ربما يدفعنا الخضوع لهذا التوجه فى النظر
لقصص إدريس إلى مقارنة قصة (أرخص ليالي) بقصة (الطفل) لألبرتو مورافيا،
حيث يولد الأطفال لأن الزوجين لا يملكان ما يذهبان به إلى السينما فى
المساء، أو مقارنة قصة (بيت من لحم) بمسرحية لوركا (بيت برناردا ألبا)
وتتبع الفرق بين ملامح شخصية القس الأسبانى والشيخ المصرى، أو فحص دلالة
قتل برناردا للقس فى النهاية الغربية وتواطؤ الأم فى النهاية العربية.
المقارنة جائزة، بل مفيدة وشائقة، لكنها
تحتاج لفروض منظمة وإجراءات تفوق الإشارات غير المحققة، ونتيجتها فى صف
المبدع المتأثر بغيره، إذا تجاوز الأصل بإضافة تعيد ترتيب علاقاته
الداخلية، فتفجر منه دلالات مختلفة.
سندرك جدارة هذا الدافع - للتعديل -
بالاعتبار لو تذكرنا فكرة الطموح لكتابة «قصة مصرية»، طموح يحى حقى فى
المرحلة الأولى من إبداعه، من قبل يوسف إدريس، وطموح يحى الطاهر عبد
الله، من بعده، ونستطيع أن ندرك ما يعنيه إدريس بهذه «المصرية» إذا
تأملنا جميع القصص التى سبقها تحديد «قصة مصرية» عند نشرها فى دوريات،
مثل قصة (مجرد يوم) و(إدمان)، والقصص التى دخلت فى تركيب عنوانها كلمة
مصرية، مثل (حكاية مصرية جدا، وقصة مصرية جدا).
وسنخرج من هذا بأن الصلة بين إبداع إدريس
والإبداع العالمى هى نفسها الصلة الغامضة بين حنونة والجيوكاندا، فى قصة
(جيوكندا مصرية)، تجاور ظاهرى للإقرار بالشبه، ثم تجاوز رحب يجول فى
أعماق الوعى المحلى للإمساك بالجوهر الإنسانى للمصرية، بفضائله وسلبياته
معا.
لا يكفى دافع التمويه على التأثر إذن،
ليفسر وحده عملية التعديل، ولا ينبغى إغفال الدافع المادى وراء التعديل
وإعادة النشر، لكن التقدير العام - والشخصى - لقيمة إبداع يوسف إدريس
يستوجب ألا نخوض فيه، خاصة مع كفاية الدوافع الفنية المعبرة عن خصائص
جوهرية فى العملية الإبداعية عنده، وما وراء الدوافع من محركات نفسية
ترتبط بقلق المبدع، وعدم اطمئنانه إلى استكمال عمله لمقوماته الفنية،
وأخيرا خوفه على موهبته إلى حد أن يشبه فى سلوكه الثعلب، فيواجه المشكلة
الواحدة بحلول متعددة، وأحيانا - من ريبته وحذره المبالغ فيه - يرتب
مخارج حقيقية لأزمات وهمية، أو يضع حلولا عاجلة لمشاكل افتراضية لم تحدث
بعد.
تتراوح التعديلات التى قام بها إدريس عند
إعادة نشر إحدى قصصه بين تغيير العنوان وحده، كما فى قصة (عند تقاطع
الطريق) التى أصبحت (صاحب مصر)، وتغيير العنوان والنص نفسه غالبا، كما فى
قصص: لحن الغروب، بالذمة والأمانة، آخر من يعلم، الليل، إدمان، قصة
منسية، حلقات النحاس الناعمة، القديسة حنونة.
التعديلات فى قصة (لحن الغروب) عدا تغيير
العنوان إلى (مارش الغروب)طفيفة، وكلها من قبيل التغييرات اللغوية
والأسلوبية، كاستبدال كلمة «لحية» بذقن، و«الأوزة المذعورة» بالأوز
المذعور، أو تغيير جملة «شبحه يذوب فى الليل حتى يختفى تماما، وأصبح لا
يسمع سوى همس النحاس إلى النحاس» لتصبح «يذوب شبحه فى الليل حتى يختفى
تماما، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس».
وبالمثل تبدو التعديلات فى قصة (بالذمة
والأمانة) التى أصبح عنوانها (سورة البقرة) - تصحيفا طباعيا، صححه إدريس
عند إعادة نشر القصة فى كتاب، مثل استخدام كلمات: مدغوم، نقص، سخنة، فى
نص (سورة البقرة) بدلا من كلمات: مضغوم، نقض، سخية، فى نص (بالذمة
والأمانة).
وتكثر فى قصة (آخر من يعلم) - بعد تعديل
عنوانها إلى «الستارة» - التعديلات الأسلوبية بالحذف والإضافة والتبديل،
مثل تعديل جملة: «فتعرف بالضبط متى تضحك من نكته، وتعرف أيضا متى تضحك
عليه» إلى: «فتعرف متى تضحكه ومتى تضحك عليه». أو جملة: «وكان لابد أن
يجد الحل» إلى: «ورغم هذا كله فقد كان مصرا على أن يجد الحل».
ويبدو بعض المحذوف من نص (الستارة)
تعديلا جيدا لغرض التكثيف مثل حذف ما بين القوسين فيما يلى:
- «أهمها بلا جدال (أنها أصبحت تستطيع
النظر إلى الجيران ومتابعة) ما يدور فى شققهم»
- «النقاش الذى دار بينه وبين صاحبها
(إلى درجة التعنت والشتائم، ورفعه) درجة أخرى»
- «ويلمح حرقة الصدق فى (كلام زوجته وهى
تؤكد له إنها بريئة وأن شيئا مما دار بخلده لم يحدث،) كلام كان الزوج فى
حاجة إليه».
وفى بعض الأحيان يبدو التعديل الخاص بجمل
جريئة اضطراريا، فرضه تحرير الدورية على يوسف إدريس، لتناسب القصة حدود
النشر العام، لذلك ربما يثبت النص الكامل عند النشر فى كتاب. ويتفق هذا
الغرض نوعا ما مع طبيعة التعديلات فى قصتى (الليل) و(الإدمان).
فى نص (الليل) وتحول العنوان فى مجموعة
(أرخص ليالى) إلى (فى الليل) نجد عدا التصحيحات اللغوية والتغيرات
الأسلوبية المعتادة حذفا لكلمة «أفيون» وحذفا آخر لخطاب «عوف» لله بقوله:
«يارب لا اعتراض ولا مانع.. إنما أدنته شايف»
أما قصة (إدمان) وأصبح عنوانها (مظلوم)
فحذف منها ما بعد قول الممرض «عبد السلام»: «الحته اهه يابيه.. الراجل
نزلها.. دى تطلع قرشين»، وهو ما يلى:
«فرد الأومباشى:
- قرشين إيه؟! أقطع دراعى إن مازادت عن
ربع وقية خروبتين
وهز العسكرى رأسه هزة خبير وقال:
- لا.. وحته حلوه.. باين عليها غباره
يابوى».
قد يكون الحذف هنا مناسبا لنص فى دورية
عامة، لها حساباتها الأخلاقية، وتوازناتها مع القوى المختلفة فى المجتمع،
لكنه غير مناسب لأدبية القصة نفسها فقد خفف من سطوع الدلالة التى أرادها
«إدريس» بعنوان (مظلوم) فالقصة تبدأ بالربط بين ذكر الطبيب «عبد المجيد»
وذكر «الحشيش» مع الإشارة إلى ريادته فى مجال إدمانه وتاريخه الحافل معه.
الضابط يقول للطبيب: