 

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.